تتناول هذه المقالة العلاقة بين الثقافة المدنية والعولمة في مرحلتها الراهنة، وتطرح عدة خلاصات، أبرزها: (1) أن الثقافة المدنية التي هي من أهم الحواضن لنمو وازدهار الديمقراطية ليست في أحسن حالاتها، حتى في أقدم وأكبر النظم الديمقراطية في العالم؛ (2) أن العولمة التي برزت قبل نحو ثلاثين سنة بلغت ذروتها مؤخرًا وتمر بمرحلة انحسار وليس بمرحلة انتشار على الصعيد العالمي؛ (3) أن الشق الثقافي من العولمة بوجه خاص، أي عولمة العالم ثقافيًّا، لم يحقق أبرز هدف من أهدافه المتمثل بتوحيد العالم ثقافيًّا وصَهره في بوتقة ثقافة عالمية واحدة. فما حدث على أرض الواقع هو أن العولمة الثقافية ارتدت وتشظّت في هيئة مناطق حضارية وثقافية متخندقة ومتحفزة ومتوثبة ضد بعضها. هذه أبرز خلاصات هذه الورقة التي تسعى لفهم العلاقة بين العولمة والثقافة المدنية ويمكن تفصيل ذلك في الموضوعات الآتية.

أولًا: الثقافة المدنية

برز مفهوم الثقافة المدنية أول ما برز في أدبيات العلوم السياسية في الستينيات من القرن العشرين. وكان أول من قدم هذا المصطلح هو عالم السياسة الأمريكي غبريال ألموند وزميله سيدني فريبا في كتابهما المشترك الذي يحمل عنوان الثقافة المدنية. ففي هذا الكتاب المرجعي‏[1] ذكرا أن الثقافة المدنية تعني خليطًا من القيم والقناعات والتوجهات الحديثة والتقليدية التي تعيش وتتعايش بعضها مع بعض بتسامح لتنتج النظام الديمقراطي المستقر والمزدهر والمتجدد. وأبرز مثال على المزيج الدقيق المتوازن من القيم التقليدية والحديثة هو النموذج الديمقراطي في بريطانيا. يقول ألموند وفيربا إنه لا يمكن قيام نظام ديمقراطي مستقر ومزدهر من دون بروز ثقافة مدنية. فالثقافة المدنية والديمقراطية هما صنوان لا يفترقان. ويقول لوشيان باي في كتابه سمات التنمية السياسية إن التسامح والتعايش وثقة المواطن بسياسات ومؤسسات حكومته هي من أهم مكونات الثقافة المدنية والحكم الديمقراطي الرشيد‏[2]. فأول عنصر من عناصر الثقافة المدنية هو ثقة المواطن بنظامه السياسي. فمن دون عنصر الثقة في الحكومة ومؤسساتها وقراراتها وسياساتها في الداخل والخارج، لا يمكن أن تزدهر الثقافة المدنية، ولا يمكن أن تتحقق ديمقراطية مستقرة. لذلك لا يمكن للثقافة المدنية أن تنتعش وتزدهر في ظل القمع والاستبداد والتعسف، ولا يمكنها أن تتجذر من دون حرية التعبير والمشاركة السياسية ومؤسسات المجتمع المدني. فالعلاقة وثيقة بين الثقافة المدنية والعمل التطوعي والنشاط السياسي وحرية التعبير والتسامح مع المعارضة والرأي الآخر والمختلف والمخالف.

لكن بعد مرور أكثر من نصف قرن على بروز مصطلح الثقافة المدنية، تبدو الثقافة المدنية في أزمة على الصعيد العالمي وحتى في عقر دارها بريطانيا وأوروبا، وفي أمريكا، أكبر قلعة من قلاع الثقافة المدنية. فبريطانيا تراجعت إلى الترتيب الخامس عالميًا في مؤشر التسامح العالمي، والولايات المتحدة لم تعد ضمن قائمة أكثر عشرين دولة تسامحًا في العالم‏[3]. وعمومًا تراجع بصورة حادة عنصر التسامح السياسي والديني الذي هو أهم مكونات هذه الثقافة، وأصبح سلعة نادرة وعملة صعبة على الصعيد العالمي. كذلك تراجع منسوب الثقة في العالم وحدث أكبر تراجع خلال سنة 2019. فالشعوب لم تعد تثق بالحكومات والشركات ومؤسسات المجتمع المدني والمنابر الإعلامية التقليدية والحديثة، وقد يعود السبب إلى زيادة فجوة المساواة في العالم، كما جاء في تقرير أديلمان السنوي الذي يقيس مؤشر الثقة على الصعيد العالمي‏[4]. واللافت للانتباه أن أزمة الثقة بلغت مستويات عالية في النظم الديمقراطية خلال السنوات الأخيرة، وهو ما انعكس سلبًا على الديمقراطية والنظم الديمقراطية التي تمر بأصعب أوقاتها في ظل احتقان مجتمعي وشلل سياسي غير مسبوق. وربما كان أبرز مثال على هذا الاحتقان ما يجري حاليًّا من اصطفاف وتناحر سياسي حاد بين أنصار الحزبين الجمهوري والديمقراطي في العاصمة الأمريكية واشنطن. ومن أبرز مظاهر انحسار الثقة وتراجع التسامح هو بروز تيار اليمين المتشدد والمتطرف في الغرب الذي يعتاش على كره الآخر ورفض المهاجرين وصعود تيارات يمينية متشددة ومتطرفة كما يحدث في عموم أوروبا، وتولد حكومات ديمقراطية ائتلافية غير مستقرة.

يظل السؤال هل توجد علاقة بين انحسار الثقافة المدنية وبروز العولمة عمومًا والعولمة الثقافية بوجه خاص؟

ثانيًا: العولمة والعولمة الثقافية

العولمة كما عرفها رونالد روبرتسون في كتابه الذي يحمل عنوان العولمة‏[5]، هي حركة انكماش العالم التي تسارعت بعد عام 1990 نتيجة التطورات العلمية والمعلوماتية المدهشة‏[6] التي تزامت أيضًا مع تحولات سياسية زلزالية أبرزها سقوط جدار برلين وانهيار الاتحاد السوفياتي وبروز أطروحات نهاية التاريخ‏[7] وصراع الحضارات‏[8]. التطورات التقنية المتلاحقة التي لم تتوقف خلال السنوات الثلاثين الماضية، عمقت زخم مسارات انكماش العالم وجعلته يزداد اندماجًا اقتصاديًا وثقافيًا وسياسيًا. فجأة أصبحت حركة انتقال الأفكار والقيم والأفراد والسلع بين القارات والمجتمعات والاقتصادات أكثر سرعة وكثافة وسهولة وحرية. فالثقافات أصبحت أكثر تأثرًا ببعضها، والاقتصادات أكثر اعتمادًا وارتباطًا ببعضها والمجتمعات أكثر انفتاحًا على بعضها والدول أكثر تواصلًا واتصالًا ببعضها. حدث كل ذلك بسرعة مدهشة وفي زمن قياسي. ولم يقتصر الأمر على عالم بلا حدود، وعلى سرعة وكثافة وسهولة وحرية الانتقال على الصعيد العالمي، بل إن فعل انكماش العالم تغلغل سريعًا في وعي الإنسان المعاصر، وبخاصة جيل الشباب المعولم الذي أصبح يدرك انتماءه الإنساني المشترك، وأنه جزء من بشرية تسكن في سفينة كونية صغيرة تواجه أزمات مصيرية مشتركة‏[9].

كان للشق الاقتصادي والاستثماري والتقني من حركة انكماش العالم بريقه وجاذبيته وزخمه، وحقق، في ما حقق، المزيد من دمج اقتصادات العالم. وكذلك كانت حال البعد السياسي للعولمة حيث ازداد الحديث عن عولمة السياسة والعولمة السياسية لتعني تقارب الدول وانتهاء عصر السيادة المطلقة وإلغاء الحدود الجغرافية والسياسية الفاصلة فيما بينها‏[10]. ومن وحي عولمة السياسة برزت مقولة «إن السياسة في كل مكان أصبحت مرتبطة بالسياسة في كل مكان»‏[11]. أما المشروع الثقافي للعولمة فقد كان أكثر إشكالية وأقل رواجًا وواجه الرفض والانتقاد أكثر من الأبعاد الأخرى للعولمة‏[12]، بل جاء بنتائج عكسية غير متوقعة. فوفق أدبيات العولمة الثقافية كان من المفروض أن يحدث انفتاح للثقافات، ووعد بدخول البشرية مرحلة الحرية الكاملة لانتقال الأفكار والقيم والأذواق على الصعيد العالمي. لقد بشرت العولمة الثقافية بزيادة حضور المكون العالمي في الإدراك الإنساني إحلال العالمي محل الوطني، بما في ذلك بروز المواطن العالمي الذي يشعر ببعده العالمي بقدر ارتباطه بالمكون المحلي‏[13].

هكذا كانت توقعات الأدبيات والنظريات في بداية بروز وصعود العولمة. لكن بعد نحو 30 سنة من حركة انكماش واندماج العالم، تحقق بعض وليس كل من تلك التوقعات، وما تحقق متواضع، بل إنه في السنوات الأخيرة حدثت مراجعات وارتدادات غير متوقعة لمشروع العولمة الثقافية. فمن ناحية حدث انفتاح ثقافي وحضاري غير مسبوق، لكن لم يحدث ذوبان الثقافات في ثقافة عالمية واحدة وفي بوتقة حضارية إنسانية مشتركة. كذلك في الوقت الذي حدث تدفق ضخم وحر في حركة انتقال الأخبار والمعلومات والأفكار والقيم على الصعيد العالمي، سارعت الدول لضبط هذا التدفق ووضع قيود مشددة على شبكات الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي ووظفت التطورات التكنومعلوماتية لصالحها على حساب حرية المواطن‏[14]. كما ساهمت التكنولوجيا في تقوية النظم السلطوية والفردية والبوليسية وبروز ظاهرة الطغاة الافتراضيين‏[15]. كل ذلك أدى إلى حدوث تراجع في مؤشر حرية التعبير صاحبه هجوم غير مسبوق على حرية الصحافة على المستوى العالمي، كما ورد في تقرير حرية الصحافة لعام 2019 الصادر عن مؤسسة «مراسلون بلا حدود»‏[16]. كما حدث تراجع ملحوظ للسنة التاسعة على التوالي في مؤشر حرية التعبير على الشبكة العنكبوتية، وفق تقرير حرية التعبير في الإنترنت الذي لاحظ انتكاسة في مستوى الحرية في الفضاء الافتراضي في 33 دولة من أصل 65 دولة في العالم خلال الفترة من يونيو 2018 إلى حزيران/يونيو 2019‏[17].

علاوة على ذلك، وبدلًا من الانفتاح الثقافي الموعود والمتوقع، انقسم العالم إلى مناطق ثقافية متخندقة ومتحفزة ضد بعضها. حدث تخندق ثقافي وحضاري وليس انصهارًا ثقافيًّا وحضاريًّا خلال السنوات الثلاثين منذ بروز العولمة سنة 1990. فأوروبا وأمريكا أصبحتا أقل تسامحًا، والحضارة الأنكلوسكسونية التي قادت حركة عولمة العالم، أصبحت اليوم متوجسة تجاه الآخر، ومتحصنة خلف قلعة حصينة تحاول حماية مكاسبها المادية ومكتسباتها القيمية، ويتلبسها هوس الإسلاموفوبيا، والخوف من المهاجرين واللاجئين‏[18]. أما المواطن العالمي فقد برز في الخطاب الأيديولجي للعولمة أكثر مما برز في الواقع السوسيولوجي. فقد تشبث المواطن العالمي بانتمائه الوطني والمحلي، بل انكفأ المواطن الجديد إلى الداخل بقدر اهتمامه بالخارج. لم تتمكن العولمة، بكل زخمها الثقافي والقيمي والتقني والمعلوماتي، من اقتلاع المواطن من وطنه ومن ومحليته. فالمواطن الأمريكي أمريكي أكثر من أي وقت، والمواطن البريطاني متعصب لبريطانيته، وأكبر دليل على ذلك انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي مؤخرًا‏[19]، وكذلك حال المواطن في كل مكان. فالمواطن الهندي هو الآن أكثر اعتزازًا بهنديته بل هو معتز بهندوسيته وذهب لانتخاب حزب هندوسي يميني متطرف‏[20]. ويمكن أيضًا القول إنه بعد 30 سنة من بروز العولمة لم تحدث «أمركة للعالم». فأمريكا تتجه نحو الانكفاء والانعزال وترفع شعار «أمريكا أولًا»، ولم تحدث «أوروبة» العالم. فالاتحاد الأوروبي يعيش بدلًا من أزمة واحدة، عشر أزمات من بينها، أزمة هوية وأزمة نمو وأزمة ديون وأزمة عملة «اليورو» وأزمة قيادة وأزمة لاجئين وأزمة مهاجرين وأزمة يمين متطرف وأزمة تسامح وأزمة تشكيك في جدوى الاندماج الأوروبي علاوة على أزمة انسحاب بريطانيا‏[21].

ثالثًا: ذروة العولمة

هل انتهت العولمة إذًا؟ سؤال طرحه جون رالستون ساول في كتابه انهيار العولمة‏[22]. لكن حتى وإن كان من السابق لأوانه طرح هذا السؤال، وحتمًا من السابق لأوانه إصدار شهادة وفاة بحق العولمة، فالسؤال الأهم الذي يتم تداوله في أدبيات العولمة: ما هو جديد العولمة؟‏[23] هناك أكثر من أطروحة حول ما هو جديد العولمة؟ من أبرزها تلك الأطروحات النظرية والتحليلية فكرة أن العولمة فقدت زخمها بعد 30 سنة من بروزها، وأنها في حالة هبوط بعد أن كانت في صعود. وهناك من يعتقد أن العولمة بلغت منتهاها وأن المرحلة الراهنة هي مرحلة ذروة العولمة‏[24]. أما فريد زكريا مؤلف كتاب عالم ما بعد أمريكا، فإنه يتحدث عن مرحلة تفكيك العولمة‏[25]. ثم هناك من أخذ ينظر إلى مرحلة جديدة في سياق بروز وصعود العولمة هي مرحلة «ما بعد العولمة» على نسق ما بعد الحداثة‏[26].

قد تكون العولمة في ذروتها، أو في طريقها إلى ذروة جديدة، أو أنها على وشك التراجع والارتداد، وبخاصة مع بروز حركة حمائية رافضة للعولمة الاقتصادية في عقر دارها، أمريكا في ظل رئاسة دونالد ترامب الذي يتزعم حركة شعبوية انعزالية وعنصرية‏[27]. أيضًا من شواهد ارتداد العولمة أنها بدأت بسقوط جدار برلين، لكن خلال 30 سنة من العولمة تم بناء 77 جدارًا فاصلًا، معظمها في أوروبا وأمريكا التي أقامت حائطًا على حدودها مع المكسيك. ومن شواهد ارتداد العولمة تراجع تدفق الاستثمارات الأجنبية، وصعود موجة الشعبوية الجديدة وموجة الوطنية الجديدة، وعودة الشركات العابرة للقارات إلى أوطانها تلبية لمطالب شعبية تعيش البطالة وتدهور مستوى المعيشة وتطالب بعودة رؤوس الأموال ووقف التهرب الضريبي. لكن مهما كان الوصف الدقيق لما هو جديد العولمة، فالمفارقة أنه في الوقت التي تبدو أن العولمة مرفوضة في عقر دارها، يتم الترحيب بها في آسيا، وبخاصة في الصين والهند وبقية دول النمور الآسيوية، فيتنام وإندونيسيا وكوريا الجنوبية، التي هي اليوم من أكثر المستفيدين وأكبر المدافعين والمتحمسين للعولمة وحرية التجارة والتجارة الحرة والدفع في الخصخصة ورفع لواء موجة «النيوليبرالية»‏[28] التي يعتقد البعض أنها تعيش أيامها الأخيرة‏[29]. ربما كانت سمعة العولمة سيئة في الغرب الرأسمالي لكنها سمعتها طيبة في الشرق الرأسمالي الصاعد. فمثلًا يشير استطلاع للرأي أن نسبة الترحيب بالعولمة يصل إلى أقصاها في فيتنام (93 بالمئة)، وليس في أمريكا أو أي دولة في الغرب‏[30]. أسْيَوَة العولمة هي جديد نسخة القرن الحادي والعشرين من العولمة.

يبقى القول إنه على الرغم من تزايد الحديث عن انحسار العولمة وتراجع الاهتمام الأكاديمي بأدبيات العولمة وتركيزها على مرحلة ما بعد العولمة، إلا أن حركة انكماش العالم مستمرة من دون توقف، بسبب التطورات المذهلة في مجال الذكاء الصناعي، والجيل الخامس من الهواتف الذكية وتعدد منابر وسائل التواصل الاجتماعي والإقبال الشعبي الكثيف على مواقع الفيسوبك وتويتر وانستغرام، كل ذلك يشير إلى أن البعد التقني والمعلوماتي والعلمي للعولمة يعيش عصره الذهبي ولم يفقد زخمه‏[31]. لقد كانت التطورات التقنية والعلمية هي وقود العولمة والقوة الدافعة لحركة انكماش العالم في السابق، وهي أيضًا القوة الفاعلة لانكماشه اليوم. استمرار التطورات التقنية يعني استمرار انكماش العالم ويعني أيضًا «لحظنة العالم»، أي أن الخبر/الحدث الذي يقع في أقصى الشرق أصبح يشاهد ويتابع ويتم التفاعل معه في نفس لحظة حدوثه في أقصى غرب العالم. هذه الحالة ما زالت قائمة وربما أكثر من أي وقت آخر، وهذا يعني أن العولمة قائمة ومستمرة بكل أبعادها الثقافية والاقتصادية والسياسية.

رابعًا: علاقة العولمة بالثقافة المدنية

مهما كان الأمر بالنسبة إلى استمرارها، أو انحسارها، فالسؤال هو: هل ساهمت العولمة في نشر الثقافة المدنية؟ وهل عجّلت أم أجّلت المسار الديمقراطي العالمي؟ الجواب ملتبس، وصفحة العولمة رمادية، بيضاء وسوداء، في ما يتعلق بانعكاساتها المباشرة وغير المباشرة على الثقافة المدنية التي هي ركن أساسي من أركان النظام الديمقراطي. فالعولمة وعلى مدى السنوات الثلاثين الماضية أسهمت في نشر أسلوب حياة حديثة ومعولمة، وأعلت شأن القيم الليبرالية وحرية الفرد وثقافة التسامح وتقبُّل الآخر، ودافعت عن قضايا البيئة وجعلتها في قلب الاهتمام الدولي ووضعت قضايا الحريات على رأس الأجندة العالمية. كما أنها ساهمت في رفع كثافة وسرعة وحرية انتقال رؤوس الأموال والأفراد والقيم والأفكار.

لكن العولمة أيضًا متهمة بنشر الليبرالية في صيغتها المتوحشة، التي عمّقت الفجوة بين أغنياء العالم الذين يزدادون غنًى، وفقراء العالم الذين يزدادون فقرًا على فقر، حيث إن الفجوة بينهما في أعلى مستوياتها منذ بروز النظام الرأسمالي قبل نحو 300 سنة. والعولمة أيضًا متهمة بنشر الثقافة الشعبوية‏[32]، وبروز اليمين الجديد، والإعجاب بنموذج الرجل القوي المستبد‏[33]. والأسوأ من كل ذلك أن العولمة بدلًا من أن تسهم في نشر الثقافة المدنية، عززت انتشار ثقافة البذاءة وخطاب الكراهية ونظام التفاهة وزيادة منسوبه في السنوات الأخيرة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وبخاصة منصات تويتر كما جاء في كتاب سو شييف بعنوان وباء الكراهية العالمي في العالم الافتراضي‏[34]، وكتاب نظام التفاهة لأستاذ الفلسفة آلان دونو‏[35].

باختصار لم تنتصر العولمة للثقافة المدنية بل ربما كانت الثقافة المدنية إحدى ضحايا حركة عولمة العالم. فالمؤكد أن التسامح والتعايش في انحسار، وثقة الشعوب في الحكومات والمؤسسات ومنابر الإعلام التقليدية والجديدة ليست في أفضل حالاتها، والديمقراطية تعيش أزمات مستعصية بعدما تراجعت ثقة الشعوب في نظمها الديمقراطية. علاوة على ذلك فقدت الشعوب والمجتمعات الثقة في وعود العولمة بخلق العالم الموحد ثقافيًّا وقيميًّا وأخلاقيًّا. لكن هناك جديد العولمة الذي لا يمكن تجاهله، وأبرزه أن العولمة لم تعد تعني الأوربة أو الأمركة، بل أصبحت العولمة والأسيَوَة وجهين لا يفترقان. فالنموذج الآسيوي هو النموذج الصاعد والمزدهر، وآسيا هي المستقبل، في حين أن أوروبا هي الماضي، والجنس الأصفر في صعود في حين أن الجنس الأشقر في هبوط. والذوق الآسيوي له بريقه بعدما خفتَ بريق الذوق الغربي. أما الرأسمالية الصينية فإنها تقف ندًّا للرأسمالية الأمريكية وتنافسها على زعامة العالم اقتصاديًّا. والصراع القادم لن يكون صراع الحضارات، بل صراع الرأسماليات التي تتجسد حاليًا في الحرب التجارية المحتدمة بين بكين وواشطن، ومركز الثقل المالي والإبداعي العالمي الجديد ينتقل تدريجًا من الغرب إلى الشرق. لقد انتزعت آسيا راية العولمة متسلحة بالتطورات المذهلة في الذكاء الاصطناعي والجيل الخامس من الهواتف الذكية وطريق وحزام الحرير الجديد. هذه التطورات هي وقود حركة انكماش العالم خلال السنوات الثلاثين المقبلة حيث يتوقع أن يكون النصف الأول من القرن الحادي والعشرين قرن آسيا في التاريخ العالمي المعاصر‏[36].

 

قد يهمكم أيضاً  سوسيولوجيا الهوية: جدليات الوعي والتفكك وإعادة البناء

للمزيد من المواضيع ذات الصلة  تأثيرات الصعود الروسي والصيني في هيكل النظام الدولي في إطار نظرية تحول القوة

#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #الثقافة #الثقافة_المدنية #العولمة #انحسار_الأمركة #صعود_آسيا #وجهة_نظر