مقدمة:

العراق هو بلاد النهرين (نهري دجلة والفرات) أو بلاد الرافدين موطن الحضارة وبلاد ألف ليلة وليلة[1]، وهو الجناح الشرقي للهلال الخصيب. وتعني هذه البلاد أموراً كثيرة ومتنوعة. فهي تستحضر في الذهن صورة جنة عدن أو برج بابل أو الطوفان العظيم.

ويرتبط اسمها لدى بعض الناس بشريعة حمورابي أو موت الاسكندر العظيم، ومآثر هارون الرشيد. ويرتبط اسم العراق عند آخرين بالتنجيم الكلداني أو بالمقبرة الملكية في أور، وفي الوقت الحاضر بمستودعات النفط في المنطقة العربية[2].

والعراق على حد تعبير ابن حوقل هو «أعظم أقاليم الأرض منزلةً، وأجلّها صفةً، وأغزرها جبايةً، وأكثرها دخلاً، وأجملها أهلاً، وأكثرها أموالاً، وأحسنها محاسنَ، وأفخرها صنائع، وأهله أوفرهم عقولاً وأوسعهم علوماً، وأفسحهم فطنة في سالف الزمان والأمم الخالية»[3]. وقال ياقوت الحموي «إن سكان العراق هم أهل العقول الصحيحة والآراء الراجحة، والبراعة في كل صناعة»[4].

وفي حق العراق قال ناجي التكريتي إن العراق كان وما زال وسيبقى «عقل الوطن العربي وسيفه دون منازع» منذ القدم. وفي العصر الوسيط الذي كان فيه العرب سادة العالم، فإن الفضل لعقل العراق المبدع، ولسيفه الممشوق في مقدمة الرماح. ومواقف العراق في العصر الحديث مشرّفة يعتز بها كل إنسان[5].

قال شاعر يذكر العراق:

وإلى الله أشكو عبرةً قد أظلّتْ

ونفساً إذا ما عزَّها الشوقُ ذلّتْ

تَحِنُ إلى أرض العراق ودونها

تَناريفُ لو تسري بها الريحُ ضلّتْ

يهدف هذا البحث إلى توضيح الاختلاف في وجهات النظر عن أصل تسمية مصطلحي «بلاد الرافدين» و«العراق»، وهل أن المقصود ببلاد الرافدين هو نفسه العراق؟ أم توجد فروق بينهما وما هي حدود كل منهما؟ وما هو أصل سكان هذه المنطقة ومصدر هجراتهم، والجغرافيا التاريخية لمنطقة الدراسة؟

ويفترض البحث أن بلاد الرافدين هي نفسها العراق الحالي وأن أصول سكانه يتكونون من مجموعتين: الجزريون (الساميون العرب) وهم الأقدم ومصدر هجرتهم جزيرة العرب، والسومريون حيث يختلف الباحثون حول أصولهم ومصدر هجراتهم. وهذه الدراسة رجحت قدومهم من عيلام المجاورة ذات البيئة المتشابهة لبيئتهم في جنوب العراق. وتم إثبات فرضيات البحث بالاعتماد على المصادر الآثارية والتاريخية والجغرافية وباستخدام المنهج الوصفي والتحليلي.

أولاً: بلاد الرافدين وأصل سكانها

يقصد بحضارة بلاد وادي الرافدين (النهرين) حضارة العراق القديم، وهي إحدى الحضارات القديمة القليلة التي أطلق عليها المؤرخ الشهير توينبي مصطلح الحضارة الأصلية أو الأصيلة (Original)، وهي الحضارة التي لم تُشتق من حضارة سابقة لها بل نشأت وتطورت منذ عصور ما قبل التاريخ[6].

وأُطلق على العراق أيضاً اسم الجزيرة وأرض الفُراتين، وسكانه الفراتيّون، واقترن اسمه بالرخاء والازدهار، منذ أزمنة بعيدة. فقد ذكر «هيرودوتس» قبل ميلاد السيد المسيح بنحو 500 عام أن أرض العراق هي من أزكى البلاد تربةً وأخصبها مادةً للحنطة؛ إذ تؤتي الحبة الواحدة منها مئتي ضعف وأحياناً ثلاثمئة ضعف. وكان «الشنعاري» في العهد القديم إذا سار في أرضه الغريلية فلا يقع طائر بصره إلا على غابات مزدحمة من النخيل والغرب والصفصاف[7].

ومنذ نهاية العصر الجليدي الأخير، في حوالى 8000 – 9000 ق.م.، وإلى الوقت الحاضر كانت الجزيرة العربية تعاني جفافاً شديداً وتعرياً في التربة كان من نتيجته – كما يرى توينبي وجايلد – اتساع الصحراء، فأصبحت الأرض غير قادرة على استيعاب مزيد من السكان فبدأوا يهاجرون إلى خارج الجزيرة العربية على شكل عوائل صغيرة مسالمة ومنفردة، محدودة العدد وليس على شكل موجات كبيرة كاسحة في بداية الأمر. وأخذ هؤلاء المهاجرين يقطنون في أطراف الصحراء الأكثر خصباً، وقد ساعدوا فيما بعد على نشوء الحضارات المهمة في وادي الرافدين[8]، وفي مصر بوادي النيل في الألف الرابع قبل الميلاد حيث اختلطوا بسكانها الأصليين من الحاميين حيث تتشابه صفاتهم الجسمية واللغوية[9]. وعُرف هؤلاء المهاجرون بالساميين (أو الجزريين أو العروبيين أو الفراتيين). وكان أول من أطلق عليهم لفظ «الساميين» هو العالم النمساوي شلوتزر (Shlozer) سنة 1781م، وهم من صلب سام بن نوح الوارد ذكره في التوراة[10]، وشاعت هذه التسمية فيما بعد[11].

لا تشير لفظة «السامية» إلى جنس وإنما إلى جماعة تتكلم اللغات السامية (مثل الأكدية والبابلية والعربية وغيرها)[12]. ويرى معظم المؤرخين الأجانب أن الساميين والعرب شيء واحد، فقد ذكر سبرنغر (Springer) أن جميع الساميين عرب لأن مصدر هجرتهم واحد وهو جزيرة العرب[13]. وسكن الساميون في أوائل هجرتهم في سورية وأسسوا مستوطنات زراعية فيها على ضفاف نهر الفرات. ومنها هاجر الساميون المتحضرون إلى العراق[14]، حيث سكنوا البقعة المحصورة بين عانة وهيت معتمدين في حياتهم الزراعية على الري وأسسوا لهم وطناً في القسم الأعلى من الوادي[15].

والقسم الآخر من المهاجرين الساميين الأوائل كانوا يدخلون سومر منذ أقدم العصور عن طريق حافة الصحراء الغربية. وأحد الأسباب التي تدعو إلى هذا التخمين احتمال وجود ساميين (عروبيين) في جنوب العراق عند وصول السومريين لأول مرة، حيث إن بعض الكتابات السومرية تحتوي على كلمات استعيرت من كلام عروبي. وهناك من يرى أن أقدم موجة كبيرة من المجموعات العروبية المهاجرة إلى العراق بدأت في الربع الثاني من الألف الثالث قبل الميلاد (أي بعد سنة 2750 ق.م.). ولدينا من هذه الحقبة دليل على وجود جماعة تعرف باسم الأكديين (القدامى) انتقلت إلى شمال بابل من منطقة جبل سنجار (الواقعة إلى الشرق من سورية). كما وصلت سلالة أكدية إلى السلطة في شمال بابل، وكان لآخر ملك في كيش رئيس وزراء معروف باسمه العروبي (شرّوم – كين) أي سركون (سرجون) الذي يعني الملك الصادق الذي أسس فيما بعد مدينة أكد، وله وزير يحمل اسماً سومرياً.

الشكل الرقم (1)

الهجرات الجزرية (السامية) من جزيرة العرب إلى الهلال الخصيب

المصدر: أحمد سوسة، حضارة العرب ومراحل تطورها عبر العصور، السلسلة الإعلامية؛ 79 (بغداد: وزارة الإعلام، دائرة العلاقات العامة، 1979)، الرسم الرقم (2)، ص 276.

نستنتج مما تقدم أن السومريين (ثقافة أوروك) لم يكونوا أول من سكن بلاد بابل. ولعل هناك من سبقهم جماعة من الساميين (العروبيين) الممثلين بحضارة العبيد وأريدو سكنوها قبلهم بثلاثة آلاف سنة، وبأقل تقدير بألفي سنة. وتمثل ثقافة أريدو، بنظر كوردن جايلد، الطور الأول لحضارة العبيد[16]؛ أي أنهم كانوا الأصول الأولى للعنصر العرقي الذي انتسبت إليه بعد ذلك حضارة «أوروك» وأنهم كانوا أول من استوطن على الأرض البكر في البلاد التي حملت فيما بعد اسم «سومر». وإذا كان الأمر كذلك فإن هذا العنصر العروبي يمثل المرحلة الأولى لحركة شعوب استمرت خلال حقب التاريخ[17]. فحينما وصل السومريون إلى جنوب العراق وجدوا قرى مزدهرة تعود إلى العروبيين (الساميين) الذين جاؤوا من داخل الجزيرة العربية، وكانت تلك القرى أساس المدن السومرية[18]. وهذا يعني أن السومريين لم يكونوا قد ظهروا بعد خلال عصور العبيد والوركاء وأريدو وجمدة نصّر فيما قبل التاريخ، لأنهم أسسوا حضارتهم – في العصور القديمة والحديثة بعد عصر العبيد – بأكثر من ألفي سنة على أقل تقدير، ومن عدَّ هذه العصور سومرية كان على خطأ[19]. ووجد السومريون لغة (غير لغتهم) سائدة في المنطقة مع الألف الثالث ولكنها كانت مستخدمة قبل ذلك بمدة طويلة. وهذا يشير إلى أن السومريين كانوا وافدين جدداً في تلك المرحلة[20].

ويرى هاري ساكز أنه في بداية العصور التاريخية، أي بعد بداية الألف الثالث قبل الميلاد مباشرةً، كان بالإمكان تمييز ثلاثة عناصر عرقية وحضارية في بلاد بابل وهم الساميون، والسومريون، وربما عنصر ثالث ملامحه غير معروفة مع وجود أعداد كبيرة من الكلمات السامية المستعملة في اللغة السومرية[21].

ويرى أحمد سوسة أن حضارة حسونة وسامراء وخفاجي وتل أسمر والعبيد والوركاء وجمدة نصّر ومسيلم كلها ترجع إلى الأصل السامي العربي[22]. وأن حضارة العبيد وأريدو في جنوب العراق تعود إلى 5000 عام ق.م. وقبل وجود السومريين في المنطقة الذين استوطنوها خلال المدة 3000 – 2350 ق.م. (عصور فجر السلالات) وعاشوا سوية مع الساميين كما يقول خبير الآثار السير ليوناردو وولي[23].

ندرك مما تقدم أن سهل العراق الجنوبي لا تقل حضارته قِدماً عن الشمالي[24]. ويتفق وجود الساميين فيه مع زمن هجرتهم من سورية إلى العراق. والسلطة كثيراً ما كانت تنتقل من السومريين إلى الساميين وعلى العكس من الساميين إلى السومريين قبل الميلاد بنحو 2800 عام وما بعدها[25].

وجاء في تقويم ملوك سلالة أور الأولى (حوالى منتصف الألف الثالث ق.م.) أن رابع ملوك هذه السلالة كان يحمل اسماً سامياً هو «أيلولم»[26]، وأن تمثال الملك السومري (لوكال زاكيزي) في نيبور لم يُكتب باللغة السومرية بل كتب باللغة الأكدية السائدة آنذاك[27].

ثانياً: أصل السومريين وظهور الكتابة

اختلف الرأي حول أصل السومريين، ويستبعد الآثاري طه باقر الأصل الجبلي[28]. ويرى هاري ساكز أنهم جاؤوا من مكان ما من شرق بلاد بابل[29]. ويقترب رأي أحمد سوسة من المنطق ويرى أنهم جاؤوا من عيلام (الأهواز) البطائحية المجاورة والمشابهة لبيئتهم الهورية[30]. وهو رأي الخبير الآثاري «هند كوك» نفسه[31].

ومن أبرز الميادين الحضارية التي ظهرت إبان تلك المرحلة الخط المسماري الذي نُسِبَ خطأً إلى السومريين، حيث ظهر في كيش السامية وليس في سومر، أي قبل ظهور السومريين. ولم يُكتب على الطين كما في الرِقَم السومرية التي اكتشفت في الوركاء فيما بعد، بل كانت منقوشة على الحجر ويرقى تاريخها إلى 4000 ق.م. وبعد ظهور السومريين أدخلوا في لغتهم كلمات أكدية سامية[32].

ثالثاً: أنثروبولوجية الساميين والسومريين

بالرغم من قلة المعلومات عن سكان بابل القدماء (في الألف الرابع ق.م.) لكن الدراسات الأنثروبولوجية للهياكل العظمية التي وجدت في مقبرة أريدو والأربجية قرب الموصل والتي تنتمي إلى حضارة العبيد دلت على أن سكان العبيد وأريدو وتل حسونة هم من جنس البحر المتوسط الذين منهم الجزريون (العرب القدامى)[33]. وأن الجماجم القليلة الموجودة في بلاد الرافدين لا تختلف عن جماجم العرب المعاصرين[34]. وأكد كارلتون كون أن «أرض سومر كان يسكنها شعب ذو لغة سامية في أغلب الظن»[35].

ويختلف السومريون عن الأكديين وبقية الساميين، فالسومريون ينتمون إلى جنس أبيض اللون[36]، لهم رؤوس مستديرة، ووجوه عريضة، وكانوا يحلقون رؤوسهم وأذقانهم[37]. أما الجماعات الأجنبية التي غزت العراق وعاشت فيه مثل الحثيين والعيلاميين والفرس فينتمون إلى الجنس الألبي الذي يتميز بأجسام ضخمة، وأنوف مقوسة سميكة[38].

رابعاً: انتشار حضارة العبيد

أثبتت الحفريات وجود حضارة العبيد وأريدو في جميع مناطق العراق الحالية (شمالها ووسطها وجنوبها) وفي المدن السومرية والسامية وفي شمال وادي الرافدين (سورية) والخليج العربي وشرق الجزيرة العربية[39]. وكانت هنالك علاقات تجارية بين الأكديين وبلاد العرب. فقد أشار بعض الباحثين إلى احتمال وجود علاقات قوية بين «نرام – سين» الأكدي مع إحدى الممالك المزدهرة التي كان يمتد نفوذها من بلاد معين إلى الحجاز. ولعل أهم طريق للاتصال هو الطريق الذي يقطع بلاد العرب عن طريق مكة وجبل شمر حتى يصل إلى بلاد بابل، وهو طريق الحج نفسه للمسلمين الشرقيين فيما بعد. وتشير النقوش اليمنية إلى وجود حضارات عربية لها اتصال مع البابليين والكنعانيين والأموريين يرجع تاريخها إلى الألف الثاني قبل الميلاد[40].

وفي نهاية الألف الرابع قبل الميلاد، إن لم يكن في وقت أسبق، كانت مناطق أعالي الفرات وأواسطه وأعالي سهل نهر دجلة مسكونة من قبل عنصر ساميٍّ عروبي. كما تقع في وسط الطريق بين الساميين في الشمال والسومريين في الجنوب منطقة ثالثة ذات سكان مختلطين، وهي المنطقة التي يرويها نهر ديالى جنوب شرق بغداد الحالية. وبالتالي فإن الحضارة العراقية (السامية والسومرية) كانت تمتد من حوض الخابور في الشمال إلى شواطئ الخليج العربي في أقصى الجنوب[41].

وفي الوقت الذي كان الساميون العرب يزحفون من الفرات الأعلى (في سورية) نحو الجنوب، كان السومريون الأوائل القاطنون في منطقة الأهوار ينزحون باتجاه الشمال[42]. ويرجح «سيتون لويد» نشر حضارة العبيد من أور وأريدو باتجاه الشمال[43]. ويؤيد بيورنك الرأي الأول بعد أن تأثرت تربة المنطقة شبه الجبلية سلباً بالجفاف، فهاجر السكان باتجاه الجنوب[44].

وما يجدر ذكره أن منطقة الأهوار (البطائح) قد سكنتها أقوام عديدة من بينها «النبط» الذين يرجع نسبهم – كما يذكر النسّابة – إلى حام بن نوح وبقايا ثمود. وقد أطلق العرب كلمة النبط على سكان العراق السابقين على الفتح وما بعده[45].

وقد أثبتت حفريات كاورا وأربجية وتبة كورا وسنجار وتلعفر ووادي خابور وشهربازار وأربيل وجود حضارة العبيد في شمال العراق. وطابق تقدم حضارة العبيد بشكلها الناضج (الزمن الذي توحدت به الأقسام العليا والسفلى من بلاد الرافدين)[46] في وقت واحد أو أنها انتشرت من جهة الخليج العربي باتجاه الشمال[47] حيث وصلت إلى بلاد آشور بعد ظهورها في بابل ببضعة قرون. وهذه تمثل أول وأقدم وحدة حضارية في تاريخ العراق ضمت أقسامه الشمالية والجنوبية معاً. وتمكن سرجون الأكدي فيما بعد من توحيد العراق في مملكة واحدة شملت جميع حدوده الحاضرة، و«أقام أول إمبراطورية في تاريخ العالم القديم». وشمل نفوذه جميع بلاد الشرق الأدنى، وامتدت إمبراطورية حفيده (نرام – سين) من أواسط آسيا الصغرى إلى الخليج العربي[48]. وعثر له على مسلة في ديار بكر على حدود أرمينيا، وبعد ذلك جاء الكوتيون وقضوا على حكم الأكديين، وهم جماعة جبلية بربرية متوحشة جلبوا الموت والمجاعة لبلاد سومر وأكد (بلاد بابل)[49].

وانتهى الحكم السومري في إثر احتلال العيلاميين القادمين من إيران لمدينة أور ومن بعدهم الكشيين، إلى أن ظهرت الدولة الأشورية الحديثة سنة 911 ق.م. التي حكمت جميع مناطق العراق بل امتد حكمها إلى الأقطار الأخرى. وبعد سقوطها سنة 612 ق.م. تأسست الدولة الكلدانية خلال المدة 626 – 538 ق.م. (الحكم البابلي الحديث).

وبانتهاء الدولة الكلدانية قضي على الحكم الوطني في العراق الذي كان يحكمه الجزريون (الساميون العرب) والذي كان حتى ذلك العصر مكوَّناً من وحدة سياسية جغرافية كانت تقف في وجه القوى الآرية (الهندو – أوروبية)، حيث تعاقب على حكم العراق عدة مجموعات من تلك القوى، منهم الفرس الأخمينيون والسلوقيون والمقدونيون والإغريق والفرس الفرثيون والساسانيون.

وجميع هذه العناصر التي احتلت العراق وحكمته كانت تحاول أن تمد حكمها إلى جميع مناطقه الجغرافية بحدوده الحالية. وكان الكثير منها يتخذ من بابل عاصمة له. وبقدوم الموجة العربية الإسلامية انتهى حكم الدولة الساسانية في موقعة القادسية سنة 637م.

لا يعود استيطان العرب للعراق إلى هذا التاريخ، وإنما إلى سنوات طويلة موغلة في القدم، إذ إن استقراء النصوص الآشورية يشير إلى أن العرب كانوا ينتشرون في مناطق البوادي شمال الجزيرة العربية الممتدة من حدود الفرات شرقاً إلى خليج العقبة غرباً، ويتركزون في العقد الرئيسة لطرق التجارة؛ ما جعلهم يجاورون مدن بلاد الرافدين، وبخاصة بابل، وكذلك دمشق وأورشيلم على ساحل البحر المتوسط[50]. ويطلَق على العرب الذين كانت تمتد مساكنهم من مصب النيل إلى هيت الواقعة على الفرات اسم عماليق أول الشعوب[51].

وعليه تعود البداية التاريخية لظهور العرب، كقوم متميزين من أقوام الشرق الأدنى القديم، إلى الألف الثاني قبل الميلاد. وهو يسبق ما درجنا عليه باعتماد النصوص الآشورية بألف سنة[52]. وأشارت النقوش المسمارية إلى أن قوماً من العرب سكنوا الأنبار منذ عهد بختنصَّر الملك الكلداني. كما سكنوا في الجزء الجنوبي الغربي من العراق في زمن الملك الكلداني نبونهيد[53]. وفي بداية هجرتهم أقاموا على ضفاف الفرات بيوتاً من الشعر متنقلة، وكان لتقارب اللغة والعادات وبعض المعتقدات بينهم وبين سكان البلاد الأصليين، الذين هم من الساميين أيضاً، في مقدمة العوامل التي ساعدت على الامتزاج والاندماج بسرعة بين الطرفين فازداد عدد القبائل العربية باطراد[54].

كما ورد ذكر العرب في النصوص الآشورية المسمارية في زمن الملك شيلمنصّر الثالث وذلك في أخبار حربه في بلاد الشام بموقعة القرقار (853 ق. م.) حيث تحالف «ألف راكب جمل من العرب بزعامة جندبو» مع ملك دمشق وحماه وبلغ مجموع الحلف العسكري 12 ملكاً ضد الملك الآشوري[55] الذي زحف أيضاً إلى جنوب الجزيرة العربية واتصل بعدة قبائل عربية كانت تسكن ساحل الخليج العربي[56].

كما أشار سنحاريب (704 – 681 ق. م.) في نصوصه إلى العرب وتحالفهم مع الثائر الكلداني «مردوخ بلادان» في بابل وكان معهم الآراميون والكلدانيون الذين كانوا يسكنون الوركاء ونفر وكيش وسبار، وأن سنحاريب أسرهم وأحصاهم كغنائم حرب[57].

وقطن الحيرة العرب أيضاً، فسكنت قبائل تنوخ فيها منذ العهد الفرثي سنة 126 ق. م. فتأسست «إمارة الحيرة العربية» التي أسسها مالك بن فهيم التنوخي الذي شجع قبائل عربية أخرى على الارتحال إليها مثل طي وكلاب وتميم[58]. وجاء بعدهم اللخميون خلال العهد الساساني.

وبعد دخول العرب المسلمين العراق أصبح يخضع للحكم الراشدي والأموي ومن ثم مركزاً للدولة العباسية، حيث ازدهرت ميادين الحضارة وما زالت بقاياها شاخصة لحد الآن استكمالاً لميادين الحضارات الجزرية (السامية) والسومرية التي ما زالت آثارها المتبقية هي الأخرى شاهداً عليها لغاية هذا اليوم.

وبعد سقوط الدولة العباسية سيطر المغول الإيلخانيون على العراق عام 1258 بقيادة هولاكو، ثم جاءت موجة مغولية أخرى حكم خلالها الجلائريون مرتين وتيمورلنك مرتين أيضاً ودولتا الخروف الأبيض والأسود التركمانيتان.

واستمر الوضع حتى مجيء الفرس الصفويين من جهة الشرق في عام 1508م. ومنذ سقوط الدولة العباسية وحتى قيام الدولة العثمانية في عام 1534 استمر وجود المدن العباسية على الرغم من تعثر وظائفها، كما امتد حكم أغلب الغزاة إلى جميع حدود العراق الحالية.

واتسمت المرحلة الممتدة من 1534 إلى 1869 بصراع بين السلطة العثمانية والعشائر العربية حيث تمركز حكم السلطة المذكورة في المدن الكبرى (بغداد، البصرة، الموصل). أما بقية المدن والأرياف فكانت خاضعة لحكم العشائر العربية. كما كان لبعض العشائر الكردية نفوذ فوق الجبال، وأغلبها خارج العراق وتكونت بعض الإمارات فيها مثل إمارة بابان في قلعة جوالان ثم في مدينة السليمانية. إلا أن جميع تلك العشائر كانت تدفع الضرائب للسلطة العثمانية. واستمر حكم الدولة العثمانية حتى دخول الإنكليز مدينة بغداد سنة 1917 حيث تأسست بعدها الدولة العراقية الحديثة في عام 1921، إذ أصبح فيصل الأول ملكاً على العراق.

 

خامساً: أصل تسمية العراق

اختلف الرأي حول أصل تسمية العراق، ويجوز تأنيثها وتذكيرها، فهناك من يرى أنها ذات أصل عربي بمعنى «الشاطئ» أو «جرف الجبل»، وآخرون يرون أن الكلمة ذات أصل فارسي بمعنى «الساحل» وأن كلاً من «عراق» و«إيران» مشتقان من أصل واحد (إيراك). كما يرى البعض الآخر أن كلمة «عراق» قد تعود إلى بعض الأصول العراقية القديمة، فقد تكون مشتقة من العِرق أو «الجذر» بمعنى الأصل الذي اشتقت منه كلمة أوروك (Uruk) أو أونوك (Unug)، وهو الاسم الذي أطلق على مدينة الوركاء والذي يدخل في تركيب أسماء عدد من المدن العراقية الأخرى. وفضلاً عن ذلك ورد في بعض نصوص العهد البابلي الوسيط (الكاشي أو الكشي) ذكر لإقليم «أريقا»، ربما له علاقة مع اسم العراق.

وشاع مصطلح العراق منذ القرنين الخامس والسادس الميلاديين للدلالة، في بداية الأمر، على الجزء الشمالي من العراق الحديث ثم أُطلق بعد ذلك على القسم الشمالي والوسطي والجنوبي. وامتد مدلول المصطلح (أي توسع) في القرنين الحادي عشر والثاني عشر الميلاديين ليشمل ما جاور العراق من المناطق الجبلية في إيران حتى همدان. وبذا فإن تسمية «العراق» هي أدق التسميات للدلالة على المنطقة التي نشأت وازدهرت فيها الحضارات العراقية القديمة السومرية والأكدية والبابلية والآشورية[59].

ويرى المستشرق الألماني «هرتسفيلد» أن العراق هو معرب لفظ «إيراك» (Eraq) الفارسي الذي يعني البلاد السفلى أي الجنوب. وكانت الأرض الممتدة من واسط إلى الخليج العربي تابعةً لهذا القسم من ديار الدولة الساسانية. وترى مجلة لغة العرب أن ما توصل إليه «إرنست هرتسفيلد» هو مطابق لما توصلت إليه لغة العرب عن أصل تسمية العراق وتعني البلاد المنخفضة أو المعرّضة للغرق[60]. ومن رأي الأب أنستاس الكرملي أن العراق هو تعريب «إيراه» بمعنى الساحل[61].

وذكر «لسترانج» أن العرب أطلقوا على بلاد ما بين النهرين الجنوبي اسم «العراق» ومعناه الجرف أو الساحل، على أن منشأ هذا اللفظ مشكوك فيه ولعله يمثل اسماً قديماً فقدناه[62]. لكن استعمال هذا الاسم العربي (العراق) ليعني الجرف غير واضح التحديد تماماً، وقد أطلقه المحررون العرب على بلاد بابل فقط، حيث إن المرء إذا دخل وادي النهر من الحماد أو من هضبة الصحراء العربية الواقعة إلى الغرب، يجد نفسه على جرف يرتفع حوالى 30 متراً فوق السهل يشرف على أعالي مزروعات الفرات ثم دجلة ومن ثم جبال زاكروس التي تشكل الحدود الشرقية لبلاد الرافدين. وعلى حافة الجرف عند مدينة الكوفة هناك مزار يدعى «السفينة» يعيِّن المكان الذي يعتقد المسلمون أن فلك الطوفان قد استقر فيه[63].

وجاء في بعض الروايات أن العراق اسم معرب من بعض اللغات السامية وأصله «إيراه» أي ساحل البحر. وقد عرَّبته العرب بأن قلبت الهمزة عيناً والهاء قافاً. ولذلك قال الخليل بن أحمد الفراهيدي المتوفى في النصف الثاني من القرن الثاني للهجرة، قال: «العراق، شاطئ البحر، وسمي عراقاً لأنه على شاطئ دجلة والفرات ماداً – أو مداً – حتى يتصل بالبحر على طوله». وهذا أصح الأقوال عندنا في تسمية العراق باسمه هذا. وكان العراق بهذا الاسم في عصور الجاهلية ذكره جابر بن حني التغلبي، أحد شعراء الجاهلية، بقوله[64]:

وفي كلِّ أسواق العراق إتاوةً

وفي كل ما باع امرؤ مكس درهم

وجاء في قانون شعار الجمهورية العراقية الرقم 57 لسنة 1959 أن تسمية العراق بمعناه القديم (إراكي)، أي بلاد الشمس[65].

ولياقوت الحموي رأي عن أصل تسمية العراق وذكر أنها جاءت من عِرَاق القربة وهو الخرْزُ المثني الذي في أسفلها، أي أنها أسفل أرض العرب. وقال الخليل: وهو مشبه بعراق القربة، وهو الذي يثني منها فيُخرزُ. وأكد هذا القول أبو القاسم الزّجاجي وأضاف نقلاً عن أبي الإعرابي قائلاً: سُمي عراقاً لأنه سَفُلَ عن نجدٍ ودنا من البحر. وأكد قطرب أيضاً هذا القول وأضاف إليه قائلاً: «وفيه سباخ وشجر». وقال الخليل: العراق شاطئ البحر، وسمي العراق عراقاً لأنه على شاطئ دجلة والفرات مداً حتى يتصل بالبحر على طوله. وقال شمر نقلاً عن أبي عمرو: سميت العراق عراقاً لقربها من البحر، وأهل الحجاز يسمون ما كان قريباً من البحر عراقاً.

وقال آخرون: العراق جمع عرق مأخوذ من عروق الشجر، فالعراق من منابت الشجر. كما قيل إن العراق يعني الاستواء، أي أن أرضه مستوية. وقال الأصمعي: هو معرّب عن «إيران شهر» وفيه بعدٌ عن لفظه وإن كانت العرب قد تتغلغل في التعريب بما هو مثل ذلك (انتهى قول ياقوت بتصرف)[66].

وجاء في تاج العروس في مادة (ع ر ق، 7/9) ما نصه: «والعُرقُ، بضمتين، جمع عِراق بالكسر لشاطئ البحر على طوله… والعراق شاطئ الماء أو شاطئ البحر خاصةً… وقال أبو زيد: كل ما اتصل بالبحر من مرعى فهو العراق… لأن العراق بين الريف والبر أو لأنه على عراق دجلة والفرات أي شاطئهما»[67].

يتضح مما تقدم أن تعبيرات ومصطلحات كثيرة وردت بحق العراق وأغلبها تنطبق عليه، فقيل هو (الشاطئ أو الساحل) لأنه واقع على شاطئ أو ساحل دجلة والفرات حتى اتصاله بالبحر (الخليج العربي). وقيل هو «جرف الجبل» حيث إن القادم من هضبة بلاد العرب إلى أرض العراق يجد نفسه فوق جرف يرتفع عن سهل العراق بنحو 30 متراً. بمعنى أنه أسفل أرض العرب وقرب البحر (سفل عن نجد ودنا من البحر)، وأهل الحجاز يسمون ما كان قريباً من البحر عراقاً. أو أن العراق تعني الأرض المستوية أو المنخفضة، أو أن الاسم مأخوذ من عروق الشجر التي تكثر في أرضه. وقد تكون التسمية جاءت من «الجذر» الذي اشتقت منه كلمة أوروك الذي أطلق على مدينة الوركاء، أو أن الاسم معرب من إيراك التي تعني البلاد السفلى، أي الجنوبية (جنوب الدولة الساسانية). وجميع هذه التسميات تنطبق على حال العراق وصفاته.

سادساً: أقاليم العراق في التاريخ

كان العراق وما زال بحدوده التقريبية الحالية منذ القدم وحتى نهاية الدولة العثمانية، حيث كان يتكون من ثلاث ولايات (البصرة، بغداد، الموصل)، بل إن حدوده كانت تمتد إلى خارج أراضيه الحالية. وقديماً أطلق الإغريق كلمة «ميزوبوتاميا» (Mesopotamia) على السهل الواقع بين نهري دجلة والفرات (وهي بلاد الرافدين) أو العراق القديم، واستخدم هذا المصطلح منذ القرن الرابع قبل الميلاد على ما يظن ممتداً من الشمال إلى الجنوب[68].

وأطلقت التوراة عليه اسم «أرض شنعار» كما ورد ذلك في سفر التكوين، وكان يراد بها منطقتي سومر وأكد حيث قامت فيها إمبراطورية بابل. بينما أطلق «كتيسياس» على طرفها الجنوبي اسم بلاد كلدو[69] الواقعة شرق الصحراء العربية (الى الغرب من شط العرب والخليج) على حد تعبير المؤرخ والجغرافي سترابون (64ق.م – 19م)[70]. وهو ما يعني أن سترابون جعل بلاد الرافدين تمثل القسم الشمالي من السهل الطموي الأسفل، وأطلق على القسم الجنوبي اسم «بلاد بابل»[71].

ويرجح مترجم كتاب عظمة بابل عامر سليمان إبراهيم أن المقصود بمصطلح «ميزوبوتاميا» الوارد ذكره في العهد القديم هو للدلالة على الإقليم المحصور بين نهري الفرات والخابور والبليخ أو كلا هذين النهرين مع الفرات، ربما هذا في المرحلة الأولى من إطلاق التسمية. ويرى العالم فلنكشتاين أن مصطلح «ميزوبوتاميا» قد يعود بأصوله إلى تسميات قديمة وردت في بعض النصوص المسمارية الأكدية على هيئة بيرت نارم (Birtnarm) التي تعني «بين النهرين»[72].

وحدد بليني بلاد الرافدين بالبقعة الممتدة من القسم الشمالي من السهل الطموي إلى الخليج العربي جاعلاً رقعة هذه البلاد مطابقة على وجه التقريب للعراق الحالي بحيث تشكل جبال زاكروس حدوده الشرقية[73]. وبلاد الرافدين بنظر هاري ساكز تعني بلاد بابل وآشور القديمة (أو العراق حالياً)[74]. وحدد روبرت فيفر هذه البقعة بالبلاد الممتدة ما بين الخليج العربي ومنابع نهري دجلة والفرات[75].

أما العرب فقد أطلقوا على مصطلح بلاد الرافدين اسم «أرض السواد» أو «العراق» بعد موقعة القادسية سنة 637م. قال ياقوت الحموي: إن العراق هو السواد، والعراق هي بابل. وقال آخرون: العراق هي الطور والجزيرة والعِبْر. والطور تمتد ما بين ساتيدما (جبال حمرين) وإلى دجلة والفرات[76]. وأصبح العراق بعد ذلك يشمل جميع بلاد بابل القديمة[77]. أي جميع أراضيه بحدوده الحالية[78]. لذلك ترى مجلة لغة العرب أن السواد يشمل الجزيرة والعراق[79].

الشكل الرقم (2)

صورة العراق لابن حوقل (367هـ/977م)

المصدر: أحمد سوسة، العراق في الخوارط القديمة (بغداد: المجمع العلمي العراقي، ومطبعة المعارف، 1959)، ص 22.

يظهر مما تقدم أن بلاد الرافدين هي العراق الحديث الذي يمتد مسافة 960 كم من منابع النهرين (دجلة والفرات) حتى الخليج العربي[80]؛ أي يشمل جميع المنطقة الواقعة ضمن حدود الدولة الحديثة التي تحمل اسم العراق[81].

وتشير المصادر إلى أن أسماء الأقاليم وحدودها في عهد الدولتين الأموية والعباسية ظلت على ما كانت عليه في أيام الأكاسرة في الغالب. فكانت بلاد الرافدين (النهرين) وهي العراق الحالي مقسمةً إلى إقليمين زراعيين: الجنوبي ويعرف بإقليم السواد، ويسميه ياقوت الحموي أيضاً «العراق العربي»[82] والشمالي ويمتد شمال الإقليم السابق حتى منابع نهري دجلة والفرات، وكان يعرف بإقليم الجزيرة[83] أو الجزيرة الفراتية أو إقليم «آقور».

1 – إقليم السواد

سمّي بهذا الاسم لسواده بالزروع والنخيل والأشجار مقارنةً بجزيرة العرب التي لا زرع فيها ولا شجر، وهم يسمون الأخضر سواداً، والسواد أخضر[84]. والعرب يجمعون بين الخضرة والسواد في الأسامي فسمّوا خضرة العراق سواداً[85].

وبذلك يتفق معنى السواد بما يقابل معنى الريف في يومنا هذا. فهو تعبير عن الأرض الزراعية، وأبعاد هذه الأرض في تغير مستمر تبعاً للظروف التي تساعد في اتساع الزراعة أو تقلصها[86]. وفي ما يتعلق بأرض العراق الزراعية يقسم الجغرافيون العرب بلاد النهرين إلى منطقتين: الجنوبية ويسمونها «العراق» والشمالية ويطلقون عليها اسم «الجزيرة».

ويكون طول السواد وفقاً للمسعودي (346هـ) بما يعادل 750 كم وعرضه في أقصى اتساع له 480 كم[87]. ويزيد ياقوت الحموي طوله نحو الشمال حتى يبلغ 960 كم وبالعرض نفسه[88]. ومساحة السواد في عهد الخلفاء الراشدين، بعد إبعاد الجبال والأودية والأنهار ومواضع المدن والقرى يبلغ 36 مليون جريب مزروع[89]، والجريب يساوي 1592م2 (حسب فالتر هنتس). ويقسم ابن خرداذبه إقليم السواد إلى ثلاث مناطق إروائية زراعية هي[90]:

أ. الأولى وتقع شرق نهر دجلة، يرويها دجلة والنهروان وتمتد من الدور في الشمال إلى نهاية ماداريا في الجنوب.

ب. الثانية ويرويها دجلة والفرات وتقع ما بين ماداريا في الشمال والخليج العربي في الجنوب.

ج. الثالثة وهي أوسع المناطق الثلاث وأكثرها انتاجاً وتقع ما بين النهرين، بين الأنبار على الفرات والدور على دجلة في الشمال، وبين البطيحة في الجنوب. وتدخل ضمن هذه المنطقة أنهر (جداول) الفرات الأربعة (عيسى، صرصر، الملك، كوثي).

ويطلق على إقليم السواد أيضاً اسم «عراق العرب» تمييزاً له عن «عراق العجم» وهو إقليم الجبال[91]، وبضمنه ما عُرف فيما بعد باسم جبال كردستان غرب بحيرة أورمية. وما زال موقع يحمل اسم العراق أو «أراك» إلى يومنا هذا داخل إيران ويقع بين قمّ وهمدان.

وتمتد منطقة السواد من حديثة الموصل (قرب مصب الزاب الأعلى) في الشمال، وجعلها الأصطخري من تكريت[92]، إلى عبادان قرب خوزستان والخليج في الجنوب، ومن العذيب قرب القادسية غرباً بمحاذاة البادية إلى حلوان – حالياً سربيل زهاب – إلى الشرق من قصر شيرين في إيران شرقاً[93]، بطول 160 فرسخاً، أي حوالى 960 كم بحسب تحديد ياقوت الحموي في كتابه معجم البلدان، وإن كان ياقوت يجعل العراق أقصر من السواد بنحو 35 فرسخاً وعرضه كالسواد (80 فرسخاً)[94]. وفي أسفل السواد تمتد رقعة منخفضة من الأرض يطلق عليها اسم البطائح (الأهوار والمستنقعات). والتحديد السابق يمثل حدود العراق نفسها في العهد الجلائري (738 – 814هـ/1337 – 1411م)[95]. وعدَّ القلقشندي (ت 821هـ/1418م) حلوان جزءاً من العراق العربي[96].

2 – إقليم الجزيرة

يقع هذا الإقليم بين نهري دجلة والفرات شمال إقليم السواد ومجاوراً لبلاد الشام، وكان يمتد من جنوب الموصل إلى منابع النهرين، تقدر مساحته بنحو 238541 كم2 [97].

وبموجب آخر التقسيمات الإدارية في عام 1905 بلغت مساحة إقليم الجزيرة 253150 كم2 حيث كان يتألف من خمس ولايات، إحداها ولاية الموصل التي تمثل قسمها الجنوبي[98].

ويحدد الأصطخري وابن حوقل حدود الجزيرة بأنها تمتد من الجنوب من خط يمر بالأنبار إلى تكريت، ثم يصعد شمالاً إلى السن والحديثة والموصل وجزيرة ابن عمر وآمد ثم يتجه غرباً إلى سميساط ويستمر حتى يصل الفرات الذي يكون الحد الغربي للجزيرة[99].

وبذلك قسمت الجزيرة إلى ثلاثة أقسام إدارية. كل قسم باسم قبيلة من تلك القبائل[100]. ولا يحتوي العراق من الجزيرة اليوم سوى «ديار ربيعة» حيث ضمت ديار مضر إلى سورية وديار بكر إلى تركيا[101]. وهذا يعني أن جميع الأراضي العراقية الحالية الواقعة شمال مدينة حديثة الموصل تقع ضمن إقليم الجزيرة، فضلاً عن جنوب شرق تركيا وشمال شرق سورية حالياً. وهذا يعني أن جميع الأراضي الجبلية الواقعة شمال شرق العراق لا علاقة لها بجبال كردستان (إقليم الجبال القديم أو عراق العجم) الواقعة خارج حدود العراق الحالية.

وقد أورد البلاذري (ت279هـ/892م) أول إشارة لاستيطان القبائل العربية في الجزيرة الفراتية في العهد الإسلامي[102]. وإن وصلوا إليها قبل ذلك العهد حيث كان العرب يمثلون الأكثرية المطلقة بين مختلف عناصر سكانها[103]. فقد استوطنت ثلاث قبائل عربية كبرى تلك الجزيرة داخل رؤوس مثلث، فكانت ديار بكر (وتنسب إلى بكر بن وائل) تشغل رأس هذا المثلث في أقصى الشمال وعاصمتها آمد. أما قبائل مضر فكانت باتجاه الغرب المتطرف بمحاذاة الفرات، من سميساط حتى عانة. ومن مدنها حران (وهي قصبتها)، الرها، بالس، الرقة، سروج. في حين كانت تقطن ديار ربيعة بين الموصل ورأس العين وتنتشر في شرق خابور الفرات وعلى ضفتي نهر دجلة حتى تكريت[104].

خلاصة

قديماً أطلق الإغريق كلمة «ميزوبوتاميا» على «بلاد الرافدين» منذ القرن الرابع قبل الميلاد. ويراد بهذا المصطلح السهل الواقع بين نهري دجلة والفرات أو العراق القديم.

وحدد كل من «بليني وهاري ساكز وروبرت فيفر» بلاد الرافدين بالبقعة الممتدة ما بين منابع دجلة والفرات وامتدادها إلى الخليج العربي، أي بلاد بابل وآشور القديمة. ومع اختلاف الآراء حول ذلك إلا أن العالم فلنكشتاين يرى أن مصطلح «ميزوبوتاميا» قد يعود بأصوله إلى تسميات قديمة وردت في بعض النصوص المسمارية الأكدية على هيئة «بيريت نارم» التي تعني «بلاد النهرين».

أما العرب فقد أطلقوا على مصطلح «بلاد الرافدين» اسم «أرض السواد» وهي الريف أو العراق العربي، بعد موقعة القادسية سنة 637م. وأصبح بعد ذلك يشمل جميع بلاد بابل القديمة، وبضمنها إقليم الجزيرة أي جميع أراضيه بحدوده الحالية. ويمتد إقليم السواد من جبال زاكروس شرقاً إلى البادية (الحماد) غرباً. وفي أواخر عهد الدولة العثمانية (عام 1905) بلغت مساحة إقليم العراق (السواد)380010 كم2. أما الجزيرة التي كانت تمتد من جنوب مدينة الموصل (عاصمة الجزيرة) إلى منابع النهرين فقد بلغت مساحتها 253150 كم2 وتتألف من خمس ولايات إحداها ولاية الموصل.

ولا يضم العراق اليوم من أقسام الجزيرة الثلاثة في العصر العباسي سوى «ديار ربيعة» التي كانت تمتد بين الموصل ورأس العين، حيث ضمت ديار مضر إلى سورية، وديار بكر إلى تركيا اتبعت فيها سياسة التتريك والتكريد. وكانت مساكن ديار ربيعة تمتد بين الموصل ورأس العين وتنتشر في شرق خابور الفرات وعلى ضفتي نهر دجلة حتى تكريت. وتعد الموصل عاصمة الجزيرة وأكبر المدن فيها. وكانت أغلبية سكان الجزيرة من المجموعة العربية وتسود فيها الديانة الإسلامية.

أما سكان بلاد الرافدين، فقد دلت الدراسات الأنثروبولوجية للهياكل العظمية التي وجدت في مقبرة «أريدو» والتي تنتمي إلى حضارة العبيد على أن سكان العبيد وأريدو هم من جنس البحر المتوسط الذين منهم الجزريون (الساميون)، وأن الجماجم الموجودة في بلاد الرافدين لا تختلف عن جماجم العرب المعاصرين. بينما ينتمي السومريون إلى جنس أبيض اللون، لهم رؤوس مستديرة ووجوه عريضة؛ في حين تنتمي الجماعات الأجنبية التي غزت العراق إلى الجنس الألبي.

الشكل الرقم (3)

الجزيرة الفراتية في القرن السادس الهجري (الثاني عشر الميلادي)

المصدر: المصدر نفسه، ص 12، وسوادي عبد محمد، الأحوال الاجتماعية والاقتصادية في بلاد الجزيرة الفراتية خلال القرن السادس الهجري/الثاني عشر الميلادي (بغداد: دار الشؤون الثقافية، 1989)، ص 32.

وقد أثبتت حفريات كاورا وأربجية وتبة كورا وغيرها من المواقع الشمالية وجود حضارة العبيد في شمال العراق، كما هي موجودة في وسط العراق وجنوبه. والحضارة العراقية، السامية والسومرية، كانت تمتد من شمال حوض الخابور إلى شواطئ الخليج العربي. ووجد السومريون عند وصولهم إلى جنوب العراق قرى جزرية (سامية) مزدهرة كانت أساس قيام المدن السومرية. كما أن الخط المسماري ظهر في كيش السامية وليس في سومر.

وهناك عدة طرق للاتصال بين بلاد الرافدين وبلاد العرب أهمها الطريق الذي كان يمر بمكة وجبل شمر حتى يصل إلى بابل، والذي أصبح طريق الحج بعد فتح المسلمين للعراق وكان يسير فيه المسلمون القادمون من الشرق باتجاه مكة. ويرجع تاريخ هذا الطريق إلى الألف الثاني قبل الميلاد. وإلى هذا التاريخ يعود وجود العرب في العقد الرئيسة لطرق التجارة الممتدة بين الفرات وخليج العقبة ما جعلهم متجاورين مع مدن بلاد الرافدين.

أما أصل تسمية العراق فهناك آراء مختلفة أغلبها تنطبق عليه من بينها أن تسميته تعني الشاطئ أو الساحل، لأنه يقع على شاطئ دجلة والفرات، وقيل هو «جرف الجبل» حيث إن القادم من هضبة بلاد العرب إلى أرض العراق يجد نفسه فوق جرف يرتفع عن سهل العراق بنحو 30 متراً. وقد تكون التسمية جاءت من الجذر الذي اشتقت منه «أوروك» الذي أُطلق على مدينة الوركاء. وجميع هذه التسميات تنطبق على حال العراق وصفاته.

 

قد يهمكم أيضاً  البركان: قصة انطلاق المقاومة العراقية

#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #تاريخ_العراق #العراق #بلاد_الرافدين #الوطن_العربي #البلدان_العربية #الحضارة_العراقية #جغرافيا_العراق #دراسات