مقدمة:

فشلت معظم محاولات رأب الصدع وإنهاء الانقسام الفلسطيني، كما تعثر تطبيق الاتفاقيات الموقعة بين طرفَي الانقسام (حركة التحرير الوطني الفلسطيني «فتح» وحركة المقاومة الإسلامية «حماس») ابتداءً من اتفاق مكة عام 2007، وانتهاءً باتفاق الشاطئ عام 2014، وما زال الجدل مستمراً حول أنجع الطرق لإنهاء الانقسام؛ فهنالك من يرى أن المخرج يكمن في إجراء انتخابات رئاسية وتشريعية؛ مع أنّ التجربة تشير إلى أنّ إجراء الانتخابات في الدول التي تعاني عدم التجانس السكاني أو الانقسام الأيديولوجي ستزيد من تأجيج الصراعات (كما حدث في ساحل العاج والكونغو والسودان ونيجيريا)‏[1]، بينما يذهب البعض للمناداة بتشكيل حكومة تكنوقراط أو حكومة وفاق وطني ظناً منهم بأنّ المشكلة تكمن في تقاسم المقاعد.

على ما يبدو هنالك قصور في تشخيص المشكلة يحول دون وضع الحلول الناجعة؛ حيث يعتبر التشخيص الدقيق لأسباب الانقسام أمراً حيوياً من أجل إنهائه؛ فعدم معالجة جذور الانقسام أفضى إلى إخفاق المحاولات المتعددة لرأب الصدع. تسعى هذه الدراسة إلى تشخيص أسباب الانقسام مع اقتراح بعض الحلول؛ مع الأخذ بعين الاعتبار صعوبة وضع حلول عملية لإنهاء الانقسام وذلك بسبب وجود عاملين مهمين يؤثران بشكل عكسي: أولهما، عدم وجود سيادة حقيقية للسلطة الفلسطينية تمكنها الإفلات من سيطرة الاحتلال والتحرر من تأثيره، فمن الصعوبة التحدث عن حكومة فلسطينية حرة الإرادة ضمن معطيات الوضع الحالي؛ وثانيهما وجود تناقض حاد بين مشروع السلطة الفلسطينية ومشروع حماس يجعل من الصعب بمكان إيجاد صيغة للتوفيق بينهما. كلا العاملين يعيقان التفكير ببعض الحلول التي ربما لا يكون ممكناً تحقيقها في الوقت الحالي؛ لكن ذلك لا يمنع من أخذها بالحسبان في حال تغيرت الظروف المحيطة بالقضية الفلسطينية.

يعتبر البعض أنّ الانقسام بين فتح وحماس لم يبدأ بسيطرة «حماس» على قطاع غزة عام 2007، وإنما بدأ سياسياً مع انطلاق عملية السلام في مؤتمر مدريد عام 1991؛ وبالتحديد مع تشكل تحالف الفصائل العشرة المعارض والمكون من حماس وحركة الجهاد الإسلامي بالإضافة إلى عدة فصائل يسارية منضوية تحت إطار منظمة التحرير الفلسطينية (م. ت. ف)‏[2]، وظهر الانقسام السياسي واضحاً مع توقيع اتفاق أوسلو بين منظمة التحرير الفلسطينية و«إسرائيل» عام 1993، فبرز التناقض جلياً بين مشروع السلطة الفلسطينية ومشروع حركة حماس وغيرها من فصائل المقاومة، وازداد الانقسام حدة عقب فوز حماس بأغلبية مقاعد المجلس التشريعي في انتخابات عام 2005/2006، الذي ترافق مع خلاف حاد وصراع على الصلاحيات بين «فتح» ممثلة بالرئاسة والحكومة الحمساوية المنبثقة عن المجلس التشريعي، سرعان ما تفجر الصراع بين الطرفين عنيفاً عنيف وانتهى إلى سيطرة حماس عسكرياً على قطاع غزة، فتطور الانقسام الفلسطيني من انقسام سياسي جغرافي إلى انقسام سياسي جغرافي مؤسساتي بين الضفة الغربية بإدارة «فتح» وغزة المدارة بواسطة «حماس»، مما أضعف الموقف الفلسطيني وأضر بالقضية الفلسطينية ضرراً بالغاً. فكان الانقسام بمنزلة هدية لإسرائيل استغلتها أيَّما استغلال من أجل التهرب من أي استحقاقات لإنهاء الإحتلال، وعملت على التفرد بطرفَي المعادلة الفلسطينية «فتح» و«حماس» من خلال العمل على تعميق الانقسام.

أولاً: التوافق الفلسطيني… إشكاليات الفشل وأسبابه

يمكننا تشخيص أسباب الفشل في التوافق فلسطينياً بالرجوع إلى دراسة علمية أجراها بعض الباحثين حول أسباب نجاح الديمقراطية وفشلها؛ اعتمدت الدراسة على 32 حالة وتوصلت إلى 11 متغيراً وظيفياً متوزعة على أربع مجموعات‏[3]. سنحاول في هذه الدراسة الاستفادة من هذه المتغيرات من خلال إسقاطها على الواقع الفلسطيني.

1 – الأسباب المؤسسية

ويقصد بها المتغيرات المرتبطة بطبيعة المؤسسات الفلسطينية القائمة:

أ – شكل الحكم

تتبنى السلطة الفلسطينية نمط الحكومة المركزية كآلية لإدارة الحكم، حيث يفترض البعض أنّ تبني شكل الحكومة المركزية يضمن الاستقرار السياسي بينما الحكومة الفدرالية (اللامركزية) ستفضي إلى استقرار أقل؛ ظناً منهم أنّ الفدرالية قد تؤدي إلى صراع بين المركز والأطراف، بينما أثبتت التجربة أنّ الفدرالية هي الحل في المجتمعات التعددية من أجل الوصول إلى استقرار سياسي. يوجد في العالم اليوم نحو25 دولة تتبنى النظام الفدرالي من بينها دول كبيرة مثل الولايات المتحدة وألمانيا وبلجيكا وسويسرا والهند وروسيا. كما أنّ من بينها أيضاً دولاً فقيرة ونامية مثل إثيوبيا والمكسيك وماليزيا وغيرها؛ أما في منطقتنا العربية فالإمارات العربية هي التجربة الفدرالية الأولى التي لحق بها السودان‏[4]. في الحالة الفلسطينية المعقدة نتيجة فرض الاحتلال لسياسات متباينة في الضفة وغزة، قد يكون الحل بانضواء الضفة الغربية وقطاع غزة تحت النظام الفدرالي (حكومة لامركزية)، بحيث تكون هنالك إدارة (حكومة) لقطاع غزة ومثلها في الضفة تشرف عليهما منظمة التحرير الفلسطينية. قد يرفض البعض هذا الشكل من الحكم باعتباره شكـلاً من أشكال إدارة الانقسام ويتخوف منه بدعوى عدم الذهاب باتجاه «تقنين» الانقسام، لكن لا يمكننا تجاهل الواقع الحالي الذي يشير إلى صعوبة الاتحاد بين الضفة وغزة تحت إدارة مركزية؛ وربما يكون المخرج الوحيد هو النظام الفدرالي.

ب – نظام الحكم

تدار السلطة الفلسطينية بالنظام شبه الرئاسي (أو المختلط). في بداية نشأة السلطة لم تظهر أي مشكلة في هذا الشكل من الأنظمة بسبب سيطرة فصيل واحد «فتح» على الرئاسة والبرلمان «المجلس التشريعي»، لكن صراع الشرعيات انفجر بشكل حاد عقب فوز حركة حماس بأغلبية مقاعد المجلس التشريعي في انتخابات عام 2006، بين الرئاسة (فتح) من جهة والحكومة (حماس) المنبثقة عن المجلس التشريعي من جهة أخرى، وربما يكون الأفضل في الحالة الفلسطينية التشديد على تبني النظام البرلماني من أجل ضمان استقرار النظام السياسي؛ فتبني النظام البرلماني كاملاً سيضمن وجود شرعية انتخابية واحدة وهي شرعية الحكومة المنبثقة عن البرلمان المنتخب.

ج – النظام الانتخابي

يعتبر النظام الانتخابي الفلسطيني من النظم الانتخابية المستخدمة في العديد من الديمقراطيات في العالم؛ فبعدما كان يعتمد على نظام الأغلبية (الدوائر)، أصبح يجمع مناصفةً بين نظام الأغلبية النسبية (الدوائر)، ونظام التمثيل النسبي (القوائم) في ما يسمى «النظام المختلط»، الذي يعد استجابةً لاتفاق القاهرة 2005 الذي تم بموجبه زيادة عدد أعضاء المجلس التشريعي من 88 عضواً إلى 132، وكانت النتيجة فوز حماس بأغلبية مقاعد المجلس التشريعي حيث حازت 74 مقعداً من أصل 132 رغم حصولها على نسبة 44.45 بالمئة من الأصوات في نظام القوائم (أي ما يعادل 29 مقعداً من 66)؛ لكنها حصلت في الدوائر على 44 مقعداً من 66‏[5]. هذا يقودنا إلى الاستنتاج أنّ صيغة النظام المختلط سينتج منها برلمان لا ينسجم مع النسبة التمثيلية لكل حزب، وهذا على ما يبدو ما تنبهت له القيادة الفلسطينية فتم تضمين مقترح الورقة المصرية للمصالحة الفلسطينية «2009» إجراء الانتخابات التشريعية بالنظام المختلط (قوائم 75 بالمئة ودوائر 25 بالمئة)‏[6].

وربما كان الأفضل لو يتم الاتفاق على إجراء الانتخابات بحسب النظام النسبي الكامل؛ حيث نضمن تمثيـلاً أكثر دقة للشرائح الحزبية والاجتماعية المختلفة بالإضافة إلى عدم هيمنة حزب واحد على المعادلة السياسية. ففي الحالة الفلسطينية (بحسب استطلاعات الرأي المختلفة‏[7]) من الصعب بمكان أن يحصل حزب بمفرده على نسبة تتجاوز 51 بالمئة تمكنه من تشكيل الحكومة بمفرده؛ لكن اعتماد النظام النسبي الكامل لا يعني انتهاء حالة الانقسام أو الاستقطاب التي يعيشها الفلسطينيون؛ والأنجع (في حال إجراء انتخابات) أن يتم تشكيل قائمة موحدة تضم معظم الفصائل (فتح/حماس/الجهاد/اليسار) على أساس برنامج موحد أساسه وثيقة الوفاق الوطني يحوي القواسم المشتركة‏[8]؛ برنامج تحرر وطني تتبناه «م.ت.ف» لا يستثني أحداً من الفلسطينيين، سواء في داخل فلسطين أو في الشتات، فتكون الانتخابات بمثابة استفتاء شعبي على هذا البرنامج أكثر من كونها فوز طرف ليظفر بسلطة وهمية تحت الاحتلال.

د – الضعف الدستوري

لا تفتقر المنطقة العربية إلى النصوص الدستورية والقانونية الناظمة للحياة العامة وإنما تكمن المشكلة في عدم الالتزام بها. في الحالة الفلسطينية ظهر هذا الأمر واضحاً عقب الانقسام، حيث أمسى اختراق القانون من السلطة بشقيها (غزة ورام الله) أمراً مألوفاً وغير مستهجن، وتحول القانون الأساس الذي من المفترض أن تحتكم إليه السلطة الفلسطينية مجرد حبر على ورق، وترافق ذلك مع تعطيل وظيفة المجلس التشريعي الرقابية، ووصل الوضع القانوني إلى مستوى عالٍ من الفوضى التشريعية نتيجة التعسف في استخدام المادة 60 من القانون الأساسي من قبل الرئيس الفلسطيني محمود عباس (أبو مازن)؛ الذي ينص على: إعطاء «رئيس السلطة الوطنية في حالات الضرورة التي لا تحتمل التأخير في غير أدوار انعقاد المجلس التشريعي، إصدار قرارات لها قوة القانون، ويجب عرضها على المجلس التشريعي في أول جلسة يعقدها بعد صدور هذه القرارات وإلا زال ما كان لها من قوة القانون، أما إذا عرضت على المجلس التشريعي على النحو السابق ولم يقرّها زال ما يكون لها من قوة القانون»‏[9].

لقد أفضى التعسف في استخدام هذه المادة إلى استيلاء السلطة التنفيذية على صلاحيات السلطة التشريعية؛ في خرق سافر لمبدأ الفصل بين السلطات الذي هو من أهم ركائز الديمقراطية وحكم القانون. ومن المتوقع أن يبقى الوضع هكذا لفترة طويلة ما لم يتم تجديد الشرعيات الانتخابية وتفعيل المؤسسات المختلفة، فالبديل من ذلك هو استمرار اختراق السلطة التنفيذية للقانون، وربما يكون الحل بتدعيم السلطة القضائية وزيادة استقلاليتها بحيث تمارس دورها في الرقابة على مدى التزام السلطة التنفيذية بتنفيذ الدستور والقانون، وهذا يستوجب تشكيل محكمة دستورية للفصل في النزاعات المختلفة. وقد أعلن الرئيس أبو مازن عن تشكيل محكمة دستورية بتاريخ 5/4/2016 من دون وجود توافق وطني على أسماء أعضائها‏[10]، مما أثار مخاوف من غاية تأسيسها. وقد عبَّر عن ذلك الوزير السابق في السلطة زياد أبو زياد بقوله: «إن ما أخشاه؛ هو أن تكون هناك نية مبيتة لاستخدام المحكمة الدستورية التي تم تشكيلها مؤخراً كخاتم كاوتشوك لإضفاء الصفة الدستورية على القوانين غير الدستورية التي صدرت في الضفة الغربية منذ الانقسام»‏[11].

2 – الأسباب المجتمعية

وهي الأسباب المرتبطة بطبيعة المجتمع الفلسطيني في الضفة الغربية وغزة؛ والتي يمكن تقسيمها إلى ثلاثة:

أ – الانقسام المجتمعي

نتج من الانقسام السياسي انقسام مجتمعي حاد، وربما كان مألوفاً أنّ الاختلاف في الاجتهاد بين الفصائل الفلسطينية سيؤدي إلى نشوء خصومة سياسية بينها، لكن ما هو غير طبيعي تحوُّل الخصم السياسي إلى عدو؛ فبعدما كان الفلسطينيون يتفاخرون بعدم تأثير التنوع الحزبي داخل الأسرة الواحدة على حالة الوئام المجتمعية. أضحى الشقاق والخصام سمة مرتبطة بالخصومة السياسية، وارتبط الانقسام بجملة من التجاوزات الخطيرة لحقوق الإنسان من أهمها القتل والتعذيب والاعتقال السياسي والفصل التعسفي من العمل والتضييق على الحريات العامة. تسببت هذه التجاوزات بتعميق الانقسام المجتمعي، ومن ثم لا نظن أنّه سيحصل توافق فلسطيني بلا مصالحة مجتمعية حقيقية عبر تحقيق ما يسمى العدالة الانتقالية‏[12]؛ وذلك بواسطة إنجاز «مبادئ شيكاغو ما بعد النزاعات»، التي تتلخص بالمبادئ السبعة التالية: محاكمة المرتكبين للجرائم؛ واحـتـرام الحق في معرفة الحقيقة؛ والاعـتـراف بالوضع الخاص للضحايا؛ واعتماد سياسة التنحية (العزل)؛ ودعـم البرامج الرسمية والمبادرات الشعبية لتخليد ذكرى الضحايا؛ ودعم الإجراءات والوسائل التقليدية والأهلية والدينية في التعاطي مع الانتهاكات الـسـابـقـة؛ والـمـشـاركـة بــالإصــلاح الـمـؤسـسـي لـدعـم سـيـادة الـقـانـون والـحـقـوق الأسـاسـيـة والـحـكـم الرشيد‏[13]. وهذا يتطلب إنشاء لجان وطنية قانونية لتقصي الحقائق وإجراء محاكمات عادلة لمنتهكي القانون.

ب – الأزمة الاقتصادية (التبعية)

تعيش السلطة الفلسطينية أزمة اقتصادية مزمنة، فبحسب الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني (إحصائية 2015) تبلغ نسبة الفقر بين الأفراد وفقاً لأنماط الاستهلاك الشهري في الضفة الغربية 17.8 بالمئة وغزة 38.8 بالمئة، بينما يصل الفقر المدقع إلى 7.8 بالمئة في الضفة و21.1 بالمئة في غزة، وتبلغ نسبة البطالة في الضفة الغربية 15 بالمئة بينما تصل في غزة إلى 35.9، مع الأخذ بعين الاعتبار أنّ 16.5 بالمئة من اليد العاملة في الضفة تعمل في «إسرائيل» والمستوطنات‏[14].

تشكل عائدات الضرائب الفلسطينية «المقاصة» (التي يتحكم بها الإسرائيليون) الجزء الأكبر من إيرادات السلطة؛ فبحسب موازنة عام 2016 تبلغ 8.234 مليار شيكل من مجموع الإيرادات التي تصل إلى 11.630 مليار شيكل بينما تقدر المنح والمساعدات الخارجية بـ 3.881 مليار شيكل‏[15]؛ وهذا يعني أنّ 70.79 بالمئة من إجمالي الإيرادات المحلية يتحكم بها الإسرائيليون، وبعد احتساب المنح والمساعدات الخارجية التي تشكل بدورها نحو 33.37 بالمئة من الإيرادات يكون نحو 80 بالمئة من إيرادات السلطة مرتبطة بالغرب وإسرائيل، مع الأخذ بعين الاعتبار أن واردات السلطة الفلسطينية (للعام 2014) قد بلغت 5.683 مليار دولار منها 3.958 مليار دولار (ما يعادل 69.6 بالمئة) من «إسرائيل»‏[16].

تقودنا المؤشرات الإحصائية السابقة إلى الاستنتاج أن الاقتصاد الفلسطيني اقتصاد ريعي؛ يعتمد بشكل أساسي على «إسرائيل»، وهذا يرجع إلى الاتفاقيات الموقعة وعلى رأسها اتفاقية باريس الاقتصادية‏[17]؛ التي كبلت الاقتصاد الفلسطيني وكرّست هيمنة «إسرائيل» عليه، ومن غير المتوقع أن ينجح الفلسطينيون في تجاوز الوضع الاقتصادي الحالي بدون اعتماد صيغة الاقتصاد المقاوم‏[18]. فالفلسطينيون يملكون إلى حد كبير القدرات التي تمكنهم من مواجهة التحديات المستقبلية بشأن إقامة دولتهم المستقلة حينما يحصلون على حقهم الطبيعي في السيطرة على مواردهم وتجاوز عدد من السلبيات‏[19]، وهذا يتطلب في المقام الأول العمل على تنفيذ قرارات المجلس المركزي لمنظمة التحرير الفلسطينية بوجوب تحديد العلاقة مع «إسرائيل»، ومراجعة جميع الاتفاقيات المبرمة معها‏[20]. وكما صرحت عبير عودة (وزيرة الاقتصاد الوطني في السلطة) فإنّ «هذه الاتفاقيات (اتفاقية باريس الاقتصادية) لا تؤدي إلى الغرض الذي تم وضعها من أجله وهي بصراحة بحاجة إلى إلغاء لأنها عندما وُضعت كانت لخمس سنوات، لفترة انتقالية، ولم توضع كي تبقى إلى الأبد»‏[21].

 

ج – عدم وجود ثقافة سياسية مبنية على احترام الديمقراطية

ظهر ذلك واضحاً عقب انتخابات المجلس التشريعي 2006، حيث رفض الطرف الخاسر (فتح) التسليم بنتائج الانتخابات، بينما اعتبر الطرف الفائز (حماس) أنّ شرعيته الانتخابية تخوله التفرد بإدارة الشأن الفلسطيني، ولو توافرت ثقافة ديمقراطية عند الأطراف الفلسطينية لسعت إلى بناء شرعية توافقية عوضاً من الشرعية الانتخابية، فكلا الطرفين (فتح وحماس) يتحصنان بشرعية انتخابية (الرئاسة والمجلس التشريعي).

بحسب دراسة علمية غربية هنالك ستة أمور أساسية يجب الاهتمام بها كي يتم ترسيخ ثقافة احترام الديمقراطية تتوزع على مبدأين، هما: التعددية والمشاركة؛ ويتطلب ترسيخ التعددية الاهتمام بأمرين: تعزيز التسامح ودعم مشاركة المرأة في الحياة السياسية؛ تعزيز التسامح مبني على احترام التنوع الذي لن يتحقق إلا بسيادة القانون عبر تساوي المواطنين أمام القانون مع ضمان حرية التعبير؛ فمن دون احترام التنوع لن يحصل تبادل لوجهات النظر المختلفة أو تعزيز المنافسة السياسية، ومن دون إطلاق حرية التعبير لن تحصل محاسبة للحكومة. ويتبع احترام التنوع تعزيز مشاركة المرأة في الحياة السياسية من خلال تذليل العقبات التي تحول دون انخراطها في العمل السياسي. لا يكفي تحقيق التعددية من أجل انتشار الثقافة الديمقراطية؛ بل يجب أن يترافق مع ضمان المشاركة السياسية. ولتحقيق مشاركة سياسية واسعة يجب الاهتمام بالأمور التالية: تعزيز الثقة بين الأطراف المختلفة سياسياً؛ وتعزيز مشاركة مؤسسات ومنظمات المجتمع المدني؛ وزيادة التثقيف السياسي بالارتباط مع العمل على زيادة اهتمام الجمهور بالسياسة‏[22].

3 – أسباب مختلطة

وهي أسباب تتداخل فيها الأسباب المؤسسية مع الأسباب المجتمعية؛ والتي يمكن حصرها بالتالي:

أ – التشرذم (تفكك الحقل السياسي)

يرى جميل هلال أنّ الحقل السياسي الوطني الفلسطيني (الذي تهيمن عليه «م. ت. ف» منذ أواخر الستينيات) يعيش حالة من التفكك منذ إنشاء السلطة الفلسطينية، حيث استطاعت «م. ت. ف» من موقعها المهيمن أن تكرس للسياسة مفهوماً كشأن يخص نخبة صغيرة فقط من الشعب، وقد ساعد على تكريس هذا المفهوم نشوء منظمة التحرير ونشاطها في بيئة سياسية إقليمية ودولية غير صديقة للديمقراطية كمفهوم وممارسة سياسية، بل كان يُنظَر إلى الديمقراطية باعتبارها مفهوماً غربياً استعمارياً.

تاريخياً لم تقرأ النخب الفلسطينية السياسية في الانتفاضة الأولى الحاجة إلى إعادة النظر في بنية الحركة الوطنية الفلسطينية، وضرورة مراجعة بنية العلاقة المركزية بين القيادة وبين تجمعات الشعب الفلسطيني المختلفة، وفشلت قيادة منظمة التحرير في إدماج حركة حماس في الجسم السياسي الوطني، وفي الوقت نفسه؛ فشلت حركة حماس في إعادة تعريف نفسها كحركة وطنية، وأعطى اتفاق أوسلو المسوِّغ السياسي والتنظيمي والفكري لتهميش المؤسسات الوطنية الفلسطينية الجامعة التي كانت قائمة، وتم إخراج الشتات الفلسطيني وفلسطينيي 48 من دائرة صنع القرار أو التأثير فيه، وأفضى انسداد الأفق أمام مشروع إقامة دولة فلسطينية (ذات سيادة فعلية في الضفة والقطاع) الى إفقاد الحقل السياسي أيّ إمكانية بأن يتشكل له مركز دولتي (من الدولة) سيادي؛ وهذا سرّع في تفكك الحركة الوطنية، كما ساهم فوز حركة حماس في انتخابات المجلس التشريعي سنة 2006 وفرض سيطرتها الكلية على قطاع غزة في 2007 في انقسام سلطة الحكم الذاتي إلى سلطة على أجزاء من الضفة الغربية وأخرى في القطاع‏[23].

للخروج من حالة التفكك الحالية لا بد من إجراء انتخابات للمجلس الوطني الفلسطيني بهدف إعادة بناء مؤسسات منظمة التحرير على أسس ديمقراطية بحيث يضمن تمثيلها للقطاعات الحزبية والاجتماعية المختلفة إضافة إلى المستقلين، مع ضمان تحييد الأجهزة الأمنية من خلال عدم تسييسها؛ فالتجربة التاريخية (حالة الهند وماليزيا) أثبتت أنّ الخروج من حكم الاستعمار إلى الحكم الديمقراطي المباشر يستوجب تحويل التنوع العرقي والديني إلى عامل قوة ووحدة عبر إنشاء مظلة تنظيمية تضم الجميع يتفق فيها على القواسم المشتركة. فالهند ظلت ديمقراطية منذ استقلالها؛ حيث أدى حزب المؤتمر القومي (حزب عابر للقوميات والأديان) دوراً مهماً في ذلك بوضعه قواسم مشتركة للتعايش المشترك هي: الديمقراطية بقيمها الرئيسية، مع عدم تسييس الجيش وإبعاده عن دائرة التأثير السياسي. أما ماليزيا فتعد مثالاً آخر على توافق النخب على تبني النظام الديمقراطي، من طريق إنشاء منظمة عابرة للقوميات والأديان هي منظمة الملايو القومية المتحدة ‏[24].

ب – الاستقطاب

يعرّف الاستقطاب بأنّه «الحالة التي يكون فيها انقسام حزبي وأيديولوجي صارخ ينعكس على مجمل القضايا المطروحة للتداول». ويشكل الاستقطاب السياسي تهديداً لاستقرار المجتمع كونه يحفز الانحياز المتعصب لآراء محددة حول القضايا المختلفة بين أطراف المعادلة السياسية؛ وبالتالي بلورة مصالح متعاكسة لهذه الأطراف‏[25]، ولا تقتصر حالة الاستقطاب في المجتمع الفلسطيني على النخب الفلسطينية بل انتشرت عقب الانقسام بين عامة الشعب؛ غذتها وسائل الإعلام الحزبية ونمو الشعور المناطقي. أيديولوجياً، توجد حالة استقطاب واضحة بين تيار الإسلام السياسي الذي يبرز فيه حركة حماس والتيار العلماني الذي تتصدره حركة فتح. سياسياً، شملت حالة الاستقطاب مجمل قضايا الشعب الفلسطيني بدءاً من تعريف ما هي فلسطين (الضفة وغزة أم فلسطين التاريخية)؛ ومروراً بتعريف من هو الفلسطيني المعني بالنضال ضد الاحتلال (المقيم في الأراضي المحتلة عام 67 أم فلسطينيو 48 أم فلسطينيو الشتات)، وانتهاءً بتحديد أهداف حركة التحرر الوطني الفلسطيني (حل الدولتين أم الدولة الواحدة) ووسائلها (مفاوضات أم مقاومة).

للخروج من حالة الاستقطاب الحالية لا بد من إعادة تعريف المشروع الوطني الفلسطيني كشرط أساسي لإعادة ترتيب البيت الفلسطيني؛ فلا بد من عقد اجتماعي وسياسي جديد (ميثاق وطني) يتم فيه تحديد الهوية وتعريف المقصود بفلسطين ومن هو الفلسطيني، ومن ثم يتم الانتقال لوضع الأهداف الاستراتيجية والوسائل اللازمة لتحقيقها.

ج – عدم ثبات الحكومة

تعايش السلطة الفلسطينية حالة من عدم ثبات الحكومات المتعاقبة؛ فمنذ نشأتها تم الإعلان عن تشكيل سبع عشرة حكومة (دون احتساب عدد المرات التي تم تعديل التشكيلة الوزارية للحكومة الواحدة كما حصل مؤخراً)‏[26]؛ وهذا يقودنا إلى الاستنتاج بصعوبة تنفيذ الحكومات المتعاقبة أي برنامج بسبب عمر الحكومة القصير نسبياً (14 شهراً). انعكست حالة الاستقطاب السياسي على أداء الحكومات واضحةً؛ وحتى حكومة التوافق الوطني «السابعة عشرة» (ومن قبلها حكومة الوحدة الوطنية «الحادية عشرة») افتقرت إلى الاستقرار فتم تعديلها بعد نحو سنة من إنشائها. ورغم أنّها شكلت عام 2014 عقب اتفاق الشاطئ على أمل إنهاء الانقسام إلا أنها أصبحت بمرور الوقت جزءاً من حالة الانقسام، كنتيجة لاستمرارها في تبني سياسات الحكومات السابقة. فرغم قرار المجلس المركزي في 5/3/2015 بوقف التنسيق الأمني‏[27]؛ إلا أنّها قامت بممارسة الاعتقال السياسي وإحباط عمليات المقاومة تجاه الاحتلال الإسرائيلي وذلك كما صرح مدير الاستخبارات الفلسطينية ماجد فرج‏[28]، لا يتوقع أن يتم تحقيق استقرار الحكومة دون توافق وطني على مهامها، ومن الأفضل أن ينحصر عمل الحكومة في إدارة وتصريف شؤون الحياة اليومية لأفراد الشعب الفلسطيني في الضفة وغزة وترك الشأن السياسي لقيادة «م. ت. ف».

4 – أسباب خارجية (الاحتلال والتدخلات الخارجية)

يسعى الاحتلال الإسرائيلي بصورة دائمة لتعزيز هيمنته على القرار الفلسطيني، من خلال إفشال أي محاولة للتقارب أو المصالحة بين حماس وفتح، وقد ظهر ذلك جلياً عقب اتفاق مكة 2007؛ الذي كان يهدف وضع حد للاقتتال الداخلي بين حماس وفتح وتشكيل حكومة وحدة وطنية، حيث أعلنت «إسرائيل» أنها ضد الاتفاق وستقاطع وزراء الحكومة حتى لو كانوا من حركة فتح، كما حرضت الاتحاد الأوروبي وأمريكا على عدم الاعتراف بحكومة الوحدة‏[29]، وتكرر ذلك عقب اتفاق الدوحة بين فتح وحماس 2011 الذي نص على إتمام المصالحة الوطنية وتشكيل حكومة وحدة فلسطينية برئاسة الرئيس الفلسطيني محمود عباس (أبو مازن)، حيث صرح رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو «إذا دخلت حماس في الحكومة الفلسطينية فلن تكون هنالك مفاوضات، فأنا غير مستعد لقبول أن يحصل في الضفة مثلما حصل في غزة»‏[30]. كما صرح «السلطة ملزمة بأن تختار بين حماس أو السلام مع إسرائيل، الأمران لا يسيران مع بعضهما البعض»‏[31].

وتكرر الموقف الإسرائيلي نفسه عقب توقيع حماس وفتح على تنفيذ بنود المصالحة في غزة بتاريخ 23/4/2014 (اتفاق الشاطئ) حيث قرر مجلس الوزراء الإسرائيلي – رداً على ذلك – وقف المفاوضات مع السلطة الفلسطينية ومعاقبتها اقتصادياً بمنع تحويل أموال الضرائب المستحقة للسلطة‏[32]، كما ابتعث نتنياهو الوزيرة تسيبي ليفني للقاء أبو مازن في لندن لتحذره من عواقب المصالحة مع حماس وإقامة حكومة وحدة وطنية‏[33]، ولم تقتصر محاولات إفشال المصالحة الفلسطينية على إسرائيل بل اشتركت بذلك الولايات المتحدة الأمريكية؛ فبحسب محمد اشتية (عضو اللجنة المركزية لحركة فتح) فإنّ الأمريكان ضغطوا على أبو مازن عن طريق الرئيس المصري حسني مبارك حتى لا يوقع على اتفاق المصالحة في القاهرة (عام 2011)‏[34]، ورغم عدم استجابة أبو مازن حينها إلا أنّ الضغوط الأمريكية على القيادة الفلسطينية لم تتوقف.

ثانياً: أوجه التوافق المقترحة

توجد ثلاثة أوجه من التوافقات: التوافق الإثني الاجتماعي، والتوافق حول قيم متعالية وكونية عبر عقد اجتماعي، والتوافق السياسي المصلحي المبني على التحالفات الظرفية والعقلانية السياسية‏[35]. سنحاول في السطور التالية عرض هذه الأوجه من التوافق ومحاولة التوصل إلى النوع الأنسب في الحالة الفلسطينية:

1 – التوافق الإثني الاجتماعي

اشتهر الوفاق الإثني الاجتماعي – أو الديمقراطية التوافقية – في الدول الأوروبية ذات الإثنيات المتعددة كسويسرا وبلجيكا، وهي شكل محدد من تقاسم السلطة في الديمقراطيات الغربية الصغيرة؛ أظهرت استقراراً سياسياً رغم وجود مجتمع مجزَّأ. التوافقية تعني حرفياً: العلاقة بين متساويين على الرغم من وجود ثقافات ومؤسسات وهويات وإثنيات مختلفة؛ بحيث يكون هنالك شعور بالمساواة عند كل طرف، هنالك عدة خصائص للتوافقية من أهمها:

أ – ائتلاف واسع يضم معظم القادة السياسيين من جميع الفئات الموجودة في مجتمع متعدد الأعراق والأيديولوجيات بحيث يتم تقاسم السلطة التنفيذية بين أعضاء هذا الائتلاف.

ب – إعطاء حق الفيتو لجميع الفئات من أجل حماية حقوق الأقلية.

ج – النسبية هي المعيار الرئيسي للتمثيل السياسي وتقاسم الموارد.

د – منح حكم ذاتي جزئي لجميع الفئات كي تدير أمورها الداخلية‏[36].

يعتبر هذا الشكل من التوافق من أقوى الأشكال، مع الأخذ بعين الاعتبار أنه لا يشترط أن نأخذ من هذا الشكل منح الحكم الذاتي لبعض الفئات؛ فهذا الشكل من التوافق ملائم للدول التي تعاني تعدد الإثنيات والعرقيات أو الديانات، بينما في الحالة الفلسطينية يوجد تجانس عرقي وديني وينحصر الاختلاف في الجانب الأيديولوجي والسياسي. يمكننا الاستفادة من الأخذ بالديمقراطية التوافقية؛ بحيث يتم اعتماد النسبية للتمثيل السياسي مع إعطاء حق الفيتو لجميع الفصائل والأحزاب الفلسطينية بغض النظر عن حجمها.

2 – التوافق القيمي

وجود قيم مشتركة بين أفراد المجتمع يزيد الاستقرار الاجتماعي/السياسي، ويقلل استخدام العنف لحل الإشكاليات المختلفة. تتأثر القيم في أي مجتمع بعاملين مهمين هما: العامل الاجتماعي الاقتصادي والعامل السياسي، مع الأخذ بعين الاعتبار أنّ القيم الفردية المرغوب بها هي التي تشكل المبادئ التوجيهية في حياة الناس، ويعرف التوافق القيمي بأنّه: «التوافق بين أفراد المجتمع بخصوص قيمهم المشتركة»‏[37]. في الحالة الفلسطينية يمكن البناء على وثيقة الوفاق الوطني التي وضعت المبادئ الأساسية المتوافق عليها فلسطينياً من أجل الوصول إلى حالة من التوافق القيمي. من دون التوصل إلى هذا النوع من التوافق من الصعب بمكان إنهاء حالة الانقسام وسيبقى الاستقطاب سائداً.

3 – التوافق السياسي المصلحي

هو عبارة عن التوافق السياسي المبني على التحالفات الظرفية والعقلانية الهدفية (هدف/وسيلة) والحسابية (ربح/خسارة) كما نجده في نظريات العقلانية الشكلية‏[38]. ويعتبر هذا النمط من التوافق ضعيفاً كونه يعتمد على المصلحة الآنية الحزبية، وبالتالي من السهل التحلل من هذا النمط التوافقي في حال تغيرت التوازنات الحزبية.

تعدّ الديمقراطية التوافقية من أفضل أنواع التوافق، لكن يجب أن نأخذ بالحسبان أنّ الديمقراطية التوافقية في ظل الانقسام على القضايا الكبرى تصعِّب عملية اتخاذ القرار وتؤدي إلى شلل الحكم في كثير من الأحيان (كما هو الحال في لبنان)، وعليه لا يتوقع أن تنجح صيغة الديمقراطية التوافقية من غير وجود توافق بين الفصائل الفلسطينية على البرنامج الوطني وبشكل تفصيلي. من هنا تبرز أهمية وثيقة الوفاق الوطني كأرضية مناسبة لوضع برنامج وطني تتبناه الحركة الوطنية الفلسطينية بجميع تلاوينها.

ثالثاً: خارطة طريق فلسطينية مقترحة

إن معالجة أعراض الانقسام من دون طرح أسبابه لن تُفضي إلا إلى تضييع مزيد من الوقت في حلول جزئية. يستوجب إنهاء الانقسام وضع خارطة طريق فلسطينية تقوم على أسس واضحة؛ مؤسسية واجتماعية مع وضع حدّ للتدخل الإسرائيلي والأجنبي في الشأن الفلسطيني. يتربع على رأس الأولويات إعادة تعريف المشروع الوطني الفلسطيني بحيث يتم صياغة ميثاق وطني جديد مبني على التمسك بالحقوق التاريخية للشعب الفلسطيني؛ وفي مقدمتها حق العودة وحق تقرير المصير مع المحافظة على الرواية التاريخية الفلسطينية، بالإضافة إلى إعادة تعريف العلاقة مع إسرائيل كعلاقة صراع مع عدو وليس علاقة شراكة.

على صعيد المؤسسات يفترض تغيير شكل الحكومة من مركزية إلى لامركزية (الفدرالية) مع التوجه لتبني النظام البرلماني المبني على أساس انتخابات نسبية كاملة؛ يسبق كل ذلك تعزيز دور السلطة القضائية من خلال ترسيخ استقلالها.

على الصعيد المجتمعي يفترض أن تعالَج آثار الانقسام من خلال تطبيق العدالة الانتقالية بالتزامن مع التحرر من التبعية الاقتصادية بانتهاج صيغة الاقتصاد المقاوم؛ يسبق ذلك تعزيز الثقافة الديمقراطية في المجتمع الفلسطيني من خلال ترسيخ التعددية والمشاركة.

ستبقى حالة التشرذم السياسي التي يعيشها الفلسطينيون ما لم يتم تشكيل إطار سياسي جامع يتبنى ميثاق وطني جديد؛ وهذا يتطلب إعادة بناء «م.ت.ف» من جديد على أسس ديمقراطية وإخراج الأجهزة الأمنية من دائرة الصراع السياسي، وقتئذ سيكون من الممكن الحديث عن تشكيل حكومة وحدة وطنية تضطلع بمسؤولية إدارة الشأن الداخلي الفلسطيني دون الخضوع للضغوط الإسرائيلية والدولية.

خاتمة

يحدث الانقسام كنتيجة للصراع السياسي الذي يفرضه تعارُض المصالح واختلاف الأهداف، لكن الحكمة والمصلحة تقتضي إنهاء حالة الانقسام بالاتفاق على برنامج وطني موحد كخطوة أولى للتحرر من الاحتلال، هنالك تشابه بين أسباب فشل الديمقراطيات وأسباب الانقسام؛ كون الانقسام الفلسطيني يعود في أساسه لفشل التداول السلمي للسلطة الذي يعتبر من أسس الديمقراطية، تشخيص أسباب الانقسام يكفل وضع حل جذري له، ومن دون وضع خطة طريق فلسطينية تتضمن رزمة شاملة لتغييرات مؤسسية واجتماعية لن يتم إنهاء الانقسام والتوصل لتوافق فلسطيني، ربما لا تكون الديمقراطية التوافقية في متناول اليد لكن يمكننا تحقيق توافق قيمي في حال قدمت القيادات السياسية الفلسطينية المصلحة الوطنية العليا على المصالح والمكاسب الحزبية الآنية.

رغم الفشل المتكرر في محاولة إنهاء الانقسام يبقى الأمل قائماً عبر تبني صيغة الديمقراطية التوافقية باعتبارها الوسيلة الفضلى لإنهاء الانقسام، فإن حالت الظروف دون هذا الأمر يفضل التوجه نحو التوافق القيمي والأنجع أن يترافق ذلك مع توافق سياسي مصلحي؛ على ألّا يقتصر التوافق على الناحية السياسية المصلحية كونها أضعف وجه من أوجه التوافق، حيث يعيد هاني المصري فشل جميع المبادرات السابقة لإنهاء الانقسام إلى أنها كانت تبرم تحت وطأة ظروف وضغوط داخلية وخارجية؛ بحيث يتم التعامل مع ملف المصالحة كأنه معزول عن غيره من الملفات، فجرى العمل على تحقيق المصالحة مع تأجيل النظر في الملفات الأخرى، وهذا أدى إلى انهيار أو تعطل الحكومات التي شكلت بعد اتفاق مكة وإعلان الشاطئ لأن الظروف تغيرت والحاجة الاضطرارية زالت لدى طرف واحد أو طرفي الانقسام، وبالتالي من الأهمية بمكان الاتفاق على البرنامج السياسي والنضالي الذي يعني في جوهره كيف ومن يتخذ قرار السلم والحرب، وهل يمكن ترك هذا الأمر الحاسم ليقرر فيه كل فصيل أو حتى كل مجموعة لوحدها؟… عدم الاتفاق على ذلك يعني الفشل المؤكد، فلا بد من الاتفاق على استراتيجية قادرة على تحقيق الأهداف الوطنية وعلى المرجعيات والمؤسسات الوطنية والشرعية ومبدأ الديمقراطية التوافقية، فأي اتفاق يكتفي بتشكيل حكومة ووضع كل الملفات في حضنها، سيكون بمنزلة وصفة مضمونة للفشل من جديد‏[39].

 

قد يهمكم أيضاً  البعدان التعليمي والاقتصادي في المشروع الإسرائيلي ضد القدس المحتلة

#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #فلسطين_المحتلة #حركة_حماس #حركة_فتح #الانقسام_الفلسطيني #الديمقراطية_التوافقية #السلطة_الفلسطينية #المجتمع_الفلسطيني #حركة_المقاومة_الإسلامية_حماس #حركة_التحرير_الوطني_الفلسطيني_فتح