مقدمة:

يُعَد حقل الجيوبوليتيك من الحقول المعرفية التّي عرفت بدورها تطورات عديدة في المفاهيم والنظريات ومجالات الاهتمام ما بعد حقبة الحرب الباردة، ولعلّ التطوّر الأهمّ في هذا الحقل هو صعود ما يُسمى بالجيوبوليتيك النقدية أو البديلة كنتيجة للتحوّلات التي شهدها العالم آنذاك من جهة وأيضًا كنتيجة لتأثير النقاشات الفلسفية والإيبيستيمولوجية ما بين الوضعيين وما بعد الوضعيين على جميع النظريات والحقول المعرفية في العلوم الإنسانية والاجتماعية من جهة أخرى. لقد أدّت كلّ هذه التحوّلات إلى تراجع أهميّة الجيوبوليتيك الكلاسيكية التّي ترتكز على محورية عامل الجغرافيا المادي (كمعطى مسبق) أثناء التفسير بوصفه عاملًا حتميًا يصنع قدر الإنسان ومصائر الأمم، حتّى تصاعدت أصوات كثيرة من التّي نادت بموت الجغرافيا وانتهاء عصر الجيوبوليتيك وبداية عصر جديد يستطيع فيه الإنسان أن يتحكّم في قدره خلافًا لذلك العالم القديم الذي صنعت فيه الجغرافيا سلوكه، مجتمعه وقدره أيضًا.

هذا يجعلنا نتساءل هنا بصورة أساسية عن: مدى قدرة الجغرافيا والجيوبوليتيك الكلاسيكية الاحتفاظ بقوة تفسيرية عالية في تحليل سلوكات الدول والعلاقات بين الأمم في القرن الحادي والعشرين كما كانت في السابق؟

كافتراضٍ مركزي تريد هذه الروقة إثباته نقول إنه: وبالرغم من التحوّلات الجذرية التّي تعرفها السياسة العالمية في القرن الحادي والعشرين إلا أنّ الجغرافيا والجيوبوليتيك الكلاسيكية لا تزال تحتفظ (كالسابق) بقدرة تفسيرية عالية في تحليل السياسة العالمية الراهنة.

هناك جملة من التساؤلات الأخرى التّي تحاول هذه الورقة الإجابة عنها على غرار:

كيف أثّرت التحوّلات المعرفية والإمبريقية الجديدة في حقبة ما بعد الحرب الباردة على حقل الجيوبوليتيك؟

ما المقصود بالجيوبوليتيك الكلاسيكية والجيوبوليتيك البديلة؟

لماذا يحاجج بعض الباحثين، ولا سيما الليبراليين منهم، بموت الجغرافيا وانتهاء عصر الجيوبوليتيك؟

لماذا نحن في حاجة إلى الجيوبوليتيك لتفسير وفهم السياسة العالمية الراهنة؟

إجابة عن إشكالية الدراسة وما تبعها من تساؤلات، تنقسم هذه الورقة إلى محاور ثلاثة، يتتبّع المحور الأول منها الأثر المباشر لعامل الجغرافيا على طبيعة الإنسان، المجتمع، النظم السياسية والسياسات الخارجية للدول عبر ضرب أمثلة من التاريخ كما قدّمها كثير من المفكرين قديما أو كما صاغها بعض الباحثين في العصر الحديث في شكل نظريات علمية على غرار نظريات الجيوبوليتيك الكلاسيكية، موضّحًا القدرة التفسيرية الكبيرة لعامل الجغرافيا في تحليل تفاعلات العالم القديم، عالم ما قبل العولمة والتكنولوجيات المعقدّة.

أمّا المحور الثاني فيُناقش جدلية الجغرافيا والعولمة، فمع تجلّي مخرجات العولمة منذ النصف الثاني من القرن العشرين، تمّت مساءلة علماء الجيوبوليتيك بخصوص حدود تأثير عامل الجغرافيا الذي ينطلقون منه أساسًا في عالم جديد تغيّرت فيه مفاهيم الزمان والمكان تحت أثر التكنولوجيات المدنية والعسكرية المعقدّة وتزايد فيه الارتباط والتواصل بين البشر والأقاليم، الأمر الذي أدّى إلى تصاعد ادعاءات جديّة بموت الجغرافيا وانتهاء عصر الجيوبوليتيك.

يُحاجج المحور الأخير باستمرار الدور الحاسم لعامل الجغرافيا في تفسير العلاقات بين الأمم في القرن الحادي والعشرين بذات الطريقة التّي كانت عليه في الماضي تقريبًا، وذلك بالرغم من كلّ هذه التحوّلات البنيوية التي عرفها هذا العصر. بل نحاجج هنا بأنّ مخرجات العولمة زادت تأثير دور عامل الجغرافيا أكثر من ذي قبل، وبأنّ القرن الحادي والعشرين سيعرف انتعاشًا للجيوبوليتيك الكلاسيكية بمفاهيم ونظريات جديدة أيضًا أو ما نُسميه هنا «الجيوبوليتيك الكلاسيكية الجديدة». باختصار، إنّنا بصدد العودة إلى العالم القديم، إلى عالم ثيوسيدايدس بقوانينه المألوفة والثابتة.

أولًا: الإنسان، المجتمع والدولة: القوة التفسيرية للجغرافيا عبر التاريخ

أدّت الجغرافيا منذ القِدم دورًا رياديًا في تحديد نمط سلوك الوحدات السياسية وتصوّرات القادة والمجتمعات للدور الذي ينبغي أن تضطلع به «دولتهم» والمكانة التّي ينبغي أن يأخذها مجتمعهم في علاقته ببقية الوحدات السياسية والمجتمعات، سواء في زمن الحرب أو في أوقات السلام. لقد لاحظ أرسطو قديمًا أهميّة الجغرافيا في علاقتها بالسياسة فقام بدراسة البيئة أو المحيط الطبيعي من حيث تأثيره في الطبيعة البشرية والضرورات الاقتصادية والعسكرية للدولة النموذجية، فقد كان الفضاء الفيزيائي أساسًا لتفكيره ذاك، وهو ما فعله هيرودوت أيضًا أكبر مؤرخي اليونان القديمة[2]. لذلك نجده يؤكد أهميّة ودور موقع اليونان الجغرافي ذي الإقليم المعتدل في تأهيل الإغريق ليتبوأوا السيادة العالمية آنذاك على شعوب الشمال «البارد» والجنوب «الحار»[3]، ذلك أنه إقليم يحمل بذور قوته في ذاته، وقد أخذ آخرون من اليونان القديمة يفسّرون التغيّرات السياسية بين المدن والدول في ضوء أشكال السطح المختلفة[4]، فإقليم أتيكا – الذي برز على سطح السياسة الإغريقية فترة طويلة – كان قد نمى سياسيًا وازدهر حضاريًا نتيجةً للظروف الطبيعية التّي جعلته آمنًا من الغزو، فصار مكانًا آمنًا يُلتجأ إليه بسبب فقره الطبيعي في موارده المحليّة، وقد رأى ثيوسيدايدس أنّ هذه الظروف كانت مخالفة لظروف إقليم هيلس والتّي جعلته مسرحًا مستمرًا للصراع[5]. إلى ذلك، سجل صاحب مدرسة الحوليات الفرنسية في التاريخ وصاحب كتاب: البحر المتوسط والعالم المتوسطي في عصر فيليب الثاني، فرناند بروديل، أنّ عوامل التربة الفقيرة والخطرة على طول البحر المتوسط وتمازجها مع مناخ لا يمكن توقّعه ومُعرّض للجفاف كان قد حفّز الفاتحين اليونان والرومان قديمًا، ما يعني أنّ الشعوب والدول عادة ما لا تتحكّم في مصائرها، فهناك شيء أكبر من الرغبات والخطط العقلانية، شيء يدفع إرادتهم إلى هذا الاتجاه أو ذاك، وهي الجغرافيا وما انضوى تحتها من تضاريس وتراب وحدود للجيران[6].

لم يستبعد الواقعيون الجدد أيضًا عامل الجغرافيا في تحديد مصائر الدول والشعوب عبر التاريخ، فقد أشار روبرت غيلبين إلى أنّ عملية السيطرة على الأراضي وتوزيعها كانت – ولا تزال – الآلية الأساسية التّي حكمت توزيع الموارد النادرة بين الدول في النظام الدولي. لذلك كان التغيير السياسي الدولي مسألة إعادة توزيع للأراضي بالدرجة الأولى بين المجموعات أو الدول في أعقاب الحروب التاريخية الكبرى، ذلك ما جعله يرى أنّ الجغرافيا كانت – ولا تزال – آلية التنظيم المركزية للحياة الدولية. كما يضيف غيلبين ملاحظة جغرافية أخرى تتعلّق بأهميّة الحدود الجغرافية في صوغ السياسات الخارجية للدول والكيانات السياسية عبر التاريخ، إذ تسهّل طوبوغرافية الأرض، وجود الماء، المناخ التفاعلات بين هذه الكيانات أو تعيقها، وأنّه لم يكن من مصادفات التاريخ أنّ الإمبراطوريات التاريخية العظمى والنُظم الدولية تشكلّت حول طرق المواصلات المائية كأحواض الأنهار القديمة في آسيا و«الشرق الأوسط» والبحر المتوسط حتّى الأزمنة الحديثة[7]. يعطي مثالًا عن ذلك بالقوة البحرية التي اكتسبتها بريطانيا العظمى بسبب موقعها الجغرافي المتميّز والذي مكنها من بناء أسطول بحري ضخم والسيطرة على البحار وطرق وصول أوروبا القارية إلى العالم الخارجي وحرمان منافسيها من مستعمراتهم في الخارج، منها السيطرة على ما أسماه «المفاتيح الخمسة التي تُقفل العالم» أي مضيق جبل طارق، سنغافورة، دوفر، رأس الرجاء الصالح والإسكندرية[8]. الفكرة نفسها طرحها ابن خلدون من قبل في ما يتعلّق بالامتداد العربي عبر قارات العالم القديم. فقد عملت الصحراء بالنسبة إلى العرب عمل البحار بالنسبة إلى بريطانيا العظمى؛ فهي خالية من أيّ حواجز طوبوغرافية معيقة للتقدّم، كما وفرّت السهول الكبرى في آسيا سهولة في التحرّك والتوسّع للمغول حتّى بلغت الأراضي المسيطر عليها مساحات شاسعة صنعت إمبراطورياتهم الممتدة[9]. ولن ننسى أنّ ابن خلدون كان من أوائل المفكرين الذين ربطوا طبيعة المجتمعات وسلوكات الأفراد بعامل الجغرافيا، فسكان الجبال، القرى، المدن، المناطق البحرية، الصحراوية أو الباردة يختلفون في الطبائع والسلوكات عن بعضهم البعض بسبب أثر عامل الجغرافيا بالأساس.

للجغرافيا أيضًا دور حاسم في تحديد التوجّهات الكبرى للسياسات الخارجية للدول عبر التاريخ، فسلوك الدولة سِلمًا أو حربًا، تحدّده الجغرافيا أيضًا في كثير من الأحيان. لعلّ المثال الأبرز في التاريخ الحديث هو ذلك المتعلّق بالتوجه البحري لبريطانيا العظمى والتوجّه البري القاري لألمانيا التوسعية منذ الحرب العالمية الأولى. فقد ساهمت الجغرافيا – بالنسبة إليهما كليهما – في صنع التوجه الخارجي لكل منهما، إذ واجهت ألمانيا كلًّا من الشرق والغرب في حروب مضنية وفي غياب سلاسل جبلية تحميها، حيث أصابها بالعطب والعجز فعملت مجبرة على التحوّل من النزعة العسكرية إلى نزعة ناشئة للسلام فقط من أجل أن تحمي أمنها وتكيّفه مع موقعها الجغرافي الصعب «وسط بحر من الأعداء». أمّا بريطانيا فقد صنعت جغرافيتها المُحاطة بمياه عازلة لها توجّهها المحيطي (Oceanic Orientation)، الأكثر من ذلك فقد ساهمت بشكلٍ كبير جغرافية البلدين في صنع نظامهما السياسي الداخلي، فالنزعة الأوتوريتارية التّي تنامت مع هتلر تُرجع أساسًا إلى «لعنة الجغرافيا» التّي جعلت من ألمانيا دولة حبيسة مُحاطة بالأعداء والمتربصين، الأمر الذي يجعل صانع القرار هناك مهووسًا بالأمن وزيادة التسلّح وجمع السلطة بين يديه لضمان وحدة الرأي والأرض. في مقابل ذلك، فقد تمكنّت من تطوير نظام ديمقراطي قبل جيرانها بسبب موقعها المؤمّن بمياه عازلة عن الأعداء، في هذا الصدد يُحاجج ألكسندر هاملتون أنّه لو لم تكن بريطانيا جزيرة محمية بالمياه المعيقة للأعداء لكانت مؤسّساتها العسكرية بنفس عجرفة مثيلاتها في القارة الأوروبية (يقصد ألمانيا)، وأنّ بريطانيا «في جميع الاحتمالات» ستصبح «ضحيّة السلطة المطلقة لرجل واحد»[10].

يؤكّد الجيوبوليتيكي الأمريكي الشهير نيكولاس سبيكمان هذه الحقيقة، حينما كتب في أعقاب الحرب العالمية الثانية سنة 1942 يقول: «الجغرافيا لا تُجادل فهي ما هي عليه ببساطة.. إنّ الجغرافيا هي العامل الأكثر أهميّة في السياسة الخارجية للدول، لأنّها أكثر العوامل ديمومة، يأتي الوزراء ويذهبون، وحتّى الطغاة يموتون، لكن السلاسل الجبلية تظلّ راسخة في مكانها. إنّ جورج واشنطن الذي دافع عن ثلاث عشرة ولاية بجيش غير نظامي، قد خلفه فرانكلين روزفيلت الذي كانت تحت تصرّفه موارد قارة بأسرها، لكن المحيط الأطلسي استمر في فصل أوروبا عن الولايات المتحدة، كما أنّ موانئ نهر سانت لورنس ما زالت تُغلَق بسبب الجليد في فصل الشتاء. أمّا ألكسندر الأول وهو قيصر جميع الأراضي الروسية فقد أورثَ جوزيف ستالين ليس فقط سلطته ولكن كفاحه الذي لا ينتهي للوصول إلى المياه الدافئة»[11].

لقد كانت فترة الحرب العالمية الثانية بمثابة ذروة التفكير الجغرافي والنظريات الجيوبوليتيكية والجيوستراتيجية في التاريخ. وقد برزت أسماء شهيرة في هذا الميدان، على غرار السير هالفورد ماكيندر الذي اعتُبر شخصية رئيسية في الجيوبوليتيك الأوروبية آنذاك؛ إذ نوقشت نظريته بشغف وكانت مُوحية لمن بعده من باحثين وقادة سياسيين على حدّ سواء، وهنا يرى ديكنسون أنّ نظريته تعدّ من أكثر النظريات التّي ساهمت في التفكير حول العلاقات الدولية في القرن العشرين، كما احتلت الجغرافيا مقام العِلم الرسمي في ألمانيا وأُطلق عليها تسمية «عِلم الدولة»، إذ كانت المعرفة الجغرافية أساسية لحياة ألمانيا الموجودة في قلب أوروبا مُحاطة «بالأعداء» وعرفت ألمانيا جيوبوليتيكيين كُثر أشهرهم راتزل، هاوسهوفر وكارل شميدت[12].

وبالرغم من التراجع النسبي لعلم الجيوبوليتيك وللتفكير الجغرافي بعد سقوط النازية والفاشية، إلّا أنّ حقبة الحرب الباردة كانت على العموم بمثابة التجسّد الحقيقي للصراع الأزلي بين قوى البر وقوى البحر في التفكير الكلاسيكي للجيوبوليتيك مثلما يرى الجيوبوليتيكي الروسي ألكسندر دوغين، فقد حققت الثنائية الجيوبوليتيكية أحجامًا قصوى، فتماهت فيها التلاسوكراتيا مع الولايات المتحدة، والتيلوروكراتيا مع الاتحاد السوفياتي. لقد تطابقت حضارة وثقافة وأيديولوجيا كلّ من القوتين مع التقسيم الجيوبوليتيكي للعالم، وبذلك فقد لخصّ واقع المنافسة بينهما كلّ التاريخ الجيوبوليتيكي للمواجهة بين القوتين البحرية والبرية وتوزّعت مساحات أصقاع الكرة الأرضية كافة إلى مناطق خاضعة للتالاسوكرايا «لقرطاج الجديدة- الولايات المتحدة»، وأخرى للتيلوروكارتيا «لروما الجديدة-الاتحاد السوفياتي»[13].

تُقدّم لنا الأمثلة السابقة فكرة واضحة عن الأثر الحاسم لعامل الجغرافيا على طبيعة الإنسان، المجتمع، النظام السياسي وخيارات الدولة في العالم القديم. فالجغرافيا كانت بمثابة القانون الثابت المتحكّم في تفاعلات البشر ومصائر الأمم على نحوٍ غير قابل للجدل أو التحدّي. إنّها الحتمية الجغرافية كما عبّر عنها الألمان في مدرستهم العضوانية ذات المنطلقات الوضعية المحضة (Positivist Paradigm and Organic Theory)  والتّي صارت كالأساس الصلب الذي بُنيت عليه الجيوبوليتيك الكلاسيكية وظلّت بسببه مهيمنة قرابة قرن من الزمن.

ثانيًا: موت الجغرافيا؟ الجيوبوليتيك في زمن العولمة

في كتابه في ظلّ أوروبا، يذكر روبرت كابلان موقفًا حدث مع المفكر الفرنسي الشهير فولتير. ففي سنة 1755 حدث زلزالٌ كبير في لشبونة دمّر ثلاثة أرباع المدينة وقتل عشرات الألوف من الناس، قابل فولتير الزلزال باعتراض شديد ولم يتقبّله باسم العقل والثقافة، وراح يُقدّم نقده اللاذع لكل القوى الطبيعية التي لا يتحمّل الإنسان مسؤوليتها، إذ كان يردّد بأنّه يجب علينا ألّا نُسلّم أمرنا للطبيعة وأن نكون أقوياء لنتحدّى مثل هذه الأقدار المفروضة علينا. بعد قرنين من الزمن، وفي سنة 1953، كتب البروفيسور بجامعة أوكسفورد إسحاق برلين (Ishaiak Berlin) مقالًا مهمّا نُشر لاحقًا تحت عنوان «الحتمية التاريخية». كان مقالًا قويًّا جدًّا ضدّ القوى غير الفردانية الواسعة، على غرار الجغرافيا، والخصائص الإثنية والثقافية، البيئة، الديمغرافيا، والاقتصاد، مُلحًّا على الفرد بعدم تقبلّها أو البقاء رهينًا لها، فما عليه سوى الصراع ضدّها وألّا يقبل أيّ فلسفات قد تبدو بأنّها تستسلم لهذه القوى. إنّها النزعة الليبرالية في جذورها الأولى التّي يُقدّس فيها الليبراليون النزعة الفردانية مُعتقدين بأنّ الإنسان بوسعه تجاوز هذه الأقدار، أو الحروب كما يحدث اليوم في ليبيا أو سورية، فما على الأفراد سوى أن يكونوا عازمين ساعين لذلك[14].

مع نهاية الحرب الباردة، وجدت النزعة الليبرالية هذه مناخها الأنسب، إذ عرف العالم آنذاك تحوّلات بنيوية عميقة مسّت العالمين الأكاديمي والواقعي على حدّ سواء. وكان للجغرافيا كعامل حاسم، وللجيوبوليتيك كعلم مرتبط بالسياسات العليا للدول، حظّهما من النقاشات والقراءات النقدية. فقد تنامت الأفكار والطروحات المنادية «بموت الجغرافيا» وانتهاء عصر الجيوبوليتيك وبداية عصر جديد لم تعد فيه للأرض والجغرافيا أيّة أهمية تُذكر؛ عصر صار فيه العالم «قرية كونية» وتغيّرت فيه مفاهيم الزمان والمكان جذريًا. فقد عمّقت العولمة من الارتباطات والاعتماد المتبادل بين الشعوب عبر العالم، ما أدّى نتيجةً لذلك إلى خلق مستوى أعلى من الترابط اصطُلح على تسميته «المجتمع المدني الكوني» بعيدًا من كلّ أهواء الغزو ومحفزّات الجغرافيا. يُعدُّ هذا الوضع في الحقيقة مختلفًا عن سابقه التقليدي والذي كانت فيه الدولة ذات السيادة اللاعب المهيمن الوحيد على المسرح العالمي. اليوم صارت مفاهيم من قبيل القرية الكونية، المجتمع الدولي والمجتمع العالمي القائم على حكم الرشادة العالمية مفاهيم مخفِّفة لحدّة الفوضى التّي تعتري بنية النظام الدولي[15]. يُعّد الكاتب الأمريكي توماس فريدمان «نبيّ العولمة» في أمريكا والعالم، إذ استغل منصبه ككاتب عمود الشؤون الخارجية في صحيفة عالمية مرموقة: النيويورك تايمز؛ «ليبشّر» قرّاءه ويوصل رسائل لهم مفادها أنّنا نعيش العصر الرقمي، حيث يعمل الديجيتال جنبًا إلى جنب مع انتشار الأسواق العالمية على إحداث تحوّل في النظام الدولي. وقد شرح فريدمان ذلك بالتفصيل في كتابه: سيارة ليكسيس وشجرة الزيتون، محاولة لفهم العولمة؛ جاعلًا من العولمة الملمح الأكثر بروزًا في هذا العصر الجديد (The One Big Thing)، وليس الجغرافيا مثلما كان سائدًا في السابق، بعدما وحّد World Wide Web، الجميع، وقوضّت الأسواق والشركات العالمية الآلة والتكنولوجيا من سيادة ودور الدول على المسرح الكوني[16].

في المجال العسكري، قضت الطائرات النفاثة والصواريخ الباليستية العابرة للقارات على أهميّة الجغرافيا وميّعت الأرض، كما صار التطوّر التكنولوجي الرهيب عاملًا رئيسيًا ينبغي وضعه في الحسبان عند تحليل موازين القوى الدولية. فقد كانت هذه الموازين، كما يشرح البروفيسور تشارلز كابشان، خلال الحرب الباردة بين الشرق والغرب بدرجة أولى نتيجةً للمخرجات الصناعية وحجم الترسانات التقليدية والنووية للطرفين. اليوم صار فيروس الكمبيوتر ربّما أكثر الأسلحة فتكا حتّى من طائرات F16.[17] كلّ هذه العوامل حتمّت على باحثي الجيوبوليتيك والمنظّرين المهتمين بدور الجغرافيا في علاقاتها بالتفاعلات الدولية وبنية النظام الدولي أن يطوّروا معنى ومضمون العامل الجغرافي في التحليل لكسب الحجّة في مناقشة النظريات الجديدة، ولا سيّما تلك المنتمية إلى المنظور المابعدي أو تلك المروِّجة لمقولات العولمة وعصر الاقتصاد على غرار النظرية الليبرالية بفروعها العديدة.

لقد دخل باحثو الجيوبوليتيك في مهمّة المحاججة بأهميّة الجغرافيا في عصر العولمة والتكنولوجيا مع نهاية الحرب الباردة. وصاحب المحاججة عملية إعادة تأهيل هذا الحقل المعرفي ليتناسب مع الطروحات الجديدة والتحوّلات الناجمة عن التغيّر في بنية النظام الدولي وطبيعة التفاعلات العالمية. فعلى المستوى الأكاديمي «سطع نجم» جملة من الطروحات النظرية الجديدة المنطلقة من منظور آخر غير وضعي وذلك منذ انتشار طروحات النيتشاويين الجدد في فرنسا؛ على غرار ميشال فوكو وحفرياته، وجاك ديريدا ومقاربته التفكيكية. فقد انتشرت ما بعد البنيوية والبنائية، حيث أبرزت الأولى دور اللغة في السياسة، الحياة الاجتماعية والسياسة الخارجية، بينما ادّعت الثانية أنّ الجوانب المهمّة للعلاقات الدولية هي التاريخ والبناء الاجتماعي بدلًا من النتائج غير المرئية للطبيعة البشرية وغيرها من الصفات الأساسية للسياسة العالمية. إنّ النقاشات الفلسفية والإيبيستيمولوجية الحديثة ثمّ التطور الذي عرفه حقل العلاقات الدولية غيّرا معنى الجيوبوليتيك. فالجيوبوليتيك التقليدية التّي تركّز على مبدأ الحتمية الجغرافية والتّي تحلّل بدورها العلاقة بين العوامل الجغرافية والخيارات السياسية قد اختفت بالفعل كما يُحاجج الكثيرون. والعملية البحثية القائمة على استخلاص النتائج أساسًا من عوامل: الأرض، البُعد عن البحر، حجم الإقليم، المناخ والمجال… إلخ قد انتهت، كذلك فإنّ الأقنوم الجيوبوليتيكي الأكبر المتعلق بذلك الصراع الأزلي بين قوى البر وقوى البحر قد انتهى أيضًا. لقد تغيّر الحال مع التطور العسكري والتكنولوجي، وبخاصّة مع الأسلحة النووية التّي قلّلت أهميّة العوامل الجيوبوليتيكية الكلاسيكية على غرار: الإقليم، والديمغرافيا والاقتصاد؛ وبدا أنّها من غير الممكن أن تُحدث أيّ فارق في عالم اليوم.

لقد أدّى التطور التكنولوجي، وليس العسكري وحسب، إلى المساهمة في تسريع وتيرة العولمة. وبدا للعديد من الباحثين «أنّ مسار العولمة قد نزع سلاح الجيوبوليتيك»، وأنّه ينبغي التركيز على حقل الاقتصاد بدلًا من الجغرافيا، وعلى التعاون الدولي والأسواق العابرة للقوميات بدلًا من دراسات التنافس القائم تقليديًا على الأرض. فالعولمة إذًا حسب طرح هؤلاء الباحثين قد «قتلت الجيوبوليتيك بالفعل»[18].

تكيّفًا مع الظروف الجديدة صعد نجم الجيوبوليتيك النقدية أو الجيوبوليتيك البديلة أو جيوبوليتيك ما بعد الحداثة، وكلّها تسميات لذات التخصّص، حاجج أصحاب هذا التخصّص على رأسهم كلّ من  جيروا أوتواثيلا، كلود دودس، جون أكنبو، سيمون دالبي، وغيرهم بأهميّة البنى التاريخية والاجتماعية في تحليل العلاقات الدولية بدلًا من الارتكاز على العوامل المادية في التحليل على غرار الجغرافيا أو النتائج الحتمية للطبيعة البشرية أو سمة الفوضى الدولية التّي روّج لها الوضعيون كمعطى حتمي. كما كان لظهور مصطلح المنظور مع توماس كون أثر بليغ في إحداث نقلة نوعية في طبيعة النقاشات النظرية داخل حقل العلاقات الدولية عمومًا آنذاك، وكلّها عوامل ساهمت في صعود حقل نجم الجيوبوليتيك النقدية بكونها البديل الأنسب للجيوبوليتيك التقليدية التي غدت مرتكزةً على أسسٍ هشّة غير قادرة على المحاججة في عصر التكنولوجيا والعولمة كما يدّعي هؤلاء. من دون أن ننسى أنّ تحوّلاتٍ معرفية كهذه كانت قد تزامنت مع المجهودات المعرفية التجديدية للمدرسة الفرنسية في الجيوبوليتيك. فمنذ سبعينيات القرن المنصرم بدأ الفرنسي إيف لاكوست (Yves Lacoste) في نشر مجلة هيرودوت، والتّي صار من خلالها المؤلّفون يكتبون عن الجيوبوليتيك بأسلوبٍ جديد. فقد تحدّت المدرسة الفرنسية منذ زمن فيدال دي لابلانش[19]عضوانية الألمان وارتكازهم على مبدأ الحتمية الجغرافية في التحليل، بل وحاولت كسر هذه الحتمية من خلال تركيزها على الإنسان صانع القرار بوصفه الفاعل الأهم على المسرح الدولي القادر على تفعيل هذه الأرض أو تعطيل قدراتها عبر مبادراته السياسية[20].

لقد عرفت الجيوبوليتيك النقدية فروعًا واهتمامات عديدة نظرًا إلى توسعتها مجال الاهتمام ومتابعة النشاطات الإنسانية بمختلف مجالاتها، فظهر على سبيل المثال: الجيوبوليتيك الشعبية، الجيوبوليتيك الماورائية، الجيوبوليتيك الافتراضية، جيوبوليتيك الأفلام والمسلسلات، جيوبوليتيك الرياضة وكرة القدم وغيرها. وبالرغم من الثراء والتنويعات المثيرة التّي قدّمها أصحاب مثل هذه الطروحات من جهة، ومحاولتهم الإبقاء على حضور وأهميّة حقل الجيوبوليتيك من جهة أخرى، إلّا أنّ السؤال الذي ظلّ مطروحًا بقوة بعد كلّ هذه التنويعات: هل بقيت الجيوبوليتيك جيبوليتكًا؟

إنّ الشعور بالحسرة وضياع الطروحات الوضعية الجدّية لهذا الحقل بين ضربات العولمة من جهة، وما أحدثته النزعة التهديمية التفكيكية التي حملتها التيارات ما بعد الوضعية من جهة أخرى، حفز ثلّة من العقول الجيوبوليتيكية على ضرورة بعث هذا العلم من جديد الذي بدأ يفقد «خصوصيته العلمية الوضعية» بسبب هذه العوامل، ومن المؤكّد أنّ الوقائع الجديدة التّي يعرفها العالم المعاصر ساهمت إلى حدّ بعيد في التحفيز نحو هذا الاتجاه وتوفير الحجج الإمبيريقية له بشكل أحيا من جديد الطروحات الجيوبوليتيكية الكلاسيكية الوضعية التّي حاججت بدورها من جديد باستمرار الدور الفاعل لعامل الجغرافيا في تفسير عالمنا المعاصر بنفس الطريقة التّي كانت تفعل في عالم ما قبل العولمة والثورة التكنولوجية كما سيشرح المحور الأخير.

ثالثًا: انتصار الجغرافيا والجيوبوليتيك الكلاسيكية الجديدة: كيف تظلّ الجغرافيا عاملًا قويًّا في تحليل وتشكيل الشؤون العالمية للقرن الحادي والعشرين؟

منذ زمن ثيوسيدايدس وابن خلدون مرّ العالم بتحوّلات عديدة، وعرف تعاقب كيانات سياسية مختلفة الطبيعة والتكوين، بفعل عدّة عوامل تهمّنا الجغرافيا منها أساسًا، لكن وبالرغم من كلّ هذه التحوّلات تظلّ الجغرافيا – كما نحاجج في هذه الورقة – بمثابة القانون الأكثر ثباتًا والعامل الأكثر حسمًا في تحديد التفاعلات القائمة فيه. لقد انتقلت مراكز الحضارة من العالم القديم إلى العالم الجديد بعد حملة واسعة من كشوف جغرافية غيّرت وجه التاريخ، وبرزت منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر مراكز قوى جديدة بدلًا من أثينا، روما، بغداد وفارس، على غرار الولايات المتحدة الأمريكية، روسيا، الصين، الهند والبرازيل، كما بإمكانها أن تنتقل مستقبلًا إلى نطاقات جغرافية أخرى، وبخاصّة تلك التّي تتمتّع بسهولة الاتصال بموارد الطاقة والاقتصاد المهمّة أكثر من غيرها، أو تلك التّي تتمتّع بكفاءة أعلى من غيرها في استخدام تلك الموارد. فلمثل هذه المناطق احتمالات البقاء وبسط النفوذ أو السعي إليه مقارنة بالمناطق الأخرى[21]. فالجغرافيا كانت، ولا تزال، سببًا حاسمًا وراء أهميّة دولة ما وريادتها في مقابل تدهور وانحدار دول أخرى.

لقد نظر الجيوبوليتيكيون الجدد إلى الطروحات العولمية المشار إليها سابقًا كأوهام معرفية، بل إنّ بعضهم رأى أنّ العولمة كان لها أثر إيجابي في الجيوبوليتيك. في هذا الصدد يحاجج الباحث ستانيسلاو بيلين (Stanislaw Bielen) بأنّ كلاّ من العولمة والجيوبوليتيك هما وجهان لعملة واحدة كما يُقال، فكلاهما يُعدُّ مهمّا مركزيًا في عملية تحليل العلاقات الدولية. فالجيوبوليتيك تهتّم بتوازن القوى التي تمثّلها الآن – أو من المحتمل أن تمثّلها مستقبلًا – القوى العظمى، في حين تقوّي العولمة في الحقيقة من عملية نمو الاعتماد المتبادل، التعاون الدولي وعملية إنضاج التكاملات الدولية والإقليمية، فهي تقلّل إذًا من المنافسات الجيوبوليتيكية لكنّها لا تُلغيها[22].

لذلك، فالجغرافيا لا تزال مستمرة التأثير معنا في هذا العصر، من الممكن أنّه قد تمّ «نسيانها لكنّها لم تُهزم بعد» على حدّ تعبير عالم الجغرافيا بجامعة جونز هوبكينز ياكوب ج. غريجل (Grygiel)، كذلك يُحاجج كولن س. غراي (Gray)  والذي عمل مستشارًا للشؤون العسكرية في الحكومتين الأمريكية والبريطانية، بأنّ: «إلغاء التكنولوجيا للجغرافيا يتضمّن ما يكفي تمامًا لأن يُطلق عليه تسمية مغالطة معقولة»، ويضيف محاججًا بما حدث في حربي أفغانستان والعراق بقوله: «لقد رأينا ما حدث في العراق وأفغانستان، يتطلّب الأمر – دومًا – ممارسة النفوذ أو السيطرة المستمرة على الأرض. فالوجود المادي لأفراد مسلّحين في منطقة معيّنة يُعدّ أمرًا ضروريًا». هذا ما جعل روربت كابلان يرى أنّ أي شخص قد يعتقد حقًّا أنّ الجغرافيا قد تضاءلت أهميّتها بصورة محورية فهو شخص شديد الجهل بالخدمات اللوجيستية العسكرية[23]، وهي العِلم المعني بنقل كميات كبيرة من الرجال والعتاد من قارة إلى أخرى[24].  لقد كتب الإنكليزي غوردون إيست معترفًا بالوضع المركزي للجغرافيا يقول إنّ: «الطبيعة تفرض والإنسان يُنفّذ»، من المؤكّد أنّ أفعال الإنسان تكون مقيّدة بالبارامترات (Parameters) التّي تفرضها الجغرافيا[25]. صحيح أنّ الإنسان هو الذي يبادر ويستخدم الجغرافيا أو يُعطلّها، لكنّ الجغرافيا هي التّي تحدّد مصيره. هذا ما لخصّه ماكيندر في جملة واحدة حينما قال إنّ: «الإنسان هو من يبادر وليس الطبيعة، لكن الطبيعة هي التي تتحكّم بشكل أكبر»[26].

 

سنعرض فيما يلي لأبرز الباحثين (في نظرنا) المحاججين باستمرار أهميّة الجغرافيا (كمعطى مادي مسبق) في تحليل عالم اليوم (الجديد – القديم)، والذين استطاعوا بطروحاتهم أن يعيدوا من جديد لنظريات الجيوبوليتيك الكلاسيكية حيويتها ومحوريتها في التحليل، أو ما نُسميّه هنا «الجيوبوليتيكيون الكلاسيكيون الجدد». فهم كلاسيكيون لأنّهم وضعيون في الطرح يستندون أساسًا إلى الحتمية الجغرافية في التحليل، وهم جدد نظرًا لتكييفهم للعوامل الجديدة الفاعلة مع طروحاتهم الوضعية من دون الإخلال بأسس هذا المنظور على غرار تكييفهم لدور صنّاع القرار، نخب القيادة وما يرتبط بها من مدركات، فضلًا عن استخدامهم لعامل الجغرافيا في تحليل السياسات الخارجية للدول.

1 – بول كيندي ودول الارتكاز الجيوبوليتيكي في القرن الحادي والعشرين

مع التحولات المتسارعة التّي شهدتها السياسة العالمية وانتشار مختلف مظاهر الأخطار والتهديدات التّي يمكن أن تستهدف كل الدول والأفراد على حدّ سواء، والتّي تجعل من عالمنا عالمًا خطيرًا حقًا، استمر بعض الباحثين في تأكيد أهمية الجغرافيا في هذا العصر الجديد، فأروا على سبيل المثال أنّه من الضروري إيلاء الانتباه لما يحدث في أماكن بعينها من العالم على غرار النزاعات في «الشرق الأوسط»، الخليج العربي، الصين، باكستان، أفغانستان، والهند. لقد شبّهوا هذه الأماكن بأخطار الزلزال الذي يحتاج إلى انتباه وفهم بدلًا من مجرد التحذير من الدمار الذي سيخلف حتمًا في المستقبل[27]. يُعدّ الباحث والمؤرّخ الأمريكي الشهير بول كنيدي من الأوائل المنتبهين إلى ذلك. ففي سنة 1996 كتب رفقة كلّ من روبرت شاس وإيميلي هيل دراسة على الفورين أفريز حملت عنوان: «الدول الارتكازية والاستراتيجية الأمريكية»، دعوا فيها إلى التركيز على موجات اللااستقرار القادمة والتّي يمكن أن تلحق بانهيار قوى إقليمية معينّة سمّوها الدول الارتكازية (Pivotal States)، وهي عبارة عن «دول ذات مساحات جغرافية شاسعة وموقع متمركز، إذا سقطت فريسة للاضطرابات الداخلية فإنّها ستكون نقاطًا ساخنة، لن تُحدّد مستقبل أقاليمها فحسب، بل سيكون لذلك أثر سلبي في الاستقرار الدولي بأكمله». لن تتحمل حينها الولايات المتحدة وبقية الدول الصناعية أن تقف لتشاهد بسلبية إنهيار واحدة أو أكثر من هذه الدول، سوف تكون النتائج الاستراتيجية حقًا كارثة حقيقية[28]. يمكن أن تكون الأسباب المحتملة لهذا الاضطراب الداخلي: الاكتظاظ السكاني، الهجرة، الاضطرابات البيئية، الأوبئة، الجريمة، والدول التّي تُرجح بأن تكون دولًا ارتكازية هي: المكسيك، البرازيل، الجزائر، مصر، أفريقيا الجنوبية، تركيا، الهند، باكستان وإندونيسيا[29].

لذلك، فبالرغم مما أنجزته العولمة، أو ما يمكن أن تُنجزه مستقبلًا، في تغيير ملامح العالم الجديد، فإنّها لن تتمكن بأي حال من الأحوال من أن تُلغي أهميّة الجغرافيا ودورها في حسم مصائر الأمم، وبالتالي مكانة الدراسات الجيوبوليتيكية في فهم وتحليل العلاقات الدولية كنتيجة لذلك. فالحدود الجغرافية وسيادة الدولة التي زعمت العولمة أنّها قضت عليها، تعود اليوم بقوة في صورة نزاعات وحروب حدودية تُغذّيها عوامل القومية والانفصال، ففي كلّ بقعة من الأرض يمكن أن نرى ميلًا نحو الاستقلال وتأكيد حقّ السيادة عبر الأقاليم الجغرافية في جنوب السودان، وكوسوفو، من طرف الفلسطينيين والصوماليين الشماليين، من طرف الانفصاليين في كيبيك وسكوتلاندا أيضًا، من بحر الصين الجنوبي، والفيليبين، وبروناي إلى البيرو والبرازيل في أمريكا الجنوبية، فضلًا عن النزاعات الحدودية التّي تعمر بها القارة الأفريقية على غرار نزاع الصحراء الغربية مثلًا. كلّ ذلك يؤكّد مسألة حيوية الجغرافيا وديمومتها وأصالتها في كلّ هذه النزاعات، الأمر الذي يوحي أنّها ستستمر على هذه الأهمية في المستقبل أيضًا، منقادةً بالتطلعات والطموحات القويّة للدول وادعاءات الأحقيّة في مصادر الطاقة في إقليم ما أو الحدود وما شابه[30].

2 – زبيغنيو بريجنسكي والماكيندرية الجديدة

مع نهاية القرن العشرين جاء المستشار الأسبق للأمن القومي الأمريكي زبيغنيو بريجنسكي بنظرية جديدة يعيد فيها حيوية الأفكار التي جاءت بها نظرية «قلب العالم» في مؤلفه الشهير رقعة الشطرنج الكبرى. ينطلق بريجنسكي من الافتراض الذي مفاده أنّ السيطرة العالمية للولايات المتحدة، «الزعيمة الحالية لقوى البحر»، تبقى مفتوحة وغير مكتملة ما لم تعزّزها بالسيطرة على منطقة أوراسيا التي هي بمثابة الفراغ الجيوستراتيجي المتمّم لسيطرتها العالمية، إذا ما توافرت شروط ملء هذا الفراغ[31].

يقول بريجنسكي: «إنّ أوراسيا هي الجائزة الجيوبوليتيكية الرئيسية، فأوراسيا هي القارة الأكبر في العالم وهي المحور في مجال الجيوبوليتيك، تسيطر القوة التّي تتحّكم في أوراسيا على اثنتين من مناطق العالم الثلاث الأكثر تقدّمًا والأوفر في مجال الإنتاجية الاقتصادية. تكفي نظرة واحدة إلى الخارطة لاكتشاف أنّ بسط السيطرة على أوروبا يستتبعه آليًا إخضاع أفريقيا، الأمر الذي يجعل نصف العالم الغربي وأوقيانيا بمثابة المحيط الخارجي للقارة المركزية من الناحية الجيوبوليتيكية». يعيش في أوراسيا نحو 75 بالمئة من شعوب العالم، وفيها أيضًا توجد معظم ثروات العالم سواء كانت مخبوءة تحت ترابها أو ظاهرة في مشاريعها وأعمالها. تنتج أوراسيا نحو 60 بالمئة من إجمالي الناتج القومي العالمي وتوجد فيها تقريبًا ثلاثة أرباع مصادر الطاقة المعروفة في العالم. كما أنّ أوراسيا أيضًا موطن الدول الأقدر سياسيًا والأكثر دينامية في العالم. فالدول الستّ التّي تلي الولايات المتحدة في ضخامة الاقتصاد وحجم الإنفاق العسكري تقع في أوراسيا، وفي أوراسيا أيضًا توجد جميع الدول النووية المعلنة في العالم باستثناء واحدة، كما توجد فيها أيضًا جميع الدول النووية السريّة باستثناء واحدة، وإلى أوراسيا تنتسب الدولتان الأكثر سكانًا في العالم، والدولتان الأكثر تطلّعًا إلى الهيمنة الإقليمية والنفوذ العالمي[32].

هكذا، فإنّ أوراسيا هي رقعة الشطرنج التي يتواصل فوقها الصراع من أجل السيادة العالمية. يتابع بريجنسكي قائلًا: «إنّ رقعة الشطرنج الأوراسية بيضوية الشكل، لا تشغل لاعبين اثنين بل عدّة لاعبين يمتلك كلّ لاعب منهم كميّات متباينة من القوة. يستقر اللاعبون الرئيسيون في الغرب والشرق والمركز والجنوب، تحتوي النهايتان الغربية والشرقية للرقعة على مناطق كثيفة السكان، جيّدة التنظيم ومزدوجة بعدد من الدول القويّة. ما بين النهايتين الغربية والشرقية تمتّد مساحة وسيطة واسعة قليلة السكان وتعاني حاليًا حالة سيولة سياسية وتشظٍّ تنظيمي. وقد كانت هذه المساحة محتلّة من قبل قوة منافسة كبرى، إلى الجنوب من تلك السهوب الأوراسية المركزية الواسعة تقع منطقة تجمع بين الفوضى السياسية ومصادر الطاقة الغنيّة. تمتلك أهميّة عظمى بالنسبة إلى دولة أوراسيا الغربية والشرقية معًا، وتضّم المنطقة الجنوبية الأدنى دولة كثيفة السكان تتطلّع إلى الهيمنة الإقليمية. رقعة الشطرنج الأوراسية هذه ذات المساحة الواسعة والشكل الغريب، والتّي تمتد من لشبونة إلى فلاديفوستوك، توفر الأرضية التي تدور حولها الخطة… فإذا كان بإمكان «القوة العالمية العظمى اليوم» سحب المساحة الوسطية إلى داخل الفلك الغربي المتوسّع – حيث تسود هذه القوة – وإذا لم تخضع المنطقة الجنوبية لسيادة لاعب واحد وإذا لم يوجد الشرق بطريقة تتيح طرد هذه القوة العظمى من قواعدها الموجودة على سواحله يمكن عندها القول بأنّ السيادة قد تحققت لهذه القوة، أمّا إذا رفضت المساحة الوسطى الغرب، وتحولّت إلى كيان موحّد ذي شأن وتحقّق لها أحد الأمرين، إمّا السيادة على الجنوب أو عقد تحالف مع اللاعب الرئيسي في الشرق، فإنّ سيادة هذه القوة على أوراسيا تتقلّص بصورة درامية ويصحّ القول نفسه إذا ما توحّد اللاعبان الشرقيان الرئيسيان بأيّ شكل من الأشكال. أخيرًا فإنّ أيّة إزاحة للقوة العظمى من موقعها على الطرف الغربي من قبل شركائها الغربيين يعني آليًا، نهاية مشاركة هذه القوة في لعبة الشطرنج الأوراسية»[33].

فبالرغم من عوامل التقدّم التكنولوجي والتطوّر الحاصل في ترسانات الدول العسكرية، وبالأخصّ ما فرضته الأسلحة النووية والصواريخ العابرة للقارات والأقمار الصناعية «عسكرة الفضاء» من قيود على فاعلية نظرية ماكيندر القديمة، فقد تمكّن بريجنسكي من إحيائها بحلّة جديدة، مُحاججًا باستمرار سيطرة المنافسة على الأرض على الشؤون الدولية، حتّى وإن أصبحت اليوم تتخذّ أشكالًا أكثر تمدّنًا، يقول: «وفي إطار هذه المنافسة لا يزال الموقع الجغرافي يمثّل نقطة الانطلاق في تحديد الأولويات الخارجية للدول القومية، كما يظلّ حجم الرقعة الوطنية واحدًا من أهمّ المعايير المكانية للقوة»[34].

3 – ألكسندر دوغين والأوراسية الجديدة

بعد عامين من توليه الحكم في روسيا، أدلى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بتصريح جغرافي محض قال فيه: «نحن قوةٌ عالمية، ليس بسبب أنّنا نمتلك قوةً عسكريةً عُظمى وقوةً اقتصاديةً مُحتملة، ولكن نحن كذلك لأسبابٍ جغرافيةٍ، سوف نظلّ موجودين ماديًا في أوروبا، وآسيا، في الشمال والجنوب، كما لنا في كلّ مكانٍ بعض من الاهتمامات والمخاوف». لقد عبّر بوتين بكلماته البسيطة عن تاريخ أصيل للمكانة التّي أولاها الروس وعلماؤهم الجيوبوليتيكيون لعامل الجغرافيا. فقد توارث الروس حبًّا قديمًا للأراضي تكوّن عبر التطوّر التاريخي في سياق ضمان توسعِة الأمة الروسية. لهذا السبب، لم يكن من المستغرب أن يُولي الفكر السياسي والجيوبوليتيكي الروسي أهميّةً خاصةً لمسألة المجال (The Space)، يؤكّدُ ليفاندوفسكي (Lewandowski)، أنّ جغرافيا السمات الوطنية الروسية – على غرار المجال الأرضي أو الروح الروسية – لا تعرف معنى للحدود[35].

لقد ولّدت هذه الروح منذ سنة 1921 مدرسة روسية عريقة في الجيوبوليتيك سُميّت المدرسة الأوراسية، مثلّتها أسماء كثيرة أبرزها جورج فلوروفسكي (Georges  Florovsky)، ونيكولاي تروبيتزكوي (Nikolai  Trubetzkoy)، وبيتر نيكولايفتش (Petr Savitskii) سافيتسكي وألكسندر دي سفرسكي  (Alexander de Seversky) . آمن هؤلاء بأنّ لروسيا حضارةً فريدةً ذات مسارٍ خاصٍ ومهمّةً تاريخيةً خاصةً أيضًا. وهذا لأجل إيجاد مركز قوةٍ وثقافةٍ مختلفين والذي لن يكون أوروبيًا ولا آسيويًا ولكن يتعامل مع الاثنين. آمن الأورواسيون في المقابل، بالنهاية الحتمية للغرب، وأنّ ذلك سيكون وقتًا مناسبًا لروسيا لتكون المثال العالمي الريادي[36]. تراجع صيت هذه المدرسة عقودًا من الزمن ليتجدّد مع نهاية القرن العشرين في كتابات الجيوبوليتيكي الروسي المعاصر ألكسندر دوغين.

ترجع الملامح الأولى «للجيوبوليتيك الدوغينية» إلى سنة 1991، حينما نشر دوغين مقالًا بعنوان: «حرب القارات» (The War of the Continents)، وقد تضمّن المقال تصوّرات دوغين الجيوبوليتيكية الكبرى للعالم، حيث وصف فيه ذلك الصراع الجيوبوليتيكي القائم آنذاك بين نمطين مختلفيْن من القوى العالمية، القوى البرية أو «روما الخالدة»، إذ ترتكز هذه القوى على مبادئ عديدةٍ مثل: الدولة المستقلة، الجماعة المحليّة، المثالية وتفوّق الخير المشترك. في المقابل توجد حضارات البحر، أو «قرطاجة الخالدة» والتي ترتكز على مبادئ مختلفةٍ مثل: النزعة الفردية، النزعة المادية إضافة إلى ميزة التجارة. وحسب تصوّر دوغين، فإنّ «قرطاجة الخالدة» كانت قد تجسّدت تاريخيًا في أثينا الديمقراطية، الإمبراطورية الألمانية والبريطانية كذلك. أمّا اليوم، فهي مُمثّلةٌ بالولايات المتحدة، في حين تجسّدت «روما الخالدة» في روسيا. وبالنسبة إليه، فإنّ الصراع بين هذه النمطَيْن من القوى سوف يظلُّ قائمًا إلى أن يتمكّن أحد الطرفين من تدمير الآخر كليًّا، ولا يمكن لأيّ نمطٍ من النظم السياسية أو أيّ مقدارٍ هائلٍ من التجارة البينية بين الطرفين أن يتمكّن من إيقاف هذا الصراع. لذلك، فمن الأفضل أن تُسارع روسيا (الخيِّرة) إلى هزيمة أمريكا (الشريرة) مثلما يقول، كما ينبغي أن تأخذ الثورة المحافظة (Conservative Revolusion) مكانتها في التاريخ[37]. في سنة 1997، عزّز دوغين نظرته الأوراسية الجديدة في كتاب مُفصّل حمل عنوان: أُسسُ الجيوبوليتيك: مستقبل روسيا الجيوبوليتيكي، والذي كان بمثابة إنجيل الأوراسيين الجدد في القرن الجديد.

لقد آمن دوغين دوما بالأوراسية الجديدة كعقيدةٍ تحمل خلاصًا لكلّ المشاكل التّي تُعانيها روسيا، بل خلاصًا لكلّ مشاكل الإنسانية، بذات الشكل الذي آمن به أتباع الماركسية أو الماوية… إلخ، بقدرة هذه العقائد على فعل ذلك، بل وادّعى أنّ الأوراسية الجديدة ستكون العقيدة القائدة في المستقبل والتي ستجعل من روسيا قوةً عظمى، ومع هذه النبوءة آمن دوغين بأنّ الأوراسية يبنغي أن تكون بمثابة «الأنوار الشمالية» للرئيس فلاديمير بوتين ومساعديه، التي ستساعده جنبًا إلى جنبٍ مع القادة العالميين، على صوغ وتشكيل إمبراطوريةٍ أوراسيةٍ، كما أنّه آمن بقدرة النظام الحالي على أن يكون خارطة طريقٍ لتجديد الشباب الروسي[38].

في سعيه لمواجهة طموحات الهيمنة الأمريكية العالمية، يدعو دوغين روسيا إلى تجنُّب التحوّل إلى مجرّد ملحقٍ للإمبراطورية الأمريكية، فإنّ عليها – في نظره – أن تسعى إلى إيجاد مراكزٍ متعدّدةٍ للقوة، لا ينبغي أن تكون مرتبطة بالولايات المتحدة وعولمتها وأن ترى فيها مركزًا، ولكن عليها خلق «فضاءاتٍ كبرى» عديدةٍ مُوحّدةٍ عبرَ شبكةٍ من التحالفات بين دولٍ عديدة. ومثل هذا «الفضاء الكبير» من شأنه أن يُنتج مركزًا – جديدًا – للقوة. يرى دوغين هنا وجود العديد من مراكز القوة، أو ما يشبه الإمبراطوريات – الصغيرة – الناشئة في المستقبل. يمكن أن تكون مثلًا الاتحاد الأوروبي واتّحاداتٍ مختلفةٍ، أو دولًا منفصلةً في آسيا تشمل اليابان، الهند و«إسرائيل»، وتركيا وبالطبع إيران التي يراها دوغين حجر الزاوية لتحالفات أوراسيا وأكثر حلفاء روسيا أهميّةً إن لم تكن الأهم على الإطلاق.

ينظر دوغين إلى الصين أيضًا بوصفها حليفًا محتملًا في مواجهة الولايات المتحدة، إلّا أنّه ينظر إلى الصين بوصفها حليفَ الملاذِ الأخير. في الحقيقة، فإنّ نظرة دوغين لعلاقات الصين مع أوراسيا نظرةٌ ذات شك بالرغم من الموقع الجيوبوليتيكي الأوراسي الواضح للصين. إنّ نشاط الصين التجاري الكبير مع الولايات المتحدة إلى جانب إمكان توسّعها الديمغرافي في الشرق الروسي البعيد وسيبيريا، كلّ هذه المسائل لا تزال تثير مخاوف دوغين. مع ذلك، لا يزال دوغين يأمل لأن تحدث ترتيباتٌ جيوبوليتيكيةٌ ذكيةٌ، من الممكن أن تجذب الصين إلى ائتلافٍ مناوئٍ لأمريكا ونشاطاتها الجيوبوليتيكية الخطرة. على سبيل المثال، يقترح دوغين أن توجّه الصين طموحاتها نحو الجنوب بدلًا من الشمال باتجاه روسيا. لذلك وحسب دوغين، فعلى أغلب دول أوراسيا أن تحشد جهودها ضدّ هذا العدو المميت لكلّ شعوبها وهو الولايات المتحدة، وأن تعمل على تشكيل تكتلاتِ دولٍ، شبه إمبراطورية، بما فيه تكتّل الدول المسلمة، والذي سيُكوّنُ إمبراطورياتٍ قوية، مستقلة ونووية. على روسيا أن تساعد هذه «الإمبراطوريات النووية» وأن تعمل على نقل أسلحتها النووية إليها. يرى دوغين أيضًا، أنّ على طبيعة الجيش وشكله أن تكون متوافقةً مع اتجاه السياسة الخارجية للبلد، وموقعه الجيوبوليتيكي[39].

أخيرًا، وإذا أردنا أن نُميّز أوراسية دوغين عن الأوراسية التقليدية التي تبنّاها كثيرٌ من الجيوبوليتيكين الروس سنوات العشرينيات والثلاثينيات من القرن العشرين، فإنّ أيديولوجية دوغين إيديولوجيةٌ مناهضةٌ للغرب، مناهضةٌ لليبرالية، هي إيديولوجيةٌ توليتارية، آيدوقراطية (Ideocratic) وتقليديةٌ اجتماعيًا. قوميته ليست قوميةً سلافيةَ التوجّه (بالرغم من أنّ الروس لهم مهمّة خاصّة للوحدة والأرض) إلّا أنّها مرتبطةٌ أيضًا بالقوميات الأخرى لأوراسيا. كما نجده يروّجُ لنظرةٍ صوفيةٍ، روحيةٍ، عاطفيةٍ، خلاصية. تختلف الأوراسية الجديدة لدوغين كثيرًا عن فكر الأوراسيين السابقين أولًا، في تصوّر دوغين لأوراسيا كونها أكثر اتّساقًا من سابقاتها كما لم تكن من قبل. على سبيل المثال، بينما آمن سفيتسكي بأنّ الدولة الروسية-الأوراسية ينبغي أن تمتّد من سور الصين العظيم في الشرق إلى جبال كاربيثيان في الغرب، فإنّ دوغين يؤمن بأنّ الدولة الأوراسية يجب أن تدمج كلّ دول الاتحاد السوفياتي السابق، أعضاء الكتلة الاشتراكية، وربّما حتّى إنشاء محميةٍ عبر كلّ أعضاء الاتحاد الأوروبي. في الشرق، يقترح دوغين التوجّه البعيد قدر الإمكان عبر إدماج كلٍّ من منشوريا، كسينغ سيانغ (Xinxing)، التيبيت ومنغوليا، بل حتّى يقترح في النهاية بالتوجّه جنوب شرق نحو المحيط الهندي. وبدلًا من تضمين أوروبا في أوراسيا، فقد اضطر دوغين إلى إعادة صياغة العدو. ففي الفكر الأوراسي الكلاسيكي، كان العدو متمثّلًا بأوروبا الرومانية-الجرمانية. في نسخة دوغين، يتمثّل العدو بالولايات المتحدة، في مقابل أنّ الأوراسيين الكلاسيكيين فضلوا الولايات المتحدة بل وعدّوها حتّى نموذجًا يُحتذى به، وامتدحوا كلًا من قيمتها وقيمها الاقتصادية، عقيدة مونرو، وعدم عضويتها في عصبة الأمم[40]. لقد ألهم دوغين من بعده جيلًا كاملًا من الباحثين، ليس فقط في روسيا وإنّما في جميع أنحاء العالم، لافتًا انتباههم وموجّها أفكارهم وأبحاثهم باتجاه تعظيم دور العامل الجغرافي في تحليلهم للتفاعلات العالمية الراهنة، والنظر إلى الخارطة بطريقة مُجردّة من كلّ تعقيدات القرن الحادي والعشرين.

4 – روبرت كابلان، انتقام الجغرافيا والمعركة الأزلية ضدّ القدر

في سنة 2013، كتب الباحث الأمريكي روبرت كابلان كتابه الشهير انتقام الجغرافيا: ما الذي تُخبرنا به الخرائط عن النزاعات القادمة وعن المعركة ضدّ القَدَر، في هذا الكتاب يحاول كابلان أن يُظهر استمرار أهميّة العامل الجغرافي في تكوين وتوجيه سلوكات الدول وبالتالي في تحديد مسار التفاعلات الدولية القائمة، وذلك بالرغم من التحوّلات الطارئة على النظام الدولي منذ نهاية الحرب الباردة، والتّي سبّبت تضاؤلَ أثر عامل الجغرافيا على العلاقات بين الأمم. من هنا نستطيع أن نفهم ما الذي يقصده كابلان بالضبط بعبارته المثيرة «انتقام الجغرافيا». فهو يُحاجج بأنّ عامل الجغرافيا أثبت من جديد وفي هذا العصر مدى أهميّته في تحديد مصائر الأمم، وأنّ الأمم التّي تجاهلت هذا العامل أثناء رسمها لسياساتها الخارجية وعلاقاتها الإقليمية والدولية دفعت ثمنًا باهظًا، إذ انتقمت منها تلك الجغرافيا التي أهملتها ولو بعد حين. لتوضيح هذه الفكرة، يضرب كابلان في كتابه هذا أمثلةً كثيرة، ولعلّ أبزرها ذلك المتعلّق بما سُميّ «الحرب الأمريكية على الإرهاب» منذ أحداث الحادي عشر من أيلول/سبتمبر. فحينما احتلت الولايات المتحدة أفغانستان ثمّ العراق، ظنّ المحافظون الجدد أنّ القوة العسكرية الضخمة والتكنولوجيا العسكرية الخارقة التّي تمتلكها الولايات المتحدة سوف تُمكّنها من إطاحة نظام طالبان بسهولة، ثمّ نظام صدّام بالعراق، يليها كلّ من «النظامَين المارقَين» في إيران وسورية وكلّ الدول «المارقة» تباعًا، وذلك من دون خسارة جنديٍ أمريكيٍ واحد، بفضل الطائرات المقاتلة المزوّدة بأحدث التكنولوجيات والصواريخ الضاربة العابرة للقارات، أو ما سُمّي نظرية «الصفر جندي» للعسكري أندرو كرينيبيفتش والتي طبّقها وزير الدفاع الأمريكي دونالد رامسفيلد في العراق خصوصًا. لكن، النتيجة كانت صادمةً جدًّا، إذ خسرت القوة العظمى الأولى في العالم حربَيْ أفغانسان والعراق، بعدما انتقمت جبال توروا بورا وتضاريس العراق الوعرة ومناخها الحار من العقل العسكري الأمريكي الذي تجاهل دورها الفاعل أثناء وضعه لخططه بالرغم من أفضلية التكنولوجيا الحربية التّي يحوزها[41]. فكانت الخسائر المادية والبشرية التّي تكبّدتها الولايات المتحدة عاليةً جدًا أكثر من 3 تريليونات دولار حسب كلّ من جوزيف شتنغلتز ولِندا بلمز في كتابهما الشهير: حرب الترليونات الثلاثة[42].

مثالٌ آخر يوضّح من خلاله كابلان كيف لا تزال الجغرافيا تُساهم في تحديد مصائر الأمم، نموها وتدهورها أيضًا، وذلك حينما يُقارن بين الصين والبرازيل وأفريقيا، فيرى أنّ سبب اكتساب الصين أهميّة أكبر من البرازيل اليوم – وكلاهما قوة صاعدة – هي الجغرافيا المتباينة لكليهما، فحتّى لو افترضنا أنّ البرازيل تحظى بالمستوى نفسه من النمو الاقتصادي للصين – يقول كابلان – وأنّ عدد سكانها يضاهي عدد سكان الصين، فإنّ البرازيل لا تمتلك خطوط الاتصال البحرية التّي تمتلكها الصين، كما أنّها لا تقع أساسًا في منطقة معتدلة المناخ مثل الصين، التّي تمتلك طقسًا منعشًا وأكثر خلوًا من الأمراض. تُطلّ الصين على غرب المحيط الهادي وتمتلك عمقًا بريًّا يصل إلى آسيا الوسطى الغنية بالنفط والغاز الطبيعي. أمّا البرازيل فتمتلك أفضلية نسبية أقل، فهي تقع معزولة في أمريكا الجنوبية، منبوذة جغرافيًا عن مساحات اليابسة الأخرى. كما يجعل كابلان من الجغرافيا سببًا مؤثرًا للفقر الذي تعيشه أفريقيا أيضًا، فرغم أنّها تمثّل خمسة أضعاف حجم أوروبا إلّا أنّها لم تعرف أشكالًا حضارية مدنية كأوروبا، طبوغرافيتها صعبة جدّا، مليئة بالصحاري الواسعة، كما أنّ سواحلها صعبة ومناخها أيضًا. «إنّ غاباتها الواسعة والكثيفة ليست بالغابات الصديقة للحضارة، لقد منح العالم الطبيعي أفريقيا كثيرًا ممّا يتعيّن عليها أن تجابهه في طريقها إلى الحداثة» كما يقول مختصرًا ذلك[43].

الأكثر من ذلك، فإنّ كابلان يجعل من الجغرافيا متحكّمًا رئيسيًا في السلوك الخارجي للدول، فهي التي تفرض توجّهًا بعينه على دولة ما وتمنعه عن أخرى، يقول: «من الممكن أن تكون الجغرافيا كاشفة عن النيات بعيدة المدى لحكومة ما بنفس القدر الذي تكشفه مجالسها السرية، إنّ موقع دولة ما على الخريطة هو أوّل ما يحدّدها بصورة أكثر حتّى من الفلسفة الحاكمة لها»[44].

أمّا الذي لا يزال يعتقد بأنّ الصواريخ الباليستية العابرة للقارات قد أنهت أهميّة الجغرافيا والأرض فهو مخطئ أيضًا حسبما يؤكد كابلان مستشهدًا بكلام لهانز مورغانثو حينما يشير أنّه ليس في وسع الدول الصغيرة ومتوسّطة الحجم مثل «إسرائيل» وبريطانيا العظمى وفرنسا أن تتحمّل نفس المستوى من العقاب الذي قد تتحمّله الدول قارية الحجم شاسعة المساحة مثل الولايات المتحدة، روسيا والصين، وبالتالي فهي تفتقر إلى الصدقية المطلوبة في تهديداتها النووية، وهذا يعني أنّه يتعيّن على دولة صغيرة تقع في وسط خصوم لها، مثل «إسرائيل» أن تكون سلبية بصفة خاصّة، أو عدوانية السلوك على وجه الخصوص، من أجل أن تظل على قيد الحياة، وذلك متعلق في المقام الأول بمسألة الجغرافيا[45]. هذه الفكرة انتبه إليها روبرت غيلبين أيضًا من قبل، حينما أكّد أنّه وعلى الرغم من أنّنا نعيش في عالم تسيطر عليه الصواريخ الباليستية العابرة للقارات، فإنّ الموقع الجغرافي والمسافة لا يزالان عاملين مهمَّين في العلاقات الدولية، مستشهدًا بالمكانة القارية للاتحاد السوفياتي زمن الحرب الباردة وكيف مكّنته من بسط نفوذه في كامل الاتجاهات، وكذلك العزلة الجغرافية النسبية للولايات المتحدة وغياب الجيران المعادين الأقوياء على حدودها مقارنة ببقيّة القوى الكبرى كروسيا أو الصين، ليضيف أنّ العامل الجغرافي عامل مهمّ في تحديد المصالح الوطنية والسياسات الخارجية لهذه القوى الكبرى[46].

ما يُحاججُ به روبرت كابلان في كتابه انتقام الجغرافيا هو خلاف ما يدّعيه أصحاب النزعة الليبرالية الفردانية. صحيح أنّ هناك الكثير من الحقائق والأمور التّي تحدّدُ من طرف الأفراد وتُشكّل من جانبهم، إلّا أنّ هناك أمورًا يتم تجاهلها دومًا في هذا الصدد، وأهمّها الجغرافيا، وهي العامل الذي يجب أن يُقبل على ما هو عليه، ويُتعامل معه بدلًا من مجرّد محاولة تجاوزه، فضلًا عن تحدّيه. لا يقصد بالجغرافيا ما يُفهم من المصطلح في القرن الحادي والعشرين، على أنّها مجرّد خريطة، وإنّما بمعناها كما كانت في القرن التاسع عشر الميلادي، حينما كانت الخريطة نقطة انطلاق للاستثمار في خطوط التجارة، الموارد الطبيعية، البيئة، المناخ، خصائص المجموعات الإثنية الثقافية. إنّ الجغرافيا تُقدّم لنا طريقة مختلفة للنظر إلى العالم لتحلّ محلّ كلّ الأشياء التّي نعرفها بخصوص قوى الأفراد.

سنة 2018 أصدر كابلان كتابًا جديدًا بعنوان: عودة عالم ماركو بولو: الحرب، الاستراتيجية، والمصالح الأمريكية في القرن الحادي والعشرين، وبالرغم من أنّ الكتاب عبارة عن تجميع وترتيب لمقالات سابقة له جرت في نفس السياق إلّا أنّه تأكيد آخر منه لأهمية العامل الجغرافي في تكوين عالمنا الحالي، أو بعبارة أخرى استمرار الدور الفاعل للعامل الجغرافي في القرن الحادي والعشرين بنفس الطريقة التّي كانت عليه في عالم الجغرافيين القدماء على غرار ماركو بولو.

5 – استراتيجية التوازن خارج المجال وأهميّة العامل الجغرافي في تحليل الواقعيين الكلاسيكيين الجدد

سوف يجد القارئ الجيد لإرث الواقعيين منذ إدوار هاليت كار أنّ معظم منظّري هذه المدرسة باختلاف تياراتهم لم يتجاهلو أبدًا دور العامل الجغرافي في تحليلهم لتفاعلات السياسة الدولية. على سبيل المثال، نظرية الواقعي جورج كينان المسمّاة «نظرية الاحتواء» هي نظرية جيوبوليتيكية محضة، كما أنّ نيكولاس سبيكمان صاحب نظرية الإطار (الريملاند) يُعدّ أحد أعمدة الواقعية الكلاسيكية. فمبادئ الواقعية هي التّي شكلّت نظريته الجيوستراتيجية تلك، هذا فضلًا عن كتاب الحرب والتغيير في السياسة العالمية لروبرت غيلبين أو كتاب أصول الأحلاف لستيفن والت اللذين يأخذان بعين الاعتبار دور عامل الجغرافيا في عملية توزيع القوة بين الفواعل الكبرى أو في أسباب تشكّل الأحلاف العسكرية وانفضاضها.

نركّز في هذا العنصر على حضور المؤثّرات الجغرافية في أحد الطروحات المشتركة لكلّ من جون ميرشايمر وستيفن والت، وبالأخصّ في مقاربتهما النظرية المعروفة باستراتيجية التوازن خارج المجال (Offshore Balancing Strategy).

قبل كلّ شيء، فقد لاحظ كلاهما كيف يساهم العامل الجغرافي في توجيه السياسة الخارجية للبلد وتحديد متطلّباته الأمنية، فقد رسم، ولا يزال يرسم في القرن الحادي والعشرين، سياسة خارجية وعسكرية مختلفة للولايات المتحدة مقارنة ببقية القوى الموجودة في أوروبا، فهذا البلد بالنسبة إليهما «مُباركٌ بنعمةِ الجغرافيا»، إذ تتموقع الولايات المتحدة بعيدًا من ساحات الحروب في أوروبا (منذ نشوء الدولة الويستفالية مرورًا بالحربين العالمية الأولى والثانية)، مُحاطةً بجيرانٍ ضِعافٍ من الشمال كندا ومن الجنوب المكسيك، من الشرق سمكٌ، ومن الغرب سمكٌ على حدّ تعبيرهما (في إشارةٍ إلى المحيطين الأطلنطي والهادي اللذّين يُمثلّان لها حصنًا طبيعيًا منيعًا)، الأمر الذي مكّن الولايات المتحدة من بناء دولةٍ قويةٍ عظمى مُحصّنةٍ من تهديدات الأعداء المحتملين تتطلّعُ إلى ماوراء البحار في سياستها الخارجية[47].

في آخر دراسة مشتركة نُشرت لهما سنة 2016 على مجلة الشؤون الخارجية، دعا كلٌّ من جون ميرشايمر وستيفن والت صنّاع القرار في البيت الأبيض إلى تبنّي استراتيجية –قديمة محدّثة- أطلقا عليها تسمية استراتيجية التوازن خارج المجال، بهدف استدامة زمن الهيمنة الأمريكية في النظام الدولي الذي يشهد تحوّلات حتمية في غير صالح الريادة الأمريكية على العالم. فهذه الاستراتيجية تتيح للولايات المتحدة التخلّي عن تلك المجهودات الطموحة في إعادة تكوين بقيّة المجتمعات وتركّز بالتالي على ما يهمّها حقّا، أي حماية الهيمنة الأمريكية في النصف الغربي للعالم، ومواجهة المهيمنين المحتملين وعلى رأسهم الصين، فهما يُقسمّان العالم جغرافيًا إلى نصف غربي تُهيمن عليه الولايات المتحدة حاليًا، ونصف شرقي به مجموعة من القوى الصاعدة أهمّها الصين التي تُحاول استنساخ تجربة الهيمنة الأمريكية في النصف الجغرافي الشرقي من العالم، مؤكدّين أنّ وضع الهيمنة العالمية غير ممكن إطلاقًا لوجود عامل جغرافي حاسم أو ما يُسميّانه «القوة المعيقة للمياه والمحيطات». فبسبب المسطحات المائية الضخمة تستحيل الهيمنة العالمية، حتّى بالنسبة إلى قوة خارقة كالولايات المتحدة، فهي في نظرهما مهيمنٌ إقليمي لا عالمي. لذلك وبدلًا من إدارة العالم، يمكن للولايات المتحدة أن تُشجّع بقية البلدان على أخذ زمام المبادرة في مراقبة القوى الصاعدة، ولا تقحم الولايات المتحدة نفسها بالتالي إلّا عندما تستدعي الضرورة ذلك. هذا لا يعني التخلّي عن مكانة الولايات المتحدة كقوة عظمى مفرطة وحيدة في العالم، أو التراجع عن «الحصن الأمريكي». فبدلًا من ادّخار القوة الأمريكية، فإنّ استراتيجية التوازن خارج المجال منشأنها أن تحمي الريادة الأمريكية لأمد بعيد في المستقبل، كما تحافظ على مكسب الحرية داخل الديار. وبعد أن يصف الباحثان الخصائص الجيوبوليتيكية التي وفّرت للولايات المتحدة أفضلية كبيرة مُضافة إلى قوتّها العظمى، يذهبان للتأكيد بأنّ استراتيجية التوازن خارج المجال تتيح للولايات المتحدة متابعة استراتيجية كبرى غير مكلفة في الوقت نفسه المحافظة على الأمن والحرية على أرضها وتكوين العالم على صورتها الخاصة من بعيد. فالاهتمام الأساسي لهذه الاستراتيجية ينصّب حول الكيفية التي ينبغي أن تُبقي الولايات المتحدة قويّة إلى الحدّ الممكن – من الناحية المثالية – إبقاؤها الدولة المهيمنة على الكوكب، أمّا واقعيًا، فيعني ذلك المحافظة على وضع الهيمنة في القسم الغربي من العالم. وخلافًا للانعزاليين، يرى الباحثان أنّ على الولايات المتحدة أن تركّز على أقاليم جغرافية بعينها خارج القسم الغربي من العالم، فهي أقاليم تستحق كما يقولان «إنفاق الدم والثروة الأمريكية» دفاعًا عنها. واليوم هناك ثلاثة أقاليم أساسية بالنسبة إلى الولايات المتحدة، منها إقليم شمال شرق آسيا، إضافة إلى أوروبا و«الخليج العربي». والسبب في دعوتهما إلى الاهتمام بإقليم شرق آسيا عمومًا، هو ذلك القلق الأساسي داخل الولايات من صعود مهيمن إقليمي يمكن أن يهيمن على إقليمه – مشيران إلى الصين طبعًا – مثلما تهيمن الولايات المتحدة على القسم الغربي من العالم، بل ويدفع بقوتّه إلى الخارج، التي قد تمتّد إلى القسم الغربي من العالم، المجال الأوسع للنفوذ الأمريكي، ويتحالف مع بلدان فيه ضدّ المصالح الأمريكية هناك، لذلك ينبغي على الولايات المتحدة – حسبهما – أن تحافظ على التوازن الإقليمي للقوة هناك[48].

أمّا عن الطريقة التي تعمل بها هذه الاستراتيجية، فيرى الباحثان أنّ على الولايات المتحدة أن توازن مكانتها العسكرية في الأقاليم الثلاثة، محافظةً على توازن القوة فيها، فإذا لم تكن هناك علامة على ظهور مهيمن محتمل في الإقليم، فليس هناك سبب لنشر قوات بريّة وجويّة هناك، في المقابل، تحتاج قليلًا إلى إرساء عسكري كبير داخل الديار. ولأنّ ظهور مهيمن إقليمي يحتاج إلى سنوات عديدة، نظرًا للإمكانيات الضخمة التي يحتاجها للسيطرة الإقليمية، فإنّ الولايات المتحدة سيكون لديها الوقت الكافي لمتابعته والاستجابة له في الوقت المناسب وبالطريقة المُثلى. إلى ذلك الوقت، على الولايات المتحدة أن تركّز اهتمامها على القوى الإقليمية الموجودة في كلّ منطقة، بوصفها خطّ الدفاع الأول بالنسبة إليها، سانحة لهم فرصة دعم توازن القوة في جوارهم الإقليمي، أو ما يسمّيه الباحثان مهمة «ترحيل المسؤولية» للقوى الإقليمية (Buck-passing) أنّ لديهم مصلحة عظمى بعيدة المدى في الحيلولة دون أن تُهيمن دولة ما عليهم. أخيرًا، إذا لم يكن لهذه القوى الإقليمية القدرة على الاحتواء المحتمل لهذا المهيمن في إقليمهم، فعلى الولايات المتحدة أن تُساعدهم في أداء هذه المهمّة، عبر نشر القوة العسكرية الكافية إلى ذلك الإقليم لتحويل ميزان القوة إلى صالحها وكبح طموحات القوة الصاعدة الراغبة في الهيمنة[49].

يُظهر هذا الطرح الجانب الجغرافي في التحليل بصورة جليّة، فهو تحليل جيوبوليتيكي محض متحرّر إلى حدّ بعيد من كلّ تعقيدات العالم الجديد الذي فرضته العولمة ومخرجاتها، فهو يظهر كسابقيه الهوس المستمر للدول بالأمن والنفوذ والهيمنة مثلما كانت في السابق تمامًا.

خاتمة واستنتاجات

من كلّ ما سبق نصل إلى القول بأنّ الجغرافيا ستظلّ صاحبة الدور الفاعل الأهمّ في تفسير، تكوين أو إعادة تكوين العالم المعاصر، وستظلّ معها الجيوبوليتيك الكلاسيكية في حلّتها الجديدة ذات قوة تفسيرية كبيرة ما دام المنطق الوضعي العلمي قادرًا على الصمود والمحاججة بل والهيمنة في مقابل التيارات ما بعد الوضعية ذات النزعة التهديمية، وما دامت الدول وقياداتها تُقدّم أمثلة إمبريقية متكرّرة على المسرح الدولي عن منطق الدولة وسياستها الواقعية المدفوعة دومًا بهوس البحث عن المصلحة وزيادة القوة وتعزيز الأمن وإدامة الريادة أو بسط الهيمنة الإقليمية والعالمية إن أمكن ولو بوسائل مختلفة تبدو جديدة أحيانًا. إنّنا نصل في النهاية إلى تأكيد عبارة روبرت غيلبين الشهيرة حينما جادل بأنّه لو عاد اليوناني ثيوسيدايدس من القرن الخامس قبل الميلاد وعاش بيننا اليوم، فإنّه لن يبذل عناءً كبيرًا في فهم عالم اليوم، ولن يكون باحثو العلاقات الدولية المعاصرين على دراية أكبر بقوانين هذا العالم أكثر من ثيوسيدايدس نفسه، لأنّ قوانينه أقرب إلى الثبات رغم التعقيد والتداخل الذي يمكن تسجيله في تفاعلاته الحاصلة منذ عصر ثيوسيدايدس بسبب مخرجات العولمة أساسًا. ولعلّ عامل الجغرافيا يُعدّ أكثر هذه القوانين ثباتًا، والمتحكّمة في سلوكات الفواعل، المقرّرة لمصائر الأمم والشعوب.

 

قد يهمكم أيضاً  البعد الأوراسي في استراتيجية الاتحاد الأوروبي

#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #الجغرافيا #الجغرافية_السياسية #الجيوبوليتيك #ثيوسيدايدس #الجيوبوليتيك_الكلاسيكية #رقعة_الشطرنج_الكبرى #زبيغنيو_بريجنسكي #أهمية_الجغرافيا #الأوراسية #بول_كيندي #روبرت_كابلان #ألكسندر_دوغين