مقدمة:

استهل ابن باديس (1889 – 1940) نشاطه الإصلاحي كمثقف ومصلح، في سياق حركة النهضة العربية الأولى التي شملت ربوع العالم العربي والإسلامي، نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، كما أنه خاض تجربته الإصلاحية من أجل إعادة المجتمع الجزائري إلى تاريخه الخاص الذي يتواصل مع قيم العدالة والتسامح والتعايش الديني.

اتسعت تجربة الإصلاح عند ابن باديس إلى جميع الموجودين في الجزائر المستعمَرَة، بحيث شملت المسلمين وغيرهم، وبالقدر الذي تمكن الجميع من العيش معاً، في ظل التسامح والحرية والمدنية الحديثة. فقد آل ابن باديس على نفسه أن يعيش للأمة‏[1] ومعها على أساس من مُثُل الدين الإسلامي في مدلوله السامي الذي يَنِد دائماً عن النَّمَطِية والمذهبية وروح التعصب‏[2]، كما أنه سعى بنفس القدر والحرص إلى دعوة السلطة الفرنسية للتخلص من مظاهرها الاستعمارية كأفضل سبيل إلى الوجود المشترك بين الجزائريين والفرنسيين، وأن فرصة الإسلام السَّمح هي للجميع من دون استثناء.

كان ابن باديس متشبعاً بمفهوم التسامح ليس في معناه النظري والأخلاقي فحسب، بل عايشه أيضاً كإمكان تحقيقه على أرض الواقع بما حَفَل به من تعدد ديني واختلاف سياسي وتنوع إثني. هذه الحقيقة، ارتقت عند ابن باديس إلى حالة من اليقين الذي لا يدانيه أي ريب، ولا يعتريه أي ظن. إن التسامح في فكر وممارسة ابن باديس، حقيقة دينية واجتماعية تتجاوب مع روح العصر الحديث والمدنية المعاصرة وما تنطوي عليه من مبادئ الحرية والمساواة والأخوة والإنصاف للإنسانية كافة.

وللوقوف على تجربة ابن باديس الإصلاحية عندما تعني التسامح والتعايش الديني، نلتمس الخط الذي يوضح شخصية ابن باديس كمصلح إنساني، تَعَلَّق بالتسامح كسلوك أخلاقي وإجراء عملي سياسي واجتماعي في سياق وضع استعماري‏[3]، استثمر في المجال المناهض له لكي يحرر الجزائريين من الاستغلال، ويعيد الفرنسين إلى أصول تجربتهم الإنسانية السابقة على الاستعمار.

أولاً: الإصلاح.. فلسفة إنسانية

امتدت تجربة الإصلاح عند ابن باديس إلى كل السُّكان القاطنين في الجزائر المستعمَرَة. فقد سعى، ضمن حركته الإصلاحية، إلى إصلاح الوضع العام بالقدر الذي يستفيد منه الجميع مجتمعاً وسلطة، مسلمين وغير مسلمين. كان مقصد ومسعى الحركة الإصلاحية، كما جاء في خطاب رئيس جمعية العلماء بعد سنتين من النشاط الإصلاحي: «أن الجمعية ورجالها ومجلس إدارتها ثابتون ثبوت الجبال، ثقة في أنفسهم، بأنهم دعاة حق وقصّاد خير وعمّال لصالح هذا الوطن بأمته وحكومته وجميع ساكنيه»‏[4]. كما اتسعت تجربة الإصلاح، في التصور والغاية إلى تحسين الوضع في الجزائر على اختلاف صُعُدها وتبَاين سُكَّانها وتعقُّد مراكزهم بما يعدّل حالتهم الاجتماعية والسياسية، ويوفر لهم الإطار القانوني الذي يسوِّي بينهم أمام القضاء ومؤسسات الدولة. كان الإصلاح، عند ابن باديس يرادف المدنيَّة الحديثة المتأتية من فكرة نهضة شاملة تعم الحياة الدينية والسياسية والفكرية والسياسية كافة، حالة من التقدم الحضاري على ما وصلت إليه الأمم المتقدمة ومنها فرنسا.

كانت مدينة قسنطينة التي ولد بها ابن باديس ومات تزخر بالتنوع الإثني والديني، علاوة على الحياة السياسية التي كانت تنشِّطها أحزاب سياسية، نصيب الأهالي المسلمين فيها زهيد جدّاً. فالإصلاح العام والشامل يقتضي، عند ابن باديس ردم الفجوة التي لا تني تستفحل بين المسلمين والأوروبيين في الجزائر، وأن استمرار هذا الوضع سيفضي لا محالة إلى الانهيار الكبير الذي تَضِيع فيه الجزائر على الطرفين الفرنسي والجزائري. المدينة التي عاش فيها ابن باديس وخاض فيها مشروعه الإصلاحي، كانت تزخر بالمؤسسات الإدارية والمرافق العامة والنشاط الخدماتي، التجاري والاقتصادي الحديث، فضـلاً عن عُمْرانها المواكب لروح المدينة الحديثة، التي توفر امكان التعايش الديني والسياسي والثقافي.

مقتضى المدنيَّة الحديثة عند ابن باديس، أنها تلتمس الإصلاح بالعودة إلى الإسلام، عقيدة وفكراً وحضارة من أجل استخلاص «فهوم» ومعاني تواكب العصر، مثل التسامح، الإنسانية، العدالة والمساواة كتراث مشترك لكل البشر، على ما أوحى به القرآن الكريم. هذا الوجه الأول من الإصلاح، أما الوجه الآخر، فيلتمسه ابن باديس من السلطة الفرنسية من أجل تحقيق مطالب الأهالي المسلمين على أساس من العدل والإنصاف والمساواة. فقد كان قدر ابن باديس أن يتوجه إلى النظام الحاكم يستحثه على إصدار التشريعات الضرورية من أجل ترقية الأهالي مادياً ومعنوياً كسبيل إلى تسوية وضعهم كمواطنين يعادلون على مستوى القانون والسياسة وضع المواطنين الفرنسيين.

إن التشديد على مفهوم التسامح والإنسانية والتعايش الديني المشترك من المفاهيم الإجرائية التي ألح عليها ابن باديس في سياق وضع استعماري‏[5]، ليعالج بها وضع الأهالي المسلمين، كما يعالج بها في ذات الحال، وضع الفرنسيين في الجزائر شعباً وسلطة. حقيقة الإسلام الذي دعا إليه ابن باديس، هو الإسلام الذاتي القائم على الاجتهاد وأعمال الفكر والنظر من أجل تجاوز النظم الطرقية ومؤسساتها التقليدية الراكدة التي لم تعد تساوق المدنية الراهنة، لا بل أضحت تعبّر عن الإسلام التقليدي الذي يستغله النظام الاستعماري كإسلام الجزائريين. إن الإسلام التقليدي، كما يرى ابن باديس: «لا يمكن أن ينهض بالأمم، لأن الأمم لا تنهض إلا بعد تنبه أفكارها وتفتح أنظاهرها. والإسلام الوراثي مبني على الجمود والتقليد، فلا فكر فيه ولا نظر»‏[6].

يعاني الإسلام في الوقت الرَّاهن، ثلاثينيات القرن العشرين، حالة عجز عن امتلاك ناصية المدنيّة والتقدم، على غرار ما يجري في بلدان أوروبا وفرنسا. فقد سادت رتابة في التقاليد والأعراف، وحالة من التكلس في شعائر الدين وطقوسه، أخرجته عن التاريخ واغتالت مادته الحية التي هي اللغة العربية. من هنا لزم الأمر، عند ابن باديس، أن ينصح رجال الإصلاح على اعتماد الإسلام الذاتي كإمكان حضاري معاصر للمدنيّة الحديثة. فما هو الإسلام الذاتي، وهذا اجتهاد من ابن باديس نفسه، «إسلام من يفهم قواعد الإسلام ويدرك محاسن الإسلام في عقائده وأخلاقه، آدابه وأحكامه وأعماله، ويتفقه – حسب طاقته – في الآيات القرآنية والأحاديث النبوية. ويبنى ذلك كله على الفكر والنظر، فيفرق بين ما هو إسلام بحسنه وبرهانه، وما ليس منه بقبحه وبطلانه، فحياته حياة فكر وايمان وعمل، ومحبته للإسلام محبة عقلية قلبية بحكم العقل والبرهان كما هي بمقتضى الشعور والوجدان»‏[7].

الواضح من هذا التعريف للإسلام الذاتي، هو اجتهاد لمحاولة استكناه رسالة الإسلام في الزمن الرَّاهن الذي يساير المدنية الجديدة في جوانبها وتجلياتها كافة، مهما كانت بنيتها البشرية الدينية والثقافية‏[8]. وكل الإمكانات التي يوفرها الإسلام الذاتي، من فكر وايمان وعمل، يجب أن يلازمها الصدق، وأن المحبة الإسلامية ترادف المحبة الإنسانية التي تملك بجماع القلب والعقل. ذلك هو الإسلام الذاتي الذي يساعد على النهضة الشاملة للمسلمين في سياق الدولة الحديثة القائمة على التقدم والرقي. ويوضح ابن باديس طبيعة التفكير المتعلق بالإسلام الذاتي، على النحو التالي: «فبالتفكير في آيات الله السمعية وآياته الكونية‏[9] وبناء الأقوال والأعمال والأحكام على الفكر، تنهض الأمم، فتستثمر ما في السموات وما في الأرض وتشيد الصروح المدنية والعمران»‏[10].

هذا الجانب، المتعلق بالإسلام الذاتي، الجهد الخاص بالمسلمين في صلتهم بالتقدم والمدنية، يحتاج أيضاً إلى مساعدة الدولة المتمدنة والمتحضّرة، فرنسا ذات التجربة التاريخية الرائعة مع العدالة والحرية والأخوة… ولكن هذا الوجه المشرق الذي طالما تقرب الجزائريون منه وحاولوا استلهامه من أجل فهم الحقائق وتوضيع المسائل وشرح الإصلاح، اكتنف هذا الوجه قناع آخر مناقض تماماً له ومن التجربة الفرنسية نفسها، وفي العمل الذي يقوم به عرّاب الاستعمار وأعوانه إن في الجزائر أو في فرنسا، والذين نصبوا أنفسهم مناوئين للمسلمين الجزائريين، حائلين بينهم وبين التقدم والرقي في المدنية الحديثة، وهذا إشكال حقيقي يطرحه ابن باديس على النحو التالي: «لا عجب، فقد علّمتنا التجربة أننا كلّما دَنَوْنا من الروح الفرنسوية الصميمة، والفكر العلمي الفرنسوي الخال – رأينا مجسماً من تاريخ فرنسا الحافل، وسمعنا جلية آيات الحرية والأخوة والمساواة التي كتبت بدماء أولئك الأبطال، فكنا نقدر ما يزداد إعجاباً بفرنسا العظيمة، نزداد تعجباً من قوم يعيشون باسمها وتنطق أقوالهم وأعمالهم، في الغالب، على ما رأيناه وما سمعناه… أولئك الذين يرمون كل مدافع عن حقّه من المسلمين المخلصين لفرنسا بأنه متعصب تعصباً إسلامياً!»‏[11] ثم ينصح هؤلاء بأخذ ما جاء في خطاب السيد رئيس الجمهورية، بمناسبة تدشين مسجد باريس، كقاعدة سلوك حضاري ومبادئ للسير في حياتهم.

ثانياً: التسامح في المجال التربوي

التسامح في تجربة ابن باديس الإصلاحية، هي تحَمُّل الحياة، بدون مشقة، مع الآخرين في ظل قوانين الجمهورية والنظام القانوني القائم على مبادئ الثورة الفرنسية 1789 المعروفة: حرية، أخوة ومساواة. وفي الحالة الجزائرية، ينطوي التسامح على التعايش الديني في ظل نظام يحترم التعامل بالمثل بين الديانات، والالتزام بقيم الأخوة والزمالة وحسن الجوار فضلاً عن الحرية الدينية والضمير والفكر، وكل هذه المعاني مكرسة في شعار الثورة الفرنسية وقوانين الدولة الفرنسية في المتروبول، لكن الأهالي المسلمين في المستعمرة الجزائرية يعانون غياباً خائباً ومذموماً لهذه الفضائل، كما وردت في القرآن الكريم وكما جاءت أيضاً في المبادئ التي تحررت بها فرنسا من سطوة النظام السابق على الثورة (l’Ancien Régime).

وعليه، فقد حرص ابن باديس على التسامح كمفهوم إجرائي، لا يحيل على دلالته الدينية فحسب، بل يتعداه إلى المجال السياسي والقانوني والمدني، بالقدر الذي يمكن أن يتحقق، لأن الوضع الاستعماري المكرس للظلم، والحيف وسوء المعاملة، يحول دون استفادة الأهالي من معاني التسامح وإمكاناته الأخلاقية والعملية. والترجمة العملية لفضيلة التسامح عند ابن باديس، أن يتم العيش المشترك مع الأمة الفرنسية في الجزائر في ظل سيادة قوانين الجمهورية ومبادئ الحكم المدني العادل والمنصف، بحيث يتم تقاسم ثروات البلد وخيرتها بناء على تشريعات تساعد على ردم التمييز بين السكان وترقية الجميع إلى مصاف المواطنين كأفضل سبيل إلى بناء دولة دائمة وقارة تستند إلى روح المدنية الحديثة وتاريخها المعاصر.

إن فضيلة التسامح وقيمتها، تستند في فكر باديس وتجربته إلى فلسفة مشروعه الإصلاحي الذي اتخذ بعداً «وطنياً» وشامـلاً، بعد تأسيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين عام 1931، عقب احتفالات فرنسا بمئوية الاحتلال. إن إنجازات فرنسا في الجزائر هي بالضبط ما ينقص الجزائريين من الأهالي المسلمين، وأنه من الإنصاف والعدل أن تعمم هذه الإنجازات على الجميع كأفضل سبيل إلى تفادي الكوارث السياسية لاحقاً، لأن طبيعة النظام الاستعماري أنه لا يحفل كثيراً بمسألة العواقب ومفضيات التاريخ القادم. كان ابن باديس صادقاً بإمكان العيش المشترك بين الفرنسيين والجزائريين، بين الديانات التوحيدية في الجزائر، فهي أرض تسع الجميع، وعلى الجميع أيضاً دحض الاستعمار الذي يجب أن يكون خصم الجميع. تلك حقيقة ارتقت عند ابن باديس إلى اليقين ونذر نفسه لها إلى أن يزول الاستعمار.

إن خصوم الجزائريين المسلمين، في رأي ابن باديس، هم أيضاً خصوم فرنسا، وهذا ما يوضحه الرجل في أكثر من مقال ومقام. فعندما أصدرت الحكومة الفرنسية مرسوم رنييه القاضي بحظر تعليم اللغة العربية إلا بشرط الحصول على رخصة من الإدارة، وهو الإجراء الذي عدّه ممثلو الأهالي نقيصة تنال من شخصية الأمة الجزائرية في أهم مقوّم من مقوماتها وهي اللغة العربية «المادة الحيوية للشخصية الإسلامية» كما كتب ابن باديس، والذي رأى أن المرسوم الملعون صدر بوحي من خصوم وأعداء المسلمين وخصوم وأعداء فرنسا أيضاً، وإن كانوا لا يدركون ذلك بحكم ذهنيتهم الاستعمارية، وقد عقّب على ذلك بقوله: «بينما الأمة الجزائرية تنتظر من فرنسا منحها حق التصويت البرلماني، مع بقائها على شخصيتها الإسلامية، إذا بأعداء الأمة الجزائرية، وأعداء فرنسا أيضاً، يجمعون أمرهم، ويبدون كيدهم، فيستصدرون من الحكومة قراراً وزارياً بعقوبات صارمة على التعليم، ليهددوا هذه الشخصية الإسلامية من أصلها وليقضوا عليها بالقضاء على مادة حياتها»‏[12].

توضح الفقرة السابقة من كلام ابن باديس حالة التلازم بين الإسلام والدولة الحديثة، وأن مصير فرنسا والجزائر واحد، وأن المنقذ الأخير والوحيد هو العيش المشترك، لأن عظمة فرنسا تتحقق أيضاً بالإسلام، وأن المسلمين بإمكانهم الاستفادة من النظام القانوني الفرنسي.

اجترح ابن باديس مشروعه الإصلاحي الذي يحافظ على ما هو قائم بما يساعد الجميع على العيش المشترك في إطار من دولة المؤسسات العمومية والنظام القانوني، لا يدعو إلى الثورة ولا إلى التمرد أو الانقلاب على ما هو سائد، بناء على قناعته بالمنظومة القيمية والأخلاقية الإسلامية ووعيه بالفكر السياسي الحديث ونظمه القائمة على الديمقراطية وإدارة الاختلاف والتنوع الاثني والقومي والديني. وعليه، فقد كان يحرص على ضرورة المعاملة بالمثل بناء على مفهوم التسامح الذي لا يقتصر على المعنى الديني، بل يجب أن يتعدى مناحي الحياة كافة. فالتسامح بوصفه فضيلة أخلاقية ومفهوماً إجرائياً، كفيلٌ بأن يوفِّر المجال للتواجد معاً والعيش المشترك، وأن الضامن على ذلك هو الدولة ذات المؤسسات التي تتعامل مع شعب واحد، وليس بوجهين تخاطب من جهة الفرنسيين وتخاطب بقوانين أخرى الأهالي المسلمين (مدونة الإندجينا).

كان ابن باديس يدرك، وفق مشروعه الإصلاحي الشامل، أن لا تُقْدم الإدارة على إجراءات استثنائية شاذة تزيد من التمييز والتفرقة بين المتساكنين في مستعمرة الجزائر، لأن من طبيعة التصرف الاستعماري أن يرتب العواقب الوخيمة على الجميع نظراً إلى تعقد ظاهرته. ولعلّ واقعة صدور مرسوم رونييه، 8 آذار/مارس 1938، الرامي إلى تعطيل تعليم اللغة العربية لدى الأهالي المسلمين، تؤكد «عنف» النظام الاستعماري وتوجهه التدميري المفارق لمبدأ التسامح وروح الحداثة، يقول ابن باديس في هذا الصدد: «لقد فهمت الأمة مَنْ المعلِّمون المقصودون، فهم معلمو القرآن والإسلام، ولغة القرآن والإسلام، لأنهم هم الذين عرفت الأمة كلها ما يلقون من معارضة ومناهضة وما يَجِدون من مقاومة ومحاكمة، بينما غيرهم من معلمي اللغات والأديان والمروِّجين للنصرانية في السهول والصحارى والجبال، بين أبناء وبنات الإسلام، في أمن وأمان، بل في تأييد بالقوة والمال. وهم الذين إذا طلبوا الرخص بكل ما يلزم للطلب أجيبوا بالسكوت والإعراض، أو أعلن لهم بالرفض لغير ما سبب من الأسباب، فهم الذين إذا طلبوا اليوم كان، كما بالأمس، السكوت أو الرفض جوابهم، ثم إذا أقدموا على التعليم بلا رخصة كان التغريم الثقيل والسجن الطويل جزاءهم، وإذا أحجموا واستسلموا تم لأعداء الإسلام والعربية مرادهم، وقضوا على القرآن والإسلام ولغة القرآن والإسلام قضاءهم»‏[13].

من المعاني التي يشير إليها مفهوم التسامح الدارج في الفكر الأوروبي، وبخاصة في فرنسا التي عرفت في تاريخها لما بعد النهضة الأوروبية الحروب الدينية، بين الكاثوليك والبروتستانت، معنى الاحتمال أو تحمّل الآخر المختلف ولو نوع من التحّمل كونه يحمل ديناً آخر. إن كلمة Tolérance تشير إلى فعل Tolérer أي التَّحَمل وإبداء القدرة على إطاقة الوضع والصبر عليه، وهذا ما تعامل معه ابن باديس أيضاً الذي كان يتصوَّر وهو يخوض غمار الإصلاح، أن فرنسا دولة ونظام وقانون وحضارة حديثة ذات مكانة عالمية تغري بالاقتفاء والاحتذاء، لكن لفرنسا أيضاً وجه استعماري، أبرز ما يظهر في سياستها حيال المستعمرة الجزائرية القائمة على حرمان أهلها الحقوق والحريات وعدم إدراجهم في وعاء مؤسسات النظام الجمهوري. هذا الضَّنك والحيف والجور هو الذي يستدعي تحَمُّل الآخر ولو نوع من التحمل، لكن على سبيل مقاومته والتخلص منه، وبخاصة أن إمكان مقاومة الاستعمار عن خلفية إجرائية، التسامح هو ما يعرفه ابن باديس من معاني الصفح والعفو والسماحة والغفران الواردة في القرآن الكريم وما جاء في معاني ذلك في السنّة النبوية والسلف الصالح من الأمة، وكلها يفيد أن شدّة احتمال وصبر على المكاره يعقبها انفراج وتنفيس عن احتقان وحسن الختام. وفي مجال الصبر على المكاره والثقة في المستقبل يقول ابن باديس: « لقد كنّا نحسب ونود، أننا نعود فنذكر برّ الإدارة لوعدها، وفي أدق شعورها، وبرعايتها ما تقتضيه مصلحة فرنسا من كسب قلوب الشعوب الواقعة في نطاق نفوذها لأيام رخائها وشدتها، فنرفع الصوت بالشكر والاغتباط، ونعرب عن شعور الأمة وعاطفتها الحقيقيين باللسان الصادق والضمير المرتاح. ولكن، ويا للأسف، خاب الظن، وخابت الوعود وانقشعت الأماني التي هي أحلام وتضليل»‏[14] هذا وصف لحال ممثلي الأمة بعد عودتهم إلى النشاط الاجتماعي، لما بعد صائفة 1938، ولم يصدر ما يفيد استجابة لمطالب الأمة في حرية تعليم اللغة العربية ولغة قرآنها، وهي حالة مؤسفة ومؤلمة كما يقول ابن باديس. أما كيف يجب التصرف حيال هذا الوضع، فيقول ابن باديس: «برغم العراقيل ما تزال (الأمة) تبذل في التعليم بكل مناسبة، وتسعى للمطالبة والمقاومة بكل وسيلة مشروعة، وتتحمّل تغريم المتعلّمين، ويتحمّلون، بكل ثبات وطمأنينة. فهل تدرك الإدارة معنى هذه النفسية من الأمة؟ وهل تبصر من وراء هذا الثبات والجلد شبح الحقيقة؟ وهل تشعر بما تنطوي عليه قلوب هذه الأمة المسلمة المسالمة من الألم واللوعة؟ ليتها، ولعلّها يكون منها كل ذلك في صالح الجميع، وفي سبيل الحق والعدالة، ومن أجل الصفاء والسلام»‏[15]. غني عن البيان، أن ما تؤكده هذه الفقرة، حرص صاحبها على معاني التسامح عندما تعني الصبر واحتمال الضيم والسماحة والثقة في الحق والعدالة والصفاء والسلام. وهكذا، فقد انصرف تعامل ابن باديس مع مفهوم التسامح، في إطار حركته الإصلاحية، إلى مخزون ما يتوفر عليه تراث الإسلام وما تحتويه تجربة التاريخ الأوروبي الحديث. لا بل، إن ابن باديس يذهب إلى ما هو أبعد من هذا، أي ظلم الإدارة الفرنسية حيال اللغة العربية، ليقول إن الشعب الجزائري حُرم أيضاً اللغة الفرنسية التي لا يمكن أن يستقيم العيش بدونها في الجزائر: «ولو أنّا حُرمنا من تعلمّ اللغة الفرنسية التي هي سبيلنا إلى آداب الغرب وعلومه وفنونه وفهمه من جميع جهاته، كما حرمنا من تعلم لغتنا، لوقفنا إزاء ذلك الحرمان، كَوُقُوفنا إزاء هذا الحرمان»‏[16].

التسامح الديني.. في فكر وتجربة ابن باديس.

«أنا زارع محبة، ولكن على أساس من العدل والإنصاف والاحترام مع كل أحد من أي جنس كان، ومن أي دين كان… فاعملوا للأخوّة ولكن مع كل من يعمل للأخوة فبذلك تكون الأخوة صادقة»‏[17]. كان ابن باديس فعـلاً ابن المدنيَّة الحديثة التي علق عليها وعلى مؤسسات دولة القانون رجاء الحل والانفراج، فقد كان صادقاً ومقتنعاً إلى حد السلوك الحضاري بفضيلة وإجرائية التسامح كتعبير عن التعايش الديني في المجال المشترك‏[18]. فالتَّعدد والاختلاف والتنوع‏[19] يجب أن يسمو عليها إطار قانوني مجرد وموضوعي يعامل الناس كافة على أساس من العدل والمساواة والأخوة، لأنه في حالة نشوب خلاف أو أزمة يجب أن يؤول الحل إلى النظام الحاكم ولا يمكن أن لا يعزى إطلاقاً إلى طائفة من الطوائف المتواجدة في المجال المشترك، مهما كان أصلها أو دينها أو حزبها السياسي.. غير أن الوجه الاستعماري للسلطة القائمة هو الذي كان دائماً يحول بين الأهالي المسلمين وبين ترقيتهم الاجتماعية والسياسية بالقدر الذي يعدِّل مركزهم القانوني والمدني إلى مصاف «المواطنين» المسلمين في الجزائر. وهذا بالذات ما حدا بالحركة الإصلاحية على الاستثمار في الدين وفي اللغة العربية من أجل تخطّي الوضع المفارق الذي كرَّسه النظام الاستعماري القائم وهو تدَخّلها في الدين الذي يعدّ اختراقاً فادحاً لقانون الفصل بين الكنائس والدولة لعام 1905 وللمرسوم التطبيقي له في الجزائر والصادر عام 1907‏[20].

في تجربته الإصلاحية جايل ابن باديس فكرة الإصلاح مع إمكانية تحقيقها، الأمر الذي تطلب منه التعاون مع الآخرين على اختلافهم وتنوعهم وتعددهم في المواقع الاجتماعية والمسؤوليات السياسية والإدارية. هذه الحقيقة تعد لازمة من لوازم التعامل اليومي في المدينة، التي لم تعد قاصرة على فئة أو طائفة أو طبقة؛ فعندما راح ابن باديس يدعو إلى ضرورة توحيد الجهد الإصلاحي على أساس من اللغة العربية والدين الإسلامي توجه إلى الجميع من أجل أن يساهم في تأسيس جمعية للعلماء الجزائريين، هذا الإنجاز العظيم في حياة الجزائريين ومستقبل فرنسا في الجزائر. والى هؤلاء جميعهم توجه ابن باديس في أول خطاب له أمام الجمعية الناشئة: «أيها السادة قد انجزتم أمراً عظيماً وأسستم مستقبـلاً عظيماً، ولقد جئتم من أنحاء القطر ملبِّين داعي الاجتماع ناسين كل أسباب الافتراق فبرهنتم على أن علماء الجزائر متصفون بما يجب أن يتصف به العالم الحقيقي الذي صار العلم له صفة روحية وحياة قلبية من سعة الصدر والتسامح ونسيان الفكر الخاص أمام الصالح العام. […] وعلى كل واحد منّا أن يكون داعية للجمعية بقوله وعمله، وأن يكون ممثـلاً لفكرتها في الاتفاق والتآخي ونشر الخير، وأن يطرح كل واحد منّا فكره الخاص عندما تجيء مصلحة الجمعية. حسبنا ما مضى، كفى ما تقاتلنا على الكلمات، فكلمة (فرق) ماتت من بيننا، وما بقي إلا العمل على الوفاق والوئام لتبلغ غاية المرام»‏[21]. ما يتضح من هذه الفقرة التي وردت في أول خطاب لابن باديس أمام جمعية العلماء، أنه عازم على دخول مجال الإصلاح على خلفية واضحة وهي التمييز بين الصالح العام والمصلحة الخاصة، وأن الانضواء تحت مؤسسة الجمعية هو التزام بيّن وصادق على تجشم درب المنفعة للجميع، لأن، كما يقول في موضع آخر، «مبدأنا الإصلاحي التهذيبي قد ملك علينا حواسنا وأوقتنا»‏[22]، ويضيف في مقام آخر يؤكد فيه تماهيه في الوطن الجزائري، عندما كلفه الاجتماع العام المؤسس لجمعية العلماء تولي رئاستها، فقال: «إخواني إنني ما كنت أعد نفسي أهـلاً للرياسة لو كنت حاضراً يوم الاجتماع الأول، فكيف تخطر لي بالبال وأنا غائب، لكنكم بتواضعكم وسلامة صدوركم وسمو أنظاركم جئتم بخلاف اعتقادي في الأمرين فانتخبتموني للرياسة وأنا، غائب. إخواني، إنني كنت أعد نفسي مِلْكاً للجزائر، أما اليوم، فقد زدتم في عنقي مِلْكية أخرى، فالله أسأل أن يقودني على القيام بالحق الواجب»‏[23].

ثالثاً: رد إنساني.. وليس دفاعاً عن الإسلام والمسلمين

من المواقف الفكرية التي تساعد على رسم الملامح الإنسانية لابن باديس وهو يتعامل مع آخرين غير مسلمين موقفه من أولئك، ولا يعتبرهم أكثرية، الذين يرمون الإسلام بالعنصرية والتطرف والمسلمين بالذهنية المتزمتة والإرهابية . فقد كانت له مناسبة الرد الطويل على السيد روبير آشيل، مستعرب فرنسي الذي تجرأ على نشر رأيه حول الإسلامين في مقال ورد تحت عنوان «العقلية الإسلامية»، وبادر إلى اعتبار «المسلمين الشرقيين لهم تهيأ لعداوة وحقد ضد الأمم العربية المسيحية، فهم لشرقيتهم عدو خطر لكل غربي، ولإسلاميتهم عدو خطر لكل مسيحي»‏[24]. ثم ذهب يسرد من التاريخ والنص القرآني ما يقيد تعصب وتزمّت وكراهية الإسلام والمسلمين للغرب وللمسيحية.

حقيقة، إن وقوف الباحث اليوم على رد ابن باديس على السيد آشيل وقوف ما يفيد طريقة تفكيره ومنهجه في معالجة قضايا الفكر والدين والسياسة. والغالب، أن ابن باديس يعود إلى طبيعة الأمور وحقائق المجتمع والتاريخ في أصولها وسيرورتها العادية لكي يفنِّد مزاعم وأراء آشيل، ويبادره على النحو التالي: «لقد كان الإنسان إنساناً بغريزته الطبيعية، قبل أن ينتحل ديناً أو ينتمي إلى وطن. فمن الواجب على الناظر في شؤون المجتمع الإنساني الباحث في أحوال الأمم أن يجعل تلك الغرائز مقاماً أولياً في طريق تفكيره ومقدمات استنتاجاته ومساند أحكامه»‏[25]. وفي ذلك يَعْرض إلى تاريخ الإسلام ليوضح أن أزهى عصور الأقليات والملل والنحل والطوائف من غير المسلمين عاشت أزهى عصورها في حضن ديار الإسلام والمسلمين، وعوملوا معاملة أهل البلد دونما نقصان إطلاقاً. إن الفتوح الإسلامية، التي تختلف عن الاستعمار الغربي وعن النشاط المسيحي الكنسي، جاءت منذ البداية لتستقر في البلدان الجديدة تقاسم أهل البلد ثرواتها وخيراتها بناء على خطاب ديني لا يسمح بالتفرقة، من هنا سر مكوثه القرون تلو القرون في الديار والأراضي المفتوحة‏[26].

وعليه، فإن المسألة برمَّتها، كما أفصح عن ذلك ابن باديس، ليست «مسألة شرق وغرب أو إسلام ومسيحية، وإنما هي مسألة إحسان وإساءة»‏[27]. الإسلام أحسَنَ إلى الأمم التي دخلها وفتحها بينما الاستعمار الغربي الأوروبي أساء إلى الأهالي والسكان الأصليين لأنه قرر منذ البداية أن يستغلهم ويحرمهم نعم المدنية والعلم والمعرفة ونظام الحكم. وفي هذا المعنى، يوضح ابن باديس: «المسلم حبيب الإنسانية، مأمور بالعطف على أبنائها من أي ملة كانوا، والى أي وطن انتسبوا. والقرآن يذكره بالأخوة الإنسانية في كثير من آياته «خلقكم من نفس واحدة».. ومن قتل نفساً ظلماً فكأنما قتل جميع الناس ومن أحياها فكذلك، ولا ينهاه دينه عن الذين لم يقاتلوه في الدين ولم يخرجوه من دياره «أن يبرّهم ويقسط إليهم». هذه هي التعاليم التي سار عليها أكثر المسلمين مع الأوروبيين، سواء كانوا غالبين أو مغلوبين أو محالفين»‏[28].

الواقع أن ابن باديس كان يصدر في الرد على من يطعن الإسلام والمسلمين عن رجل مسلم ومثقف، لا تعنيه الكلمات والمصطلحات في مدلولاتها المكرسة في التراث والتاريخ إلا إذا ما أكدها الواقع وشهد عليها الدليل. فهو لم يقف على المفاهيم الكبرى مثل العدالة أو الحرية أو المساواة إلا بقدر ما تتجسد في الواقع وأن تشمل الناس جميعاً. وعليه، فالإطار الفكري لدى ابن باديس هو أن الكلمات لا تأخذ بعد مدلولاتها الحقيقة إلا بقدر تجسدها في الواقع وبالمعنى الذي يستفيد منه المجتمع والإنسان في وضعياتهما المختلفة. إن الاستعمار ليس من العمران كما توحي به القواميس الفرنسية، ولا هو عميلة إصلاح الأراضي وتقديم الحضارة والمدنية إلى الأهالي، على ما يشهد به تاريخ فرنسا في الجزائر. كما أن التَّعصب الذي يُرمى به الإسلام والمسلمون لا يعني ما يعنيه إلا لدى كتّاب الإدارة الاستعمارية، بينما حقيقة التعصب إذا أُسقط على الواقع وعلى تاريخ الشعوب والأمم فهو لا يخلو من مدلول إيجابي لصلته بالعاطفة والشعور الذي يحفظ وجود الجماعة وأن العصبية ساعدت فعـلاً على بناء الملك، إلا أن الإفراط في الحمية والانتصار الأعمى للعصابة التي ينتمي إليها المتعصب هو عين الفساد وهذا ما لم يرد معناه في القرآن الكريم كما يدّعي السيد روبير آشيل‏[29].

وتواصـلاً مع ما يفصح عنه التاريخ الحديث، والذي يفنِّد مزاعم السيد روبير آشيل ومن شايعه في ذات الحكم والتوجه، يقدم ابن باديس المثال التاريخي والواقعي من الحالة الجزائرية في صلتها بالتاريخ الاستعماري الفرنسي القائم في الجزائر. فقد ألقى الجزائريون المسلمون السلاح بشرف بعد المقاومات المسلحة التي شهدتها الجزائر طوال القرن التاسع عشر، وعمدوا بعد ذلك إلى الانطواء تحت نظام الإدارة الفرنسية، يحترمون قوانينها وإجراءاتها، بل أخلصوا في الدفاع عنها في الحروب كافة التي جندتهم فرنسا فيها، وأبلوا فيها البلاء الحسن والرائع، وبخاصة في الحرب الكبرى 1914 – 1918، التي وصل الأمر بالجزائريين إلى محاربة مسلمي الدولة العثمانية، وهذا ما ينهض شاهداً على خطأ ما يزعمه آشيل من أن المسلمين متعصبون لدينهم ومناهضون للمسيحية. لا بل، العكس تماماً، إن السلطة الاستعمارية أبدت نكراناً لجميل ما قدمه المسلمون لها ليس في الجزائر فحسب، بل في كل العالم الإسلامي. فقد دخلت فرنسا الحرب ضد ألمانيا والدولة العثمانية معززة بقوة بشرية هائلة من المسلمين، جعلها توصف بالإمبراطورية الإسلامية. وفي هذا السياق يعزز ابن باديس مثال عدم عنصرية المسلمين وينفي عنهم عقلية التعصب، على النحو التالي: «انشطرت الدولة العثمانية، وهي أعظم دولة إسلامية، في الحرب الكبرى إلى شطرين، فكان الترك مع ألمانيا وأحلافها، وكان العرب مع الحلفاء. والجانبان من الأوروبيين يشهدان بالوفاء التام لكل قسم من المسلمين لمن كان معه إلى آخر نقطة، كما يشهد التاريخ، بمقدار وفاء الأوروبين لأحلافهم من طائفتي المسلمين»‏[30].

أما الشاهد الذي يقدمه ابن باديس على أن الرابطة الدينية في حالة المسلمين ليست على ما تصورها آشيل، بل هي تنطبق بوجهها السلبي على تاريخ المسيحية، فأساس العلمانية التي تعني فصل الكنائس عن الدولة والحكم هي تعبير عن غلو في التعصب والمذهبية والذهنية الأصولية المتطرفة إلى حد القتل هي التي أجبرت الحكّام إلى إبعاد الدين المسيحي من دائرة السياسة والحكم. ويشرح ابن باديس على هذا النحو: «ينعى م. آشيل على المسلمين خضوعهم للقرآن الذي هو أساس رابطتهم الدينية، وينسى خضوع الغرب للإنجيل الذي هو أساس رابطتهم، لا عيب على أهل أي دين أن تكون لهم رابطة من دينهم، وإنما العيب إذا استعملوا تلك الرابطة للتنكيل بمن لا يدين بدينهم، كما استعملتها أمم النصرانية قديماً»‏[31].

واضح أن منهج ابن باديس في تعامله مع المفاهيم والآراء وحتى الأحكام لا تخضع لأي حكم مسبق، بقدر ما يدلل على ذلك من الواقع والتحليل النقدي وتقليب الكلمات على وجوهها المختلفة، فما تعنيه في مجال ثقافي معين ربما لا تعنيه في مجال ثقافي آخر، وأن التوظيف الأيديولوجي والسياسي وارد جدّاً بخاصة في الزمن الحديث الذي يشهد الاختلاف والتعدد. ففي موضوع الوطنية أو الروح الوطنية لدى المسلمين، يوضح ابن باديس، وفق منهجه الإنساني، أنها لا تمثل خطراً على الغربيين، «إن العالم الغربي اليوم بلغت منه الروح الوطنية غايتها، فمن المستحيل أن يبقى العالم الشرقي، مع ما بينهما من اتصال فكري واقتصادي وسياسي، محروماً من هذه الروح، بل نواميس النمو الاجتماعي قاضية لأنها لا بد من أن تصل فيه إلى ما وصلت إليه في أخيه. فسريان الروح الوطنية في المسلمين، كجميع الأمم الشرقية، أمر واقع لا أخالفك فيه»‏[32].

يظهر ابن باديس في هذه الفقرة قدرة فائقة في تمثل الوضع في الإسلام كما في الغرب وفي ذات اللحظة، لا تغيب عنه الفكرة أو المفهوم في التداولين الغربي والإسلامي، فالعبرة كل العبرة في ما حدث وبالوقائع التي جرت، وفي القدرة على الفهم الصحيح في أفق إنساني قادر على تجاوز وتخطي سوء الفهم والأزمات الفكرية والدينية… ولعلّ أفضل مصطلح حاول الوقوف عنده ابن باديس هو الإسلام، ليدلل على إنسانيته وعالميته، في معرض الرد على أراء آشيل ومن شاركه عقليته المناهضة للمسلمين، ويقول: «إن الإسلام يبدّل العقول من الجمود إلى النظر، والأفكار من الأوهام إلى الحقائق، والأخلاق من الهمجية إلى الكمال، والأمم من الانحطاط إلى المدنية والرقي، كما فعل بالعرب الجاهليين، وكفى بذلك دليـلاً على أنه دين الفطرة والكمال الإنساني، وطريق السعادتين للخلق أجمعين، بأمر من الله رب العالمين»‏[33]. ثم يواصل بناءً على حقيقة الإسلام مع الفطرة والوضع الطبيعي له: «أتى القرآن كتابَ هدى لجميع الخلق بلسان عربي مبين، يخاطب العقل ويدعو إلى الفطرة ويقارع بالحجة ويدعو إلى التفكير، يحارب الجمود ويحث على الاستدلال، ويقرر الحرية بأنواعها، والأخوة بطبقاتها، والمساواة بأتم وجوهها، بين جميع الناس وأمام الله والحق والعدالة»‏[34]. الحقيقة، لو ترجمت هذه الفقرة إلى اللغة الفرنسية، لوجدها روبير آشيل أبلغ مما يتصور ليس لفائدة المسلمين بل صياغة مُحْكمة لفائدة الغربيين أيضاً، ولعّلها تناسبهم أكثر ما داموا يمتلكون ناصية التقدم والرقي، وما ينقصهم هو التطلع إلى لغة السماء.

وعلى خلاف الروح التي امتلكت آشيل من تعصب وحقد، يختم ابن باديس سلسلة ردوده بالدعوة الصريحة والصادقة إلى التواصل والتقارب: «نحن اليوم في حاجة إلى الكتابات التي تقرّب بين العنصرين المتساكنين في الجزائر اللذين تتوقف سعادتهما على تحابهما وتعاونهما. ولا شك أن مقال آشيل صور المسلمين بصورة تبغض فيهم العامة من جيرانهم الفرنسيين، لذا رأيت من الواجب أن أبطله وأزيفه حتى لا يغتر به أحد، ولمّا قمت بهذا الواجب بقي عليه أن أنبه إخواني الجزائريين إلى أفكار هذا الرجل ليست إلا أفكار فئة قليلة من أمثاله، لا كلمة لها في سياسة أمته غير راضين على قوله ولا مصدقين، فلنسر كعادتنا التي يفرضها علينا ديننا مع جيراننا، التعاون والتراحم والإحسان»‏[35]. وهكذا، يخلص ابن باديس إلى أن مقالة آشيل روبير «العقلية الإسلامية» ليست في النهاية إلا رأياً لا يمثل إلا صاحبها وأنه يؤذي الفرنسيين قبل أن يضر المسلمين، فكل ذي رأي راجح وتفكير سليم وقائد عادل يدرك أن الذي يصنع الأمم ويعزز بقاءهم على وجه الأرض هو التعاون والتراحم والإحسان.

رابعاً: عالمية الإسلام في تسامحه وإنسانيته

إن سياق المدنية الحديثة ومؤسساتها الحضارية، كما يرى ابن باديس، سَهَّلَ النظر إلى الإسلام كرسالة عالمية موجهة إلى عموم الناس والإنسانية في المطلق، وأن جوهر وصميم ما ينطوي عليه من مبادئ وقيم يصلح للتطبيق والأخذ فيه لدى النظم كافة على اختلاف توجهاتها وأصولها. ولعلّ مناسبة تدشين مسجد باريس عام 1926 من جان رئيس جمهورية فرنسا، مناسبة رائعة لكي يدلل على عالمية الإسلام وسماحته. فقد كانت لحظة تدشين المسجد لحظة غمرت الجميع مسلمين وفرنسيين في مدينة الأنوار. وجواباً عن خطاب رئيس الجمهورية الفرنسية، قال ابن باديس: «موقف تاريخي عظيم في علاقات فرنسا والإسلام، هو ذلك الموقف الذي وقفه رئيس الجمهورية في حفلة مسجد باريس، الموقف الذي ألقى فيه خطاباً جليـلاً ينم عن روح السماح والمودة والسلام، وينطق بالإكبار والإعجاب والاحترام لمبادئ الإسلام»‏[36]. ومن وحي هذه اللحظة التاريخية التي يسطع فيها نور الإسلام في مدينة الأنوار، يعَرِّف ابن باديس الإسلام بأنه «دين الفطرة الإنسانية، فكل أمة مشبعة بمبادئ الإنسانية – كفرنسا الديمقراطية – فإنها تجد نفسها بأقل نظر في طريق الإسلام»‏[37]. ثم يضيف، أن حقيقة الإسلام تتمثل بـ «احترام المروءة الشخصية والحرية الإنسانية والأخوة الواسعة تحت العدالة المتساوية – أصول صريحة في آيات كثيرة من أي القرآن دعا القرآن إليها، وماتت الألوف من أبطال فرنسا بعد ذلك بقرون في سبيل تحقيقها، فهي جديرة بأن تُدعى مبادئ فرنسا، فما على أبنائها وأبنائه اليوم – في سبيل توطيد المحبة والخدمة الإنسانية وجني ثمار الروابط التاريخية – إلا تنفيذ هذه الأصول تنفيذاً دقيقاً يكفل السعادة والهناء للجميع في الحال والمآل»‏[38]. في هذه الفقرة التي تفيض بالمعاني العظيمة التي تندرج ضمن منظومة الأخلاق في الإسلام، يذكر ابن باديس حقيقة الإسلام كدين مشترك للإنسانية جمعاء وخاصيته السعي المتواصل إلى توسيع دائرة الخير والسعادة والهناء إلى حد يحق فيه أن ما يفضي إلى ذلك لا يخرج عن معنى الإسلام في إنسانيته وعالميته. ويواصل في ذات المقام، تعريف الإسلام «الإسلام دين التهذيب الإنساني: العقلي والنفسي والخلقي. وما الحديث الشريف الذي أتى به سمو الرئيس وحمله هو على التصريح بتلك الحقيقة الناصعة والكلمة التاريخية الكبرى… الإسلام لنا ولكم، إلا نقطة من بحر آدابه»‏[39].

نعم، لقد صارت حقيقة الإسلام لنا ولكم أي لفرنسا وللمسلمين، كما جاء في خطاب رئيس الجمهورية الفرنسي، وهذا ما يتجاوب فعـلاً مع الإسلام كما ينظر إليه ابن باديس عندما يشدد على ما هو مشترك وما هو قابل للتوزيع والتعميم. يواصل ابن باديس وقوفه على حقيقة الإسلام مستغـلاً زخم اللحظة التاريخية ويوجه كلمته إلى السيد رئيس الجمهورية: «هذا الإسلام – يا سمو الرئيس – الذي هو بتهذيبه لنا ولكم، هو الذي نريد من فرنسا أن تعيننا على نشر تعاليمه الصحيحة بين أبنائه وأبنائها الجزائريين، نريد من فرنسا التي شيّدت للإسلام معهداً عظيماً في عاصمتها، أن تلفت حكومة الجزائر إلى مزيد الاعتناء بمساجدنا: بترميمها، بإقامة المدرسين الدينيين المهذبين فيها، بتوفير عدد القائمين عليها بتحسين مرتباتهم ليتفرغوا لها، فمنها تنشر التعاليم العالية والتهذيب الراقي الذي راق لحضرتكم وأعلنتم بالثناء عليه»‏[40]. في هذه الفقرة التي يواصل فيها توكيده فضل الإسلام على الجميع، وباستطاعة الجمع الإنساني برمته أن يفيد الإسلام، يولي أيضاً قيمة العلم الحديث ومؤسساته في العناية بالدين وفهمه على الوجه الصحيح: المسجد، المعهد، المدرسين، أجر المربين والقائمين على منظومة التعليم والتربية… فالمسألة لم تعد، عند الجزائريين المسلمين مسألة مساجد، كما هو دارج لدى الحكومة في الجزائر، بل الموضوع صار يتطلب مؤسسات تعليم عالٍ وراقٍ، كما يشرح ذلك ابن باديس في آخر كلمته إلى رئيس الجمهورية: «فليكن هذا المعهد الجليل بداية اعتناء خاص بشؤون المسلمين الجزائريين الدينية التي لها المحل الأقدس من قلوبهم، وليبق رمزاً خالداً إلى الود والإخلاص المتبادلين بين فرنسا وأبنائها المسلمين»‏[41].

الحقيقة، إن ابن باديس لا يتوقف عن تعريف الإسلام في مدلوله الحديث والمعاصر، فهو المثقف الذي لا يكف عن التفكير في قضايا الأمة في صلتها بالوجود الفرنسي في الجزائر ومع العالم كله. وعليه، فقد تعرض لحقيقة الدين الإسلامي في مواقع وأوضاع وأحوال مختلفة، وفي كل مرّة راح يبحث في مسايرة الإسلام لروح العصر من خلال مفهوم التسامح وعالمية الرسالة، فقد حرص على أن ينأى بنفسه عن كل روح حزبية أو نزعة طائفية، ديدنه البحث الدائم عن أطر التواصل والتعايش وتقاسم التراث المشترك والتطلع إلى حالة إنسانية مشتركة. ففي مقال نشره عام 1934، في سياق المد الفاشي والنازي وعقب أحداث التي شهدتها مدينة قسنطينة بداية عام 1934 بين المسلمين واليهود، كتب ابن باديس مقالاً واضحاً «نحن مسلمون وكفى»، ويشرح فيه الإسلام على المنوال التالي: «إن الإسلام الذي ندين به، وهو دين الله، الذي أرسل به جميع أنبيائه، وكمّل هدايته وعمّم الإصلاح البشري به على لسان خاتم رسله، هو دين جامع لكل ما يحتاج إليه البشر أفراداً وجماعات، لصلاح حالهم ومآلهم. فهو دين لتنوير العقول وتزكية النفوس وتصحيح العقائد وتقويم الأعمال. فيكمل الإنسانية وينظم الاجتماع، ويرشد العمران، ويقيم ميزان العدل، وينشر الإحسان، فلا يحتاج بعده إلى ما يتنافر عليه الأوروبيون من مبادئ أحزاب وجمعيات، ليس في استطاعة شيء منها أن يصلح حالهم لا في السياسة ولا في الاجتماع، دع عنك الأخلاق والآداب. كما أنه لا يسلم واحد منها من قواعد منافية للفطرة أو مجانبة للعدل أو ضعيفة في العقل. فالمسلم بطبيعة إسلامه بعيد عن كل هذه الجمعيات والأحزاب. وهذه هي حال السواد الأعظم من المسلمين في جميع الأقطار»‏[42].

واضح من هذه الفقرة، أن ابن باديس ينشد من الإسلام طبيعته الإنسانية التي تستوعب الجميع بالقدر الذي يجرده وينزِّهه عن الطائفية والعائلية والقومية. فالإسلام دين الله الذي أوحى به إلى الرسل كافة، وأنه موجَّه إلى الناس كافة. فقط يقع على البشر في العصر الحاضر أن يتحلُّوا بقدر كبير من الإنسانية حتى يدركوا حقيقة الإسلام بوصفه رسالة إلى الجميع على تعددهم واختلاف ألسنهم وإثنياتهم، لأن الدين الإسلامي جامع لكل ما يحتاج إليه البشر أفراداً وجماعات إن في أوضاعهم الحالية أو في المستقبل. الإسلام، كما يرى ابن باديس، صيغة قابلة للتعميم وأرضاً للمشترك البشري ولصالح الإنسانية. تلك خاصية الإسلام الجوهرية لمن يحسن النظر والتفكير فيه، وبخاصة عندما تواجه المجتمعات والدول أزمات ومحناً ذات أبعاد دولية، تتجاوز الأفراد والأقطار، في هذه الحالة يظهر الإسلام كمرجع أعلى يعود إليه الكل من أجل تقصي إمكان الحل والانفراج.

وهكذا، وفي مقام الحث على الوعي بخاصية التسامح الإنساني للإسلام في الجزائر، فإن ابن باديس يؤكد هذه الحقيقة ليس للمسلمين الجزائريين فحسب، بل للأوربيين أيضاً، ولعلّ لهؤلاء أكثر. فالتعدد والتنوع والاختلاف يجب أن يكون في الوضع الجزائري رحمة، وفاعلية الإسلام هي حافز للجميع مسلمين وغيرهم من أجل تجاوز الأوضاع الصعبة، وبخاصة الحالة الاستعمارية وما يتهدد أوروبا من نذر الحرب الوشيكة. فقد راود الأوروبيين هاجس مدلهم وخطير بعد صعود النازية إلى الحكم في المانيا، أفضى إلى أن كثيراً من الدول أضحت في وضع من يلتقط أنفاسه بصعوبة ويترقب شؤم الحرب في أي لحظة. من هنا ضرورة التطلع إلى لغة السماء ورسالة التسامح وقيم الأخلاق المشتركة، وهي الإمكانات التي وجدها ابن باديس في الدين الإسلامي وحث على التمسك بها إذا أرادت فرنسا ومن في وضعها، الخروج من المأزق الصعب. إن الإسلام، كما يرى ابن باديس، يتمتع بخاصية قابلية تعميم فضائله وفوائده وخيراته وخلاصه على الجميع، كما ورد ذلك صراحة في الفقرة السابقة.

هناك حالة من التلازم في فكر ابن باديس وتجربته بين التسامح والنزعة الإنسانية، فهو توجَّه دائماً نحو توسيع الفكر ورحابة الصدر والرضا بقبول الآخر والعيش المشترك معه. فنزعته الإنسانية لا يستمدها من الإسلام فحسب، بقدر ما أنه يجد في كل التجارب الكبرى التي حققتها الأمم الأخرى تراثاً إنسانياً مشتركاً ما دام تمخض عنها ما ينفع الناس ويساعد الأمم والمجتمعات على العبور إلى مصاف أخرى من التقدم والتطور، على ما فعلت الثورات الكبرى في أوروبا وأمريكا. إن فعل الثورات التاريخية قاسم مشترك يفيد الأصل وتستفيد منه سائر الشعوب إذا ما هي أرادت ذلك، لأنها أصـلاً ثورات على الظلم والطغيان وإطاحة الاستبداد والاستغلال، وهذه لها معان واحدة في البلدان كافة، ومن ثم يجب تعميم أساليب مقاومتها وتدبير أفضل السبل لتجاوز أوضاعها ومنها الوضع الاستعماري كما يرى ابن باديس. ففي موضع الحديث عن الثورة الفرنسية الكبرى كتجربة عالمية، يقول ابن باديس: «بالأمس، ذكر العالم المتمدّن كله بالإجلال والاحترام، ذلك اليوم الذي أشرقت فيه شمس الحرية في عروس العواصم «باريس»، وانبعثت كهرباؤها منها في أسلاك القلوب والعقول، تقوّض عروش الملوك وتعلي صروح الأمم. وإذا كان هذا العيد عيد الأمة الفرنسوية، لأنه خطَّ في التاريخ بدماء أبنائها. فإنها عيد الإنسانية جمعاء لأنه مبدأ عتقها، عيد الأمم كلها لأنه ينبوع شعورها ويقظتها. وإذا كان عيد الأمم كلّها فأحقها به الأمة التي ربطتها بفرنسا روابط متينة، وامتزج دمُّها بدمِّها في مواطن الموت والشرف. تلك هي الأمة الجزائرية التي أخلصت لفرنسا إخلاصاً شهد به العالم»‏[43].

يؤكد ابن باديس خطاً ثابتاً في منهجه وتفكيره الرامي دائماً إلى البحث عن المواضع الإنسانية لتعميم خيراتها وفوائدها على الناس كافة؛ فقد كانت له أكثر من مناسبة للتنويه بعظمة الثورة الفرنسية لعام 1789، خاصة عند الاحتفال بها يوم 14 تموز/يوليو من كل سنة، فهي مناسبة لتذكير النظام الاستعماري بمدى العسف والحيف الذي لحق الجزائريين قياساً على ما جاءت به الثورة الفرنسية. وابن باديس مثله مثل المصلحين الجزائريين، وبخاصة الذين تعلموا في المدارس الفرنسية، يدرك قيمة وأهمية الحركات الإصلاحية والثورية التي تساوق خط التاريخ وتتماهى معه من أجل تخطي الأوضاع الصعبة ومآزقها. والحقيقة، كما يرى دائماً ابن باديس، فإذا كانت فرنسا مجتمعاً ودولة وأفراداً، قد حققت مكاسب رائعة تخطت بها التخلف السياسي والاقتصادي والفكري، فيمكن أن يحصل ذلك للجزائريين، الذين خاضوا إلى جانب فرنسا الحروب والمعارك ومشاريع التنمية الاقتصادية‏[44]. بالأمس فقط، يقول ابن باديس، عاد الجزائيون من ساحات الوغى وجبهات القتال دفاعاً عن حياض فرنسا في حربها الكبرى مع ألمانيا وحلفائها، وآن لهؤلاء الجزائريين أن يحصلوا على أسباب الرقي والنمو والتطوّر، وآن لفرنسا أن تشَرِّع للناس جميعاً في الجزائر كما في المستعمرات الأخرى من أجل ردم التفاوت وترسيم الشرعية التاريخية والسياسية للدولة الفرنسية العظمى وإلا سارت الأمور إلى الانهيار الكبير، كبر الثورة الفرنسية نفسها. وهكذا، فإن فكر ابن باديس مع تجربته يرتقيان إلى الأفق الإنساني القادر على تقاسم التجارب النافعة، أي التسامح، وإدراج الخبرات في التاريخ الطويل الذي تجني منه البشرية جمعاء ما يرشِّحها دائماً إلى العطاء والقدرة على الخلق والإبداع.

 

قد يهمكم أيضاً  هل كان الأصمعي المؤسس الأول للقومية العربية؟

#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #الإصلاح #التعايش_الديني #النهضة #ابن_باديس #رواد_النهضة #عبد_الحميد بن_باديس #الحركات_الإصلاحية