وُلد الأصمعيّ عام مئة وثلاثة وعشرين للهجرة، وكان اسمه عبدُ الملكِ وكُنيته «أبو سعيد»، وعاشَ عصراً شَهِدَ عاصفةً من المُتغيّرات، والمستجدّات، كانت الأشدَّ هولاً وعُنفاً في تاريخِ العربِ.

شَهِدَ الرجل ومنذ أنْ كان في التاسعة من عمره، أحداث الثَّورة العبَّاسيَّة على الحُكمِ الأمويّ، ولا يُمكن أن نفسّر انتفاضةَ الأصمعيّ الـشاب الصَّغير إلّا من خلالِ رسم لوحة سريعة لمَشهد الثَّورة العبَّاسيَّة من جهة، التي تأسَّست بهدوء وسريّة، ولكنها انطلقت بركانية، ومن جهة ثانية مشهد تداعي العرش الأمويّ وانهياره في عَهديْ هِشام بن عَبد الملك ثُمَّ مَروان بن مُحمد آخر خلفاء الأمويين الأوائل.

ولم تكن الدعوة العبَّاسيَّة، ثُمَّ تحوّلها إلى ثورة تَغُيّراً رتيباً أو تداولاً عادياً للسُّلطة. بَل حَملت بُذور تغييرٍ جذريّ وبنيويّ وَضع العُلماء والناشطين والأمراء والقبائل في حالةٍ من الحيرةِ والقلق والترقُّب، وأدخَلت للسَّاحة قوىً مُتعدّدة مُتنوّعة غَريبة عن السّياق السَّابق، نعني بهم «الموالي، والشعوبية وعدداً من القوى المعارضة للأمويين‏[1]، وهكذا فإنَّ الأبواب التي فتحتها الثَّورة العبَّاسيَّة حرّكت عوامل الشَّك والخوف بدايةً داخل مشاعر الأصمعيّ، ولكن ذلك الخوف لم يكن خوفاً من العبّاسيين كسُلطة سياسيّة، كما لم يَكن تعصُّباً للأمويين كسُلطة أمويَّة، إذ يَتبيّن للمُتَتَبع، ومن بَعض التفاصيل التي سَنَذكُرها في السّياق، أنَّ خَوفَهُ كان على التراثِ العربيّ والقيم المتراكمة وعلى الأدب والشعْر، وكل ما يتعلَّق بالبُنية العلمية الثَّقافيَّة العربيَّة وهي في نظره ثروةُ العرب غير المسموح الاعتداء عليها ولا تَشويهها ولا نحل موادها، كما ولا إدخال الغريب عليها. وكَان الأصمعيُّ كما كتب أحمد زكي: «بما يَتصل بماضي العرب مَبعث إثارة وتقديس، وكان إذا صُوّرَ هذا الماضي وعَبَث العابثين به من الموالي، اندفع بحماسةٍ وتأثُّر»‏[2].

إنَّ دخول العناصر الجديدة من موالٍ غير عرب ومن موالٍ عرب ومن شعوبية، ومن يدور في الفلك الجديد هو ما كان يَشغُل بالَ أبي سعيد الأصمعي.

كانت البَصرة مدينة كبيرة منفتحة على الشمال والجنوب، وفيها المرفأ الشهير على «دجلة» أي «الأُبله»، وقُربها سوق «المربد» الشهير الذي كان سَاحة السّجالات الشّعْريّة والأدبيَّة. وكانت فيها المَساجدُ التي تزخر بحلقات العلم والثَّقافَةِ حَيثُ أبو عمر ابن العلاء، ورُزيَة ابن العجاج وابنُ المقفّعِ ويونس وغيرهم «عدد كبير من الشعراء والنقلة والمدوّنين والتلاميذ»‏[3]

أما البُنية التَحتيَّة التي استمدَّ منها الأصمعي علومه وثقافته، وقدراته الأدبيّة الثوريّة المُفعمة بالمعرفة التي عَشِقَها منذ يفاعته، فقد تَشكَّلت من اتّصالهِ بالمسجديين …«الذين يُطيلونَ القُعود إلى مثل أبي عُمَر ابن العلاء وخَلف الأحمر وغيرهم… كَما يُطيلون القُعود إلى عُشاق اللهو»‏[4].

مما كشف للأصمعي ما انتشر من انحلال أخذ يدب في كيان المجتمع، الأمر الذي أثار في نفسه الخوف والقلق.

وفي تلك الأثناء، أي إبَّان الثَّورة العبَّاسيَّة، نَشأت بَغداد، أي «الحمراء»، التي بَناها أبو جَعفر المنصور، ونشأت معها الحالة الجديدّة التي زَرَعت في داخله الارتيابَ والذي دَفَعه إلى المواجهة. فُكلُّ شيء قد تَغيَّر «الناس يملؤون السَّاحات والطُرقات، … اختفى كُلُّ أثرٍ للعربِ … حَتى العَمائم إلّا قليـلاً، وانتشرت القلانس على الرؤوسِ، ولَبسَ المشايخُ الطيالس السود، وتَقرطَقَ الغُلمان بقراطق الجواري اللائي يَغدُون ويَرُحنَ في دلال… وهُم في ذلك يَقولون أنَّ بغداد هي الحلقة التي تَصِل بين هذا الجديد وبين القِدَم»‏[5].

إذن لا بُدَّ من المواجهةِ، وأيَّةُ مواجهةٍ؟!

مُعظم المؤرخين المَحليّين الذين أرَّخُوا للحقَبة العبَّاسيَّة كانوا يهاجمون السُلطة المركزيَّة أمثال «السمهوريّ والقُمّي والخزرجيّ والأزرقيّ وغيرهم»‏[6]. وفي هذا البحث اعتمدنا الانطلاق من المصادر الأدبيَّة للتَعرُّف إلى ثقافةِ تلك المرحلةِ في لَمحةٍ قد تُساعد على إلقاء الضوء على الدَّور الذي أدّاه الأصمعيُّ وحتى بعضُ الأدباء من غير العرب في بَلْوَرة النَّهج العروبيّ الأصيل، أو بالمعنى السّياسيّ المُعاصِر ما يُوازي «القوميَّة العربيّة»، والذي كانَت ركيزتُه التَّصدّي للأفكار الدخيلة، والتي لم تكن لتكتفي بالتَّدخُل من خلال المُساهَمات والإضافات والتفاعُل مع الوضع الجديد. فكان الخوف عند الأصمعيّ كما يَصف أحمد زكي، «الشعوبيون قَد أجمعوا على أن يُفسِدوا التَّاريخَ كُلَّهُ، لَيَفسُد الواقع ويتم لهم الغَلَبَة»‏[7]. كما لَحَظَ أنَّ الشعوبيَّة تُحَطّم القُيود التي يَفرضها واحدٌ كالخليل ابن أحمد في اللغة».

من هنا شحذ الأصمعي سَيفَ اللغةِ، التي تعني له جَوهر المعركة، فانبرى يُقَلّب سَائر العلوم الثقافية التي تَتَصدَّى لهذا التَفلُّت الأدبي والثقافيّ. ففي التصحيف كان الأصمعيّ يقرأ ما وراء السطور، وكما ذكر عن أحدهم: «كان يسمع فيعي غير ما يسمع، ويكتب غير ما وعى، ويقراً في الكتاب غير ما هو فيه»‏[8] .

وكان يقول: «كان الأدباء الأوَّلون يقَعون في الخطأ إلّا أنَّهم لم يكونوا يتعَّمدون ذلك، كانوا يصدرون بحسٍّ عربيّ خالص، أمَّا اليوم فُهُم (الشعوبية والموالي) يتظرفون باصطناع الخَطأ وبإقحام ألفاظ العجم إقحاماً» ‏[9]، أي كانوا يسعون لاسترضاء الحالة الجديدة.

استهلَّ الأصمعيُّ استعداده للمعركة كتلميذٍ بدايةً ثُمَّ كمجادلٍ ثانياً، وأُستاذاً ثالثاً. كان في مُقتبل العمر بين مجموعةٍ من الأدباء والعلماء والشعراء والمفسرين والقصَّاصين والمجتهدين، ولكن ما تميَّز به هو بالذات أنهُ أمسك بمفتاح المعرفة السّحري أي «العلم»، وبدأ بفتح الأبواب المتنوّعة من أدبٍ وشعرٍ وروايةٍ وأحدوثةٍ مُعتبراً أنَّ الركيزةَ تَكمن في اللغةِ. فَسلامَةُ اللغةِ تعني سلامةُ كل ما يتفرع منها، كيف لا وهو يقرأ في الكتاب الكريم ﴿قَدّ أنزلناهُ قرآناً عربياً﴾ [يوسف: 2] ويبدو أنَّه قَدّ تَرسّخ في وجدانه أنَّ من يُريد الإساءة إلى الحضارة العربيّة أو تقويضها، لا بُدَّ من أن يُؤثّر في اللغة فيسيء إلى كُلِّ ألوان العلم (كما يَحدُث الآن في عَدَدٍ من البلدان العربيّة).

من هنا بدأت رحلته في حفظ الشعر مُبَكّراً: «ما بَلغتُ الحلمَ حتى رويتُ اثني عشر ألف أرجوزة للأعراب»‏[10] وقال أيضاً: «كنت أختلفُ إلى أعرابي أقتبسُ منه الغريب» ‏[11].

أمَّا ابن المثنى، أي «أبو عبيدة» مؤلف كتاب أخبار الفُرس وكتاب فضائل الفُرس وكان من الذين نابذهم الأصمعيّ بلا هوادة، فقد تناول مسألة حفظ الأصمعيّ لاثني عشر ألف أرجوزة بقوله: «إنَّ حفظ هذا العدد الهائل من الشعْر لا يجعل من صاحبه عالماً، وإنَّ العلم هو ما يُلقى في حلقة أبي عُمر ابن العلاء ويونس وأضرابهما»‏[12]. ويجيب الأصمعيّ بأنَّ الشعر «ليس إلّا سبيـلاً إلى هذا العلم»‏[13] .

إذاً إنّها اللغة التي تعني للأصمعيّ الكثير، فهي أداةُ التعبير عن مخزون الثقافة والحضارة وهي الحامل لمعاني الحضارة التي كانت تنتشرُ كالنَّارِ في الهشيم وفي كُلّ اتجاهٍ، إنّها أي العربيّة جميلةٌ بإيجازها مُعبرةٌ. قال الأصمعيّ: «ورأيتُ أعرابياً ومعه بُني له صَغير مُمسك بفكِّ قِربةٍ، وقد خَافَ أن تغلبَهُ القربةُ فصاح: يا أبت، أدركْ فاها، غَلبَني فوها، لا طاقة لي بفيها»[14] وقال أيضاً: «قال ذو الرُمَّ: قاتَل الله أمة آل فلان ما أفصَحَها، سألتُها: كيف كان المَطرُ عندكم قالت: «غثَّنا ما شئنا»‏[15] ويتوغَّل أكثر في أهمية اللغة وبالغ تأثيرها في حياة العرب حين يوافق أبا مِحرز خَلف الأحمر بأنَّ: «الحقّ أنّ عربيَّتَنا شيءٌ غريبٌ… ربما بَدت لُغة، وربّما بَدت أخباراً، وربّما ظَنَّها قَومٌ تفسيراً لآيةٍ كريمة من القرآن، ولو قد أدركنا أنَّها كلُّ ذلك وأن الشعْر هو المفتاح الذي يفتح كُلُّ الأبوابِ إليها إذن لما اختلفنا على شيء»‏[16].

إذن الشعر ليس فنَّاً فَقط وليس تَرفَاً بالنسبة إلى الأصمعيّ، ولَكِنَّه عَالمٌ أو وعاءٌ كبيرٌ يتسع للعلومِ والآدابِ وكُلُّ ما يعتري أوجُه الحياة، فهذا أبو دُلامة يقول للخليفة المَهديّ:

إن كنت تبغي العيشَ حلواً صافياًفالشعْر أعذَبُه وكن نَخاسا

 

كان الأصمعيُّ يعتقدُ أنَّ الشعوبيَّة استهدفت مجتمعاً «بلا شعر»؛ ولهذا رأى الأصمعيّ أنَّ التَمَسُّك باللغة العربيّة وبالعرب عوامل تُشَكّل الرد الطبيعي الموجب على الشعوبيَّة.

فانطلق يُحقّق ويُدقّق ويتأكد من صِحة نقل القصيدة والأرجوزة، لا بَل بالبيت الواحد من الشعْر، مفنّداً مدقّقاً غائصاً في لُجَجِ المعاني، حريصاً على تدوينٍ صادقٍ منقّح، فاكتشف أنَّ الكثيَر من المعاني قد تتبدّل وتتغيّر مع أي دَسّ يُدخِلُه المُغرضون أو المُدلّسون على عَالِم النّصوص.

ويروي أحمد كمال زكي في كتابه الأصمعي بأنَّه «ترك البصرة، وامتطى بعيراً قوياً واندفع نحو البادية فيلتقي برواة وشعراء الباديةِ مثلُ عقيل بن علفة وغيره»‏[17].

وقال الحكيم ابن عيّاش: «والدليلُ على أنَّ العربَ أنطقُ، وأن لغتها أوسع، وأنّ لفظها أدّل، وأنّ أقسام تأليف كلامها أكثر، والأمثال التي ضُربت أجود وأسير»‏[18].

إن اندفاع الأصمعيّ إلى الواحات واتصاله المباشر بالرُّواة والمحدّثين والشعراء قد جعل منه مناضـلاً يَحمِلُ مشروعاً يعني الأمَّة العربيّة جمعاء، وإلّا ما هو الهدف من كل هذا الحلِّ والترحالِ؟

لم يكن تَطواف الأصمعيّ في الواحاتِ ليرضى من «الغنيمة بالإيّاب» بَل كان تطوافاً هادفاً، وكثيراً ما نقرأ في بُطونِ الكُتب، «سألَ الأصمعيّ أعرابياً» و«حَدَّث أعرابيٌّ الأصمعيّ».

ويرى أحمد كمال زكي أن الرحلة كان لها هدفان «أن يجمع من أشعار الجاهلييّن وأخبارهم ما وَسِعه، وأن يلّم ببلاد بني عامر ليسمع من أخبار مَجنونِهم ما يُشجيهِ ويُسلّيه»‏[19].

إذن كان هَمَّه أنّ يُميز بين ما قال الشُعراء وما يُنسب إليهم في ضوء الأحداث التي عُرفت عنهم في الصحراء. وقَدّ وَفّرت له هذه الرّغبة قُدرة هائلة على المقارنة فيما بين ثقافة «البصرة» من جهة وثقافة المدينة الحديثة «بغداد»، وبين الواحات والبادية من جهة ثانية، ليُصبح بذلك صَاحب علمٍ واسعٍ يجمع بين ثقافات تلك المناطق والعوامل المحيطة بها، وبهذا يستطيع أن يكتشف الروابط العربيّة التي تجمع وتوحّد بين تلك الثقافات. وهنا يأتي ما يُساعد على تحديد هذه العوامل أيّ العناصر الجامعة الأدبيّة والشعْريّة، أي اللغة والعادات والتقاليد والقيم المشتركة، التي تتضح من خلال سؤال ابن المقفع (وهو الفارسيّ الأصل) في حَضرة عَددٍ من العلماءِ: «أي الأُمَم أعقل؟» وعجبوا لهذا السؤال، فأراد أحدهم أن يمتحن ابن المقفع فقال: «لعلّهم الفرس»، فهزّ ابن المقفع رأسه بعنف وقال: «ليسوا بذلك. إنّهم ملكوا كثيراً من الأرض، ووجدواً عِظاماً من المُلوكِ، وغَلبوا كثيراً من الخلق… فما استنبطوا شيئاً بعقولهم، ولا ابتدعوا باقي حُكمٍ في نفوسهم».

فقال بعضهم محاوراً: «الروم»

فقال: «أصحاب صَنعة»

وقال آخر: «الصين»

فقال: «أصحاب طُرفة»

وقالوا: «الهند»

فقال: «هم فلاسفة»

وما زالوا يذكرون الشعوب إلى أن قال أحدهم: «لعلّهم العرب» فقال: «أجل إنّ العرب حَكمت على غير مِثال مُثِّل لها، ولا آثار أُثّرت… يَجود أحدهم بقُوتِه، ويتفضّل بمجهوده… أعلتهم قلوبهم وألسنتهم، فلم يَزل حَباءُ الله فيهم، وحباؤهم في أنفسهم حتى رُفِع لَهم الفَخر وبلغ بهم أشرفُ الذكر»‏[20].

هذا بالرغم من أن كتابات ابن المقفع وأفكاره شكلت جدلاً واسعاً إلى جانب آثاره المعتزلة من جدل.

إذن الأصمعيّ كان واضحاً في تحديد الهدف وتبيان الوسيلة، فهو من جهة يعتدّ بما تَركَهُ الأوَّلون من العربِ، ويشترط الصدق فيمن يَحمل تراثَهم، والتّصديق بُسنَّة الله ورسولهِ ثُمَّ التَسلُّح بأسباب الصدق بعد ذلك. ويعني بالصدق اللغة الصحيحة لذلك كان يقول: «إنَّ تَزندُقَ أكثر القوم في البصرة راجعٌ إلى جهلِهم بالعربيّة، ولو كانوا مُطّلعين على خفايا اللغة لفهموا حقيقة القرآن والحديث، ولما اعتراهم الشَّكُ في الدين»‏[21].

من هذه الزاوية كان يرى أنّ أبا عُبيدة لا يألو جُهداً في التعرّض لأمورِ الدين، وفي النيلِ من التراث الذي يشهد الأصمعيّ أنَّه يحفظ مِنه الكثير. وذكر ابن النديم عن أبو العبَّاس: «أنَّ أبا عُبيدة لم يكن يَسلم مِنه شَريفٌ ولا غيره وعمل كتاب «المثالب» الذي كان يطعن فيه على بعض أسباب النبيّ… وكان وسخاً مدخول الدين مَدخول النَّسب‏[22].

وبالرغم من أنّه مثل بعض المسجديين الذين يطيلون القعود إلى عشاق المجالس مثل أبي عمر ابن العلاء وخلف الأحمر، كما «يطيلون القعود إلى عشاق مجالس اللهو»‏[23]، فهو يعتبرهم غير دقيقين في أحاديثهم وغير حرصاء على اللغة ودفعته نقمته على تلك الخفة في تناول الأحاديث إلى القول لأبي عبيدة: «أتكذب على رسول الله… وإنّ ما ترويه وأمثالك عن ابن أبي العوجاء وجمعه… تفاهة… إما تسكت أو أوقعك في بلاء لا تخلص منه». كذلك فإن خلف الأحمر أصابه قلق حين أولى الأصمعي انتباهه لكل ما يُنشد خوف النَحل. فقال خلف حين طُلب منه الإنشاد: «والله لو سمع الأصمعي بيتاً من الشعر الذي كُنت أنشدكموه ما أمسى أو يقوم خطيباً على منبر البصرة فيتلف نفسه»‏[24] هذا يَدُل على مقدار ما استطاع الأصمعيّ أن يضع حدّاً للتفلت من خلال يقظته وإصراره.

تتضح الصورة أكثر مع تعليق أبو نَوّاس حيث سمع أنّهم «بَعثوا في أبي عبيدة والأصمعيّ ليجمعوا بينهُما قال: أمّا أبو عبيدة فإن مَكّنوه من سُفرة قرأ عليهم أساطير الأولين، وأما الأصمعيّ فبلبل في قفص يُطربهم بصفيره»‏[25].

هذا البلبل الثّائر والخائف في الوقت نفسه من أن تكون حياةُ المدينة إيذاناً بوضع نهاية لِعلم الأعراب، فقد اكتشف من خلال الرحلة أنّ أولئك «الأعراب» أي عربُ الصحراء يختزنون علماً وافراً أصيـلاً، فهو يرى في أهل البادية عِزَّة النفسِ والصدق، وهذا ما اختبره مع أحد الأعراب من بني مُرَّة «حين سألَهُ عن أخبارِ شاعرٍ اسمه عقيل بن عُلفه، فسأله الأعرابيُّ: «ما حرفتك؟» أجاب الأصمعيّ: «الأدب..» فتبسم الأعرابي وقال: «نِعم الشيء ولكن باب التوفيق في التأديب أن تكون نفس صاحبه كبيرة، فأنّه يُنزِل المَملوك في حَدّ المُلوك»»‏[26]. ويضيف أحمد كمال زكي أنّ الرجل عندما لاحظ إعجاب الأصمعيّ برواياته وأحاديثه قال له «لو لَزِمتَنا لأعطيناك من ذلك الكثير… وقد أخذه إلى شيخ عالم بالشعر وبأيام الناس، وحَوله فِتية يُنشدونَه أيام رمضان فكان يُعطي للمُجيد منهم ناقة، ويأخذ من المسيء شاة يأمر بذبحها للإفطار»‏[27].

قال أبو تمام حبيب الطائي:

إن يُكدِ مُطَّرف الإخـــــــــاء فإننــانـَغدو ونَسري في إخاءٍ تَالــِــــدِ
أو يختلف ماء الوصال فماؤنــاعَذبٌ تَحدَّرَ من سَحابٍ واحــــد
أو يفترق نَسبٌ يؤلّف بينناأدبٌ أقــمناه مَــــقـام الـــوالد

 

وهكذا حَلَّ الأدب مكان النَسب، والإخاء التالد والسَحاب الواحد اجتازا القبيلة إلى «الوحدة» ولسنا بحاجة إلى أن نوّضح أن شاعراً عاشَ في عصر قديم عصر «الواثق» من العصر العباسيَّ، لماذا يفتخر بالأدب ويقدِّمُه على العشيرة والقبيلة ويعتبره العامل الجامع الذي يؤلّف بين الجماعة أي القوميَّة.

وهذا شاعرٌ آخر من عصر لاحق وهو أبو الطيب المتنبي يقول في معرض مدحه لسيف الدولة الحمداني:

تُهاب سيوف الهند وهي حدائدُفكيف إذا كانت نــزارية عُــــربا

 

ولا يمكن أن تعني عبارة «عُربا» إلّا «العرب».

إنّها الثقافة الجامعة المعبّرة عن وجدان ابن البادية، وابن القبيلة، وابن المدينة، وابن شاعر، في أكثر من عصر، كانت ثقافة قائمة ماثلة كالطود. وتُعبر عن نفسها من خلال التمسّك بالقيم والتقاليد والعيش المشترك تناقلته الأجيال في مختلف الأصقاع العربيّة.

وبالعودة إلى الأصمعيّ وإنجازاته من خلال الإمساك ببوصلة الثقافة العربيّة الأصيلة التي يوجزها بكلمة «اللغة» وخوفه من تأثير الشعوبية والموالي (أي التغريب بلغة اليوم) يجب أن لا يُفهَم منه أنّه صاحب ثقافة «شوفينية» مُتعصّبة من أجل التّعصب، إنّما ما يجب أن يُفهم هو أنَّه الحريص على عدم تشويه اللوحة أو المنحوتة التاريخية التي تُمثّل كنزاً ثميناً يَجب الحرص عليه وحمايته. ويَدُل على ذلك قوله: «فليكن عند بعض القوم رَجـلاً قويماً مُسدَّد الفكرة لا التواءَ فيه»‏[28].. لم يقل فليكن عند القوم حاكماً، بل قال «رجـلاً»، ولا نظن ذلك الرجل إلّا الأصمعيّ نفسه، فهو الذي نَصّب نَفسه وأقحمها في أصعب المواقف حتى دَخَل السّجن، وكان الكثير من المفسرين والشعْراء والأدباء يَخشون نَقدَه، كان يقول: «أعتقد أن الفقهاء ضاعوا وضيَّعوا الحق في فتاواهم»‏[29].

فهذا عيسى بن عمر الثقفي «وبالرغم من أنَّه كأبي عمر ابن العلاء ثقةً وإخلاصاً وإيماناً بالعربيّة… إلّا أنَّه كان يُروعَه بتَقَعُرِه (والتقعر هو الأنانية وحب الشهرة) لأنه كان يعدل عن سَهل الألفاظ إلى الوحشيّ والغريب سَبيـلاً نَحوَ الأستاذيَّة»‏[30]. في حين أنه نقل عن سلام بن أبي مطيع: «أيّوب أفقَههم، وسُليمان التيميّ أعبدَهم، ويونس أشَدَّهُم زُهداً عند الدراهم»‏[31].

وعندما أحسّ أن بعض رواة القصة يُشكلون خطراً كبيراً على العقيدة السليمة، من خلال مبالغتهم واجتهاداتهم الفردية في التفسير والشرح غير الملائم مع المنطق والموضوعيّة مثل «قُصور الجنة وغيرها».

وعندما شَعَر أنَّ العلم تَحوَّل عند الكثير من غير العَرب، كتب رِسالته الشهيرة إلى هارون الرشيد وقد كانت سَبباً للتَقرُّب من الخَليفة الذي اكتشف أهميّة ما يختزنه هذا العالم الأديب والشاعر الجريء والمتحمّس لتنقية الزوان الشعوبي من القمح العربيّ. وقد أتهمه البعض بأنه كان العامل المسبب بصورة مباشرة في نكبة البرامكة ولكنَّه سَبَق والتقى بالبرامكة وزار منازلهم وانتقد بذخهم وناصرَ الفَضل ابن الربيع لأنَّ «عروبَتَهُ خالصة» وكانَ بالمرصاد «لما يدبره البرامكة بأمر ولاية العهد»‏[32] ولكنه لم ينشط في مقارعتهم إلّا تفادياً لعودة المجوسية ولتجنب الإساءة للعروبة والإسلام. ويعتبر أحمد كمال زكي في أعلام العرب أنَّ «الأصمعيّ كان يرى نفسه يتكلم بلسان الجماعة العربيّة: سلم الباهلي، ويزيد ابن مزيد الشيبانيّ، والفضل بن الربيع، وأم جَعفر زبيدة، ثُمَّ بني هاشم أخوال الأمير محمد بن الرشيد أي الأمين»‏[33].

ازداد التقارب بين الأصمعيّ والرشيد فكان يخلو به ويناشده القصيد، وقد خاض المعركة مع إسحاق الموصلي «حليف البرامكة» على أساس ميدانها الشخصيّ والقوميّ، الشخصيّ للتقرّب من الرشيد أكثر، والقومي لأنه أي الموصلي «بعض صنائع آل بَرمَك» وصورة من صُور الحمراء «بغداد الحديثة» وحين سافر الرشيد إلى الرقَة يرافقه الأصمعيّ وحاشيته من العلماء والشعراء سَأله الخليفة: «هل حملت شيئاً من كُتُبك يا أصمعي؟ أجاب نعم حملت ما خَفَّ حمله… وكم حَملت… أجاب ثمانية عشر صندوقاً… فصاح الخليفة هذا لمّا خففت فلو ثقلت كم كنت تحمل؟»[34].

وصل الأمر أن الرشيد سأل الأصمعيّ بحضور الحاشية: كيف أنت بعدنا، أجاب: والله ما لاقتني بعدك أرض يا أمير المؤمنين، فأُحرج الرشيد لأنه لم يفهم العبارة، ولما خلا به قال له: «لا ينبغي أن تكلمني بين يَدي الناس إلّا بما أفهمه… فإذا خلوت بي فعلمني»‏[35].

إن عالماً كالأصمعيّ حين يصل به الأمر إلى أن يُناقش العلماء، ويُعارض الفقهاء، ويُصحّح للشعراء، ويُعلّم الخلفاء، هنا يحضرنا السؤال: ماذا كان يريد من كل هذا، فهو لا يحابي خليفة من أجل المال أو الموقع، ولا يعجب أو ينبهر بوالٍ أو قائد، حتى لم يَمِل إلى شاعر بعينه إنما قال عندما سُئل: «أيُّ بيتٍ قالته العرب أشعر، فأجاب: الذي يسابق لفظه معناه»‏[36].

لهذا كانت هناك الرسالة التي لا يُهادن بها، وهي التعصب إلى لغته العربيّة وما تختزنه من علم وأدب أصيل، وإذا كان هناك من انحياز فهو للعلم والمعرفة ولتوظيف هذا العلم لصيانة التراث ولإغنائه وتطويره، إنّه لم يُسَرّ بمقتل البرامكة لأن معركته معهم كانت ثقافية وليست شخصيّة، فقد ابتعد من البلاط بعد النكبة. بعد أن «رأى أن دورهُ في دار السلام قد انتهى فشمَّر للرحيل وهو يغض ويكتم في أعماقه اللواعج»‏[37].

وقيل إن المأمون ذات يوم لما رجع إلى بغداد وقرّ بها استدعى قاضيه يحيى بن الأكثم وقال له: «وددت لو أني وجدت رجـلاً مثل الأصمعيّ ممن عرف أخبار العرب وأيامها وأشعارها فيصحبني كما صَحِب الأصمعيّ الرشيد»‏[38].

ومات الأصمعيّ عام مئتين وسبعة عشر للهجرة وكان إلى جانبه ثُلّة من العلماء والأقرباء ومنهم أبو حاتم السجستاني، وقد رثاه أبو العتاهية بأبيات منها:

تقضّت بشاشات المجالس بعدهوودعنا إذ ودع الأنس والعلم
وقد كان نجم العلم فــينا حياتـهفما انقضت أيامه أَفُل النَّــجمُ

 

كما رثاه الحسن بن مالك‏[39]:

لا درَّ دَرُّ نبـــــــات الأرض إذ فـــــجعتبالأصمعيّ لــــقـد أبـــقـت لَـنا أســــــفا
عش ما بدا لك في الدنيا فلست ترىفي الناس منه ولا في علمه خلفا

 

ما يهمنا في نهاية هذا المقال هو التّأكيد أن القوميّة العربيّة المتمثّلة في حينه بما جسّده الأصمعيّ وكُثر غيره، والكثير من بعده. لم تُولد القوميّة العربيّة مع نهوض الثورة الصناعية الأوروبية، أو مَع نُشوء الدولة الحديثة التي يحرص الغرب من خلال ثقافة بعض المستشرقين وبعض المؤرخين ومنهم «عرب» على ربط فكرة القوميّة بعجلة الثّقافة الغربيّة الحديثة، بل إنَّ فكرة العروبة والدفاع عن العرب (القوميّة العربيّة) تأصَّلت عبر صراع تاريخيَّ مرير خاضَه الأصمعيّ والعشرات من أمثاله ومن خلال ما احتوته اللغة، وأشعار العرب، والقرآن الكريم والسنّة، والقصص، والروايات، والأحاديث، والأخبار التي تَعكس واقع الأمة العربيّة، وليست أمنيات ونظريات تمخضت عن خيال أو طموح سياسيّ، أو مشروع مستقبلي صاغَه مُثقَّف عالم، أو مجموعة من المثقفين.

إنَّ عبد الملك الأصمعيّ لم يكن مُنظراً ولم يستند إلى مرحلة تاريخيَّة من العصور البائدة فيُحييها، ولكنه دوّن ونقل وحَفظ وفَسّر ما كان ينبض أمامه بالحياة العربيّة ويزخر بالقيم ويتمثّل بالصور التي ملأ شريطها سائر الأقطار والأمصار العربيّة وغير العربية إلى حيث وصلت مؤثرات هذه اللغة العظيمة وأهلها. وقد ذكر التبريزي: «إن الأصمعيّ أملى كتاب خلق الإنسان خمسة عشر مرّة، فكل نسخة من إملائه تخالف النسخ الأخرى في نقص وزيادة»‏[40].

هذا ما يَدُل على عقل نَقَّاد مُتابع للجديد، وبهذا فقد زخرت أعماله بالأصالة من جهة وبالقيم الإنسانية من جهة ثانية، فهل من غضاضة إذا عدَّينا أبا سعيد عبد الملك الأصمعيّ من المؤسسين الأوائل لما أصبح اليوم العروبة والقوميّة العربيّة؟.

 

اقرؤوا أيضاً  أزمة اللغة العربية: الأسباب، المظاهر وسبل التجاوز

قد يهمكم أيضاً مشاهدة  ندوة حول اللغة العربية وأسئلة الهوية والتنمية

#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #الأصمعي #الشعراء_العرب #الشعر_العربي #الهوية_العربية #اللغة_العربية #القومية_العربية #عبد_الملك_الأصمعي #علماء_العرب #العروبة