مقدمة:

تسعى هذه المقالة لتحليل مسار تاريخ قائد قومي ثوري فلسطيني رفع راية المقاومة وقضى حياته إما معتقلاً في السجون الإسرائيلية والفلسطينية، وإما مطارداً من قبل الاحتلال والسلطة الفلسطينية. وهو الأمين العام الوحيد الذي اعتُقل عند السلطة وما زال معتقلاً في السجون[1] الإسرائيلية، وتحمَّل مسؤولية قرار الجبهة الشعبية بتصفية الوزير الإسرائيلي المتطرف رحبعام زيفي في القدس الغربية في 17 تشرين الأول/أكتوبر 2001 رداً على اغتيال إسرائيل للأمين العام للجبهة الشعبية أبو علي مصطفى في مكتبه في رام الله 27 آب/أغسطس 2001.

لقد اغتال الاحتلال الإسرائيلي الكثير من القيادات الفلسطينية، إلا أن قيادات الأحزاب لم ترفع سقف عملياتها الفدائية وتقوم بالرد بالمثل. ولكن فكر وشخصية القائد سعدات تختلف عن بقية القادة الفلسطينيين، فهو رافع شعار الرأس بالرأس، وهذا ما تسعى المقالة لتناوله وتشريحه ليكون بيد الباحثين والمهتمين بالشأن الفلسطيني.

وتسعى المقالة للإجابة عن عدة أسئلة إشكالية تتمثل أهمها بالآتي:

  • ما الذي أجبر السلطة الفلسطينية على التورط باعتقال سعدات بعدما فشلت إسرائيل في الوصول إليه؟
  • ما هي الأسباب التي دفعت إسرائيل لهدم سجن أريحا واعتقال سعدات ورفاقه الذين وضعوا حداً لحياة الوزير الإسرائيلي رحبعام زئيفي؟
  • هل تتحمل السلطة مسؤولية اعتقال سعدات ورفاقه من قبل إسرائيل من سجن أريحا؟
  • كيف يمكن وصف الجانب التنظيمي في حياة الرفيق القائد سعدات وكيف أثر في مسيرة الجبهة؟
  • ما هو مصير مستقبل النهج الثوري الذي تبناه سعدات، وكيف أثرت عملية اغتيال زئيفي على مسار المقاومة الفلسطينية؟

أولاً: حياته الشخصية والتنظيمية

 

1 – نبذة مختصرة عن حياته الشخصية

ولد أحمد عبد الرسول سعدات في مدينة البيرة في 23 شباط/فبراير عام 1953، لأسرة مناضلة هجِّرت من قريتها الأصلية دير طريف قضاء الرملة سنة 1948 عقب الاحتلال الصهيوني لفلسطين. عاش طفولته وترعرع في مدينة البيرة، حيث درس في مدرسة الأمعري التابعة للأنروا، ثم في مدرسة البيرة الجديدة، ومن ثم في مدرسة الهاشمية الثانوية. وبعد نجاحه في الثانوية العامة في الفرع العلمي، درس الرياضيات في معهد المعلمين في مدينة رام الله وتخرج فيه عام1975 [2].

كان والده يعمل في مصنع للقمح قرب قلنديا، وبعدها حارساً لمعهد دار المعلمين. وأمه نجيبة كانت لبنانية وكانت تكبر أباه بخمسة وعشرين عاماً. استأجر سعدات بيتاً في مدينة البيرة وتزوج فيه عبلة عام 1981، وهو ما زال حتى اليوم منزل العائلة، وعاشت معهما أمه بعد زواج أبيه بأخرى، وقامت عبلة برعاية والدته حتى وفاتها[3] في 26 آب/أغسطس 2006 عن عمر يناهز 77 عاماً، وكان سعدات حينها معتقلاً في سجون الاحتلال[4]. أنجب سعدات من عبلة أربعة أطفال؛ غسان وإباء وصمود ويسار.

وكان لسعدات شقيق أصغر اسمه محمد من أبيه، انتسب إلى صفوف الجبهة عام 1998، ومع بداية عام 2000 التحق بجناحها العسكري. اعتقل محمد من قبل السلطة في نهاية سنة 2001 وخضع لتحقيق وتعذيب قاس ومن ثم أُفرج عنه. وفي آب/أغسطس 2002 اشتبك محمد مع القوات الخاصة الإسرائيلية التي نصبت له كميناً من أجل اغتياله، ودارت بين الطرفين معركة أسفرت عن استشهاد محمد. تجدر الإشارة هنا إلى أن قوات الاحتلال قامت بإعدامه خارج القانون حيث كان بإمكانهم اعتقاله حياً [5]. وفقاً لرواية فيرا ماري التي شهدت عملية الاغتيال وهي محاضرة في جامعة بيرزيت، حيث تروي أنها لم تستطع استيعاب وحشية ما رأت، فقد جاءت القوات الخاصة لقتله لا لاعتقاله[6].

إن اغتيال محمد كان رسالة لأخيه أحمد سعدات وللشارع الإسرائيلي بأن إسرائيل استطاعت الانتقام لمقتل زئيفي بقتل محمد. فإسرائيل تدرك مدى العلاقة ما بين محمد وسعدات، فمحمد ليس مجرد أخ لسعدات وإنما صديق وحافظ أسرار والمسؤول اللوجستي لكتائب أبو علي مصطفى، كان سعدات يثق به ثقة عمياء. ويذكر أن السلطة الفلسطينية استغلت هذه العلاقة فقامت باعتقاله للضغط على سعدات للقبول بمقابلة مدير المخابرات، وهذا ما حصل فعلاً. فكلا الطرفين – إسرائيل والسلطة – لعبتا على وتر الضغط على سعدات من خلال الشهيد محمد[7].

2 – حياته التنظيمية

انضم سعدات إلى الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في عام 1969، ومن قبلها كان منضوياً في أطر العمل الطلابي. وفي المؤتمر العام الرابع للجبهة عام 1981 انتخب عضواً في اللجنة المركزية العامة للجبهة، في الوقت الذي كان فيه عضواً في لجنة فرع الضفة الغربية، ومنذ العام 1994 أصبح مسؤولاً عن فرع الضفة الغربية. وفي المؤتمرين الخامس والسادس للجبهة اللذين انعقدا في 1993 و2000 على التوالي، أعيد انتخابه لعضوية اللجنة المركزية والمكتب السياسي. وفي تشرين الأول/أكتوبر 2001 انتخب أميناً عاماً للجبهة. ترشح لانتخابات المجلس التشريعي عام 2006 وترأس قائمة الشهيد أبو علي مصطفى، وفاز هو واثنان من أعضاء المكتب السياسي. وفي المؤتمر العام السابع الذي عقد في أواخر عام 2013 أُعيد انتخابه بالإجماع أميناً عاماً للجبهة وانتخب أبو أحمد فؤاد[8] نائباً له. وقد تقلَّد سعدات مسؤوليات متعددة ومتنوعة داخل السجون. ويعتبر سعدات رجل التنظيم الأول قبل انتخابه أميناً عاماً، فهو يحظى باحترام قاعدة الجبهة[9].

ويرى فيه مروان عبد العال بأنه مثل القيمة الوطنية، لأنه يمثل نهجاً ثورياً وسيرة جماعية لا تختصّ بشخص محدد إنما تختص بتجارب جماعية وغيرية مبنية على الإيثار والتضحية والتحمّل والصبر والتحدي، لذلك هو نقيض بالكامل للأنانية التنظيمية والفئوية والذاتية والحسابات الشخصية السائدة في ساحتنا مع الأسف. فلم يكن يعني بالنسبة للرفاق المرتبة التنظيمية بل المرتبة الأخلاقية وليس القائد بل التجربة الغنية، أو موقع الأمين العام بل منهج التفكير والنموذج النضالي والمدرسة[10]. ويوافقه الرأي عبد الناصر فروانة، فسعدات حسب وصفه شكَّل بتاريخه وسلوكه، بحاضره وماضيه، حالة فريدة وتجربة ثورية متكاملة، وعكس في سلوكه مقولة الشهيد غسان كنفاني «الإنسان قضية»[11].

وفي إحدى الرسائل المهربة للقائد الحمساوي حسن سلامة الذي عاش عاماً كاملاً مع سعدات في زنزانة واحدة في سجن ريمون، يصف فيها سعدات بأنه لا يشعر بطعم الحياة إلا بالمشاركة والمساعدة في كل شيء، فهو يعشق مساعدة الآخرين دون النظر إلى اللون أو الشكل، مبدؤه في الحياة مساعدة الجميع، يحترمه الجميع لأنه يحترم الجميع، فهو رجل صلب قوي يعيش من أجل وطنه وقضيته وشعبه وينسى نفسه التي هي آخر ما يفكر بها[12].

كما بيَّن أمين عام حزب الشعب بسام الصالحي أن سعدات يمتاز بصلابة كبيرة، وصمود جبار في مواجهة المحققين الإسرائيليين، تنطلق صلابته من رؤية فكرية بأفضلية الكفاح بكل الوسائل حتى لو أدى ذلك إلى التضحية بالروح[13].

لقد شكل سعدات مدرسة ثورية ووحدوية وأخلاقية في السجون، وكان وما زال قدوة الأسرى، فعندما أضربَ مع رفاقه لمساندة إضراب أسرى حركة فتح، وجّه طعنة لإدارة السجون التي حاولت الالتفاف على قيادة الإضراب بالتفاوض معه، فكان موقفه منطلقاً من منظور وحدوي هدفه الحفاظ على وحدة أسرى فتح بأن هناك قائداً للإضراب تفاوضوا معه واسمه مروان تعرفوه جيداً، مجسداً بذلك نهج الحكيم وأبو علي في تدعيم ركائز الوحدة الوطنية[14].

ويبين عبد الرحيم ملوح عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، بأن سعدات أمضى الجزء الأكبر من حياته في سجون الاحتلال، وفي المطاردة والملاحقة الأمنية، فسعدات وفيّ ومخلص للوحدة الوطنية، لقناعته بأنه فقط عن طريقها نستطيع الوصول إلى أهدافنا، وإنها الحاضنة الأساسية للكل، التي تتيح لنا البقاء دوماً على المسار الصحيح[15].

سعدات مختلف عن باقي الأمناء العامّين للأحزاب الفلسطينية والعربية وحتى العالمية، فهو قائد من نوع آخر ومن طبيعة مختلفة، عاش حياته الخاصة والعامة في انصهار تام مع الحزب والوطن؛ فهو لا يعرف الحياة العائلية الخاصة، فحتى أسرته لا تعرف معنى العيش مثل باقي الأسر. فقد قبل على نفسه المشقة ورفض كل الامتيازات والعروض والإغراءات التي تدعو إلى التغيير والتطويع[16].

ولكن سعدات رغم ظروفه الأمنية الصعبة كان يحاول تأدية جميع الأدوار في محاولة منه لتعويض غيابه عن أبنائه حيث كان يرسل لهم الهدايا في أعياد ميلادهم. وتبين عبلة أن عزاءها الوحيد في غياب زوجها هو احترام الناس وتقديرهم لها[17].

ثانياً: الاعتقال والمطاردة

 

1 – من جانب الاحتلال الإسرائيلي

اعتقل سعدات مرات عديدة من قبل قوات الاحتلال بسبب نشاطه المقاوم، وكان أول هذه الاعتقالات سنة 1969 واعتُقل حينها لمدة ثلاثة أشهر، وفي سنة 1970 اعتُقل لمدة ثمانية وعشرين شهراً، وأعيد اعتقاله سنة 1973 ممضياً عشرة أشهر، وفي 1975 اعتُقل لمدة خمسة وأربعين يوماً. واعتُقل في سنة 1976 لمدة أربع سنوات، وفي سنة 1985 اعتُقل لمدة سنتين ونصف السنة. وبعد الانتفاضة الأولى اعتقل إدارياً لمدة تسعة أشهر سنة 1989 [18].

بدأت مطاردة سعدات من قبل الاحتلال في سنة 1989 بعد خروجه من السجن ولغاية سنة 1992 عندما اعتُقل إدارياً لمدة ثلاثة عشر شهراً. مع العلم أنه كان ممنوعاً من الزيارات من قبل إدارة السجون ما بين 1989 و1992 [19]. وبعد خروجه من السجن أعادت إسرائيل مطاردته، فترك مدينة رام الله التي كانت لا تزال تحت السيطرة الإسرائيلية وانتقل للعيش في مدينة أريحا التي كانت من أوائل المدن الفلسطينية التي سلمت للسلطة آنذاك. وبعد استلام السلطة لمدينة رام الله عاد سعدات للمدينة في ظل مطاردته من قبل قوات الاحتلال لحين اعتقاله من قبل إسرائيل من سجن أريحا [20].

وفي أواخر سنة 1999 اتخذ المكتب السياسي للجهة الشعبية قراراً بالضغط على سعدات للحدِّ من تحركاته، وتغيير سكنه والاختفاء عن الأنظار. وفعلاً بدأت الاستخبارات الإسرائيلية تطارد سعدات إلا أنها فشلت في الإمساك به أو اغتياله حتى اغتيال الشهيد أبو علي مصطفى، وحينها اجتمعت الجبهة الشعبية وأكدت ضرورة استمرار اختفاء سعدات وعدد من قادة الجبهة وبالأخص قادة الجناح العسكري المستهدفين. وفي تشرين الثاني/نوفمبر سنة 2001 تنافس الاحتلال وأعوانه وأجهزة السلطة على الإمساك به حتى إن السلطة وزعت صوره على جميع أجهزتها[21].

كما أقدمت قوات الاحتلال على اعتقال عبلة سعدات اعتقالاً إدارياً لمدة أربعة أشهر بأمر من وزير الحرب الإسرائيلي[22] في 23 كانون الثاني/يناير 2003 من جسر الكرامة أثناء توجهها إلى البرازيل للمشاركة في المنتدى الاجتماعي المناوئ للعولمة [23].

وفي 14 آذار/مارس سنة 2006 اعتُقل من سجن أريحا بعد انسحاب المراقبين الأمريكيين والبريطانيين من السجن[24]، حيث اقتحمت قوة عسكرية إسرائيلية مدينة أريحا وحاصرت السجن لمدة 12 ساعة، وبدأت بإطلاق صواريخ في محيط السجن من قبل الطائرات المروحية، إلا أن من بداخل السجن رفضوا تسليم أنفسهم، فبدأت قوات الاحتلال بهدم أجزاء من السجن، ومن ثم تلقت قوات الاحتلال مكالمة هاتفية من أمن السلطة الموجود داخل السجن تفيد بأن جميع من في السجن سيسلمون أنفسهم، واعتُقل سعدات ورفاقه المسؤولون عن اغتيال زئيفي والعميد فؤاد الشوبكي وغيرهم[25]. وحكمت عليه محكمة الاحتلال في 25 من كانون الأول/ديسمبر سنة 2008 بثلاثين سنة قضى منها لغاية الآن اثنتي عشرة سنة [26]. وجدير بالإشارة إلى أن سعدات في كل المرات التي اعتُقل بها لم يتعاون مع المحققين ولم يقدم اعترافاً ولو بكلمة واحدة فهو صاحب شعار الاعتراف خيانة.

وعبَّرت الجبهة الشعبية عن موقفها من اعتقال أمينها العام في بيان صدر عنها في 14 آذار/مارس 2006 حمَّلت فيه قوات الاحتلال الصهيوني والتواطؤ الأمريكي البريطاني المسؤولية المباشرة عن جريمة اختطاف سعدات، إضافة إلى تحميل السلطة الفلسطينية وأجهزتها الأمنية المسؤولية عن اعتقاله ابتداءً [27].

وخلال محاكمته رفض سعدات الاعتراف بشرعية محكمة الاحتلال بالإضافة إلى رفضه الوقوف للقضاة. وفي مداخلة له خلال المحاكمة بيَّن أن ما يسميه الاحتلال «المخالفات الأمنية» هي في حقيقة الأمر واجبات وطنية بغض النظر إن كانت حدثت أم لم تحدث، مضيفاً أن أي حكم قد يصدر بحقه لن يوقف نضالاته [28].

ويصف سعدات عملية اعتقاله ورفاقه من سجن أريحا بأنهم كانوا كالرهائن لحين طلب إسرائيل، وحين برزت الحاجة لاستلام دولة الاحتلال الرهائن انسحب الأجانب وصمتت السلطة واقتحم الإسرائيليون السجن وحصلوا على ما يريدون. مضيفاً أنه تم تركهم لوحدهم بعد تسليم أفراد الأجهزة الأمنية أنفسهم للاحتلال [29].

وتبين وفاء أبو غلمة زوجة قائد كتائب أبو علي مصطفى، أن أسرى المقاومة الموجودين في سجن أريحا بحثوا عن أسلحة داخل السجن ليصدوا هجوم قوات الاحتلال ولكنهم وجدوها فارغة بلا ذخيرة، وقوات الأمن الوطني التي كان من المفترض أن تقوم بحماية الأسرى استسلموا وخرجوا وأيديهم فوق رؤوسهم بعد إطلاق الاحتلال أول رصاصة [30].

وهناك وثيقة تعود لصائب عريقات صادرة في الثاني من آذار/مارس يهدد فيها المراقبون الأمريكيون والبريطانيون بمغادرة سجن أريحا. إضافة إلى قيام السلطة بسحب الأسلحة من شرطة السجن قبل يومين من اقتحامه من جانب القوات الإسرائيلية [31].

يؤكد الباحث أن السبب الرئيس لاعتقال سعدات من سجن أريحا، هو خوف إسرائيل من أن ينتهز الفرصة ويفلت من قبضة السلطة، أو أن تتغير الظروف وتفتح السلطة له المجال بالخروج من السجن تحت الضغط الشعبي والوطني كما حصل مع العديد من المعتقلين في سجون السلطة. لذلك سارعت إسرائيل بالاتفاق مع بريطانيا وأمريكا وبقية الأطراف على اعتقاله، لأنها على قناعة تامة بأن سعدات لو تمكن من تحرير نفسه هذه المرة لن تتمكن من الوصول إليه. في حين يرى أحد قادة الجبهة الشعبية أن الأسباب التي دفعت إسرائيل لاعتقال سعدات لها عدة أبعاد. أولها البعد الاستراتيجي، الذي يتمثل في وصول ذراع المقاومة إلى هدف نوعي بهذا المستوى اعتبر سابقة استراتيجية، فإسرائيل تظن أن ممارسة العقاب سيشكل رادعاً للآخرين. والبعد القيمي، وهو محاولة لاغتيال رمزية البطولة، لا يريدون نموذجاً فلسطينياً يحمل قيماً من هذا الطراز. والبعد السياسي، فالاحتلال هو الفاعل الرئيس الذي يملك الحق الحصري في السلطة دون سواها بل إنه رسم مؤشراً انحدارياً حيث بدأ في تفريغ السلطة من مضمونها ودورها الوطني وتحويلها لمجرد وكيل محلي لإدارة الأمور الحياتية للفلسطينيين داخل مناطق السلطة [32].

وخلال فترة سجنه حرصت إسرائيل على نقله من سجن لآخر، لحرمانه من زيارات المحامي، وخوفاً من استقراره، ومن أجل الحد من تأثيره في الأسرى. بالإضافة إلى استخدام الاحتلال سياسة العزل الانفرادي المتكرر بحقه، والعزل الانفرادي عبارة عن زنزانة صغيرة لا تزيد مساحتها عن 1.8×2.7 متر تشمل دورة المياه، ولا يوجد فيها مجال للمشي والحركة، وتتميز بقلة التهوية وبرطوبتها العالية، حيث لا يوجد فيها سوى نافذة واحدة صغيرة وقريبة من السقف[33]، ويذكر أنه تم عزل سعدات طيلة سنوات 2009 و2010 وحتى 2011 حيث كانت هذه أطول مدة قضاها في العزل الانفرادي[34]. وقد حاول الاحتلال قتل سعدات في عزله الانفرادي سنة 2011 وذلك عبر وضع أفعى له داخل الزنزانة، وعندما اكتشفها قامت مصلحة السجون بقتلها، ولكنه تفاجأ في الصباح بوجود أفعى أخرى [35].

وقد أضرب سعدات عن الطعام عدة مرات خلال فترة اعتقاله المتواصلة، ومن أبرز اضراباته إضرابه سنة 2009 رفضاً لعزله الانفرادي [36]. وأضرب مع القائد الحمساوي الشيخ جمال أبو الهيجا سنة 2011 احتجاجاً على عزلهم الانفرادي وعلى حرمانهم أبسط حقوقهم [37]. وفي نفس السنة خاض اضراباً مفتوحاً عن الطعام استمر 21 يوماً لإنهاء ملف العزل الانفرادي. وأضرب سنة 2012 لمدة 28 يوماً، حيث انتصر الأسرى في هذا الإضراب الذي أخرج الأسرى المعزولين، وأتاح الفرصة لأسرى القطاع في رؤية ذويهم[38].

وفي آب/أغسطس سنة 2016 بدأ سعدات إضراباً عن الطعام دعماً للأسير بلال كايد الذي أضرب رفضاً لاعتقاله الإداري [39]. وفي سنة 2017 أضرب سعدات عن الطعام تضامناً مع إضراب أسرى حركة فتح – إضراب معركة الكرامة [40].وجدير بالإشارة في هذا السياق إلى أن الاتحاد البرلماني الدولي أصدر قراراً في 5 نيسان/أبريل 2012 ينص على أن الاتهامات التي وجهت لسعدات جاءت على اعتبارات سياسية، وبالتالي يجدد الاتحاد المطالبة بالإفراج الفوري عنه، وذلك لأن اختطاف سعدات واعتقاله ليس مرتبطاً بتهمة القتل وإنما لنشاطه السياسي كأمين عام للجبهة الشعبية [41]. واعتبرت فدوى البرغوثي أن من واجب السلطة العمل على إطلاق سراح سعدات بوصفه نائباً في المجلس التشريعي، وكونه أميناً عاماً للفصيل الثاني في مــــنظمة التحرير الفلسطينية، والشـــريك التـــاريخـــي لحركة فتح في مسيرة الثورة الفلسطينية[42].

إضافة لما سبق، أكدت هيئة شؤون الأسرى والمحررين، أن وحدة القمع الخاصة الإسرائيلية في سجن نفحة اعتدت بالضرب على سعدات في 28 آذار/مارس 2015 [43]. وقد طالب سعدات في 22 تموز/يوليو 2015 من سجن نفحة القيادة الفلسطينية بتقديم مشروع للحماية الدولية للأسرى أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة ومجلس الأمن؛ وذلك بسبب تعرض الأسرى لسلسة إجراءات سياسية تنتهك القانون الدولي ومبادئ السلم العالمي وميثاق الأمم المتحدة. وسعدات خلال هذه الفترة كان ممنوعاً من زيارة ذويه لأكثر من عامين، وجددت قوات الاحتلال المنع لمدة ثلاثة أشهر أخرى، ومن ثم أصبحت تمدد المنع من الزيارة بشكل تلقائي وبدون أي أسباب [44].

وفي سياق آخر، أصدر سعدات من معتقله بداية عام 2018 كتاباً وثائقياً بعنوان صدى القيد يروي فيه جزءاً من تجربته في سجون الاحتلال الصهيوني، ويغطي الكتاب الفترة الممتدة من 2009 ولغاية 2012، متناولاً في فصوله حياة الأسرى ونضالاتهم[45] وتجربته الشخصية في العزل وذلك من خلال من التقاهم في زنازين العزل[46].

2 – من جانب السلطة الفلسطينية

بعد تأسيس السلطة الوطنية الفلسطينية وتسلمها مهامها عام 1994 بناء على اتفاق أوسلو، أقدمت السلطة على اعتقال سعدات ثلاث مرات بين سنتي 1995 و1996 [47]. وفي إثر اغتيال الجبهة لزئيفي عام 2001 طاردت السلطة سعدات لمدة ثلاثة أشهر قبل أن تتمكن من اعتقاله. وكشفت عبلة سعدات أنها كانت تلتقيه خلال هذه الفترة في أحد البيوت، فهي لم تكن تعرف عن حياة زوجها الأمنية أية معلومات[48].

وخلال فترة مطاردته طلبت منه السلطة عقد لقاء من أجل حل بعض القضايا العالقة ولكنه كان يرفض لقاءهم بشكل شخصي؛ لأن هناك من يمثل الجبهة في اجتماع القيادة، وهو ما دفع السلطة لاعتقال العديد من أعضاء الجبهة ومن ضمنهم أخوه الشهيد محمد. وقد تعرضوا للتعذيب القاسي، فطلبت السلطة مرة ثانية لقاءه عبر مدير المخابرات توفيق الطيراوي لحل بعض القضايا الهامة، فوافق سعدات على اللقاء، الذي تبين أنه مؤامرة من أجل اعتقاله بناء على مطلب إسرائيلي. فبعد وصوله إلى أحد فنادق رام الله حيث تقرر عقد اللقاء في منتصف كانون ثاني/يناير سنة 2001، حاصرت قوات السلطة من مختلف الأجهزة الأمنية الفندق واقتادت سعدات لمقر المقاطعة حيث تم احتجازه هناك. ولولا موافقته على اللقاء لما تمكنت السلطة أبداً من اعتقاله، فسعدات يتمتع بخبرة فائقة في التخفي، ويعتمد في مراسلاته على الورق وعلى دائرة ضيقة شديدة الثقة، ولا يستخدم أجهزة الاتصالات ويتحرك ماشياً على قدميه بدون سيارة أو مرافقين[49].

وتذرعت السلطة بأن الهدف من اعتقال سعدات هو حمايته، إلا أن وفداً قيادياً من الجبهة قابل الرئيس عرفات وطلب منه الافراج عن سعدات وأن الوفد وضح أن الجبهة ستتحمل المسؤولية الكاملة عن حياته وأنها تخلي طرف السلطة من أي تداعيات ستنجم عن إطلاق سراحه، إلا أن الرئيس رفض [50]. وعن هذه الفترة تروي عبلة «أنها كانت من أصعب الفترات، لأن السجان كان فلسطينياً، لكن سعدات كان في كل مرة نستطيع التواصل معه فيها يعيد لنا الأمل» [51].

وخلال احتجاز سعدات في مقر المقاطعة كانت إسرائيل تراقب المقر، وطلبت من السلطة تسليمه، إلا أن الرئيس عرفات رفض، فحاصرت القوات الإسرائيلية المقر وبعد عدة أيام من الحصار توصل الطرفان إلى اتفاق ينص على نقل سعدات لسجن أريحا تحت رعاية أمريكية – بريطانية من أجل فك الحصار عن مقر الرئيس [52]. وفي أيار/مايو من نفس السنة نقل سعدات ورفاقه إلى سجن أريحا تحت وصاية أمريكية – بريطانية[53].

جدير بالإشارة في هذا السياق، أنه وخلال فترة اعتقال سعدات عند السلطة رفع عدد من المحامين دعوى إلى محكمة العدل العليا في السلطة للإفراج عنه، وصدر حكم بالإفراج في الثالث من حزيران/يونيو 2002، إلا أن السلطة رفضت الإفراج عنه. ومن قبله أدان النائب العام خالد القدرة اعتقال سعدات، وطالب بالإفراج الفوري عنه، ولكن الأمر لم ينفذ [54].

وفي هذا السياق، يبيّن القيادي في الجبهة الشعبية مروان عبد العال أن ما أجبر السلطة على اعتقال سعدات، مهما جرى تبريره من أطرافها، فهو يتراوح بين العجز والتواطؤ. ويقال بأن الاعتقال هو لتأمين سلامته. والمضحك المبكي أن يكون ذلك شكلاً من أشكال الحماية! لكن حقيقة الأمر تكمن في القيود التي وضعها «أوسلو» للسلطة والذي كان ولا يزال يعبر عن سياسة التواطؤ والذي يشكل «التنسيق الأمني» الركن الأساسي فيه، وهو جزء من تفكيك عملية الصراع وإضاعة التناقض الرئيسي ومفهوم العدو ومقاومة الشعب الفلسطيني المشروعة للاحتلال[55].

وعند سؤال سعدات في مقابلة أجريت معه من معتقله حول أسباب إقدام السلطة على اعتقاله قال إن «هذه المسألة أصبحت بالنسبة إلي وللجبهة جزءاً من الماضي وخلف ظهورنا، فما يشغلنا اليوم كما كان بالأمس البحث عن نقاط التوافق والقواسم المشتركة التي تجمعنا مع القوى الأخرى لتحقيق وحدتنا الوطنية الأساس المتين لخروج شعبنا من مأزقه السياسي الراهن، ووضعه على طريق استنهاض عناصر قوته وتحشيدها في جبهة التناقض الرئيسي مع الاحتلال. فأسباب إقدام السلطة على اعتقالي ومعي رفاقي الأبطال منفِّذو العمل البطولي غير المسبوق في تاريخ الصراع العربي الفلسطيني- الصهيوني، هو رضوخ السلطة للضغوط الأمريكية والصهيونية المستمدة من التزامات اتفاقات أوسلو سيئة الصيت» [56].

وفي هذا الاطار أكدت عبلة سعدات، أن العائلة والجبهة لا تزال مصرة على اتهام السلطة الفلسطينية، فالسلطة تتحمل مسؤولية اعتقال زوجها من قبل الاحتلال، فاعتقال السلطة لزوجها ساهم لاحقاً في اقتحام سجن أريحا، واعتقال الاحتلال له [57]. وفي نفس السياق، أكدت حملة التضامن مع سعدات في الذكرى الرابعة عشرة لاعتقاله، أن الأجهزة الأمنية الفلسطينية ارتكبت جريمة بشعة تجاوزت كل قواعد وأخلاقيات العمل الوطني، ووجهت طعنة غادرة لروح مقاومته الباسلة [58].

 

ثالثاً: النهج الثوري والمقاومة

 

1 – اغتيال الأمين العام أبو علي مصطفى

مصطفى علي الزبري المعروف بأبو علي مصطفى، من مواليد عرابة قضاء جنين عام 1938. يعتبر أبو علي من أبرز قادة حركة القوميين العرب، حيث اعتُقل أكثر من مرة في السجون العربية بسبب نشاطه السياسي. وفي عام 1967 شارك مع جورج حبش وعدد من القادة في تأسيس الجبهة الشعبية. تولى منصب نائب للأمين العام لمدة ثلاثين عاماً، وعاد إلى فلسطين عام 1999، واشتهر بعبارته الشهيرة «عدنا لنقاوم لا لنساوم»، وانتُخب في عام 2000 أميناً عاماً بعد استقالة حبش. واغتالته قوات الاحتلال في مكتبه في مدينة رام الله بتاريخ 27 آب/أغسطس 2001 بصاروخين أطلقا من طائرات الأباتشي أمريكية الصنع [59]. كان اغتيال القائد أبو علي مصطفى رسالة إلى القادة الفلسطينيين كافة وعلى رأسهم الرئيس السابق عرفات، مفادها أن القادة السياسيين من الصف الأول ليسوا خارج دائرة الاغتيال الإسرائيلي.

كان أبو علي يحظى باحترام وشعبية واسعة ليس فقط من قبل التنظيمات الفلسطينية وإنما من قبل عامة الشعب. يتصف أبو علي بالصدق والبساطة والبعد عن المظاهر والتقشف، فكان يذهب لسوق الخضار ليشتري بنفسه، وكان يسير في الشارع بدون مرافقين. وهنا أذكر عندما خرج المرافقون معه وهم يحملون السلاح، اعترض قائلاً «أنا ليس عندي مشكلة مع الشعب، وهذا السلاح لا مبرر له أبداً فالاحتلال عندما يريد الوصول لنا لا أحد يمنعه» [60].

كان أبو علي على يقين بأن الوسيلة الوحيدة لتحرير فلسطين هي المقاومة بكل أشكالها، فخطه السياسي كان واضحاً حيث كان معارضاً لاتفاق أوسلو العبثي حسب وصفه، إلا أنه كان يدعو للمحافظة على منظمة التحرير ويطالب بإعادة بنائها على الأسس والثوابت الوطنية. وكان قائداً وحدوياً تربطه علاقات طيبة مع كافة القوى والفصائل الفلسطينية وبالأخص مع الرئيس عرفات[61].

2 – انتخابه أميناً عاماً

بعد اغتيال أبو علي مصطفى، اجتمعت اللجنة المركزية للجبهة الشعبية في تشرين الأول/أكتوبر من نفس السنة لانتخاب أمين عام، وتم انتخاب سعدات بالإجماع من قبل أعضاء اللجنة المركزية. وفي هذا الصدد، تبين عبلة أن سعدات لمح بأن الرفاق طلبوا منه الترشح للأمانة لكنه رفض، وحاول إقناع بعض زملائه في تقلدها، وكان رأيها أن يترشح للأمانة لأنه تعب وضحى من أجل تنظيمه وقضيته. وبعد انتخابه أميناً عاماً، تبين عبلة أن سعدات لم يكن رجل إعلام، ولم تكن مظاهر المنصب تبدو عليه[62].

وسعدات عضو في المجلسين الوطني والمركزي لمنظمة التحرير الفلسطينية [63]. وفي أواخر عام 2013 عقدت الجبهة الشعبية مؤتمرها العام السابع وخلاله أعادت انتخاب سعدات أميناً عاماً لها وهو في سجون الاحتلال[64].

3 – اغتيال الوزير الإسرائيلي رحبعام زئيفي

لقد تمادت إسرائيل في اغتيالاتها للمناضلين الفلسطينيين والعرب في الداخل والخارج، ولم يمس أحد من قادتها. ولكن عندما رفعت إسرائيل مستوى الاغتيال ليصل للرجل الثاني في منظمة التحرير كانت قد وجهت ضربة قوية ليس فقط للجبهة الشعبية بل للشعب الفلسطيني ولقيادته، في إثرها بدأ الشارع الفلسطيني والرفاق في الجبهة الشعبية يطالبون برد قاسٍ على إسرائيل. فأخذت الجبهة من خلال جناحها العسكري قراراً بوضع حد لحياة الوزير الإسرائيلي المتطرف رحبعام زئيفي[65].

ففي 17 تشرين الأول/أكتوبر 2001 قامت خلية تابعة لكتائب أبو علي مصطفى باغتيال زئيفي بمسدس كاتم للصوت في أحد فنادق القدس المحتلة، ثأراً لدماء الشهيد أبو علي مصطفى بعد نحو شهرين على اغتياله. فبهذه العملية رفعت الجبهة الشعبية من سقف استهدافها، وكسرت معادلة حصانة قادة دولة إسرائيل، فلو طبقت قاعدة سعدات «الرأس بالرأس» من قبل الفصائل الفلسطينية لفكرت إسرائيل مليون مرة قبل اغتيال قيادات الشعب الفلسطيني. تعد عملية اغتيال زئيفي عملية فريدة من نوعها، فلأول مرة في تاريخ الصراع العربي – الإسرائيلي يقوم فصيل فلسطيني باغتيال أحد قادة دولة إسرائيل. يؤكد الكاتب الصحافي عماد توفيق أن سعدات يعتبر الزعيم الفلسطيني الأول والوحيد الذي يطلق شعار الرأس بالرأس، ثم ينجح بتنفيذ تهديده [66].

يعتبر زئيفي الذي كان حينها وزيراً للسياحة، من مؤسسي دولة إسرائيل، وأحد الجنرالات السابقين في جيش الاحتلال، ومن القادة المتطرفين الداعين لسياسة ترحيل الفلسطينيين من وطنهم (ترانسفير) [67].

وحين سئل سعدات بعد عملية اغتيال زئيفي، وكان حينها مختفياً، حول ما هو توقعه لما سيحدث وقد أصبح مطلوباً لإسرائيل، وهل سيتم الخروج من الأزمة من خلال عقد اتفاق بين الجبهة والاحتلال لوقف الاغتيالات المتبادلة. رد بأنه لا يبحث عن حل شخصي خارج عن إطار حل الأزمة التي يعاني منها شعبه من جراء الاحتلال والقمع الصهيوني، وأن كونه مطارداً ومطلوباً ومهدداً بالاغتيال من قبل انتخابه أميناً عاماً للجبهة لا يشكل له أي أزمة أو مأزق [68].

وعلى الرغم من مرور سبعة عشر عاماً على اغتيال زئيفي، إلا أن قادة وأعضاء الجبهة الشعبية ما زالوا يدفعون الثمن حتى اليوم. فأمينها العام ما زال معتقلاً في السجون الإسرائيلية ومعه المئات من قادة وأعضاء الجبهة.

ويرى سعدات في عملية اغتيال زئيفي بأنها عملية وإن كانت غير مسبوقة فإنها جاءت استمراراً لمنهج الجبهة الكفاحي ورداً على اغتيال الشهيد القائد أبو علي الأمين العام، والإنسان الرمز، والوطني، والقومي. مضيفاً أنه لم يكن بالإمكان السكوت دون رد نوعي يعيد الاعتبار للجبهة وشعبنا وأمتنا، فقد كان الذراع العسكري للجبهة بمستوى المسؤولية الملقاة على عاتقه، فهذه العملية النوعية أعطت دفعة معنوية هائلة لشعبنا ولقوى المقاومة [69].

وبنفس المنطق، اعتبر فروانة أن يوم اغتيال زئيفي زلزل أركان الاحتلال ومؤسساته المختلفة وأنه يوم ليس ككل الأيام في قاموس النضال الوطني الفلسطيني عامة، وقاموس المقاومة الفلسطينية المسلحة خاصة، مبيِّناً أن الجبهة الشعبية، من خلال جهازها العسكري، قد أوفت بوعدها بالانتقام لقائدها وأمينها العام الشهيد أبو علي ولدماء الشهداء كافة [70].

كما بين الروائي عبد العال أن الأبطال الذين نفذوا عملية الاغتيال هم جزء أصيل يجسد الوحدة الحقيقية من دون تزييف، فمنحوا الوطن حريتهم، لأن الحرية مفهوم جماعي قبل أن تكون استقلالاً فردياً، فأبوا أن يستبدلوا حريتهم الشخصية بحرية وطنهم. هؤلاء أنموذج الفدائي المطلوب الذي عندما يقرر فإنه يقف وراء يقينه حتى النهاية[71].

4 – الموقف من التطورات الحاصلة على الساحة العربية

وفي ما يخص الأحداث الحاصلة على الساحة العربية التي أُطلق عليها ما يسمى الربيع العربي، فإن سعدات ينظر إلى قضايا حركة التحرر العربي من خلال الإطار القومي اليساري التقدمي، وليس من خلال المنظور القطري الضيق الذي يهيمن على مسار الحركة السياسية العربية، ويرسخ تقسيم الأمة إلى دويلات بوجود الأمة العربية معطى موضوعي له سياقه التاريخي المترابط بالظروف. فمن وجهة نظره، فقط التجزئة التي فرضها التقسيم الاستعماري هي الطارئ الذي أصبح للأسف مرضاً دائماً أعاق وحدة أجزاء هذه الأمة ونهوضها وتقدمها. ولا نزال ندفع ثمن قصور أدوات العمل القومي، حيث أعادنا ما كان مفترضاً أن يكون ربيعاً عربياً ثورياً بسبب غياب الحوافز الثورية القومية سنوات طويلة إلى الخلف، وأصعد أدوات الإمبريالية في المنطقة العربية إلى موقع القيادة والتنافس لإرضاء أمريكا حتى لو كلف ذلك سفك دماء شباب الأمة وشيبها وأطفالها ونساءها كما يحدث الآن في حرب الإجرام التي يديرها التحالف العربي – الإمبريالي ضد شعبنا في اليمن وكما حدث في سورية وليبيا والعراق [72].

أما بالنسبة إلى رأي سعدات في السياسة الأمريكية، فهو يرى أن التعبير الدقيق الذي يصف السياسة الأمريكية الإمبريالية ومواقف إداراتها المتعاقبة هو «البلطجة»، فهو يرى أن هذه السياسة ليست جديدة أو مستحدثة أو خاصة بإدارة ترامب، بل هي مكون أصيل يعكس طبيعتها الإمبريالية الاستعمارية الاستعلائية العنصرية. فليس من الغريب قيام ترامب بتهديد شعوب العالم ودولها وفرض الأتاوات والخوّات على الدول في حال رفضت تأييد قرارات إدارته العنصرية، مثل تنفيذ قرار الكونغرس القديم الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل [73].

كما دعا سعدات إلى رفض أي دور أمريكي في أي تسوية للصراع العربي الفلسطيني – الصهيوني، وهذا يعني فك الارتباط والقطع النهائي والكامل مع منهج «مدريد – أوسلو» والتزاماته السياسية والأمنية؛ فهذا المشروع أمريكي بامتياز فُرض على شعبنا بلغة التهديد والوعيد. مضيفاً أن المطلوب منا إعادة ملف قضيتنا الوطنية إلى الأمم المتحدة، ومطالبتها أن تتحمّل مسؤولياتها وأن تضغط على الكيان الصهيوني للالتزام القانون الدولي وباحترام وتنفيذ قرارات الشرعية الدولية وفي مقدمتها حق العودة [74].

وفي رسالة لسعدات من سجنه أكد فيها «أن انحيازنا لخيار المقاومة يجب أن نعبر عنه بفهمنا العميق لمجريات النضال، وتجسيد عقيدة وطنية تظهر الالتزام الثوري بكل القيم والمبادئ، التي تعلمناها من الشهداء ومن جبهتنا التي نعتز بانتمائنا إليها ومنهجها الوطني والثوري، الذي انحاز له الشهيد القائد أبو علي مصطفى، وكل قادة الجبهة الشهداء على امتداد تجربة الكفاح والثورة» [75].

رابعاً: الموقف من القضايا السياسية على الساحة الفلسطينية

 

1 – التنسيق الأمني والاعتقال السياسي

يرى سعدات في سياسة الاعتقال السياسي والتنسيق الأمني التي تمارسها السلطة الوطنية بحق المناضلين الذي كان هو أحد ضحاياها، حيث ما زال يدفع ثمن هذا التنسيق، أنها انتقاص وتجاوز لكل قواعد وأخلاقيات العمل الوطني، إضافة إلى أنها تمس بشرعية المقاومة. فقد طالب السلطة في رسائله من معتقله بوقف الاعتقال السياسي والتنسيق الأمني لأن هذه السياسة لا تزال مستمرة وتوسع نطاقها على خلفية الانقسام لتأخذ أبعاداً جديدة [76]. فسعدات يبين أن المناضلين يدفعون أثمان خطيئة هذه الاتفاقات الأمنية التي تعتبر من وجهة نظره أكثر من كونها خدمات مجانية للاحتلال بل هي إدانة للمقاومة الفلسطينية [77].

2 – المصالحة الفلسطينية

وفي ما يخص المصالحة الفلسطينية – كما أشرنا سابقاً – يرى سعدات أن إنجازها هو الحلقة المركزية والمدخل لطي الانقسام وإعادة ترتيب البيت الفلسطيني الداخلي، ويطالب من معتقله بتنفيذ جميع الاتفاقيات التي تم توقيعها وفي مقدمتها اتفاق القاهرة 2005 و2011 ووثيقة الوفاق الوطني. فسعدات يرى أن وجود إرادة سياسية من جميع الأطراف يجعل من باقي ملفات المصالحة مجرد تفاصيل صغيرة، وأن استعداد حكومة الوفاق الوطني لإنهاء الانقسام يلزمها بالإنهاء الفوري للإجراءات العقابية التي فرضت على القطاع، ووقف التفرد باتخاذ القرار الوطني كما حصل في اجتماع المجلس المركزي الأخير [78]. فعلى كلا الطرفين اتخاذ خطوات عملية لحماية مشروع المصالحة من الضياع والانهيار[79].

ويؤكد سعدات في هذا الصدد، أن المصالحة يجب أن ينتج منها إعادة بناء وصياغة البرنامج الوطني السياسي على نحو يعيد الأولوية والاعتبار للنضال ضد الاحتلال، وأن تخرج الشعب الفلسطيني من دائرة المفاوضات العبثية [80].

وكان سعدات قد أرسل رسالة من سجنه لحركة حماس، دعا فيها الحركة لمواصلة جهودها تجاه المصالحة الفلسطينية حتى إنهاء حالة الانقسام، وعبّر عن استعداه لدعم الجهود الصادقة التي تقوم بها حماس لإنهاء الانقسام [81].

3 – انعقاد المجلس الوطني

وفي ما يخص المجلس الوطني المزمع عقده في أواخر نيسان/أبريل 2018، طالب سعدات بضرورة عقد «مجلس وطني توحيدي»، فلا يوجد مبررات حسب وصفه لانفراد قيادة فصيل أو تحالف ضيِّق بالدعوة لمجلس وطني يستثني حضور وتمثيل كل القوى السياسية. فسعدات يرى بالدعوة لانعقاد الوطني بشكله الحالي تهرباً من استحقاقات عملية المصالحة وبناء الوحدة الوطنية[82]. وقد جاءت دعوة سعدات في ظل انعقاد اجتماع القاهرة في منتصف نيسان/ابريل 2018 بين الجبهة الشعبية وحركة فتح، الذي طالبت فيه الشعبية بعقد مجلس وطني جديد وتوحيدي ومنتخب يضم كافة القوى الفلسطينية في الخارج والداخل، على أن يعقد في الخارج وليس تحت الحراب الإسرائيلية، وقد طالبت الجبهة الشعبية في الاجتماع بتأجيل انعقاد المجلس الوطني لحين تحقيق هذه الأهداف [83]. لكن حركة فتح ردت على هذه المطالب على لسان عضو لجنتها المركزية عزام الأحمد بأن المجلس الوطني سيعقد في موعده المحدد في نهاية نيسان/أبريل 2018 شاء من شاء وأبى من أبى [84].

وفي ضوء عدم التوصل لاتفاق بين الطرفين قررت الجبهة الشعبية عدم المشاركة في هذه الدورة[85].

4 – منظمة التحرير

يبين سعدات في هذا السياق، أن إعادة بناء منظمة التحرير وتعزيز مكانتها هي التتويج الخلاق لتحقيق المصالحة الوطنية وبناء الوحدة الوطنية. وأن الدعوة لعقد المجلس الوطني دون اجماع وطني وتحت الاحتلال يؤكد أن منظمة التحرير هي شركة خاصة لقيادة فصيل أو لبعض الأفراد، ما يعني الإمعان في التفرد باتخاذ القرارات المصيرية بعيداً من الإجماع الوطني، مما سيؤدي لتوسيع الانقسام ليشمل حتى منظمة التحرير[86].

فالمطلوب من القيادة الفلسطينية هو إعادة بناء منظمة التحرير على أسس وطنية جامعة وديمقراطية، فهي الكيان السياسي لشعبنا وأداته الكفاحية القيادية والمعبر عن وحدة أهدافه الوطنية، فهي مفتاح بناء الوحدة [87].

5 – المفاوضات الفلسطينية – الإسرائيلية

يعتبر سعدات من أشد المعارضين لاتفاق أوسلو، لأن فكره ومنهجه السياسي قائم على مشروعية المقاومة. واليوم يعيد سعدات تأكيد فشل المراهنة على المفاوضات، فالتجربة على حد وصفه أثبتت فشلها على مدار أكثر من عقدين، فلم يبق من أوسلو سوى سلطتين في الضفة والقطاع لا تستطيعان العيش خارج غرفة الإنعاش. إضافة إلى رزمة من الالتزامات الأمنية لحماية أمن الاحتلال، وفي المقابل تستمر الإجراءات العدوانية لحكومة الاحتلال في إطار سعيها لفرض الحل الانتقالي أو طويل الأمد [88].

ويطالب سعدات في هذا الصدد، بمغادرة دائرة بناء الأوهام على التوقعات بإمكان الوصول إلى تسوية تستجيب للحد الأدنى من الحقوق الوطنية، والتحرر من التزاماته السياسية والأمنية والاقتصادية، وسحب الاعتراف بالكيان الصهيوني، والإعلان رسمياً عن انتهاء ما سمّي المرحلة الانتقالية في اتفاق أوسلو [89].

خاتمة

أحمد سعدات قائد ثوري وحدوي ونموذج فريد، كرس حياته لمقاومة الاحتلال، فجزء كبير من حياته أمضاه وهو مطارد، والجزء الأكبر الذي ما زال متواصلاً بكل قساوته أمضاه في سجون الاحتلال. سعدات على قناعة تامة بأن المفاوضات مع الكيان الصهيوني لن ترجع للفلسطينيين حقوقهم، فهو من أبرز المعارضين لاتفاق أوسلو وإفرازاته، فأوسلو من وجهة نظره ضيَّع القضية الفلسطينية.

ورغم إقدام أجهزة السلطة على اعتقاله، الأمر الذي مهّد لاحقاً لإسرائيل باعتقاله ومحاكمته، إلا أنه ما زال يسعى لتحقيق الوحدة الوطنية، فهو من القيادات التي دعمت بشدة وثيقة الوفاق الوطني التي صاغها قادة الأسرى في معتقلات الاحتلال في عام 2006.

وقد أثبت سعدات في كل مواقفه أنه قائد وحدوي بامتياز؛ فاعتقاله من قبل السلطة بالنسبة إليه صفحة قد طواها من حياته، وفي كل رسائله من سجنه وفي جميع المقابلات التي أجريت معه دعا من خلالها لإتمام المصالحة. وحتى داخل سجنه يعمل جاهداً للمحافظة على وحدة الحركة الأسيرة، ويدعم الأسرى في مواقفهم كما حصل مع إضراب أسرى حركة فتح، فسعدات أضرب معهم ورفض عرض إدارة السجن باستلام زمام الأمور والتفاوض نيابة عن قادة الاضراب.

واعتقال سعدات والحكم عليه بثلاثين سنة من قبل الكيان الصهيوني ما هو إلا سياسة انتقامية وحكم سياسي جائر رداً على العملية غير المسبوقة في تاريخ الثورة الفلسطينية، يهدف الكيان الصهيوني من ورائه إلى توجيه رسالة تحذيرية لكل التنظيمات الفلسطينية وأجنحتها العسكرية بعدم مجرد التفكير بالسير على خطى سعدات وحزبه. فإسرائيل لم يكفِها اعتقاله ومحاكمته فما زالت تستهدفه أثناء فترة اعتقاله من خلال العزل الانفرادي الطويل والمنع المتكرر من الزيارات ليس فقط انتقاماً من عملية اغتيال زئيفي الذي نفذها الجناح العسكري للجبهة، وإنما بسبب قوة تأثيره في الأسرى، فإسرائيل تعاقبه ليس فقط بسبب نهجه المقاوم وإنما لشخصه أيضاً، إلا أن كل هذه الإجراءات وغيرها لم تزده إلا صلابة وصموداً.

 

قد يهمكم أيضاً: مقدمة كتاب صفحات من مسيرتي النضالية: مذكرات جورج حبش

اقرؤوا أيضاً  مقابلة مع الأسير المحرر وصفي قبها 

#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #أحمد_سعدات #القضية_الفلسطينية #أبو_علي_مصطفى #الكفاح_الفلسطيني #الأسرى_في_السجون_الإسرائيلية #الجبهة_الشعبية_لتحرير_فلسطين #مسيرة_أحمد_سعدات #الحركة_الأسيرة