مقدمة:

تولي دساتير الأنظمة المعاصرة حماية كبيرة لحرية التعبير؛ لأسباب متعددة أهمها أن الحق في حرية التعبير يعَد دعامة أساسية من دعائم البناء الديمقراطي، كما أنها ضمانة فعالة ومؤشر على مدى احترام حقوق الإنسان في الدولة. فحرية التعبير تساعد على كشف الانتهاكات والتحقق منها، في حين تزدهر الانتهاكات في ظل السرية والتكتم. وقد أفضت هذه الأسباب مجتمعة إلى إلزامية إقرار حماية لحرية التعبير وذلك ما نصت عليه الصكوك والاتفاقيات الدولية ومعاهدات حقوق الإنسان، وتضمنته أغلب الدساتير باعتبارها حقاً أساسياً ملازماً للضمانات الدستورية العامة للديمقراطية، فإلى أي مدى أسهمت الدساتير المغاربية في حماية حرية التعبير في تونس والجزائر والمغرب؟

وستتم الإجابة عن هذه الإشكالية وفقاً للمحاور التالية:

أولاً: الحماية الدستورية لحرية التعبير في تونس

تعد تونس البلد الأول الذي اندلعت فيه شرارة الحراك الذي تعيشه الأقطار العربية، وهي تعيش مرحلة متقدمة في عملية التحول الديمقراطي، وهي لحظة فارقة في تاريخها الدستوري، وتوجهها نحو حماية حقوق الإنسان وحرياته الأساسية، بما في ذلك حرية التعبير وحرية الوصول إلى المعلومات‏[1]. وقد سعى المجلس التأسيسي الذي انتُخب بعد الثورة في تونس في 23 تشرين الأول/أكتوبر 2011 لوضع وثيقة دستورية تؤسس لحماية الحقوق والحريات الأساسية، تتوافق مع المواثيق والاتفاقيات الدولية التي وقعتها تونس غداة الاستقلال، كالإعلان العالمي لحقوق الإنسان 1948، الذي تنص المادة 19 منه على أن لكل شخص حق التمتع بحرية الرأي والتعبير. ويشمل هذا الحق الحرية في اعتناق الآراء دون مضايقة، وفي التماس الأفكار وتلقيها ونقلها للآخرين، وكذلك ما جاء في العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية‏[2]، الذي صادقت عليه تونس مبكراً؛ فبالعودة إلى دستور 1959 والتعديلات التي مسَّته نجد أن هذا الدستور قد عمل على تكريس الحماية الدستورية لحرية التعبير، حيث نص الفصل الثامن من الباب الأول بقوله: حرية الفكر والتعبير والصحافة والنشر والاجتماع وتأسيس الجمعيات مضمونة وتمارَس حسب ما يضبطه القانون، والحق النقابي مضمون.

والملاحَظ أن دستور 1959 قد عمل على تعزيز الحماية لحرية التعبير، إلا أنها مقرونة بمختلف الحريات الجماعية الأخرى، وأن المؤسس الدستوري لم يولِ أي أهمية لحرية التعبير ولا باقي الحريات الجماعية والفردية الأخرى؛ فوردت حرية التفكير والتعبير والصحافة في نص مادة واحدة على التوالي. وكان هذا النص الوحيد عاجزاً في ظل الأنظمة التسلطية التي شهدتها تونس عن الاعتراف بحرية التعبير أو التفكير، فكانت وسائل الإعلام المختلفة مجرد أدوات في خدمة النظام السياسي، دورها الوحيد الدفاع عن مشاريع النظام وتزيينها، في حين مورس القمع على الصحافيين، وأصحاب الرأي، وكل المعارضين لسياسات هذا النظام سجناً أو تهجيراً أو تصفية في بعض الأحيان.

وبعد الحراك الذي شهدته تونس في أواخر 2010 وأفضى إلى سقوط نظام بن علي، دخلت تونس مرحلة جديدة في مجال الحقوق والحريات الأساسية، فانتعشت حرية التعبير بشكل أسَّس فعـلاً لبناء أفق ديمقراطي قوامه الحرية والتعدد وتبادل الأفكار. وقد جاء دستور 2014 التوافقي كضمانة أساسية لتعزيز الحماية الدستورية للحريات الأساسية، إذ نص الفصل 31 أن حرية الرأي والفكر والتعبير والإعلام والنشر مضمونة، ولا تجوز ممارسة رقابة مسبقة على هذه الحريات.

وتعَد هذه الصيغة إيجابية، إلا أن مفهوم حرية التعبير لا يزال يكتنفه بعض الغموض في أحكام الفصل 31، كونه لم يعتمد أي تدابير وآليات تضمن كيفيات ممارسة هذا الحق؛ فيجب ضمان هذه الحرية ليس كحق أساسي فقط بوصفها دعامة أساسية من دعائم البناء الديمقراطي. كما أن حرية التعبير جاءت مترادفة مع حرية الإعلام والفكر‏[3]، وكان الأجدر بالمؤسس الدستوري أن هذا الحق مكفول لكل أفراد المجتمع ومن الواجب تبيين السن أو الجنسية، وحدود هذه الحرية. ويعد الدستور التونسي من أكثر الدساتير العربية تقدمية وانفتاحاً وديمقراطية من الدساتير الأفريقية؛ فقد عزز المؤسس الدستوري حرية التعبير في باب الحقوق والحريات وأن الدولة تكفل حرية المعتقد والضمير وممارسة الشعائر الدينية، فأكد أن حرية الفكر والتعبير مضمونة، والضمانات نفسها توفرها الدولة لحرية الإعلام والنشر في النفاذ إلى المعلومة إلى جانب حرية البحث العلمي والإبداع الفني دون الخضوع لأي نوع من الرقابة.

وقد سعى دستور 2014 لإخراج تونس من دوامة المفهوم التقليدي لحرية التعبير وخصوصاً في المجال الإعلامي الذي كان يعتبر وزارة الإعلام مجرد أداة في يد النظام تعمل على الدعاية لإنجازاته ومشاريعه الواهمة؛ حيث نص الفصل 127 على إحداث هيئة للاتصال السمعي البصري تعمل على تطوير القطاع وتسهر على ضمان حرية الإعلام والتعبير في مناخ تعددي نزيه، وتتمتع بسلطة ترتيبية في مجال اختصاصها، وتستشار وجوباً في مشاريع القوانين المتصلة بها.

وقد أثبت التاريخ أن الحد من حرية التعبير لا يؤدي إلى مسار البناء الديمقراطي. وأدرك التونسي أن الحكومة عندما تمنع حرية الخوض في مواضيع معينة فإنه غالباً ما يُجبر هؤلاء المواطنون على مناقشة هذه المواضيع سراً؛ فمن خلال السماح للأفراد بالتعبير عن آرائهم – بغض النظر عن مقدار عدم موافقة الحكومة والمواطنين – فإن ذلك يعزز دستور 2014 بالشفافية والاستقرار الاجتماعي‏[4].

تقييم حرية التعبير في تونس: الحرية الحبيسة

قطعت حرية التعبير في تونس ما بعد الثورة شوطاً محترماً، وتجسَّد ذلك في المرسومين 115 و116 للعمل الصحفي ودستور 2014، حيث تمت القطيعة بين الإعلاميين ورقابة رجال البوليس والوصاية على الرأي العام وحرية التعبير والاختلاف السياسي.

إلا أن وضع حرية التعبير بعد الثورة لا يزال هشاً رغم التنصيص الدستوري بإقرار الحق في حرية التعبير؛ إذ تواصَل تسجيل الانتهاكات ضد الحريات الإعلامية وتوثيق العديد منها، وإن اختلفت الجهات والأدوات التي ترتكبها. وبعد الثورة رُخِّص لاثنتي عشرة إذاعة خاصة وخمس قنوات تلفزيونية، إلا أن القسم الأكبر من وسائل الإعلام لا يزال بالأيدي ذاتها، وملك للأوساط ذاتها؛ وهو ما يجعل المشهد الإعلامي يئن تحت التجاذبات السياسية والأيديولوجية.

ويرى آني مبارك، الأستاذ بمعهد الصحافة وعلوم الأخبار في تونس، أنه لا فرق في حرية الإعلام، ويقول إن الحديث عن حرية الإعلام هو الآخر يشبه السهل المعقد لأننا كنا نعيش في مرحلة الإعلام قبل الثورة وأصبحنا الآن نعيش في مرحلة اللااعلام بعد الثورة، وذلك ليس تهكماً لأننا عند التحدث عن حرية الإعلام يجب أن نحدد إطارها ومجالها لنعرف إذا كان هناك إعلام أم لا. في أثناء الثورة كان الإعلام عبارة عن مرآة للسلطة، أما اليوم وبعد الثورة فقد أصبح الإعلام ملكاً مباحاً لسلطة استبداد الأفراد والأحزاب والأيديولوجيات، وأيضاً سلطة الفوضى التي تقود البلاد إلى الكارثة. لذا يجب البحث أولاً عن إعلام حقيقي قبل البحث إن كانت هناك حرية أم لا.

ولا تزال ظاهرة سجناء الرأي تقض مضجع رجال الإعلام في تونس؛ ففي 20 كانون الثاني/يناير 2015 حُكم سجين الرأي في تونس ياسين العياري بتهمة الإساءة إلى الجيش الوطني والتشكيك فيه من طريق منشورات على موقع الفايسبوك، كما ارتكب قاضي التحقيق العاشر بالمحكمة الابتدائية بالعاصمة تونس العديد من المخالفات القانونية الجسيمة ضد الصحافي زياد الهاني، وفريق الدفاع عنه، أثناء مثوله للتحقيق معه على خلفية تصريحات إعلامية انتقد فيها وكيل الجمهورية وسير العدالة في البلاد بعد توجيه عدة تهم مختلفة ضد المصور الصحافي مراد المحزري والمخرج السينمائي نصر الدين الهلي.

وتحتل تونس في مؤشر «مراسلون بلا حدود» لحرية الصحافة لهذا العام، المرتبة 126؛ أي أنها لا تزال في اللون الأحمر. وهذا ما جعل القوانين المنظِّمة لحرية التعبير في تونس ما بعد الثورة بمنزلة استنساخ ثوري لقانون بن علي، وهو أيضاً ما جعل المواطن التونسي يعتقد أنه كان يعيش قمعاً في ظل نظام بن علي، والآن يعيش قمعاً باسم الثورة المباركة؛ وهذا القمع ليس قمعاً ثورياً بل قمع يؤسس لدكتاتورية بغيضة.

ثانياً: الحماية الدستورية لحرية التعبير في الجزائر

تشكل حرية التعبير أحد الاهتمامات الأساسية للمؤسس الدستوري الجزائري، وتجلت هذه الأهمية من خلال التنصيص الدستوري على هذا الحق بداية من دستور 1963 فدستور 1976، ثم دستوري 1989 و1996.

1 – دستور 1963

يعَد دستور أيلول/سبتمبر 1963 في مقدمة الدساتير الجزائرية التي كرّست حرية التعبير، حيث نصت المادتان (4) و(19) على هذه الحرية. فقد جاء في المادة (4) منه: الإسلام دين الدولة وتضمن الجمهورية الجزائرية لكل فرد احترام آرائه ومعتقداته والممارسة الحرة لشعائره. أما المادة (19) من الدستور ذاته فتنص على أن: تضمن الجمهورية حرية الضمانة ووسائل الإعلام الأخرى وحرية تكوين الجمعيات وحرية التعبير والتدخل الجمعوي وحرية الاجتماع كذلك.

فنص المادة (4) تضمّن ثلاثة أنواع من الحريات الفردية وهي حرية الفرد في آرائه وحرية المعتقد، وحرية ممارسة شعائره الدينية؛ وكل هذه الحريات من صميم حريات التعبير. كما نصت المادة (19) على حرية الصحافة ووسائل الإعلام وكذا تكوين الجمعيات. والمقصود من حرية التعبير هو حرية القول والكلام وحرية التدخل الجمعوي وحرية الاجتماع، وهذه كلها حريات للتعبير‏[5].

وعليه، فالمؤسس الدستوري في ظل هذا الدستور – وبالرغم من الصعوبات التي تعيشها البلاد في تلك المرحلة الانتقالية – عمل على تكريس الحق في حرية التعبير وأعطاه حيوية وقدسية.

2 – دستور 1976

صحيح أن دستور 1963 لم يُكتب له أن يطبَّق فعلياً إلا لمدة قصيرة جداً لا تتعدى الأسابيع ثم تم توقيف العمل به وبمضمونه مباشرة، بعد ما يعرف بالتصحيح الدستوري في 15 حزيران/يونيو 1965، وجاء بعد ذلك إعلان مجلس الثورة لتثبيت فشل أول تجربة دستورية جزائرية في حماية الحقوق والحريات الأساسية، إذ سُجل العديد من الانتهاكات لحقوق الإنسان في تلك الفترة، وتم السعي لاحتكار السلطة والقضاء نهائياً على المعارضة، كون النظام قائماً على الأحادية الحزبية طبقاً لأحكام المادة (23) من دستور 1963.

وبعد رفض مجلس الثورة لما تضمنه دستور 1963، وبعد الانطلاق في حملة واسعة لإعادة النظر في المنظومة القانونية التي تدخل ضمن مشروعها الاجتماعي والسياسي الساعي لجعل الإنسان هو الهدف الأسمى للبناء‏[6] وفق وجهة نظرهم؛ ففي دستور 22 تشرين الثاني/نوفمبر 1976 صدرت الوثيقة الدستورية الثانية، مشددة في تنصيصها على حقوق الإنسان وحرياته الأساسية التي أهمها حرية التعبير، إذ خص هذا الدستور فصـلاً كامـلاً للحريات الأساسية.

فقد نصت المادة (53) منه على أنه: لا مساس بحرمة حرية المعتقد ولا بحرمة حرية الرأي؛ ونصت المادة التي تليها (54): حرية الابتكار الفكري والفني والعلمي للمواطن مضمونة في إطار القانون وحقوق التأليف محمية بالقانون.

فالمؤسس الدستوري قد كرّس الحماية الدستورية لحرية التعبير لجميع المواطنين في التفكير والتعبير عن آرائهم في جميع المجالات، وجاءت صياغة المادة بنوع من الإلزام، وذلك لما نصت عليه عبارة «لا مساس بحرمة الرأي والمعتقد».

بيد أن المشرع الدستوري، وبالرغم من إقراره الحماية الدستورية لحرية التعبير في دستور 1976 وتوفير نوع من الحماية ضد الانتهاك، فقد ضمّن المادة (73) من الدستور ذاته على أنه لا يمكن التذرع بأي من هذه الحريات لضرب أسس الثورة؛ وذلك يعد عائقاً كبيراً أمام ممارسة حرية التعبير في تلك الفترة‏[7].

3 – دستور 1989

عرفت ثمانينيات القرن الماضي (وخصوصاً النصف الثاني منها) أوضاعاً سياسية واقتصادية قاهرة، إضافة إلى أحداث خطيرة وصدامات بين الشعب والسلطة أدت إلى إعادة النظر في أدوات إدارة دواليب الحكم في الجزائر. وجاء دستور 23 شباط/فبراير 1989 ليعطي دفعاً جديداً وحماية أفضل للحقوق والحريات الأساسية في ظل هذا المناخ التعددي، وحظيت حرية التعبير بمكانة هامة في ظله.

فقد نصت المادة (35) على أنه: «لا مساس بحرية المعتقد وحرية الرأي». وكذلك نصت المادة (36) على أن حرية الابتكار الفكري والعلمي مضمونة للمواطن؛ فحقوق المؤلف يحميها القانون ولا يجوز حجز أي مطبوع أو تسجيل أو أية وسيلة أخرى من وسائل التبليغ والإعلام أمر قضائي.

ويتضح أن المؤسس الدستوري قد ضمَّن من خلال هذه المواد حرية المعتقد والابتكار الفكري والفني والعلمي باعتبارها كلها تدخل ضمن حرية التعبير وجعلها مضمونة لكل المواطنين.

وجاءت المادة (39) صريحة في نصها على حرية التعبير بقولها: حريات التعبير وإنشاء الجمعيات والاجتماع للمواطن مضمونة.

ويوضح نص هذه المادة (39)، كأهم بيان وصفي، إرادة المشرِّع الجزائري لتوفير الحماية اللازمة لحرية التعبير، وبعبارة لا تحتمل التأويل ولا التفسير غير إضفاء الحماية الدستورية لحرية التعبير.

4 – دستور 1996

بعد الشروع في تجسيد ما تضمنه دستور 1989 من حماية للحقوق والحريات الأساسية في الواقع وإلى غاية 1990، ونتيجة الانزلاق الأمني الذي شهدته البلاد في تلك الفترة، في إطار ما يعرف بالعشرية السوداء، جاء التعديل في 26 تشرين الثاني/نوفمبر 1996 حيث صدرت الوثيقة الدستورية لمحاولة إضفاء نوع من العقلنة على ما تضمَّنه دستور 1989، الذي عمل على إقرار الحقوق والحريات، وحظيت حرية التعبير بحماية دستورية في كنفه؛ حيث نصت المادة (36): لا مساس بحرمة حرية المعتقد وحرمة حرية الرأي. وكذلك المادة (38): حرية الابتكار الفكري والفني والعلمي مضمونة للمواطن، حقوق المؤلف يحميها القانون، ولا يجوز حجز أي مطبوع أو أية وسيلة أخرى من وسائل التبليغ والإعلام إلا بمقتضى قانون. وكذلك ما نصت عليه المادة (41) من أن حرية التعبير وإنشاء الجمعيات والاجتماع مضمونة للمواطن.

وهكذا فقد عمل المؤسس الدستوري – في هذا الدستور – على تكريس حرية التعبير بأبعادها المختلفة، بما يتوافق مع الاتفاقيات والمواثيق التي انضمت إليها الجزائر، وخصوصاً المتعلقة بحقوق الإنسان؛ فمن الطبيعي أن يضمن دستور 1996 حرية التعبير، ويبعد كل القيود التي تمس بها حفاظاً على مبدأ الشرعية وتكريساً للمبادرات الشخصية والروح الفردية للمواطن‏[8].

5 – المقترح الدستوري لسنة 2014

في الأجواء التي يعيشها من حراك، وكمحاولة من النظام السياسي الجزائري لاحتواء الأوضاع السياسية بُعيد الانتخابات الرئاسية 2014، وفي سياق مبادرة الإصلاحات السياسية التي أعلنها رئيس الجمهورية في العام 2011، فقد طرح الرئيس وثيقة (أو مسودة للتعديل الدستوري) تعطي الحق للجميع بتقديم مقترحاتهم حول هذه المسودة، بحيث تضمنت هذه الوثيقة بعض التعديلات المتعلقة بحرية التعبير فتطرقت إلى حرية ممارسة الشعائر الدينية التي يضمنها التعديل في المادة (7) التي تنص على تعديل المادة (36) من الدستور وتعتبر أن حرية ممارسة الشعائر الدينية هي في نطاق احترام القانون. كما تطرقت الوثيقة الدستورية إلى صراحة حرية التعبير والتجمع والتظاهر سلمياً من خلال نص المادة (08) التي تعدل المادة (41) من الدستور، وإضافة المادة (14) التي تنص على ضمان حرية الصحافة حيث تقول: حرية الصحافة مضمونة وغير مقيدة بأي شكل من أشكال الرقابة الردعية المسبقة، ولا يمكن استغلال هذه الحريات للمساس بكرامة الغير وحرياتهم وحقوقهم. ويحدد قانون عضوي كيفيات ممارسة هذه الحريات؛ فهذه الوثيقة المقدمة لمقترح الدستور المرتقب في الجزائر لا تتناسب مع سقف مطالب الفرد الجزائري من الحرية؛ فالدساتير الجزائرية وفي مجملها قد ضمنت الحق في حرية التعبير صراحة، إلا أن الإشكال الذي يثار في هذا المقام هو كيف يمكن للمؤسس الدستوري أن يحيل عملية تنظيم الحقوق والحريات للتنظيم ولا يعد ذلك مساساً بحرية التعبير ذاتها.

6 – تقييم لحرية التعبير في الجزائر: التقدم إلى الخلف

إن القراءة التحليلية للدساتير الجزائرية المختلفة في بنودها، ولا سيَّما المتعلقة بالتكريس الدستوري لحرية الرأي والتعبير والمواد ذات الصلة بها في أبواب الحريات الأساسية، تشكل غرف رعب تشريعية دستورية مرتبطة بعضها ببعض بممارَّ مظلمة تبعث على القلق وتثير المخاوف على مستقبل حرية التعبير. فالسيطرة الحكومية على وسائل الإعلام هي قيد تاريخي على حرية التعبير في الجزائر، إذ إن أغلب وسائل الإعلام لا تزال تابعة للجهات الحكومية. وبالرغم من إقرار قانون الإعلام الجديد 12/05 الحق في إنشاء القنوات الفضائية، وتكريسه إلى حد ما حرية التعبير، إلا أننا نلاحظ أن هناك العديد من الممارسات التي لا تزال تهدد فكرة حرية العمل الصحفي، وتشهد حرية التعبير منحنى تنازلياً وتراجعياً محسوساً ونظيراً خصوصاً مع تعرض العديد من الصحفيين للضرب من قبل رجال الشرطة. ففي 18 آذار/مارس 2012 تعرّض محمد قادري (مصور جريدة وقت الجزائر) للضرب من رجال الشرطة قرب فندق السفير بالجزائر العاصمة، كما تعرض أربعة صحافيين (من بينهم صحافي في قناة فرانس 24) للضرب من قبل الشرطة خلال تغطية انتقالية 50 الثورة. كما أن المتابعات القضائية التي تلاحق هشام عبود مدير جريدتي الناطقة بالعربية وجريدة Mon Journal الناطقة بالفرنسية، وُجهت له تهم التصريح للإعلام الأجنبي. وقد حوكم الأخير أربع مرات في قضايا قذف وإساءة للحكومة العسكرية وبرّأته المحكمة لعدم كفاية الأدلة.

كما أن السيطرة الحكومية على نسخ التراخيص، سواء للجرائد والقنوات الفضائية وتنظيم مؤسسات البث والإشراف على وسائل الإعلام المختلفة، هو ما جعلها تعاني عدم الاستقلالية عن الحكومة قانوناً وممارسة.

ولا تزال الحكومة الجزائرية تهيمن على قطاع الاستثمار والإعلانات، فهي توجهها وفقاً لمنطق الولاءات والقرب السياسي لا وفق معيار الجودة والكفاءة؛ وذلك ما جعل الجزائر تحتل المرتبة 119 في مؤشر «مراسلون بلا حدود» من 180 دولة، لتبقى بذلك الجزائر في المنطقة الحمراء ضمن خارطة العالم لحرية الصحافة.

ثالثاً: الحماية الدستورية لحرية التعبير في المغرب

سعى المغرب، منذ استقلاله، في سيرة البناء لدولة القانون وحماية الحقوق والحريات الأساسية، وقد حظيت حرية التعبير بحماية كبيرة في الدساتير المغربية، منذ الدستور الأول ومن بعدُ الدساتير اللاحقة التي التزم فيها المؤسس الدستوري الحقوق والحريات الأساسية، وفقاً لما تتضمنه المواثيق والاتفاقيات الدولية؛ فقد نص دستور 1992، في مادته التاسعة في الباب الأول المتعلق بالمبادئ الأساسية، على حرية التعبير، إذ يقول: يضمن الدستور لجميع المواطنين:

_ حرية التجول وحرية الاستقرار في جميع أرجاء المملكة.

_ حرية الرأي والتعبير بجميع أشكاله وحرية الاجتماع.

_ حرية تأسيس الجمعيات وحرية الانخراط في أي منظمة ثقافية وسياسية حسب اختيارهم.

ولا يمكن للقانون أن يضع حداً لممارسة هذه الحريات إلا بمقتضى القانون. ولا يختلف ما ذهب إليه دستور 1996 في نصه التاسع عن دستور 1992 في حماية حرية التعبير حيث إنها جاءت بالصياغة، ولم تأتِ بأي جديد وقد تم التنصيص على حرية التعبير بوجه عام، وجرى تضمينها من حيث المبدأ على المستوى الدستوري، إلا أن القوانين كان لها الأثر السيئ على مستوى الممارسة، كون القوانين الضامنة لهذا الحق ظلت في العديد من الأحيان غير محترمة، إما لعدم تطبيق بعضها وإما لسوء تطبيق بعضها الآخر. ولعل من ضمن القوانين التي كان لها بالغ الأثر في حرية التعبير في المغرب‏[9]، قانون مكافحة الإرهاب الذي تم اعتماده بعد التفجيرات التي شهدها المغرب. وقد نظر إليه الحقوقيون المغاربة على أنه تضييق كبير في مجال حرية التعبير. وعلى المستوى الإعلامي في هذه الفترة، فقد شملت هذه الممارسات بوجه خاص الصحافة المكتوبة (المعارضة والمستقلة). وشكل الاحتكار الذي تمارسه الدولة في المجال السمعي البصري الوجه الآخر للعملة، وهو يبين كيفية هيمنة النظام عليه نتيجة حجزه نوعاً معيناً من الخطاب، هذا إضافة إلى العديد من القيود التي تضمنها قانون الصحافة والتي ترتكز على أسباب عامة وغامضة كالمساس بالدين الإسلامي أو بالنظام الملكي، فهذه النصوص جاءت بصيغة العموم ولها بالغ الأثر في تقييد حرية التعبير في المغرب‏[10].

وظلت حرية التعبير تعاني حالة من الركود وبالرغم من الانتعاش الذي شهدته الصحافة المكتوبة، إلى أن ظهرت بوادر الحراك الذي شهدته بعض الأقطار العربية في إطار ما سمي الربيع العربي، حيث سارع – شأنه شأن الجزائر – إلى تبني جملة من الإصلاحات السياسية للحؤول دون وصول مد رياح الربيع العربي الذي أفضى إلى إسقاط العديد من الأنظمة العربية، فجاء دستور 2011 كنتيجة لتداعيات الربيع العربي وأثّر في حركة وضع الدستور الجديد للمغاربة، الذي يلبي بسرعة حاجات الجميع حكاماً ومحكومين حيث إن النقاش حول الوثيقة الدستورية بعد الخطاب الملكي 9 آذار/مارس 2011 ودستور تموز/يوليو 2011.

وانطلاقاً من الدور الكبير الذي تؤديه حرية التعبير في المجتمع كمحرك للنقاش الديمقراطي العمومي، فالدستور المغربي الجديد في بابه الثاني نص على مجموعة من الحريات والحقوق الأساسية التي يجب أن يكفلها للمواطن المغربي؛ حيث نصت العديد من مواده على احترام حقوق الإنسان والنشر والعرض في مجالات الإبداع الأدبي والفني والبحث العلمي والتقني مضمونة.

وبهذا فإن دستور2011 يضمن حرية الفكر والرأي والتعبير باختلاف أنواعها. ولتوفير هذه الحريات كان لا بد من توفير شروطها، وذلك ما تضمنه صريح الفصل (27) بقوله للمواطنات والمواطنين حق الحصول على المعلومات الموجودة في حوزة الإدارة العمومية والمؤسسات المنتخبة والهيئات المكلفة بمهام المرفق العام.

ولا يمكن تقييد الحق في المعلومة إلا بمقتضى القانون وبهدف حماية كل ما يتعلق بالدفاع وحماية أمن الدولة الداخلي والخارجي والحياة الخاصة للأحزاب وكذا الوقاية من المساس بالحريات والحقوق الأساسية المنصوص عليها في هذا الدستور وحماية مصادر المعلومات والمجالات التي يحددها القانون بدقة.

وهذا التنصيص على الحق في الوصول إلى المعلومة له قيمة دستورية مهمة تمنح للمواطن والصحفي السند الدستوري في الولوج إلى كل المعطيات وفقاً للقانون ويحق تداولها لدى الجميع. وهذا يعد دعامة أساسية لحرية التعبير وتفعيل قيم الحرية لتعزيز الشفافية والمساواة بين مختلف أفراد المجتمع‏[11].

كما يأتي نص الفصل (28) ليضمن صراحة حرية الصحافة ويمنع تقييدها بأي شكل من أشكال الرقابة المسبقة مع الحفاظ على الرقابة اللاحقة ويضمن حق التعبير ونشر الأخبار والآراء بكل حرية ودون أي قيود؛ ويتضح من الفصل المذكور أن المؤسس الدستوري المغربي يسعى جاهداً لدعم مجال الحريات العامة نظراً إلى دورها الكبير في التأسيس والبناء لمجتمع ديمقراطي‏[12].

كما أنشأ الدستور الهيئة العليا للاتصال السمعي البصري التي تضمنها الفصل (165) وهي تعد دعامة فاعلة، إذ أصبحت هذه المؤسسة دستورية بنص القانون فلا مجال للتدخل في صلاحياتها أو تقييدها.

إن جميع هذه النصوص الدستورية تعد ضمانات أساسية لممارسة حرية التعبير باعتبارها إحدى تجليات الاختيار الديمقراطي في المغرب الذي يسعى رئيس الدولة لتكريسه من أجل إرساء دولة الحق والقانون.

تقييم حرية التعبير في المغرب… مع وقف التنفيذ

لا بد للمتفحص لهذا النص الدستوري، من أن يقف على المعضلة التي تطبع أغلب النصوص الدستورية، وهي إحالة عملية تنظيمها للنصوص التنظيمية، والتي إن كان من الطبيعي جداً أن تعقب النص المجمل لتفسره، لكن الخطر الذي ينتاب كل مهتم، ويبعث على الشك والريبة، في جدية الانضمام إلى مصاف دول الحقوق والحريات والمؤسسات، هي عملية التحوير والتعويم، وإفراغ النص من قيمته ومحتواه القانوني، المشبع بالقيم الكونية واجتهادات الأنظمة المقارنة، وحياده عن الإرادة المفترضة للمشرع، ولا سيّما أن جهة إعداده وتنزيله، هي الخصم والحكم. بل التخوف الأكبر، هو استمرار تحنيط المحكمة الدستورية لأجَل غير مسمى، ترهنه الحسابات السياسة، ومتطلبات الظرفية.

وانطلاقاً من قراءة واقع الإعلام العمومي في المغرب، تُعتبر «الحرية الآن»، أن استمرار سيطرة السلطة السياسية في المغرب على هذا الإعلام المملوك للدولة، وبالتالي المملوك للشعب، يعد أكبر خرق لحريته واستقلاليته وتعدديته، وأكبر عرقلة أمامه للنهوض بمسؤوليته حتى يكون في خدمة المصلحة العامة.

ومن خلال تقريرها الحالي المبني على الرصد والتقييم، تعتبر «الحرية الآن»، أن ما يميز مجال حرية الصحافة والتعبير اليوم في المغرب هو التحكم الكلي والمباشر في مجال الإعلام العمومي، والضبط الكلي وغير المباشر للصحافة الخاصة. فما زال الإعلام العمومي متحكَّماً فيه من قبل السلطة، يستعمل للدعاية الرسمية، ويمنع على كل صاحب رأي يخالف رأي السلطة. أما الإعلام الخاص، فأغلب عناوينه المسموعة والمكتوبة والرقمية ما زالت تفتقد المهنية، وتخضع للتوجيه غير المباشر لخدمة النظام، من خلال التحكم في الدعم العمومي والتأثير في موارد التمويل والإعلان.

وفي ختام هذا التقرير تسجل «الحرية الآن» أن السمة الرئيسية اليوم للمشهد الإعلامي المغربي تتمثل بالبروز القوي للخطوط الحمر، وتضخم الرقابة الذاتية، وظهور جيل جديد من الانتهاكات التي تسعى السلطة من خلالها لفرض الصوت الواحد وإسكات كل الأصوات المخالفة للرأي الرسمي.

وكخلاصات تركيبية لتقريرها تقر «الحرية الآن» ما يلي:

– إن حالات حبس الصحافيين والتضييق على المنابر الصحافية المستقلة والتراجع الكبير في مجال الحريات والحقوق المكتسبة، مثل حرية الاجتماع وتأسيس الجمعيات والتظاهر السلمي، تؤكد بما لا يدع أي مجال للشك أن حالة حرية الصحافة والتعبير اليوم في المغرب هي أسوأ مما كانت عليه خلال السنوات الثلاث الأخيرة من القرن الماضي.

– إن التضييق على مجالات حرية التعبير، واستمرار احتكار السلطة لوسائل الإعلام العمومية، والقضاء على الصحافة المستقلة، يضع كل نيات الإصلاح السياسي والديمقراطي على المحك بما أنه لا ديمقراطية بلا صحافة حرة وإعلام عمومي مستقل.

وأخيراً، فإذا كان المغرب قد أكد في ديباجة دستور 2011 سموَّ القوانين والمواثيق الدولية، والتزامه بحقوق الإنسان المعترف بها في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والحقوق السياسية، فإن على الحكومة أن تلتزم بترجمة هذه المبادئ والنيات في القوانين ذات الصلة بحرية الصحافة والتعبير لضمان ممارسة كاملة لحرية الصحافة في المغرب.

خاتمة

قد تغمر الباحث في مجال الحقوق والحريات الأساسية في الدول المغاربية، حالة من الرضى والقبول وهو يستنطق النصوص الدستورية المكرسة لحرية التعبير لفهم مضمونها ومقاصدها، إلا أنه سرعان ما تصدمه ناصية الحقيقة – الواقع – حيث يختفي بريق النصوص الدستورية، ويحل محلها التفاف النصوص القانونية والتنظيمية، والتعسف في تأويلها، وخصوصاً إذا لاح في الأفق رأي المعارضة؛ فتفقد جميع الضمانات الدستورية والقانونية الدالة على رسوخ حرية التعبير صدقيتها وتتراجع إلى الخلف فاسحة في المجال للمتابعات القضائية، لكل من سوَّلت له نفسه إخراج النص الدستوري أو القانوني من غيبوبته ليبعث فيه الحياة.

 

قد يهمكم ايضاً  حرية الرأي والتعبير والحراك الديمقراطي في الوطن العربي: جدلية العلاقة