– 1 –

اقترن الحديث عن خطاطة الشيخ والمريد[1] ضمن البرادايم الأنثروبولوجي لعبد الله حمودي بطبيعة الشروط الموضوعية لإنتاج السلطوية في المجال السياسي؛ من منطلق أن التداخل الحاصل في المغرب [والبلدان العربية بعامة] بين النسق الديني – الثقافي والنسق السياسي، جعل الباحث يحلل الترسيمة الشبكية للعلاقة بين الشيخ والمريد (في المجال الديني) من أجل فهم الآليات السياسية والثقافية لإنتاج السلطوية في النظم السياسية العربية. وتبعاً لذلك، ينطلق الباحث من فرضية – شبه مطلقة – قوامها أن «العلاقة بين الشيخ والمريد هي العلاقة النموذجية لعلاقات السلطة الأخرى [وتتطابق معها] […] سواء تعلق الأمر بمجال التعليم العلمي والحرفي أو المجال السياسي والنقابي، أو مجالي الإدارة والنظم الأخرى… وهذا التطابق يتجلى بخاصة في ما سميته [على لسان الباحث] التأرجح بين النوعين (الأنثى والذكر) بوصفهما تصوراً اجتماعياً وثقافياً لخصائص بيولوجية. وقد بدا لي أن المرور الرمزي والحتمي من وضع مؤنث في مرحلة التكوين (الذي يبرر في تربية المريد بقوة لا مثيل لها في المجالات الأخرى) بنية أساسية للتوفيق والفتح سواء في مجالات التحصيل الروحي أو في مجالات الكسب الدنيوي (بما في ذلك السياسي)‏[2]. ونتيجة لذلك، تصبح هذه الخطاطة «النموذج الأساسي لجميع السلوكات [السلطوية] (الأب والابن، المريد والشيخ، العامل ورب العمل…) المحركة لمؤسسات الإنتاج الاجتماعي (الأسرة، الزاوية، المصنع…)»‏[3] والمرسخة في البنى اللاشعورية للأفراد والجماعات.

انطلاقاً من هذا التصور النسقي لخطاطة الشيخ والمريد، يمكن استنباط الحقل أو المجال المعرفي الذي ينتمي إليه الكتاب؛ سواء تعلق الأمر بالمجال السياسي (الأنثروبولوجيا السياسية، وأنثروبولوجيا الهيمنة والسلطة…) أو بالمجال الديني (أنثروبولوجيا الأديان، وأنثروبولوجيا القداسة…)، فإن البرادايمات والمقاربات المنهجية والإبستيمولوجية للبحث مستمدة أساساً من حقل الأنثروبولوجيا السياسية. لكن مع ذلك، ألا يمكن القول إن البحث عن ترسيمة ثقافية في الحقل الصوفي لتفسير النمط السلطوي في المجال السياسي يفرض بالضرورة مساءلة الأنماط السوسيولوجية والأنثروبولوجية لإنتاج هذه الخطاطة، وتكوينها، وتمريرها وانتقالها عبر التاريخ؟ وإلى أي حد يمكن أن نتحدث عن أنماط أنثروبولوجية للتربية (على الشاكلة السوسيولوجية لفيبر) ضمن النسق العام لخطاطة الشيخ والمريد؟

في حقيقة الأمر، يجب عدم التسرُّع في التسليم بالشرعية الإبستيمولوجية لهذه المقارنة بين نسقين ثقافيين وتاريخيين مختلفين (التي يرفضها حمودي) من جهة، كما يجب عدم التسرُّع في استلهام «أنماط سوسيولوجية للتربية» انطلاقاً من نظرية الهيمنة التي صاغها فيبر – وبخاصة في كتاب الاقتصاد والمجتمع – بل يجب أن ننتبه إلى كون هذه المقارنة (ولو بين مجالين معرفيين مختلفين (السوسيولوجيا والأنثروبولوجيا)) مجرد نهج مساعد على فهم الجذور الأنثروبولوجية للتربية في كتاب الشيخ والمريد لعبد الله حمودي، والتشديد على أهمية التكامل والتداخل بين التخصصات في سياق العودة الإبستيمولوجية للأصول السوسيولوجية والأنثروبولوجية.

– 2 –

ظلت الأنماط السوسيولوجية للسلطة والمشروعية عند ماكس فيبر مقترنة بنظريته حول الهيمنة‏[4] (Herrshaft) (الدينية والسياسية)، كما وردت في كتاب الاقتصاد والمجتمع وسوسيولوجيا الأديان، وتم إسقاطها على النسق التربوي‏[5] في إطار البحث عن الشروط الموضوعية التي تجعل الفعل التربوي – البيداغوجي والتعليمي – حاملاً سلطة رمزية تعمل على شرعنة إعادة الإنتاج الاجتماعي للتراتبيات الطبقية؛ من منطلق أن «كل فعل بيداغوجي هو موضوعياً عنف رمزي، على اعتبار أنه فُرض بواسطة سلطة اعتباطية لاعتباط ثقافي»‏[6]. ونتيجة لذلك، تم النظر إلى الفعل التربوي بوصفه حامـلاً سلطة/نفوذاً (autorité)، في حين أن ماكس فيبر يتحدث عن مفهوم «الهيمنة» (La Domination) – الكاريزمية والتقليدية والعقلانية – في بحثه عن إقامة ترابطات بين الأنماط المثالية للتربية ونظيرتها السياسية والدينية – من دون الوقوع في منزلق إسقاط أنماط الهيمنة السياسية والدينية على الحقل التربوي – كما ورد في كتاب الكونفوشيوسية والطاوية[7].

يرجع هذا الخلط الإبستيمولوجي في تحديد شروط الاختلاف والترابط بين أنماط الهيمنة السياسية والدينية وأنماط التربية إلى انفتاح علماء الاجتماع الفرنسيين على الترجمة الإنكليزية الرديئة لنص فيبر حول أنماط التربية من جهة، والترجمة المتأخرة لهذا النص إلى اللغة الفرنسية‏[8] (لم يترجم نص فيبر إلا سنة 2000 من جانب كاثرين كوليوت تيلين (Catherine Colliot-Thélène) وجان بيير كروسين (Jean-Pierre Grossein) من جهة أخرى. كل ذلك أسهم في سوء فهم تصور فيبر حول التربية انطلاقاً من نموذج الصين الكونفوشيوسية التي درسها‏[9].

بداية، لا بد من الإشارة إلى أن فيبر يميز بين السلطة التي «تدل على مختلف فرص «الكسب» (triompher) في إطار علاقة اجتماعية إرادية، حتى ضد المقاومات، بغض النظر عن أسس هذه الفرص […] بينما تدل الهيمنة على علاقة قيادة وطاعة بحيث إن الذين يخضعون للقيادة ينفذون تعاليمها من دون الالتفات إلى مضمونها […] ويسعى كل المهيمنين إلى إيقاظ الاعتقاد في شرعيتهم والحفاظ عليه […] لكن يختلف نمط الطاعة تبعاً لنمط الهيمنة. يجب إذاً التمييز بين أشكال [مختلفة] من الهيمنة»‏[10]. ونتيجة لذلك، يبدو أن أنماط الهيمنة تتوافق مع أنماط التربية، لكن لا تطابقها؛ من منطلق توافق الشرعية والاختلاف من حيث الوسائل والأهداف.

يركز فيبر في الفصل الخامس – المعنون «هيئة العلماء» (der literatenstand) – من كتاب الكونفوشيوسية والطاوية على تحديد أنماط التربية من خلال الانفتاح على نموذج ثقافة الصين الكونفوشيوسية، والبحث في طبيعة الشروط الموضوعية التي تتحكم في إنتاج الماندرين‏[11] (mandarins)، ويستنتج أن غرض التربية (في ضوء أنماط الهيمنة العقلانية، والتقليدية والكاريزمية) هو: «الصحوة» (éveiller)، و«الترويض» (dresser) و«تقديم تربية، وثقافة» (donner une éducation, une culture):

[في] النمط الأول «الصحوة»: «تعمل الأحداث البطولية، التي يمليها السحرة وأبطال الحروب على الطفل، على تزويد النشء بروح جديدة في معناها «الأولي»؛ بمعنى ولادة جديدة. إنها تعمل على إيقاظ وتجربة قدرة نظر إليها بوصفها هبة شخصية. في الواقع، لا يمكن تعليم أو غرس الكاريزما.

يوصف النمط الثاني على النحو التالي: «تعمل التربية الخاصة على ترويض المتعلمين من أجل إكسابهم مهارات عملية تسمح لهم بالقيام بمهمات إدارية، سواء تعلق الأمر بممارسة سلطة قضائية، في إدارة مكتب أو ورشة، مختبر أو جيش نظامي. من حيث المبدأ، يمكن القيام بهذا الشكل [من التربية] في جميع أنحاء العالم».

«أخيراً، تهدف بيداغوجيا التشكيل (Kultivationspäedagogik) إلى تثقيف رجل مثقف (Kulturmensch) مختلف وفقاً لمثل ثقافة الطبقة المهيمنة. وهذا يعني: إنسان «محددة حياته الداخلية والخارجية» على نحوٍ مسبق. على سبيل المثال، في اليابان، حيث تشكل طبقة المحاربين هيئة خاصة، تبحث التربية عن «صناعة» فارس على طراز البلاط‏[12]. انطلاقاً من هذا الأمر، وبعد الإشارة إلى عدم وجود نمط خالص، يمكن أن نموقع التربية الصينية بين هذه الأنماط، من أجل فهم تقنيات الاختبار، والنهج المتبع – على سبيل المثال – التي تشير إلى وجود اختلافات بين الصين والغرب‏[13].

يبدو أنه لا يمكن أن نتحدث عن نمط تربية «خالص» (Pure)، كما هو الحال مع أنماط الهيمنة، ومستقل عن باقي الأنماط الأخرى؛ من منطلق أن كل نمط «يشكل» الطفل ويعدّه للحياة ولمختلف الأدوار المنوطة به في المستقبل في إطار تفاعل مع باقي الأنماط الأخرى.

– 3 –

بالعودة إلى عبد الله حمودي، نجده يركز على الدينامية السوسيوثقافية لتشكل السلطوية ضمن النسق الثقافي لعلاقة الشيخ بالمريد، من خلال تمييزه بين سمات رجل القيادة (أشبه برب أسرة يوزع المهمات، ويفرض آداباً توفر له القوة التي تمنحه السلطة) وبين رجل «الله» (الزاوية) الذي يخضع لإرادة شيخ يسطر حياة مريديه تبعاً لنسق من الأفكار والممارسات تزاوج تلك التي يستعملها [رجل القيادة]‏[14]. وبالتالي، ومن خلال نموذج وسيرة علي الدرقاوي (أحد شيوخ الزاوية الدرقاوية خلال القرن التاسع عشر)، يرصد الباحث الطابع الكاريزمي لشخصية الشيخ – أمام المريد – وأهمية الشرعية الدينية في تشكيل بنية هذه الشخصية وتبرير سلطويتها بأبعاد دينية، على النحو الذي يشبه – إلى حد ما – سلسلة الاختبارات التي يخضع لها الماندرين (في الصين الكونفوشيوسية) كي يدمجوا في النسق المهني والوظيفي، والتي تنهل بدورها من أبعاد دينية متكاملة مع ما هو سياسي؛ من منطلق أن المريد في النموذج المغربي يظل مريداً إلى أن يتخلّص من وصاية الشيخ، والماندر الكونفوشيوسي يظل «متعلماً» (وليس رجل علم) تحت وصاية كبار الماندرين إلى أن يُتم سلسلة الاختبارات حتى لو بلغ من العمر عتياً‏[15].

تقترن استراتيجية التربية ضمن علاقة الشيخ بالمريد بإرادة الخضوع وتقبُّل «الهيمنة المشيخية» من جانب المريد نفسه، في إطار التخلي عن الحياة [الدنيوية = الشبابية] (مرحلة أو تربية التأهيل) البسيطة واعتناق حياة العالِم الباحث عن منجٍ لروحه‏[16]، ضمن مسار تتلمذي يقطعه هذا «المريد» لكي يصير شيخاً ويمتلك زاوية خاصة ومريدين تحت إمرته ووصايته: لا تخضع هذه السلسلة التلقينية لمنطق وحدوية الشيخ أو أحاديته بالنسبة إلى المريد، حيث يمكن أن يخضع لوصاية مجموعة من الشيوخ – ضمن مراحل مختلفة أو المرحلة نفسها – بحثاً عن اكتساب العلم والمعرفة في مختلف تلويناتها ومرجعياتها. وتبعاً لذلك، يظهر أنه لا يمكن لأي كان أن يصير مريداً – وبالتالي مشروع شيخ مستقبلي – من دون أن تتم تزكيته من جانب الشيخ «الأب» والكشف عن مدى إمكان أن يكون مريداً خاضعاً لسلطة الشيخ وهيمنته من جهة، وأن يمتلك روح طلب العلم والمعرفة والقبول بمبدأ أن الشيخ – الشيوخ – هو من يمتلك الحقائق والمعارف اليقينية، في حين أن المريد يظل مريداً مهما بلغ علمه، ولا يمكن أن يصير شيخاً من دون التتلمذ على يد الشيخ وخلفه بعد زواله، من جهة أخرى.

يرتبط تقبل المريد لضرورة المرور تحت وصاية الشيخ، وبالتالي تحت هيمنته وسلطانه، في شق كبير منه، بطبيعة استعداداته القبلية (الاجتماعية والثقافية) التي يَنظُر، ويُنظر له، من خلالها على أنه «مُختار» للعلم والمعرفة، ووجب عليه بذلك أن يبتعد (وليس أن يقطع بالضرورة) من صلاته الاجتماعية والعائلية كي يَنذر نفسه لطلب العلم من مشايخه وأصحابه، في مقابل الشاب (الطفل) العادي الذي يظل لصيقاً ببيئته الاجتماعية والجغرافية إلى حد بعيد، ويَنذر نفسه للدفاع عنها وحمل مشعلها في المستقبل. لكن مع ذلك، «يضفي هذا الخروج عن العادة [الاجتماعية والثقافية] هالة كبرى على المريد، لأنه من نصيب قلة قليلة يحيطها المجتمع بكل احترام […] لأن نذر النفس على التعلم ووقفها عليه، عبارة عن شرف وواجب […] تعترف الأمة والسلطات به وتسعى إلى ضمان بقائه»‏[17].

قد تنطبق مسألة الاعتراف بضرورة نزوع «المريد» نحو أن يكون «مريداً» على المريد نفسه، لكنها تظل خلاف ذلك في ما يتعلق بنزوع المريد نحو أن يصبح «شيخاً». كما يصرح حمودي، لا يربط تشكل شخصية الولي (الشيخ) في جوهرها بمسألة الحظوة العلمية ودرجة مراكمة العلم وطلبه، بقدر ما تقترن بهباته أو قدراته واعتراف المريدين وعموم الناس بـ «مشيخته» و«ولايته». ويصبح بذلك الشيخ الجديد خارجاً عن النسق الثقافي كما السياسي، ومتمرداً على القيم الاجتماعية والاقتصادية كما قيم الانتماء والهوية المحلية والوطنية، لكونه يحصِّل «قداسة» وسلطة رمزية تجعله قادراً على تهديد السلطة السياسية والاجتماعية كما السلطة العلمية للعلماء والمعرفة نفسها [أحياناً]: يصبح مشروعاً متمرداً ومؤججاً للحركات والانتفاضات المحلية على المستوى السياسي والاجتماعي وكذلك الديني والعلمي.

في ما يتعلق بتربية المريد، وكما أشرنا إلى ذلك، نجدها ترتهن بإرادة الشيخ من جهة، ومفارقة للقيم الاجتماعية والثقافية للأسرة التي ينتمي إليها من جهة أخرى. فـ «عوض الزواج يفر الطالب من القرية وبيوتها؛ وعوض العمل لكسب القوت يحتقر كل نشاط مُكسب؛ وبعيداً عن أي تراكم يعهد بحاجاته إلى الله؛ وعوض الاستقرار يختار التحرك والسياحة والتجوال؛ وعوض الإخلاص إلى عشيرته أو قبيلة أو دولة، ينتفض بحثاً عن شيخ وعن جماعة لدُنية»‏[18]، ويتمرد على نحوٍ غير مباشر على أنماط التربية وأنماط الهيمنة المرتبطة بجمهور العموم، حيث من الممكن أن يتنازل عن رأس مال رمزي أو مادي أو عن تربية نخبوية لمصلحة كاريزمية الشيخ. ونتيجة لذلك، وعلى عكس الكونفوشيوسي المتشبع بالقيم الأخلاقية الماندرية، والبروتستانتي بقيمه التقشفية الاقتصادية، يصبح المريد (بحثاً عن أن يكون شيخاً في المستقبل) في النسق الثقافي المغربي ناسكاً (أشبه بالأنموذج البوذي) يتمرد على قيمه الاجتماعية والثقافية لمصلحة الخضوع لهيمنة وسلطة متعددتي الأبعاد لشيخ أو شيوخ مختلفين، كل ذلك في إطار البحث عن «صنع» كاريزميته الخاصة (التي لا يكسبها دينياً بالضرورة أو معرفياً) بمجرد أن يزيح الشيخ الأول ويحل محله أو يؤسس لنفسه زاوية أو نهجاً خاصاً.

– 4 –

تقوم تربية المريد على التلقين (أشبه بـ «الترويض» (dresser) الذي تحدث عنه فيبر، لكن ليس بهدف إعداد المريد لتحمل مسؤوليات إدارية أو مهنية كما هو الشأن في النموذج الكونفوشيوسي) بوصفه المعيار الأساسي للتربية الصوفية التقليدية (بعد مرحلة أو تربية التأهيل والقطع مع كل ما هو دنيوي وأسري) التي تضمن من خلاله ولاء وطاعة المريد من جهة، وتسليمه بسلطة الشيخ وعلمه من جهة أخرى. تعد «خدمة» المريد للشيخ (ضمن الأدب الصوفي للمشيخة) الشرط الأساسي لعمل خطاطة الشيخ والمريد، إذ يتم ربط هذه الخدمة والطاعة (في مختلف مناحي الحياة اليومية وليس بالضرورة شؤون العلم والمعرفة) بالتقرب من الله وإرادة المعرفة؛ من منطلق أنها دليل على انتماء المريد إلى زاوية معينة أو شيخ معين واستعداده لإعادة إنتاج هذه العلاقة «المشيخية» مع مريديه أو زاويته في المستقبل.

وبما أن «النجاح في ولوج المشيخة (وهو الهدف من كل تلقين) يخضع، أولاً وقبل كل شيء، للتقرب على الدوام من الشيخ وللوفاء التام لشخصه ولأوامره»‏[19]، فإن التصور العام لعلاقة الهيمنة هذه لا يختلف كثيراً عن المنطق الاقتصادي والسياسي الذي رسمه ماكس فيبر للمفهوم: تظل علاقة الطاعة والقيادة وإرادة الخضوع وشرعنتها أساس العلاقة القائمة بين الشيخ والمريد، ضمن التصور «التقليدي للهيمنة». لكن مع ذلك، يمكن اعتبار علاقة الهيمنة هذه موجودة أيضاً بالحقلين السياسي والاقتصادي، مع اختلاف في طبيعة وأوجه الهيمنة في حــد ذاتــها، مقــابــل وحــدة فــي شــروطها المــوضوعــيــة والذاتية (بين ما هو كاريزمي أو عقلاني).

يفرض المنطق التلقيني في التربية الصوفية ضرورة انتقال المريد من وضع الذكورة (المرتبطة في هذه الحالة بشخص الشيخ) نحو وضع الأنوثة (من خلال الطاعة والخدمة؛ بما في ذلك الطبخ، والكنس، وغسل ملابس الشيخ وإعداد فراشه أثناء السفر.. وغيرها من الأعمال الأنثوية في تصور العموم): يتم إحداث كسر في المنطق الاجتماعي لتقسيم الأدوار الجنسية لدى المريد، ويتنازل عن «رجولته» الثقافية في سبيل أن يصير شيخاً مستقبلياً.

يختلف هذا المنطق الهيمني بالضرورة عن ذاك الذي يتحدث عنه فيبر ضمن الأنماط السوسيولوجية للتربية، ليس جغرافياً وتاريخياً فقط، وإنما ثقافياً واجتماعياً أيضاً، نظراً إلى كون مصلحة المريد هي أن يكون شيخاً مهما كانت الوسائل (كما هو الشأن في المجال السياسي كذلك) في حين أن منطق «الكاريزما» لدى فيبر يجعلها غير قابلة للنقل أو الغرس أو التعلم/التعليم.

إضافة إلى ذلك، يقوم التلقين الصوفي على مبدأ أنه لا يمكن، بالضرورة، لكل المريدين أن يصيروا شيوخاً، أو على الأقل لا بد من توافر شروط معينة لذلك، الأمر الذي يجعل المريد يتمثل قاعدة «الوسائل – الأهداف» في التنازل (الوظيفي في نظره) عن «أناه» لمصلحة «أنا» الشيخ في سبيل الحصول على الاعتراف: ما يعزز هذا التصور، هو أن المريد لا يُمنع من الزواج أو من «الحياة» (في معناها الدينوي) بل يتم تأجيلها أمام حضور سلطة الشيخ، ويتحصل عليها (وأكثر كذلك) حينما يصير شيخاً يمتلك مريدين هو الآخر.

في الواقع، يضفي مفهوم «البركة» دلالة خاصة على فعل الخضوع ضمن عملية التلقين (التربوي) التي تحكم النسق العام للفعل الصوفي؛ من منطلق أن فعل التلقين الصوفي مخالف لذاك المقترن بالأسرة (علاقة الأب بالابن) ضمن نسق التربية التقليدية.

فإن وُجِد تطابق [عملي] بين علاقة الشيخ بالمريد وعلاقة الأب بالابن، في ما يتعلق بضرورة قبول الخضوع والهيمنة والتسليم بسلطة الأب والشيخ من طرف الابن والمريد، فإنها تختلف في كون «الثاني [الابن] يرضخ فيما يقلد الأول [الأب]، في حين أن علاقة التلقين [الصوفية] تختلف عن علاقة الأبوة في كونها تدرج سلسلة من التفاوتات والمخالفات. فبـ «وفاة» المرشح للقداسة يتم محو كل شيء، وتُحضِّر السلطة المقدسة للولي قواعد جديدة بفضل قواعد التلقين. إن الأب لا يتحرر أبداً من القانون الذي هو صيغة وجوده الخاص. أما الملقن فخلاف ذلك. إنه يخلق بنفي الأحكام والأعراف والتباسها رجـلاً جديداً على أساس اللدنية»‏[20].

ونتيجة لذلك، تصبح تربية الابن مختلفة عن تربية المريد على مستوى الاستراتيجيات الفردية [المستقبلية] لكل واحد منهما؛ فإذا كان الأول يرى في والده تجسيداً للهيمنة (المتمرَد عليها أحياناً)، فإن المريد يرى في شيخه «كاريزما» مقدسة تمثل بالنسبة إليه فرصة للعبور نحو «المشيخة»، في حين أن الشيخ نفسه يرى في بركته سلطة القداسة التي يجب ألا تنافس (إن ظهرت بركة أو قداسة لدى المريد فيجب رفضه) أو تُتَجاوز إلا بموته.

– 5 –

على نهج ماكس فيبر، يمكن أن نعتبر حمودي قد «جعل من التجربة الدينية منشأ التطورات الحضارية وطبّق خطاطة [الشيخ والمريد] في جميع مجالات ونواحي النشاط الأخرى – اقتصادية، وسياسية، وأسرية وبين – شخصية»‏[21]. لكنه مع ذلك، لم يتمكن من مساءلة التصورات الفيبرية للهيمنة أو لأنماط التدين [والتربية] (أو بالأحرى لم يعترف بجدواها بالنسبة إلى النسق الثقافي الإسلامي)‏[22]؛ من منطلق اختلاف تصورات فيبر للسلطة والتربية (في نظره) عن البيئة «الإسلامية»‏[23] (على الرغم من تأكيد فيبر إمكان تعميم نظرياته، سواء تلك المتعلقة بأنماط الهيمنة أو أنماط التربية، على كل المجتمعات)‏[24]. وكما هو الحال مع الجماعات العلمية الفرنسية، وكل المتلقّين لفيبر في إطار اللغة الفرنسية عن الإنكليزية، يمكن أن نعتبر سوء فهم أفكار فيبر (سواء ما تعلق بالأنماط المثالية أو التربوية) قد أصاب السياق الفرنسي‏[25] كما العربي.

ختاماً، وعلى الرغم من كون مؤلَّف عبد الله حمودي يندرج ضمن النسق الإبستيمولوجي للأنثروبولوجيا السياسية – بالأساس – وأنثروبولوجيا الأديان؛ حيث لم يشر في أي ركن من الكتاب إلى أنه سيكشف في خطاطته عن المظاهر أو الأنماط التربوية التي تحكم نسق العلاقة بين الشيخ والمريد – وكذلك النسق السياسي – وما يترتب عن ذلك من أشكال سلطوية كامنة ومستدمجة في الشرط الموضوعي للمعيش والمراس السياسي والديني، إلا أن النص لم يخلُ من تلميحات تاوية حول طرائق وأشكال التربية ضمن خطاطة الشيخ والمريد. بل يمكن أن نعمم حضور هذه الأشكال ضمن مرتكزات البنية السلطوية السياسية – وحتى الدينية – لمجموعة من الدول الإسلامية الأخرى‏[26].

إضافة إلى ذلك، وعلى الرغم من الصعوبة التي تكتنف التعامل مع مؤلف فيبر حول الكونفوشيوسية والطاوية وصوغ طبيعة العلاقة بين أنماط السلطة والهيمنة وأنماط التربية، فضـلاً عن إشكالات الترجمة الإنكليزية والتعامل الفرنسي معها لأزيد من ثمانين سنة، إلا أن هذا لا يمنع من جعل هذه القراء المقارنة مجرد مدخل إبســتيمــولوجــي لرد الاعتبار إلى الحوار بين السوسيولوجيا والأنثروبولوجيا [في مجال التربية] وأهمية الانفتاح على الأصول من جهة، والدفاع عن كونية المعرفة والعلــوم الاجتماعية في سياق الانفتاح على
«السوســيــولوجيــات والأنــثروبولوجيات القــوميــة» ضمــن عالــم غيــر متكــافئ على نحــو مســتــمر مــن جهــة أخــرى.

 

#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #الأنماط_الثقافية #السلطوية #الهيمنة #التسلط #الهيمنة_التربوية #المغرب