مقدمة:

أمست أدبيات دراسة التحول الديمقراطي موسومة بتجاوز النقاشات التقليدية الدائرة حول التمييز بين الديمقراطي والدكتاتوري، إلى قياس شدة الديمقراطية ومستوياتها. وفي هذا المجال يتسع التحليل ليشمل الأنظمة الفرعية إضافة إلى المؤسسات الرسمية التي تحتكر وسائل القوة والإكراه؛ فالمؤشرات الرئيسية التي تقاس من خلالها شدة الديمقراطية، أمست ترتبط بشكل أساسي بالمجتمع المدني بما يتضمنه من نقابات وأحزاب سياسية.

وفي سياق دراسة الجزائر كنموذج عايش تجربة التحول نحو الديمقراطية في إثر التعديل الدستوري عام 1989 الذي أقر لأول مرة التعددية الحزبية والنقابية، تنصرف المناقشة في هذا المجال إلى مدى التوافق بين الخطاب الصادر عن النظام السياسي الجزائري وموثق في السند القانوني ألا وهو الدستور، وبين الممارسة الحقيقية، وهو ما يجعل التساؤل على الشكل التالي:

هل الاحتكار الذي كان سائداً في عهد الحزب الواحد، قد تلاشى في ظل إقرار التعددية في الجزائر، أم ظل سائداً حتى بعد عملية الإقرار بالتعددية؟ وبخاصة إذا علمنا أن الاحتكار كان على مستويين: الاحتكار المؤسسي المتمثل باحتكار مؤسسات المجتمع المدني في الاتحاد العام للعمال الجزائريين.

والاحتكار القيمي، أي قيام النظام السياسي الجزائري بتحديد القيم السياسية التي يجب نشرها في المجتمع الجزائري من خلال عملية هيمنية أيديولوجية.

وللإشارة، فإن التركيز على تحليل غرامشي كان مقصوداً، لكونه يضع الإسقاط على الجانب القيمي كمجال للهيمنة وسبب مهم في صعوبة التحول نحو الديمقراطية.

وبعيداً من مناقشة أيديولوجيا المفهوم بما تحمله من مقاصد تخدم أجندات سياسية معينة، حاولنا في هذه الورقة التركيز على المفارقة بين الدستور ومدى تطبيقه على فعاليات الحياة السياسية في الجزائر.

أولاً: لمحة عن مفهوم المجتمع المدني

يعرف المجتمع المدني على أنه حيز مستقل يتألف من جماعات طوعية تعمل كمصد ضد السلطة تتجلى فعاليتها داخل المجتمع من خلال مستوى إرساء فضاء للاحترام المتبادل والتسامح، بكونه أكبر تعبير عن المواطنة‏[1].

وإذا كان مفهوم المجتمع المدني قد برز لأول مرة في الفكر اليوناني من خلال ربطه بالدولة وجعله جزءاً منها، حيث أشار أرسطو إليه بوصفه مجموعة سياسية تخضع للقوانين، وذلك في غياب التمييز بين الدولة والمجتمع المدني‏[2]، فقد جاء تحليل أنطونيو غرامشي للمجتمع المدني مبنياً على انتقاد تحليلات كارل ماركس الذي يرى أن المجتمع المدني بنية تحتية تشتمل على علاقات الأفراد المادية ضمن مرحلة معينة لتطور القوى الإنتاجية، وهو ما رفضه غرامشي حيث ركز على البنية الفوقية المتمثلة بأجهزة الهيمنة الأيديولوجية في الدولة: الإعلام، التعليم، التربية، المؤسسات القانونية، الشرطة والجيش، أو الأجهزة الاقتصادية للدولة البرجوازية، وبالتالي المجتمع المدني ليس قوة مضادة للدولة البرجوازية، بل هو امتداد للدولة أو المجتمع السياسي، وهو ما يسميه غرامشي الدولة الممتدة؛ فالسلطة الحاكمة تطوِّع المجتمع المدني بحيث يتشبع بأيديولوجيتها، ثم يعيد إنتاجها.

ويقود هذا الدور ما يسميه الأمير الجديد ويتعلق الأمر بالحزب الذي يقود الطبقة العاملة في نضالها لانتصار هيمنتها في مواجهة هيمنة البرجوازية‏[3].

إذاً تحليل أنطونيو غرامشي يقوم على اعتبار المجتمع المدني مجموعة تنظيمات خاصة وجزءاً من البنية الفوقية عن طريق الثقافة الأيديولوجية والسيطرة والإكراه وبالتالي تختلف رؤيته عن النظرة الكلاسيكية لكارل ماركس فيجعل من المجتمع المدني فضاءً للتنافس الأيديولوجي الذي ينتهي بالهيمنة بدل التنافس الاقتصادي القائم على الصراع الطبقي‏[4].

وبالتالي جاء غرامشي بمفهوم جديد للمجتمع المدني ليوسع دلالته ويحتل مكانة متزايدة بحكم توصيفه الجديد: امتداد لعمل السلطة الحاكمة والهيمنة بالوكالة لتقوم بهندسة المجتمعات وترويضها وتوجيهها لمقتضيات ومتطلبات الطبقة الحاكمة، وإن كان قد أبقى على الطبقة وحدة تحليلية أساسية، فإنه أبقى على الدولة غاية نهائية وليست مرحلة من التطور البشري‏[5].

ثانياً: تاريخ المجتمع المدني الجزائري كصانع للقيم:
بين الاستقلالية والاندماج

ينصرف دور المجتمع المدني إلى ترسيخ جملة من القيم من خلال عملية التنشئة السياسية، حيث تكوِّن وتنقل الثقافة المجتمعية، كما تمكن الفرد من اكتساب هويته الشخصية التي تسمح له بالتعبير عن مطالبه والضغط صوب النظام السياسي بما يمكّنه من استصدار تخصيصات سلطوية للقيم تعود بالمنفعة على المجتمع حسب الرؤية السائدة‏[6].

فإسهام المجتمع المدني، من خلال هذه العملية، في تنشئة الأفراد وتلقينهم قيماً وأدواراً معينة، يسهم في ترسيخ وتحسين المشاركة السياسية بوصفها أحد أهم مؤشرات الحداثة السياسية إلى جانب ترشيد السلطة وتمايز المؤسسات والوظائف الرسمية كما حددها صامويل هنتغتون‏[7].

بيد أن هذا الطرح يتحقق في حالة استقلالية مؤسسات المجتمع المدني على مستوى البرنامج والذمة المالية والمأسسة، وهو الأمر الغائب وغير المعين في الواقع العملي؛ فالواضح هو امتداد منظمات المجتمع المدني للنظام السياسي الذي بادر إلى إنشائها وجعل من التنشئة السياسية عملية مقصودة موجهة أيديولوجياً وتتوخى أجندة سياسية تستقيم واستمرار الوضع القائم‏[8]؛ وهو ما يجد له تفسيراً عند نظرية الهيمنة أو السيطرة؛ فالتقنية السائدة داخل المجتمع التي لها امتدادات مؤسسية رسمية، تسعى، من خلال النفوذ على مستوى الرموز، مع استخدام الدعاية والرقابة، لتدعيم حكمها والهيمنة على بقية المجتمع بطريقة تسمح بنقل أيديولوجيا سياسية من الجماعة المسيطرة إلى الجماعات المسيطر عليها، وهذه السيطرة تتحقق عندما يسود الاعتقاد بأن مصلحة طبقة معينة هي نفسها تجسيد للمصلحة العامة‏[9].

ارتبطت الدولة الجزائرية الحديثة بنموذج النظام الأحادي الحزبية حسب الدستور المؤسس للبناء السياسي والقانوني للعمليات السياسية، ويتعلق الأمر بدستور عام 1963، حيث شهدت هذه المرحلة اختصار المجتمع المدني في النقابة العمالية الموسومة بالاتحاد العام للعمال الجزائريين، الذي لم يعْدُ كونه مجرد مؤسسة تابعة للسلطة الرسمية، حيث تحول دورها إلى إعادة صياغة دور المركزية النقابية لينحصر في الجانب المطلبي‏[10].

والملاحظ في تلك المرحلة سعي السلطة الجزائرية إلى كسب شعبية العمال والاعتماد عليها في الحفاظ على مركزها أمام الجيش الذي كان في ذلك الوقت القوة الوحيدة المنظمة في البلاد. وجاء إقرار التسيير الذاتي تأكيداً للدور السياسي للنقابة الجزائرية، وهو ما توضح في خطاب المؤتمر الثاني للاتحاد العام للعمال الجزائريين الذي انعقد في آذار/مارس 1965، حيث التركيز على التسيير المباشر في الحياة الاقتصادية، وتوسيع القطاع الاشتراكي‏[11].

وفي هذا السياق، يتضح الرصيد التاريخي لنشأة إحدى أهم ركائز المجتمع المدني في الجزائر الذي استمد وجوده في الدولة الجزائرية الحديثة من كونه مجرد امتداد للبنية الفوقية التي تخدم نشر أيديولوجيتها وثقافتها السياسية ذات التوجه الاشتراكي‏[12].

توضح الدساتير الجزائرية على تعاقبها هذه الحقيقة، حيث اعترفت بالممارسة النقابية كحق، وكانت في عهد الحزب الواحد آخذة على عاتقها تجنيد اليد العاملة للنهوض بالتنمية وهو ما حدده الميثاق الوطني 1976، حيث حدد وظائفها فيما يلي:

– تأطير العمال وتطوير الوعي السياسي والتكوين الأيديولوجي‏[13].

– رفع المستوى السياسي والنقابي للعمال.

– تحسين المؤهلات التقنية.

– مواجهة الاستغلال الرأسمالي لحقوق العمال فيما يتعلق بالقطاع الخاص.

وبالتالي كانت النقابة جزءاً مدمجاً غير مستقل في المشروع السياسي والاجتماعي للسلطة، إضافة إلى أن الطابع الاحتكاري تجسد في سيطرة الاتحاد العام للعمال الجزائيين على التعبير عن مطالب الجماهير العاملة‏[14].

أما دستور عام 1989 الذي أقر التعددية لأول مرة، فجاء نتيجة لعدة متغيرات داخلية وأخرى دولية؛ فالإعلان العالمي لحقوق الإنسان وأحداث 5 تشرين الأول/أكتوبر 1988 المعبّرة عن تردي الوضع في الجزائر، إضافة إلى انعقاد المؤتمر السادس لحزب جبهة التحرير في 28 تشرين الثاني/نوفمبر 1988، مهد لصدور قانون الجمعيات السياسية وأفرز مشروع التعديل الدستوري الثاني في 13/11/1989 (الذي تمت الموافقة عليه بأغلبية مطلقة) الذي أقر التعددية بالمادة 40 (حق إنشاء الجمعيات ذات الطابع السياسي معترف به، ولا يمكن التذرع بهذا الحق لضرب الحريات الأساسية والوحدة الوطنية والسلامة الترابية واستقلال البلاد وسيادة الشعب)‏[15].

وهو ما أكده من جديد دستور عام 1990 الذي أتاحت المادة 2 منه تنظيم نقابات عمالية حسب النشاط والأهداف، وقد أتاحت هذه المنظومة القانونية الجديدة التنوع الذي ظهر مبدئياً من خلال 47 نقابة كنقابات عمال قطاع التربية والأطباء؛ وأساتذة التعليم العالي؛ والمهندسين؛ ونقابة الوظيف العمومي.

بيد أن هذه النقابات الفتية التي أخذت على عاتقها التعبير عن الوضع الاقتصادي والاجتماعي المتدهور، استُقبلت بعدم اعتراف النظام السياسي بها ليتجافى سلوكه مع الخطاب الذي تضمنه الدستور ولا سيّما في ظل استمراره في التعامل مع الاتحاد العام للعمال الجزائريين بناءً على الدور الإدماجي الذي قامت به تاريخياً‏[16]. وهذا يعني استمرار الاحتكار التمثيلي للعمال الذي يمارسه الاتحاد الجزائري، وذلك يظهر في عدة مناسبات، كمشاركته دون غيره في ندوة الوفاق الوطني سنة 1994، وهو ما يجعل من الاتحاد وسيلة طيّعة في يد النظام السياسي لمواجهة التنظيمات المستقلة التي تسعى لتكون رافضة لمنطق الدولة، هذه الأخيرة التي تستعين بجملة من الاستراتيجيات في سبيل ترويضها، وتتمثل بما يلي:

استراتيجية الاختراق: ويمثل الاتحاد العام الوطني العمال الجزائري خير قائم على هذه المهمة، بحيث يضم في صفوف قياداته، مسؤولين من جبهة التحرير الوطني والتجمع الوطني الديمقراطي.

استراتيجية تنظيمات مماثلة: كوزارة حقوق الإنسان ومرصد حقوق الإنسان في مواجهة الرابطة الجزائرية المستقلة لحقوق الإنسان.

استراتيجية القمع: من خلال تشريع قمع التنظيمات المستقلة بحجج معينة كقانون الطوارئ‏[17].

وهو ما يوضح جلياً أن الإدماجية السائدة في الجزائر حسب تحليل شمبيتر هي إدماجية الدولة (كوربوراتية الدولة) مقابل كوربوراتية أو إدماجية المجتمع الموجودة في النظم الديمقراطية التعددية‏[18].

إن الدور الذي يعول عليه للمجتمع المدني أمسى مرتبطاً بقياس الديمقراطية والحكم الراشد والأمن الإنساني، وهو ما يتعذر تحقيقه في الوقت الحالي، لكون التعديلات والإصلاحات تمتد لتشمل الجانب المؤسساتي والقيمي لإعادة هيكلة العلاقات بين المجتمع المدني والنظام السياسي الجزائري بالشكل الذي يسمح بمستويات أعلى من المشاركة والشفافية القائمة على إتاحة بلوغ المعلومة الحقة للمؤسسات والأطراف كافة، بما يوفر الانطلاقة الصحيحة للمراقبة والمساءلة. وأهم المؤشرات السياسية التي تم رصدها في هذا المجال هو تبعية المجتمع المدني في الجزائر وعدم استقلاليته واحتكار الدولة للمبادرة‏[19].

كما تنذر المؤشرات الاقتصادية بتفجر الوضع الاقتصادي في الجزائر، وهو ما يتطلب إيجاد متنفس وإطار شرعي للتعبير من خلال المجتمع المدني المستقل لضمان سيرورة المشاركة داخل الأطر الشرعية. وينسحب ذلك على الوضع الاقتصادي، حيث أدى تفاقم المشكلات الاقتصادية إلى تردي معدلات النمو وزيادة التضخم، وهو ما أكدته تقارير منظمة العمل الدولية حول نسبة البطالة في الجزائر التي قدرت بـ 29 بالمئة بالجزائر و22 بالمئة في المغرب لسنة 2005‏[20].

ولتجاوز ذلك يجب خلق وضع توصيفي جديد يعرف بدلالة كون المجتمع المدني شريكاً رئيساً في البرنامج الإنمائي لمواجهة الفساد المهيكل باعتباره وسيلة إضافية ضرورية للضغط من أجل تحسين الإدارة‏[21].

زد على ذلك استمرار الهيمنة في عهد الرئيس عبد العزيز بوتفليقة؛ هيمنة أيديولوجية ثقافية بشكل طوعي خاطبت آمال الجزائريين وحشدت تأييدهم وأسست مكوناً جديداً لشرعية بديلة من الشرعية الثورية، حيث مثلت الشخصية الكاريزمية للرئيس بوتفليقة حـلاً وحيداً مطروحاً في ظل أزمة الشرعية، منتزعاً بذلك خطاب المعارضة وتقمّص مطالبها، واستحوذ على المشهد الإعلامي والسياسي، وقاد مشاريع المصالحة الوطنية المرتبطة بأحداث أليمة عايشها الجزائريون، وتمثل ذلك في مؤشر القبول بنسبة كبيرة لمشروع المصالحة الوطنية من خلال الاستفتاء في سنة 1999 الذي أخرج البلاد من أزمة وطنية‏[22].

وفي السياق نفسه، ومن مستوى تحليل النظام السياسي كمتغير مستقل، نجد أن تركيزه على الجانب القيمي للثقافة السياسية، تجعله يوجِّه ويتدخل حتى في الوظيفة التلقينية للمؤسسات التعليمية. ويتعلق الأمر بالمدرسة التي تتضمن مناهج ومواد تعليمية رسمية محددة، يمكن من خلالها توقع النتائج التي تخلد إليها أذهان المتمدرسين، وهو ما أكده عالم السياسة الأمريكي ماريام حين أشار إلى الدور الأساسي للمدرسة بوصفها نظاماً تربوياً رسمياً يرسي قيم الانتماء والولاء‏[23].

كل ذلك يتضح من خلال سعي النظام السياسي الجزائري إلى تنشيط العلاقة بين المدرسة والوعي المقصود؛ فمقررات المراجع الدراسية، ولا سيّما في المرحلة المتوسطة في بعض المواد كالتاريخ والتربية الاجتماعية، تعدّ مواد تنشئة سياسية بامتياز، تظهر فيها بوضوح الاتجاهات السياسية للدولة، وتشكل علاقاتها الخارجية والمبادئ التي تحكم التصور السياسي والاقتصادي للجزائر‏[24].

ثالثاً: المتغيرات الدولية الأوروبية
والوظيفة التعبوية للمجتمع المدني

للمتغيرات الدولية دور رئيس في تحديد الأدوار المحلية للمجتمع المدني، فقد أمست العلاقة بين السياسة الداخلية ونظيرتها الخارجية وثيقة، وهو ما يفرض على المجتمع الجزائري مواجهة تحديات أخرى خارجية إلى جانب التضييق الداخلي المفروض من النظام السياسي. يتعلق الأمر هنا بالضغوط الخارجية الوافدة من الفواعل الدولية التي تظهر خصوصاً في شكل مشاريع أوروبية مطروحة على المنطقة المغاربية:

1 – الشراكة الأورومتوسطية

برز التواصل الأوروبي – الجزائري بشكل مؤسسي ابتداءً من إعلان برشلونة عام 1995، حيث تم تحديد الخطوط العريضة للشراكة الأورومتوسطية ما بين دول الاتحاد الأوروبي (15 دولة) والشركاء المتوسطيين (10 دول)، والتي شملت ما يلي:

– الشراكة السياسية والأمنية؛

– الشراكة الاقتصادية والمالية.

– المحور الاجتماعي الثقافي والإنساني، الذي ينصب على تنقل الأفراد بين الدول وتعزيز الأواصر بين مكونات المجتمع المدني، والنهوض بالتعاون اللامركزي والتعامل مع قضية الهجرة‏[25].

ويرجع الاهتمام الأوروبي بهذه الشراكة إلى كونها تشكل تحدياً له ولا سيّما بعد انهيار المنظومة الاشتراكية وبروز النظام العالمي الجديد تحت قيادة الولايات المتحدة الأمريكية، إضافة إلى تهميشها أثناء حرب الخليج، وهو ما أكد ضرورة استعادة النفوذ المفقود من خلال مأسسته مع الضفة الجنوبية للمتوسط عبر إغراءات مالية وبرامج ميدا من جهة، والحصول على مكانة منافسة لأمريكا عبر الترويج للقيم الأوروبية في شمال أفريقيا.

وقد ركز الخطاب السائد على المستويات الثلاثة للبناء المؤسسي للشراكة بحيث يعدّ المجتمع المدني أحد مكوناتها الأساسية، الذي جاء ضمن السياقين الثقافي والسياسي المحددين له من طرف الاتحاد الأوروبي، حيت جاء في التقرير حرفياً: «.. رفع مستوى الفهم المتبادل بين شعوب المنطقة، وتعزيز قيام مجتمع مدني حر ومزدهر عن طريق تنظيم عمليات التبادل الثقافي، وتنمية الموارد البشرية ودعم المجتمع المدني والتنمية الاجتماعية…» لأن أهم الأهداف الأساسية للمشروع هو إقامة حوار دائم بين 27 من الشركاء الذين يختلفون كثيراً فيما بينهم… «حسب النص التأسيسي لمؤتمر برشلونة حيث تم اتباع استراتيجية الضغط على متخذي القرار من خلال توسيع مجالات الالتقاء إلى المنتدى المدني الذي يضم أساتذة جامعيين من الضفتين ونشطاء في منظمات غير حكومية، في مجالات حقوق الإنسان والصحافة لبحث المشاكل الأوروبية»‏[26].

يؤكد هذا الأمر بوضوح أن الخطاب يحرص على توظيف المجتمع المدني – من خلال مداخلاته – في نشر وتعبئة مفاهيم وتقييمات إيجابية لمصلحة المبادرة الأوروبية، وذلك تحت غطاء الخبرة العلمية لتلقين مبادئ تعليمية (مثل: الانفتاح الدولي هو السبيل الأمثل أمام الدول المغاربية) موجهة تحديداً للفئات الواسعة المنظمة في النسيج التجمعي للمجتمع المدني‏[27].

جاء ذلك في مواجهة التباين الثقافي المرتبط بالتنافس على الهيمنة الدينية والفكرية في المتوسط، والمدعم برصيد تاريخي من سوء الفهم، وهو ما يوضح تقصُّد الشراكة الأورومتوسطية تغييب الهوية المشتركة، أو على الأقل في الجزء المغاربي المكون لها التي تبقى تتفاوض ككيانات منفردة مقابل كيان أوروبي متكامل ممثـلاً بالمفوضية الأوروبية‏[28].

وقد مثلت المأسسة – من خلال منتدى اليوروميد المدني – الوارد في مؤتمر برشلونة، وسيلة أساسية لتفعيل الخطاب، وهو منتدى تم تزويده بلجنة متابعة، حيث أسهم ذلك في انتشار منظمات جديدة ومراصد مختلفة توجه من خارج الدوائر الرسمية، وهو ما يوضح خطر هذا الإجراء، الذي يحقق بناء مجتمع مدني مشروط مكون من أنظمة فرعية داعمة للشراكة ذات الامتيازات الأوروبية، وهو خطر مكشوف تقوده خطط الاتحاد لجر بلدان جنوب المتوسط إلى عملية الإصلاح النيوليبرالي‏[29].

2 – سياسة الجوار الأوروبية

تعود سياسة الجوار الأوروبية إلى نشر المفوضية الأوروبية للوثيقة الرسمية المعنونة: «أوروبا الموسعة والجوار: إطار جديد للعلاقات مع الدول المجاورة في الشرق والجنوب» في سنة 2003، والتي سميت فيما بعد بسياسة الجوار الجديدة‏[30].

يمثل تقييم عملية برشلونة المدخل الطبيعي للاقتراب من سياسة الجوار الأوروبي الجديدة، فقد احتفل الاتحاد الأوروبي ودول الشراكة المتوسطية في 2005 بمرور عشرة أعوام على عملية برشلونة منذ تدشينها عام 1995 وفي خضم هذه الاحتفالات، كانت هناك تقييمات عديدة لعملية برشلونة بإيجابياتها وسلبياته، وكان الانتقاد الرئيسي أن الشراكة لم تحقق الهدف الرئيسي منها، أي إيجاد منطقة للرخاء والاستقرار والأمن في البحر المتوسط، وبقاء الشرخ بين النمو الاقتصادي في دول جنوب المتوسط والنمو السكاني‏[31].

يظهر الخطاب المصرح به من قبل الطرف الأوروبي إيجابياً مبادراً لبناء مسار توافقي بين الضفتين، وهو ما يظهر في أكثر من مناسبة، كتقرير المفوضة الأوروبية لسياسة الجوار «بنيتا فيريرو» القائلة: تحدي رئيسي وهدف شخصي في اغتنام الفرص الكثيرة المتاحة لنا هذا العام لتوثيق العلاقات بين الاتحاد الأوروبي وجيراننا في منطقة حوض المتوسط. فنحن نتقاسم مع هذه الدول روابط مشتركة من الجغرافيا، التاريخ، التجارة، الهجرة والثقافة يعود تاريخها لمئات السنين. وهذه المنطقة لها أهمية استراتيجية للاتحاد الأوروبي، وما يحدث في حوض المتوسط يؤثر مباشرة في حياتنا كمواطنين أوروبيين‏[32].

أ – أرضية أنا – لاند (La Fondation Anna lindh)

من أجل تعزيز التعاون الثقافي وتبادل الأفكار بين الشعوب المتوسطية والجمعيات الثقافية والمجتمع المدني، تتمثل أهم أهداف هذه المؤسسة بمواجهة العقبات التي تعترض حوار الثقافات، طريق العلاقات بين ضفتي البحر الأبيض المتوسط، وقد تابعت هذه المؤسسة كل مراحل الثورة المصرية لإدراك حاجات المجتمع المدني في الضفة الجنوبية في خضم الحركة الثورية.

كما تم إتباعها باستراتيجية جديدة بين عامي 2012 و2014، لمواجهة الأوضاع الجديدة بالتركيز على المفاهيم الأربعة التالية: الحوار الثقافي والتعددية والديمقراطية المفتوحة والمتعددة والتنمية البشرية التي تستهدف المجتمعات المتوسطية، ثم مؤتمر اليوروميد لوزراء الثقافة المنعقد في أثينا عام 2008 الذي أفرز استراتيجية اليوروميد للثقافة كطموح جديد للاستجابة بشكل شامل لتطلعات المجتمعات الأورومتوسطية على الصعيد، وأهم مراجعة خضعت لها سياسة الجوار الأوروبية سنة 2011 وبرنامج أوروبا المبدعة في 2014 هو إبراز الدور الأساسي للمجتمع المدني في التغيير بالتركيز على الجانب القيمي الثقافي‏[33].

ب – آلية الجوار للمجتمع المدني

تعمل هذه الآلية على تعزيز وتشجيع دور منظمات المجتمع المدني في القيام بالإصلاح والتغييرات الديمقراطية في دول الجوار من خلال حفز مشاركتها في تحقيق أهداف السياسة الأوروبية للجوار، وتضم إلى جانب الجزائر، كـلاً من مصر وإسرائيل والأردن ولبنان وليبيا والمغرب والأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967 وسورية وتونس وأرمينيا وأذربيجان وبيلاروسيا وجورجيا ومولدوفا وأوكرانيا خلال فترة زمنية تمتد من 2011 إلى 2013. الموازنة المالية لهذه الآلية قدرها 26 مليون يورو، وهي تهدف إلى تعزيز منظمات المجتمع المدني في البلدان الشريكة والمساهمة في بناء بيئة مؤاتية تسمح لها بالقيام بعملها، وتشجيع مشاركتها في الحوار السياسي والتفاعل بينها وبين السلطات على المستوى الوطني، وتشجيع مشاركة منظمات المجتمع المدني في وضع البرامج وتنفيذ مساعدة وسياسات الاتحاد الأوروبي ورصده في المنطقة. كما تتوافر على الدعم المالي للمشاريع التي تقوم بتنفيذها منظمات المجتمع المدني والتي تعدّ ذات صلة في إطار سياسة الجوار من خلال الشراكة من أجل الديمقراطية والازدهار المشترك مع دول الجنوب‏[34].

وأهم النقاط التي تتدخل سياسة الجوار من خلالها في مؤسسات المجتمع المدني كقنوات لاختراق الدول – ولا سيما الجزائر التي أمست تعاني إشكالية الشرخ في العلاقة بين النظام والمجتمع – هي‏[35]:

تحديد حاجات وقدرات منظمات المجتمع المدني في المنطقة والطريقة التي يمكن أن تسهم بها هذه المنظمات في حوارات قطاعية سياسية محددة.

تدعيم أنشطة بناء القدرات: الدورات التدريبية والندوات وورش العمل وتبادل الممارسات الجيدة وتوفير الدعم المناسب لمنظمات المجتمع المدني بهدف تعزيز قدراتها ودورها في تشجيع الإصلاح وزيادة المساءلة العامة في المجالات السياسية الخاصة بسياسة الجوار الأوروبية.

– تدعيم تنظيم المشاورات بين أصحاب المصلحة المتعددين على المستويين الوطني والإقليمي مع مشاركة منظمات المجتمع المدني والسلطات الوطنية وبعثات الاتحاد الأوروبي بهدف تسهيل مشاركتها في الحوارات القطاعية السياسية بين الاتحاد الأوروبي والدول الشريكة وفي تنفيذ المشاريع والبرامج الثنائية ذات الصلة.

تدعيم أنشطة الرصد والمناصرة التي يقوم بها المجتمع المدني في ما يتعلق بتنفيذ الالتزامات في إطار سياسة الجوار الأوروبية على المستويات الإقليمية ودون الإقليمية أو الوطنية، كما تدعم الأنشطة التي تقوم ضمن المنتديات والشبكات الخاصة بمنظمات المجتمع المدني.

تعزيز دور منظمات المجتمع المدني في عملية صياغة السياسات وتشجيع الحكومات والسلطات المحلية على اتخاذ موقف إيجابي حيالها عبر مشاورات تشاركية‏[36].

كل ذلك بالمواءمة مع «البرنامج الإقليمي للتواصل»، الذي تم تنفيذه بين عامي 2011 و2014 بموازنة إجمالية قدرها 14 مليون يورو، بهدف تعزيز المعرفة بالاتحاد الأوروبي وسياسة الجوار التي يتّبعها. ويسهم البرنامج في تحسين فهم سياسات الاتحاد الأوروبي وزيادة التوعية بالأعمال التعاونية التي يقوم بها في المنطقة، وهو يساعد على إنشاء شبكات مستدامة للتواصل والعمل على تعزيز قدرات ومهارات الصحفيين في مجال الشؤون الأوروبية، وليس مصادفة أن تشارك نفس الدول المعنية بآلية المجتمع المدني وهي: الجزائر، مصر، إسرائيل، الأردن، لبنان، ليبيا، المغرب، الأراضي الفلسطينية المحتلة، سورية وتونس‏[37].

مع العلم منطق التنفيذ غير ديمقراطي، وهو منطق قائم على الضغط والمساومة: أو ما يسمى مقاربة التحفيز، أو مقاربة المزيد من أجل المزيد كمنطق لتنفيذ الاتحاد الأوروبي سياسته، حيث كان من الواضح اتباع المشروطية المادية من أجل حصول الدول المغاربية، ولا سيما الجزائر، على الدعم المالي والتقني، وهو ما تم تأكيده من خلال دراسة لمعهد الدراسات الأمنية الأوروبية التي أوضحت انتقادات حادة وجهها الاتحاد الأوروبي للحكومة الجزائرية التي وصف إصلاحاتها بالشكلية والبطيئة، ورفض إرسال بعثة مراقبين للانتخابات الرئاسية، ثم جاء إطلاق الاتحاد الأوروبي نهجاً تكييفياً حاول معه زيادة المشروطية السياسية، بتقديم مساعدات مالية إلى الشركاء الجنوبيين من طريق «مبدأ تحقيق مزيد من التقدم في الإصلاحات الديمقراطية»، وبرز فشل الاتحاد الأوروبي بوضوح في تحديد الإصلاحات الديمقراطية ونشاط المجتمع المدني في منطقة جنوب المتوسط. وقد حاول الاتحاد الأوروبي إعادة تقويم نهجه نحو الجزائر ومصر وليبيا والمغرب وتونس، حيث سعى للمشاركة في التحولات الديمقراطية. كما ينتقد المعهد الأوروبي تجاهل الاتحاد في استراتيجيته، الأوضاع الداخلية المعقدة التي قد تجعل من الصعب الشروع فوراً في إجراء إصلاحات بالجزائر‏[38]، وذلك في ضوء المقارنة مع المغرب الذي أبدى تجاوباً كبيراً مع الضغوط والإغراءات الأوروبية، وهو ما يجعل مفهوم الشراكة والجوار الذي تتكلم عنه أوروبا في خطابها لا معنى له عندما يتم النظر إلى التطبيق على أرض الواقع، وهو ما يؤكده روبن زانوتي، من أن هذه المفاهيم التي تعطي دور النظير أو الند للدول المغاربية لم يتم توظيفها في هذه السياسة‏[39].

إن النظر إلى السياسات الأوروبية، يوضح اشتراكها في عامل جوهري يرتبط بالمنطق النفوذي القائم على أهداف نقل المعايير، اعتقاداً بأن إمكان بلوغ الدول المغاربية مستويات الذات الأوروبية مرهون بنقل نماذجها الاقتصادية والسياسية والثقافية، وليس البناء، بحيث تعد الشراكة والجوار أهم تجلياتها‏[40].

وهو ما أفرغ الحوار من معناه وأهدافه عندما حوله الطرف الأوروبي إلى أهداف سياسية واقتصادية ينافس بها الولايات المتحدة على نفوذها في المنطقة، فاستحال الحوار صيغة تفاوضية ولم يعد حواراً معرفياً فكرياً حضارياً[41].

خاتمة

الخلاصة التي تستشف من هذه الورقة، هي أن الوضع النقابي في الجزائر لا يزال محتكراً بالشكل الذي كان شاخصاً في عهد الحزب الواحد، رغم التعددية التي أقرها التعديل الدستوري؛ أي أن توصيف الواقع المعاش لا يعدو أن يكون غرامشياً، بدلالة استمرار الاتحاد العام للعمال الجزائريين كمؤسسة ممتدة تابعة للمؤسسات الرسمية، في حين نجد دستوراً يحمل قيماً ليبرالية تقدس الحريات والتعددية، وهو ما يجعلنا نستنتج أننا لا نزال في طور النقاش التقليدي الذي يدور حول إرساء وجودي للمؤسسات غير الرسمية كمشارك مستقل في العمليات السياسية التي تتراوح بين الضبط الاجتماعي والتخصيص السلطوي للقيم والسياسات العامة، وبالتالي لا نزال متخلفين عن النقاش الراقي للديمقراطية الذي يتمحور حول العملية القياسية.