تمهيد:

يدرس الباحث السوسيولوجي أنسجة رمزية مشبعة بالدلالة، فالعالم بطبيعته دال ولا يمكن قراءته إلا بإعادة بنائه من جديد بعين سوسيولوجية هي عين الباحث السوسيولوجي التي يمكنها أن تقرأ ما لا يقرأ، فينتج نصاً مكتوباً بعد تنسيق الفوضى وردّها إلى نظام منتج عبر أدوات منهجية تتيح له اكتشاف الواقع وفهمه فهماً تأويلياً يقوم على مبدأ النسبية وتعدد وجهات النظر.

إذاً، يقرأ الباحث الاجتماعي الظواهر المشبعة دلالة منتقلاً من الوصف إلى عمق التأويل، فلا ينحصر في حدود الرؤية المادية للظواهر الاجتماعية بل يتعدّاها ليغوص في الأنساق الرمزية الخفية وما يحصل فيها من تفاعلات وضروب تناصٍّ. ويتمّ إنتاج نصّ مكتوب، هو حسب علم الاجتماع نص ثقافي محوره النشاط الإنساني ودينامية البنى الاجتماعية: أي ما يسميّه بيار بورديو (Pierre Bourdieu) في مؤلّفه إعادة الإنتاج([1]) بـ”الحقل الاجتماعي” (Le Champs social) حيث يتخّذ كلّ فاعل موقعاً خاصاً به، وحيث تتنوع المواقع وتتباين بتباين الفاعلين الاجتماعيين (المبدع والناقد والمروّج، الإنتاج الأدبي والفني والجمهور المتذوّق والمستهلك…).

لذلك فمن الناحية السوسيولوجية كلّ نصّ هو نتاج حقبة زمنية، وسياقات اجتماعية فرضت أنماطها الإبداعية بالإضافة إلى كونه نتاج قصد مؤلّفه.

إن النص المكتوب في مختلف تجلياته هو، من وجهة النظر السوسيولوجية، شكل من أشكال الوعي الاجتماعي إذ إنه تعبير عن الوعي الجماعي ينقلها المؤلّف ويتلقاها القارئ (الناقد)، تبرز فيها، على نحو صريح أو ضمنيّ، خصائص المجتمع؛ أي بناه العامة ورؤى فاعليه الاجتماعيين.

أولاً: الإطار المنهجي والنظري للبحث

1- الإطار المنهجي للبحث

        أ- إشكاليّة البحث

إنّ ما يجب أن يثير انتباه الباحث في مسألة التلازم الوثيق بين البنى الاجتماعية وبنية النص المكتوب هو ما يحمله هذا التلازم من دلالات ومعانٍ. ويكون ذلك بدراسة العلامات داخل كلا البنيتين دراسة تحليلية أولاً، ثمّ، في مرحلة ثانية، قراءة تأويلية. والحقيقة أنّ الرهان الأساسيّ هو الإجابة عن سؤال: كيف نقرأ العلامة في نسيج البنى (بنية المجتمع وبنية النص المكتوب)؟ وكيف يتمكّن الباحث الاجتماعي من الوصول إلى قراءة من الدرجة الثانية (أي التأويلية) لكلا البنيتين؟

ب- فرضيّات البحث

تتمحور إشكالية البحث حول دراسة التلازم الوثيق بين البنى (بنية المجتمع وبنية النص المكتوب)، ونسعى من خلال هذه الدّراسة إلى مناقشة هذه الفرضيات:

          الفرضية الأولى: إنّ للمجتمع، وللنصّ، بنية يمكن فك شيفراتها؛

          الفرضية الثانية: ينتج من التلازم الوثيق بين البنى (بنية المجتمع وبنية النص المكتوب) تجانسٌ بنويٌ (Homologie structurel) ، تحلّ فيه كل بنية في الأخرى.

وهو ما يقودنا إلى أن نتساءل: هل أنّ هذا التجانس كلّي تتحول بمقتضاه البنى مرايا عاكسة (فرضية التطابق)، أمّ أنّ بين بنى المجتمع وبنى النص علاقات تمثيل منحرف (فرضية التفاعل)؟

ج- شبكة المفاهيم الرئيسية

يعدّ الجهاز المفاهيمي الرّكيزة الأساسيّة لأيّ شرعيّة علميّة، لأنّ ضبط المفاهيم يشكّل اللحظة العلمية لتجاوز التّداخل المفاهيمي ويمكّن الباحث من حصر مجال بحثه. وقد أكّد ذلك عالم الاجتماع الفرنسي “إميل دوركايم” (Emile Durkheim) حين اعتبر تحديد المفاهيم وتعريفها تعريفاً علميّاً إجرائياً من القواعد الأساسيّة التّي تكوّن المنهج في علم الاجتماع من حيث هو علم مستقلّ، وذلك لتجاوز التّعريف العامي والآراء المسبقة وتأسيس معرفة علميّة بذلك الموضوع([2])، ومن الملاحظ أنّ التّحديد الشّامل والواضح لأيّ مصطلح هو أمر بالغ الصّعوبة لأنّ أيّ مصطلح يتحوّل مفهومه عبر الاستعمالات المتنوّعة النّاتجة من التحوّلات التّاريخيّة والتّغيّرات الاجتماعيّة.

          (1) تعريف مفهوم البنية([3])

          البنية لغةً: هي “الهيئة التي بني عليها مثل المشية والركبة، ويقال بنية وبنى وبِنية وبِنى، بكسر الباء مقصورة مثل جِزية وجزى، وفلان صحيح البنية أي الفطرة”،([4]) وهي كلّ مكون من ظواهر متماسكة، يتوقف كل منها على ما عداه([5]).

          البنية اصطلاحاً: هي ترجمة لمجموعة من العلاقات الموجودة بين عناصر مختلفة وعمليات أولية تتميز في ما بينها بالتنظيم والتواصل بين عناصرها المختلفة”([6]). وهذا المفهوم يتوقف على السياق بشكل واضح، فنجد نوعاً أول تستخدم فيه البنية “عن قصد، ولهذا تقوم فيه بوظيفة حيوية مهمة، وسياق آخر تستخدم فيه بطريقة عملية فحسب([7]). وما هو مؤكد أن البنية لا توجد مستقلة عن سياقها المباشر الذي تتحدد في إطاره.

يعتبر “كلود ليفي ستروس” ((Claude Lévi-Strauss أن مفهوم البنية ليس سوى “تعبير نستخدمه لأنه رائج، إنّ اللفظ المحدد جيدا يمارس فجأة سحراً فريداً خلال بضع سنوات – هكذا كلمة “الديناميكا الهوائية”- ونشرع في استعماله بلا تبصّر، نظراً إلى وقعه السائغ على السمع. لا ريب في إمكان دراسة الشخصية النموذجية من زاوية البنية، ولكن يصح الشيء ذاته في ما يتعلق بتنسيق فيزيولوجي، أو هيئة أو مجتمع أو ثقافة أو بلور أو آلة، كل شيء – ما لم يكن معدوم الشكل يملك بنية وبذلك لا يضيف لفظ بنية شيئاً إلى ما في ذهننا عند استعماله سوى ملاحظة لطيفة([8]).

أما البنية عند البنيويين فـ”يقع تصورها خارج العمل الأدبي وهي لا تتحقق في النص على نحو، غير مكشوف حيث تتطلب من المحلّل البنيوي استكشافها”([9]) وكان الشكلاني الروسي لوري تينيانوف  (Louri Tynianov) أول من استخدم لفظة بنية في السنوات المبكرة من العشرينيات، وتبعه رومان جاكوبسون (Roman Jakobson) الذي استخدم كلمة البنيوية لأول مرة سنة 1929)[10](.

وكلمة بنية، تحيل في حد ذاتها على المنهج البنيوي، الذي تمثّل أول خطوة فيه، تحديد البنية أو النظر لموضوع البحث كبنية، أي كموضوع مستقل)[11](.

أما ثاني خطوة فهي تحليل البنية وكشف مختلف عناصرها” مثلاً في النص الأدبي، يستهدف التحليل دراسة الرمز، الصورة، الموسيقى، وذلك في نسيج العلاقات اللغوية وفي أنساقها. كما يمكن النظر إلى مكونات النص واكتشاف مفاصل البنية وأشكال التكرار فيها أو أنساق التركيب للصورة الشعرية التي يوضحها محور بنية الدلالات اللغوية)[12](.

ويقصد ببنية النص مادته اللغوية، وعالمه المتخيل، الذي يتحقق بمجموع الأمور: النمط، الزمن، الرؤية، من حيث هو عامل الانسجام، وعالم الرواية الواحدة، عالم القول، واللغة، والصيغة الأدبية”)[13](. والنص في حقيقته يحتوي بنية ظاهرة وبنية عميقة، يجب تحليلهما، وبيان ما بينهما من علائق “لأنّ انسجام النص الأدبي ناجم عن تضمنه بنية عميقة محكمة الترتيب)[14](.

ولا يمكن لعلماء الاجتماع أن يستغنوا عن مفهوم البنية، لأنّ دراسة الظاهرة الاجتماعية تستلزم التفكير في العناصر المكوّنة لها. يعرّف ألفريد رادكيف براون في مؤلّفه(Structure and Function in Primitive Society)  ([15]( مفهوم البنية: بأنّه تركيبة منظّمة لأجزاء أو عناصر مكوّنة لكل (هناك فكرة الكليّة). وأنّ الباحث الاجتماعي يمكنه أن يكتشف البنية الاجتماعية للمجتمع الذي يدرسه. لذلك فإنّ مفهوم البنية هو طريقة تركيب جملة من العناصر في نسق معيّن ثمّ الإقرار بأنّ الأشياء تنتظم داخل هذا النسق. إلا أنّ مفهوم البنية له معنيان: يتمثّل الأوّل بأنّ مفهوم البنية هو طريقة تركيب جملة من العناصر في نسق معيّن. ويتمثّل المعنى الثاني في كيفية اشتغال النسق أي مقاربة تفسيرية لا تكتفي بمفهوم البنية في جانبها الوصفي بل محاولة الكشف عن اشتغال النسق. ومثال ذلك علماء اللسانيات الذين اهتموا بكيفية اشتغال اللغة من الداخل وتجاوزوا بذلك وصف اشتغال اللغة. وبهذا فإنّ البنية ليست مجرّد اتساق الأشياء وانتظامها، وإنّما هو كيفية اشتغال النسق من الداخل كما ذهب إلى ذلك كلود ليفي- ستروس من خلال “الأنساق الأوّلية للقرابة” (Les Structures élémentaires de la parentés) ([16]).

كما بيّن ريمون بودون في مؤلّفه(La Logique du social)  ([17])  بأنّ مفهوم البنية يستعمل بطريقتين وسياقين مختلفين: السياق الأوّل، هو منحى وصفي والبنية تعني انتظام الأشياء وعلاقة التبعية بين الأشياء داخل النسق؛ أمّا السياق الثاني، فهو ما يميّز المقاربة البنيوية وهو كيفية اشتغال النسق إذا كان لغة، أدباً، شعراً… فهذا السياق يتجاوز الجانب الوصفي إلى تفسير اشتغال النسق من الداخل. وفي هذا السياق يمكننا أن نتساءل عن نشأة التيار البنيوي وما هي أهمّ المبادئ التي يقوم عليها؟

إذاً البنية: هي البحث عن العلاقات الداخلية التي تكوّن الظاهرة المدروسة، فهي شبكة علائقية تتكوّن من مفاصل متداخلة، وهذه المفاصل تكوّن علاقات مع الكل فهي قابلة للتفكيك والتركيب. كما تعتبر البنية وحدة مستقلّة بمعنى أنّها متكوّنة من علاقات مترابطة، وكلّ عنصر مرتبط بالآخر في سياق الكل وفي نفس الوقت تمثّل تنظيماً خاصاً بها.

          (2) تعريف مفهوم النص المكتوب

          النص لغةً: ورد في لسان العرب لابن منظور أن النص “رفْعُكَ الشيءَ، وأصل النص أقصى الشيء وغايته، ونص كلّ شيء منتهاه” ([18])، والنص هو أيضاً “ما ازداد وضوحاً على الظاهر لمعنى في المتكلم، وهو سَوق الكلام لأجل ذلك المعنى فإذا قيل أحسِنوا إلى فلان الذي يفرح لفرحي ويغتمّ بغم كان نصاً في بيان محبته”)[19] (. ومن جهة أخرى “هو أيضاً ما لا يحتمل إلاّ معنى واحداً، وقيل ما لا يحتمل التأويل”([20](.

كما نجد تعريفاً جامعاً لكل التعريفات السابقة، تم إيراده في القاموس الجديد للطلاب، حيث جاء فيه “النص هو الصيغة الأصلية لما ينتجه المؤلف، وما لا يحتمل إلّا معنى واحداً وما لا ولا يحتمل التأويل، وهو منتهى كل شيء، وهو عند الأصوليين هو الكتاب والسنة”([21](.

          النص اصطلاحاً: له مفهومان أحدهما قديم والآخر حديث: الأول، هو المفهوم التقليدي الذي يرى النص واضح المعالم والحدود “نص له بداية ونهاية وله وحدة كلية ومضمون يمكن قراءته داخل النص، له عنوان ومؤلف وهوامش، وله أيضاً قيمة مرجعية حتى إن لم يكن محاكاة للواقع الخارجي، كل هذه تمثّل حدود النص والكلمة المستخدمة هنا لا تترك مجالاً للشك في دلالته الجغرافية”)[22](. أما المفهوم الثاني الجديد فقد ظهر في الستينيات، مع بداية استراتيجية التفكيك حيث حدث انقلاب جذري في المفهوم، وهذا ما يشير إليه قول جاك دريدا (Jacques Derrida) ما حدث، إذا كان حدث، هو عملية اجتياح… أبطلت كل ما استمر في تسميته “نص” لأسباب استراتيجية… نص لم يعد منذ الآن جسماً كتابياً مكتملاً، أو مضموناً يحده كتاب أو هوامش، بل شبكة مختلفة، نسيج من الآثار التي تشير بصورة لانهائية إلى أشياء ما غير نفسها، إلى آثار اختلافات أخرى، وهكذا يجتاح النص كل الحدود المعينة له حتى الآن (إنه لا يقوم بدفعها إلى القاع أو إغراقها في تجانس لا يعرف الاختلاف بل يجعلها أكــثر تعقيداً)[23](.

من بين هذه المفاهيم ما قدمته جوليا كريستيفا (Julia Kristeva)، التي تعتبر أن” النص ليس نظاماً لغوياً مغلقاً كما ترى البنيوية الشكلية وإنما هو عدسة مقعرة لمعانٍ ودلالات معقدة، ومتغايرة، في إطار أنظمة ثقافية، واجتماعية وسياسية سائدة، ومن هنا فإنّ النص، أيّ نص، هو غير مكتمل، وعملية استكماله تتم بواسطة قراءته. والقراءة ليست واحدة، وإنما هي قراءات متعددة، تختلف حسب القرّاء، حسب تناصه، ومن هنا يمكن القول إنّ النص هو متغيِّر باستمرار ومتحوِّل، وإن دراسته ينبغي أن تم بـ “تقاطعات النص”، حين تعتبره جزءاً من كل أو مفرداً بصيغة الجمع، وأنّ له ماضياً وحاضراً ومستقبلاً”)[24](.

إن مفهوم النص الذي تطور عن المفهوم القديم، لم يقتصر على الغربيين فقط، وإنّما كان للعرب نصيبهم من ذلك، فمحمد مفتاح مثلاً يعتبره مدوّنة حدث كلامي، لأنّه يقع في زمان ومكان معيَّنين، لا يعيد نفسه إعادة مطلقة، وله وظائف متعددة فهو تواصلي وتفاعلي لأنه يقيم علاقات اجتماعية بين أفراد المجتمع ويعمل على المحافظة عليها، كما يرى أن للنص تعاريف عديدة تعكس توجهات معرفية ونظرية ومنهاجية مختلفة، فهناك التعريف البنيوي وتعريف اجتماعيات الأدب والتعريف النفساني الدلالي… إلخ)[25](.

إنّ النص حصيلة ثقافية وحضارية، ولغوية لرحلة الكاتب أو الأديب عبر إبداعه وحياته كلها.

          (3) تعريف مفهوم المجتمع

          المجتمع لغةً: مشتق من الفعل “اجتمع ضد تفرَّق”،)[26]( والمجتمع “موضع الاجتماع أو الجماعة من الناس”)[27](.

          المجتمع اصطلاحاً: “كل مجموعة أفراد تربطهم رابطة ما معروفة لديهم ولها أثر دائم أو مؤقت في حياتهم وفي علاقاتهم مع بعض”)[28] (، ويعيشون في منطقة مساحية معينة ولهم لهجة أو لغة مشتركة ولهم خصائص ثقافية وحضارية ومعتقدات وعادات ويتشاركون في كل الصفات والخصائص التي يملكها مجتمعهم. فالمُجتمَع هو عدد كبير مِن الأفراد المُستقرين، تربطهُم روابِط اجتماعيه ومصالِح مُشتركَة، تُصاحِبُها أنظِمَة تضبِط السلوك. أي إنّ المجتمع يعيش في إطار منظومة من القواعد والقيم والعادات والتقاليد التي يسلّم بها ويعدها إطاراً مرجعياً لعمليات التفاعل التي تحدث بين أفراده بشكل مستمر. كما أن المجتمع البشري يتألف من عناصر مختلفة، ويوجد اختلافات وتناقضات فيما بينها. وتربط بين أفراد المجتمع الشراكة في الاهتمامات والخبرات التي تعمل على تطوير ثقافة ووعي مشترك بينهم يميّز المجتمع وأفراده بصفات مشتركة تشكل شخصية وهوية هذا المجتمع. ويدرك الأفراد ويشعرون بأنّهم يكوّنون وحدة متماسكة في ما بينهم.

          في عِلم الاجتماع: المُجتمَع هو: نسَق مكوَن مِن عِدَة أنساق مثل الأنساق الاقتصادية والسياسية والتربوية…، مترابطة وتساهم في تحقيق التوازُن والاستقرار للمُجتمَع، وأيّ تغييـر في أحد من الأنساق يؤدى بالضرورة إلى التغييـر في الأنساق الأُخرى. وأي تغييـر في واحِد مِنها يتطلَب تغييـراً في الأخرى. فالمُجتمَع عِبارَة عَن نسق اجتماعي مُكتف بذاته، ومُستمِر في البقاء بِفعل قواه الخاصة، ويضُم أعضاء مِن الجنسين الذكور والإناث ومِن جميع الأعمار. وبعض عُلماء الاجتماع مثل فرديناند تونيز(Ferdinand Tönnies)، يرى أن هُناك اختلافاً عميقاً بين الجماعة المشتركة والمُجتمَع، ويعتبِر أهم ما يُميز المُجتمَع هو وجود بنية اجتماعيه وتركيبة ونمط، فتتضمَن بذلك بنية تحتية (التجهيزات الأساسية، الطرق والمنشآت وهيئات الاتصال…) وبنية فوقية (مجموعة المؤسسات والأفكار والثقافة)، وعِدَة نواحٍ أخرى مثل السلطة والتراتب الاجتماعي. كما يعرّف إميل دوركايم المجتمع بأنّه لا يمكن أن يستمر إلا إذا وجدت درجة كافية من التجانس والتربية التي تعمل على ترسيخ وتدعيم التجانس فيه.

د- منهج البحث

المنهج على حد تعبير “مادلين غرافييتز” (Madeleine Grawitz) مهما كان نوعه “هو أسلوب لكونه يجمع أكثر من عمليّة تتلاقى جميعاً عند بلوغ هدف واحد، وبلوغ الحقائق المتوخّاة مع إمكانية تباينها والتّأكّد من صحّتها”)[29](. ويمثّل منهج البحث الطريقة التي يتّبعها الباحث لدراسة الظاهرة الاجتماعية من أجل الوصول إلى الحقيقة العلمية. وقد اعتمدنا في دراسة بحثنا على المنهج البنيوي التكويني، الذي يبحث في العلاقة بين بنية النص المكتوب وبنية المجتمع على مستوى التناظر والتماثل والتلازم الوثيق بين البنى، ضمن رؤية نقدية تهتم بالأبعاد الاجتماعية والأيديولوجية للبنى)[30](. وعلى هذا الأساس يكون هذا المنهج قد اهتم بمستوى الفهم: أي تحليل البنية الداخلية للنص بتفكيك عناصره المكونة ومساءلتها، وبمستوى التفسير: أي ربط الأثر المكتوب بالواقع الذي انبثق منه، باعتباره يمثل رؤية للعالم لدى فئة اجتماعية معينة. وكذلك الاعتماد على المنهج الاجتماعي الجدلي الذي يربط بين مضامين النص المكتوب وأشكال الوعي الأيديولوجي للمجتمع، على أساس أن هناك علاقة انعكاس وترابط جدلي وتلازم وثيق بين الإنتاج المكتوب والواقع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي)[31](.

2- الإطار النظري للبحث

البنيوية التكوينية ((Structuralisme Génétique هي المقاربة الأكثر ملاءمة لدراسة ما نحن بصدد إنجازه. فمن خلالها يتم فهم وتجسيد العلاقات القائمة بين النص والواقع الاجتماعي، حيث لا يعكس النص ولا يعيد إنتاج الوقائع الاجتماعية والبنى الإيديولوجية، وإنما يقوم بوظيفة إيحائية ونقدية في نفس الوقت، وإن الفهم الملموس والمعرفة العقلية لظاهرة ما، ليسا ممكنين إلا في إطار السياق العام الذي تدرج ضمنه هذه الظاهرة)[32](. كما إن البنيوية التكوينية في تعاملها مع الظاهرة الأدبية، تدرس العلاقة بين الحياة الاجتماعية والإبداع الفني والأدبي، وذلك من طريق تحليل البنى الأدبية والبنى الاجتماعية، أي البحث في العلاقة بين الوعي التجريبي لجماعة اجتماعية معينة، وبناء الشكل الأدبي. وهذا الاتجاه يدفع الأدب بعيداً من فكرة الصراع الطبقي ويجعله رمزاً للحياة الاجتماعية بكل أبعادها المختلفة.

ولكن قبل تعريف هذه المقاربة “البنيوية التكوينية” علينا تعريف كلّ من “البنيوية” و”التيار البنيوي”:

أ- البنيوية

اشتق لفظ البنيوية من البنية، ومن خلالها تمّ الإقرار بأنّ كل الظواهر تشكل بنية، ولدراسة هذه البنية يجب تحليل وتفكيك العناصر المؤلفة لها، دون النظر إلى عوامل خارجية عنها. ومن أهمّ مؤسسي البنيوية في مجال اللغة نذكر فريدنان دي سوسير (Ferdinand de Saussure). وفي مجال علم الاجتماع برز كلا من: كلود ليفي ستراوس ولوي التوسير Louis Althusser)) الذين أقرا بأن جميع الأبحاث المتعلقة بالمجتمع، مهما اختلفت، تؤدي إلى بنيويات.

          ب- نشأة التيار البنيوي

نشأ التيار البنيوي مع الألسنية (علم اللسانيات) وهناك أربعة مبادئ يقوم عليها هذا التيار حسب (Bernard Valade)، في أثره (Pareto. La naissance d’une autre sociologie) ([33]( :

  • مبدأ بديهي: القول بأنّ البنيوية هي تركيبة وكيفية اشتغال النسق. فلدراسة الظواهر وجب الكشف عن بنيتها الداخلية، أي الكشف عن العلاقات الموجودة داخل عناصر النسق.
  • الإقرار بأنّ العلاقات بين الأشياء أكثر أهميّة من المكوّنات الفعلية لهذه الأشياء. فما توصّل له علم اللسانيات هو: العلاقة بين الحروف أهم من الحروف ذاتها.
  • تزامن الأشياء في لحظة واحدة (متزامن) (synchronique) المقاربة البنيوية تؤكّد ضرورة دراسة العلاقة بين الأشياء في اللحظة الرّاهنة ولا تبحث عن تطوّر الأشياء عبر الزمن (diachronique): تفاوقي.
  • لكي نفهم المجتمع ابدأ بفهم ذاتك، ما يمكننا من فهم الأشياء هو وجود اللاوعي. فعلماء الاجتماع والأنثروبولوجيا يقرّون بأن إدراك الظواهر الاجتماعية هو موجود على مستوى اللاوعي. أي يجب أن نترك كلّ ما هو متعلّق بالوعي حتى نفهم الأشياء. يقرّ ليفي ستروس بأنّ علاقتنا باللغة هي علاقة لا واعية. فالفاعل الاجتماعي ليست له علاقة واعية بالنسق اللغوي. فهي حاضرة فينا دون أن تكون حاضرة على مستوى الوعي. والعلاقات التي تنظم البنية هي علاقات خفية. وإنّ البنية هي أساس اشتغال وهي كامنة وخفية ويمكن للباحث السوسيولوجي الكشف عنها. فهي موجودة بشكل باطني والفاعل الاجتماعي لا يعي ذلك وإنّ تسلسل الأحداث هو غير اعتباطي بل هو خاضع لنظام وعلى الباحث الاجتماعي الكشف عنه.

ج- البنيوية التكوينية

البنيوية التكوينية (Structuralisme génétique) هي مقاربة سوسيولوجية وظيفية، تهدف إلى دراسة الظواهر الأدبية والفنية والثقافية فهماً وتفسيراً، بغية رصد رؤى العالم، من خلال عقد تماثل ضمني بين النص والمجتمع، مع استقراء الأوضاع الجدلية التي تحكمت في توليد البنية النصية الداخلية. وتعتبر البنيوية التكوينية، أو التوليدية هي فرع من فروع البنيوية نشأت استجابة لسعي بعض المفكرين والنقاد الماركسيين للتوفيق بين طروحات البنيوية، في صيغتها الشكلانية، وأسس الفكر الماركسي أو الجدلي، في تركيزه على التفسير المادي الواقعي للفكر والثقافة عموماً.

وقد ساهم العديد من المفكرين في صياغة هذا الاتجاه مثل المجري جورج لوكاش (Georg Lukács، والفرنسي بيير بورديو ((Pierre Bourdieu. غير أن المفكر الأكثر إسهاماً من غيره في صوغ هذه المقاربة هو الفرنسي الروماني الأصل لوسيان غولدمان(Lucien Goldmann) .

تدرس البنيوية التكوينية النص على أنّه بنية وظيفية منفتحة على الخارج الإحالي والمرجع النصي الواقعي، خلافاً للبنيوية اللسانية التي تدرس النص باعتباره نسقاً بنيوياً داخلياً مغلقاً)[34](.

وتلتقي البنيوية التكوينية مع الواقعية الجدلية في تمثل الجدلية Dialectique/Dialectic)) في استقراء الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية والتاريخية والثقافية، والاستفادة من آراء كارل ماركس (Karl Marx)، وجورج فيلهلم فريدريش هيغل ((Georg Wilhelm Friedrich Hegel، وسيرجي بليخانوف (Sergei M. Plekhanov)، وفردريك أنجلز (Friedrich Engels)، وماكس فيبر ((Max Weber، ولوي ألتوسير((Louis Althusser، وغيرهم)[35](، وتختلف عنها في مفهوم الانعكاس الواقعي. فإذا كانت الواقعية الجدلية ترى أن الأدب مرآة تعكس الواقع بطريقة مباشرة، فإن البنيوية التكوينية ترى أن الأدب بنية جمالية وفنية مستقلة بنفسها. في حين، يعد المجتمع، كذلك، بنية سفلية مستقلة بدورها. بيد أن هناك تماثلاً (Homologie) بين البنيتين: العلوية (النص) والسفلية (المجتمع)، أو انعكاساً غير مباشر على مستوى التطور التاريخي)[36](.

وإذا كانت البنيوية اللسانية مع فرديناند دي سوسير ((Ferdinand de Saussure، وكلود ليفي ستروس، ورومان جاكوبسون، ورولان بارث Roland Barthe))، تعتمد على التفكيك (Déconstruction) والتركيب (Construction)، في تحليل النص المكتوب، فإن البنيوية التكوينية، على الصعيد النظري والمنهجي، تنبني على خطوتين إجرائيتين أساسيتين هما: الفهم (Compréhension) والتفسير (Explication). فالفهم هو دراسة النص الكلي في إطار بنيته الداخلية المغلقة، بغية البحث عن الدلالات الاجتماعية الموجودة في النص أو العمل، دون إضافة أي شيء إلى ذلك. أما التفسير، فيعني مقاربة النص من الخارج في ضوء المعطيات المرجعية الجدلية، كأن نتوقف عند ما هو سياسي، واجتماعي، واقتصادي، وتاريخي، وثقافي…، لذلك فإن التفسير يسمح بفهم البنية بطريقة أكثر انسجاما مع مجموع النص المدروس. ويستلزم التفسير استحضار العوامل الخارجية لإضاءة البنية الدالة،)[37]( التي هي الأطروحة المحورية التي يدافع عنها صاحب النص المكتوب، أو هي الفكرة العامة التي تتواتر وتتكرر في النص.

ومن ثم، ينتقل الدارس إلى تبيان رؤية العالم Vision du monde) La) لدى كاتب النص، وهي أهم عنصر في العملية التحليلية والنقدية للنص المكتوب. ويعني هذا أن البنيوية التكوينية تبحث، عن رؤي العالم. فتبدأ بمرحلة الفهم من خلال تحليل النص داخليا من أجل الوصول إلى البنية الدالة. وبعد ذلك، تفسر تلك البنية في مجالها الواسع، في إطار الأبعاد السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والتاريخية. ويمكن تحديد رؤية العالم بأنّها رؤية إسلامية، أو رؤية وجودية، أو رؤية عبثية، أو رؤية ثورية، أو رؤية مأسوية، أو رؤية ليبرالية، أو رؤية واقعية…، لذلك فهي تعتبر “مجموعة من الأفكار والمعتقدات والتطلعات والمشاعر التي تربط أعضاء جماعة إنسانية (تتضمن، في معظم الحالات، وجود طبقة اجتماعية) وتضعهم في موقع التعارض في مجموعــات إنسانية أخرى” ([38]).

 

ثانياً: البحث في تركيبة البنى: بنية المجتمع وبنية النص المكتوب

1- العلامة

يتمّ الانطلاق من اللغة التي تعتبر المرجع الأول لدراسة الظواهر الاجتماعية. فيقع الاهتمام بالعلامات داخل النص المكتوب أو في تحليل بنية المجتمع ولمّا نهتمّ بدراسة الأنساق والعلامات داخل الحياة الاجتماعية، فنحن نبحث عن المعنى والدلالة، هذا البحث يمكننا تسميته السيميولوجيا فما الذي يعنيه هذا المفهوم؟

في سياق الاهتمام بالمستوى الرمزي للظاهرة الاجتماعية وفي سياق التقاطع بين ما هو اجتماعي ورمزي نتحدّث عن الظهور الحقيقي للمقاربة السيميولوجية بدأت في الستينيات من القرن العشرين بفضل رومون جاكوبسون الذي أصدر في هذا الشأن العديد من المؤلّفات([39])، وكذلك بمساهمات لويس هاجملسف ((Louis Hjelmslev([40]) وأضحت بعد ذلك اختصاصاً قائماً بذاته. وجدت وانتعشت بخاصة في البنيوية الفرنسية واستفادت كثيراً من اللسانيات ومن الأنثروبولوجيا وعلم النفس التحليلي والنقد الأدبي مع “رولن بارث” (Roland Barthe) على نسج معرفة علمية ومنهجية جديدة. وتمثّل الأعمال المخبرية لـ”موريس مارلوبنتي” (Maurice Merleau-Ponty) و”كلود لفي ستروس” رافداً أساسياً في نضج هذه المقاربة. هؤلاء كلّهم انطلقوا من اللغة، طوّروا أعمالهم باستنادهم إلى ظواهر اللغة التي كانت هي المرجع الأوّل لهم.

تدرس السيميولوجيا الأنساق، والعلامات داخل الحياة الاجتماعية، وتبحث عن الدلالة وعن المعنى من خلال العلامة. كما تعالج الأنساق الدالة في الظواهر الاجتماعية. إذ تقرأ الممارسات السوسيوتاريخية من قبيل الأسطورة، المقدّس، الأدب، الإشهار… باعتبارها أنساق من العلامات فتلامس الأنساق الخفية فيها وتكشفها.

فممّ تتكوّن العلامة؟ كما هو معلوم فإنّ العلامة تتكوّن من دالٍّ ومدلول: هما وجهان لعملة واحدة، ويصعب الفصل بينهما إلا إجرائياً، وتكوّن العلاقة بينهما العلامة فيمثّل الدال مستواها المادي فهي له ضرورية ولكنها غير كافية، أمّا المدلول فهو المفهوم الذي يشير إليه هذا الدال فلا يفسح عن نفسه إلا من خلاله.

2- المركّب/التركيب والنسق

ينشأ المرّكب  (Le Syntagme/Le Système) من تسلسل الكلمات، وتكوّن العلاقات بينها، ولا معنى من إمساكه دون التمفصل بين الأجزاء، ودون وحدات تركيبية بما هي وحدات دلالية تتابع وتتقاطع بصورة منظمة فتمنح المعنى. لذا فهو توليفة من العلامات الذي يأتي بعد جهد من التجميع والتصنيف لدوال تتمفصل فيما بينها وتتقاطع فتصبح تركيب. والتصنيف هنا أساسي ويتمّ حسب التقارب في الصوت أو التقارب في المعنى. لهذا فإنّ المركّب في السوسيولوجيا هو بناء الأنساق، أي البحث عن العناصر الناظمة لظاهرة اجتماعية معينة.

أمّا النسق كما رآه دي سوسور في مؤلّفه (Écrits de linguistique générale) ([41]) فهو فلسفة من العلاقات المترابطة وسعي متواصل لبناء الأنساق الدلالية المبثوثة في الحياة اليومية. فالنسق يتكوّن من علامات مترابطة. لهذا فإنّ النسق هو بناء خفي كامن نحصل عليه بعد جهد من القراءة الدلالية.

3- الإيحاء

الإيحاء هو امتداد العلامة، التي تصبح مجرّد دالٍّ نجد ما فوق اللغة: عبره يتمّ البحث عن قراءة من الدرجة الثانية. وسنورد مثالين لمزيد التوضيح:

          المثال الأول: رجل يرتدي ربطة عنق ((dénotation (معنى الدلالة) المعنى الأول وconnotation)) (المفهوم) المعنى الثاني: الإيحاء كلّ مرور من المعنى الأوّل إلى المعنى الثاني. البحث في ما تشير إليه هذه العلامة: ربطة العنق، أي البحث عن الدلالة وعن الرمز. الربط هو الدال ما يأتيني في ذهني من هذه ربطة العنق هو المدلول. هكذا فإنّ الدلالة نجدها حتى في أنظمة غير اللسانية مثل اللباس هو لغة غير مكتوبة، ولا نبحث فقط عن المستوى الأوّل بل نتعداه إلى مستوى الإيحاء. إذاً نحن نتواصل مع ومن خلال اللباس مثلما نتواصل من خلال الحوار والسلوك واللغة المكتوبة.

المثال الثاني: الملعب الرياضي: نتساءل هل هو تدعيم للفريق أم هناك بُعدٌ خفي لا ندركه إلا بالدراسة فنكتشفه: يمكن أن يعتبر نوعاً من تفريغ الكبت في مجتمع مكبوت، نوع من الهوية في أزمة الهويّة. فيه منطق آخر خفي نصل إليه لمّا نبذل الجهد في التفكير. فنصل إلى رمزية الظاهرة الاجتماعية. هنا تداخل بين ما هو رمزي وما هو اجتماعي، ونسعى إلى إدخال نوع من المرونة في المظاهر الاجتماعية التي هي متحجّرة نوعاً ما وننفتح عن كل ما هو رمزي.

ثالثاً: قراءة من الدرجة الثانية للبنى

القراءة من الدرجة الثانية هي بمنزلة السوسيولوجيا التأويلية، أي نتجاوز كلّ ما هو سطحي عارض لنعانق الكامن في الظواهر الاجتماعية ونرى بذلك المجتمع إنتاجاً رمزياً وتوليفة من النصيّات الاجتماعية، التي تحيل بدورها على طائفة من النصوص، نصيات تتناص، تتجاوز، تتفاعل، تتقاطع، كلّ شيء يحدث في مستوى البناء الذهني، تصوّر تناص في ما بينها بأنسجتها الرمزية يتطلّب جهداً للكشف عن الكامن في الرموز. وسنورد مثالين للقراءة من الدرجة الثانية:

1- قراءة جاك بارك للمجتمع العربي

يعتبر جاك بارك  من أكثر الباحثين معرفة سوسيولوجية بالمجتمعات العربية. فقد اهتمّ في دراساته الشرق الثاني l’Orient Second)) ([42]) بالبحث عن مجتمع غير ذلك الذي ترسمه الخرائط. هناك قراءة من الدرجة الثانية للشرق فيغوص في أعماق الشرق عبر العلامات والرموز. فيتحدث بارك عن شرق آخر مثل المجتمع التونسي فيه مجتمع آخر خفي، فهو يغوص في الأعماق ويبحث في أدق التفاصيل والعلامات المخفية للشرق، هو يصوّر شرقاً آخر شرقاً ثانياً ينطق فيه كل شيء عبر العلامة.

الباحث وهو يقوم بجولته الفكرية يتجوّل في أعماق الشرق يخترق المخفي فتنجم أمامه الرموز والأساطير فيتحدّث عن التبدّلات الغذائية، عن القيم، عن العلامة،… ويتناولها بطريقة شاعرية. ويبيّن أنّ معاينة مدن شمال أفريقيا يمكنها أن تسهم في تطوير علم الاجتماع الحضري لأنّها تبرز دور العلامة أو دور التنازع بين العلامات الحضارية. فالإمساك بالعلامات الحضارية كانت هاجساً من هواجس جاك بارك. وصيد العلامات جعله يبحث في تغيير المظهر القديم.

2- الإشهار

يمثّل الاشهار نصّاً مولّداً للمعنى، إنّه نسيج من الدوال، وفيه جهد كبير من التأويل: الصورة التي ترتسم في الذهن، تتقاطع فيما بينها وتتمفصل فتمكّن من بلوغ الدلالة الكامنة خلف ما هو ظاهر وتظهر هذه الدلالة في أعمق أشكال تجانسها. وينخرط النص الإشهاري بما هو نسيج من العلامات المتقاربة والمتقابلة في إنتاج الدلالة والمعنى. وكمثال توضيحي نورد “الإشهار التجاري” فهو ليس نصّاً عفوياً مرتجلاً بل هو مشبع بالرموز والمعاني مثال رمز التفّاحة في الحواسيب: النظرة المتسرّعة قد لا تدرك الصلة القائمة بين التفّاحة – كرمز إنساني يجمع بين البساطة والتجريد والانتماء إلى دائرة الأسطورة – والحاسوب بكونه تقنية حديثة متطوّرة من آخر ما جاءت به قرائح البلدان. الحاسوب فيه من التعقيد ما يبعث الخوف في النفس. والتفاحة هي الثمرة التي أثارت في آدم حبّ الاطلاع: مغامرة الإنسانية بدأت من تفّاحة في معرفة أسرار الكون، التفّاحة هي المغامرة الأولى، وهي مقضومة أي لا تخشى شيئاً واصل أنت فلا خوف عليك هناك من سبقك.

هكذا يمكننا القول: لئن تراجعت البلاغة الكلاسيكية (بيان، بديع، علم المعاني…) بما هي فن إجادة القول فإنّها اليوم تعود بكثافة في ما يستهلك يومياً (الصورة الإشهارية) حسب رولان بارت  في كتابه الميثولوجيا([43]) للصورة بلاغة قصدية. وإنّ الأشكال الحديثة للتبادل الاجتماعي تنزع نحو تكثيف بُعد استعاري في المعايير المتداولة بين الناس، نتكلّم كثيراً بالاستعارة دائماً نتجاوز المعنى الظاهر إلى المعنى الإيحائي([44]).

رابعاً: التلازم الوثيق بين البنى: بنية المجتمع وبنية النص المكتوب

في علم الاجتماع نمزج بين التفسير والفهم: التفسير مثلما ذهب إلى ذلك “إميل دوركايم” في تفسير ظاهرة اجتماعية بظاهرة اجتماعية أخرى، فتفسّر الظاهرة الاجتماعية بما هو اقتصادي، سياسي، ثقافي… فيمكن الحديث هنا عن الظاهرة الاجتماعية الكليّة. أمّا الفهم فيمثّل المقاربة الأساسية لـ”ماكس فيبر”، الفهم الذي يؤدي إلى التأويل، ويشير إلى معرفة البنية الداخلية للظاهرة الاجتماعية ونفهم من التأويل الدلالة التي تمثّلها هذه الظاهرة بالنسبة إلى الوعي الفردي وينبغي أن يفضي الفهم التأويلي إلى التفسير: أي العلاقة بين البنية الاجتماعية ومعطياتها التاريخية. فكيف يمكننا أن نفهم ونفسّر في هذا المستوى التلازم الوثيق بين البنى (بنية المجتمع وبنية النص المكتوب)؟

إنّ العلاقة بين النص المكتوب (أدب، شعر، مسرح، نص إشهاري…) والمجتمع، هذا التلازم الوثيق بين البنى: يسمّى “التجانس/التماثل البنيوي” يقول لوسيان غولدمان Lucien Goldmann)) تكمن العلاقة بين الوعي الجماعي والإبداعات الفردية الكبرى لا في محتوى هذه الإبداعات بل في تجانس عميق وتماثل البنى يعبّر عنها الأديب بمحتويات مخيالية شديدة الاختلاف عن محتوى الواقع المتعلّق بالوعي الجماعي. حسب غولدمان يوجد في الأثر الفني أو الأدبي علاقة بين عناصر مخيالية (المخيال: هو تحويل لمعطيات تجريبية إلى أثر فنّي ويفسّر تبعية الفنان إلى مجتمعه وقدرته على التحرّر منه في نفس الوقت، فهو ينطلق من الواقع ويتجاوزه لأنّ هناك أسبقية للواقع) ينبع فيها التنظيم البنيوي من التمثّلات الجماعية والفكرة المركزية: هناك علاقة بين بنية عالم الأثر ووعي مجموعة اجتماعية معيّنة، (العلاقة بينهما: تلازم/تماثل/تجانس). علاقة بين بنى وليست انعكاس نص على واقع. فينشأ الأثر الأدبي وهذه النشأة توجد في المستوى البنيوي: البنية العقلية وبنية النص المكتوب، لتنظيم رؤية العالم لطبقة معيّنة معنى هذا أنّ بنية الأثر هي نتاج بنية التمثّلات الجماعية ويكون فيها المؤلّف، المبدع الفنان نتاج الروابط الطبقية ضمن نسق اقتصادي معيّن.

إن إنتاج النص ليس انعكاساً بسيطاً للوعي الجماعي الواقعي، ولكنه يميل دائماً إلى أن يبلغ درجة عالية من الانسجام، تعبّر عن الطموحات التي ينزع إليها وعي الجماعة التي يتحدث الكاتب باسمها. ويمكن تصوّر هذا الوعي كحقيقة موجهة من أجل حصول الجماعة على نوع من التوازن في الواقع الذي تعيش فيه. وهذا يعني أن العمل الأدبي أو الفني هو تتويج على مستوى الانسجام لمختلف التيارات العائدة لوعي جماعة اجتماعية معينة، وهو ما يعني أيضاً أنه إبداع للواقع وتعبير عنه)[45](.

كما ذكرنا آنفاً فإن العلاقة بين النص والمجتمع ليست علاقة آلية أو انعكاسية أو علاقة سببية دائماً، بل على العكس، فإنها علاقة ذات تفاعل متبادل بين المجتمع والنص. وبتعبير آخر إن أشكال النصوص – وليست محتوياتها – تتماثل مع تطور البنيات الاجتماعية والاقتصادية والتاريخية، ويعني هذا أن هناك تناظراً بين البنية الجمالية النصية والبنية الاجتماعية بطريقة غير مباشرة ولا شعورية، وأي قول بالانعكاس بينهما يجعل النص محاكاة واستنساخاً وتصويراً جافاً للواقع، ويعدم في النص روح الإبداع والـتخييل والاستيتيقيا الفنية. إذاً “هناك تناظر دائم في كل عمل إبداعي… بين واقعه وموضوعه، بين بنية شكلية ظاهرة، وبنية موضوعية عميقة، بين اللحظة التاريخية والاجتماعية واللحظة الإبداعية، بين سياقية الجدل الروائي، وسياقية الجدل الاجتماعي”)[46](.

ويمكننا أن نتبيّن هذا التجانس البنيوي خاصة في كتاب غولدمان الإله الخفي ([47]) ووجود علاقة من التجانس/التماثل البنيوي Homologie structurelle)) بين بنى عالم الأثر (النص الأدبي، الشعر..): بنية النص الشعري، الإبداعي والبنى العقلية لمجموعة معبّرة. ليعبّر عنها غولدمان حيث يقول “العلاقة الأساسية بين الخلق الأدبي والحياة الاجتماعية لا تهمّ مضمون هذين القطاعين، بل إنّ الطابع الجماعي للخلق الأدبي مأتاه أنّ بنى عالم الأثر تجانس البنى العقلية لمجموعة اجتماعية معيّنة أو هي في علاقة معها يمكن إدراكها وفهمها”.

لهذا هناك مرحلتان: مرحلة أولى يتحدّث فيها غولدمان عن بنية النص، أي يتحدّث عن الفهم (مواصلة لسوسيولوجية فيبر)؛ فالفهم يحدد بنية النص ويصف الترابط الدّاخلي لبنيته. ثمّ مرحلة ثانية وهي التفسير وذلك بربطها بالسياق الاجتماعي والتاريخي. فالتفسير إذاً هو ربط هذه البنية أو الشبكة بإطارها الأوسع لدى الجماعة الاجتماعية التي ينتمي إليها المبدع: هويتها، شروطها التاريخية، وضعيتها الاجتماعية… ويتمّ عبر التفسير إدماج بنية النص الأدبي، ضمن بنية أوسع هي رؤية العالم لمجموعة اجتماعية التي ينتمي إليها الكاتب عاطفياً وفكرياً. ولا يتسنّى هذا الإدماج إلا في علاقة من التجانس والتماثل بين البنيتين. فالجزء هو بنية النص والكل هو السياق الاجتماعي لهذه البنية: أي في علاقة من التماثل أو التعادل بينهما. فكلّ بنية تفسّر الأخرى.

المنهج الذي يعتمده غولدمان هو فهمي، تفهّمي تفسيري في آن واحد، لأنّ إلقاء الضوء على بنية دلالية يمثّل عملية فهم، في حين أنّ إدماجاً في بنية أوسع يمثّل عمليّة تفسير. فلا يمكن قراءة الواقع وفهم مختلف أبعاده إلّا إذا نظرنا إليه باعتباره حاملاً للمعنى ومتكامل العناصر والأجزاء. ولذلك – في كتابه الإله الخفي – كان حريصاً على احترام الطابع البنيوي للظواهر الإنسانية والاجتماعية. ومن أجل الاستجابة لهذه الحاجة نحت غولدمان مفهوماً جديداً هو البنيوية التوليدية النشوئية:(Structuralisme génétique) : فالمقصود بالبنيوية التوليدية – كما بيّنا سابقاً – ليس وصف ودراسة البنى من حيث هي كذلك بل في إطار قراءة جدلية تأخذ بعين الاعتبار سيرورة البنى ووظائفها. (البنيوية التوليدية هي مقاربة تريد أن تدرس البنى الاجتماعية ليس باعتبارها جامدة وساكنة بل باعتبارها في حالة تطوّر). توليد المعاني من دراسة الظواهر الاجتماعية وهي فكرة ماركسية في أصلها أراد منها غولدمان أن يتميّز قياساً عن البنيوية التقليدية مع كلود ليفي ستروس. لذلك فهي تعتبر مجاوزة للبنية التقليدية ذات النزعة اللسانية لـ لفي ستروس التي تعتمد بالأساس على المطابقة بين الظواهر الاجتماعية: القرابة، الدين… والظاهرة اللسانية. ويكون النسق في البنية التقليدية نسقاً مغلقاً ليس مفتوحاً على العناصر الخارجية؛ فعناصره داخلية مكتفية بذاتها منتهية ولا تحتاج إلى عناصر برّانية مثل نسق اللغة. وتنبني البنيوية التوليدية على مبدأين: مبدأ أوّل يتمثّل في أنّ كلّ سلوك إنساني هو محاولة لتقديم جواب دال على وضعية مطروحة. والمبدأ الثاني يقوم على وجود تماثل بنيوي ((Homologie structurel بين البنى الذهنية للمجموعات الموجودة وطبيعة العالم المتخيّل الذي يريد أن يعبّر عنه المبدع. كما يستند مفهوم البنيوية التوليدية في مرجعيته إلى المقاربة الجدلية الماركسية بدليل أنّ غولدمان كان مصرّاً دائماً حين قرأ أعمال “كانط” والمسرحي رسين Racine)) على تطبيق المقاربة الماركسية ولذلك توصّل إلى أنّ أيّ عمل أدبي أو فنّي هو جزء من الكل (une partie d’un tout) ولذلك فالمبدأ العام الذي تستند إليه القولدمانية هو تفسير الكل اعتماداً على الجزء أي أنّه لا يمكن أن نفهم الكلّية دونما اعتماد على أجزائها.

لقد حرص غولدمان على إثبات مبدأ التجانس بين الجزء والكل. وأتى بمفهوم جديد هو “رؤية العالم”: فكلّ عمل أدبي أو فني هو تعبير عن رؤية العالم. فرؤية العالم مثلما يعرّفها غولدمان أساساً في كتابه الإله الخفي وجزئياً في لعلم الاجتماع الروماني ([48]) هي تعني “مجمل الاتجاهات الأساسية ذات الطبيعة الفكرية والمشاعرية المسيطرة على مجموعة اجتماعية معينة أو فريق اجتماعي معيّن وتكون خاصياتها الأساسية هي خاصية التجانس”([49]).

إنّ الكاتب أو الفنان هو نوع من الفاعل الجماعي يعبّر عن وعي طبقة اجتماعية ينتمي إليها، أي إن هذا الفاعل الجماعي يترجم آمال وتطلعات الطبقة الاجتماعية، وقادر بخاصة على أن يصوغها صياغة فنية وجمالية وفكرية متميّزة تتناظر مع معادلها الموضوعي (الواقع). ومن ثمّة إذاً فإنّ دور الكاتب حسب غولدمان هو اكتشاف رؤية العالم لدى مختلف المجموعات الاجتماعية. أي كيف ننظر إلى الإنسان وإلى المجتمع في نفس الوقت؟ وهذه مسألة مهمّة لأنّها تقودنا إلى مفهوم جديد ينبثق من المفهوم الأوّل وهو التماثل l’homologie)).

اعتماداً على أن الجزء يفسّر الكل والكل يفسّر الجزء، ومن هنا جاءت فكرة التمثال التي تدلّل على أنّ بنية اجتماعية لا تفسّر إلا اعتماداً على بنية اجتماعية أخرى. فعندما نفسّر العمل الأدبي والفني ضمن بنية اجتماعية من خلال عملية الإدماج فإنّ البنية الاجتماعية لا تفسَّر ولا تُفهم إلا من خلال بنية اجتماعية أخرى موجودة داخل المجتمع، أي البنية تفسّر البنية. وهنا يتأكّد مفهوم التماثل البنيوي. فأيّ مؤلّف كان هو يعبّر عن هذا التماثل بين البنى الاجتماعية. فإذا ما تأملنا كتابه لعلم الاجتماع الروماني فإننا نجدها على علاقة وثيقة ببنية المجتمع ونمط الإنتاج والسوق في الآن نفسه، فغولدمان يتحدّث عن علاقة بين اقتصاد السوق وبين البنى الذهنية وبين البنى الاجتماعية. فمع تشكّل المجتمع الرأسمالي فإنّه حصل نوع من التماثل بين منطق السوق وبين الإنتاج الفني والأدبي. بمعنى أنّ قيمة الاستعمال هي مستمدّة بالأساس من قيمة السوق. ويقول غولدمان في هذا السياق من كتابه من أجل علم الاجتماع الرواية عبارة مهمّة يمكن ترجمتها: “إنّ الحياة الاقتصادية هي التي تكوّن الجزء الأهم والأبرز من الحياة الاجتماعية الحديثة فكل علاقة أصيلة من الجانب الكيفي للأشياء والكائنات تتجّه نحو التلاشي تماما مثل العلاقات بين الأفراد والأشياء: ذلك أنّ العلاقة الوسطية أصبحت علاقة متراجعة القيمة. لماذا؟ لأنّ القيمة المعتمدة في التقويم هي علاقة كميّة”([50]).

لقد طبّق غولدمان هذا المتن نظرياً لتحليل النص الأدبي، فرأى أنّ هناك مجتمعاً داخل النّص الأدبي. هناك تطابق وتماثل بين بنية النص والبنية العقلية الذهنية لمجموعة اجتماعية معيّنة. وما يعبّر عنه المبدع فكرياً وذهنياً موجود في بنى المجتمع. وتعدّ قراءة غولدمان مساهمة مهمّة في قراءة الظاهرة الأدبية والثقافية اعتماداً على قراءة منطق بنى المجتمع. فهو لا يقرأ الرواية والأدب والفن فقط بل يقرأ أيضاً بنية المجتمع: إنّ هاتين القراءتين لا تتباعدان ولكنّهما يتكاملان.

الاستنتاجات

  • إنّ للمجتمع بنية يمكننا قراءتها مثلما نقرأ بنية النص المكتوب.
  • يقرأ الباحث الاجتماعي ظواهر مشبعة بالدلالة ويخوص فيها عبر البحث والتنقيب ويصل إلى عمق التأويل فيتحوّل بذلك من نسيج الفعل الاجتماعي إلى نص مكتوب.
  • لمّا يتحوّل الخطاب السوسيولوجي في دراسته للبنية إلى أنسجة رمزية مشبعة بالدلالة ولا يمكن قراءة الواقع إلا بإعادة بنائه من جديد. فإنّه يتمّ إنتاج نصّ جديد عبر الأدوات المنهجية التي تتيح الغوص في الواقع الاجتماعي لفهمه.
  • ينتج من التلازم الوثيق بين البنى (بنية المجتمع وبنية النص المكتوب) تجانسٌ بنويٌ Homologie) structurel)، تحلّ فيه كل بنية في الأخرى.
  • النص شكل من أشكال التعبير الذي يبرز رؤية متكاملة للعالم، وهذه الرؤية ليست بظاهرة فردية بل هي ظاهرة اجتماعية.
  • إن النص لا يعكس الوعي الجمعي فحسب، بل على العكس من ذلك يقدم بشكل متقن درجة المطابقة البنائية التي يدركها كاتب النص بعمق الوعي الجمعي نفسه فقط. وهكذا فإن النص يلون نشاطاً جمعياً عبر الوعي الفردي لمبدعه.
  • النص المكتوب هو انعكاس للمجتمع بل هو تخيّل متخيّل، مخيال إبداعي يرتبط عضوياً بالوجود الاجتماعي ويتجذّر في التجربة الجماعية. هذا التصوّر السوسيولوجي لمعنى النص المكتوب وتعبيراته الاجتماعية يتعارض مع مقولة: “الكتابة من أجل الكتابة” التي تضيّق الخناق على الكتابة والمعنى والدور الاجتماعي وتعبيراتها الاجتماعية.