مقدمة: 

سعت الحركة الصهيونية منذ أيامها الأولى إلى تحديد هويتها الفكرية والسياسية وربطت فكرتها ومصيرها بالمنظومة الاستعمارية الغربية، وفي إطار سعيها الحثيث لتجسيد فكرة الدولة الصهيونية اخترعت «القومية اليهودية» جنباً إلى جنب اختراعها لأعدائها، المتمثلين بالعرب بوجه عام والفلسطينيين بصورة خاصة.

ويمثّل «الآخر» العربي والفلسطيني مسألة جوهرية في الفكر الصهيوني، لما مثله ولا يزال يمثله من هاجس وكابوس وجودي، ويشكل خطراً على استمرار الفكرة الصهيونية المتمثلة بالدولة العبرية. فقد فشلت الصهيونية في إبادة عدوها أسوة بمثيلاتها من المجتمعات الاستيطانية الإحلالية؛ فهو بثباته على الأرض ومقاومته للصهيونية وتجلياتها المادية، فإنه يضع علامة استفهام كبيرة حول مستقبل المشروع الصهيوني.

والسؤال المركزي الذي تحاول هذه الدراسة الإجابة عنه: إلى أي مدى يُشكّل «الآخر» الفلسطيني هاجساً حقيقياً وعقبة في طريق استكمال المشروع الصهيوني، وإلى أي حد نجحت الصهيونية في طمس هوية الآخر؟ وما هي المصادر التي تستقي منها الصهيونية في مقاربتها للآخر؟

وفي سياق البحث عن إجابة عن هذه التساؤلات ستحاول الدراسة البحث في أربعة مركبات، يتكون منها الفكر الصهيوني: اللاسامية، والمرجعية الفكرية الاستعمارية، ونفي المنفي ومحاولات نفي الآخر، وأخيراً العنصرية.

تأمل هذه الدراسة أن تسلط الضوء على بعض ما هو كامن في الفكر الصهيوني، وما تحاول الصهيونية إخفاؤه، ولا سيّما محاولاتها الدؤوبة للظهور بمظهر الدولة الديمقراطية الحضارية، بينما تخفي في أعماقها طبيعتها العنصرية الوحشية التي تهدد شعب المنطقة برمتها بخطر وجودي.

أولاً: اللاسامية عقدة الاضطهاد من جانب الآخر

إن مسألة اللاسامية أحد أبرز المسوغات لانطلاقة الفكرة الصهيونية، وقد أدّت دوراً مهماً في بلورة الحركة الصهيونية والدفع بها لتشق طريقها نحو تجسيد فكرة الدولة الصهيونية بوصفها قدس أقداسها ومبرر وجودها.

سبق ظهور الصهيونية عدد من المفكرين اليهود الذين كتبوا وتحدثوا عن اللاسامية من بينهم بيرتس سمولينسكي (1842 – 1885) الذي يقول «إن اللاسامية أبدية ومغروسة في قلوب كل الشعوب الآن، اليهود غرباء الآن في البدان التي يعيشون فيها، لا وطن لهم، ويثيرون كراهية الآخرين لهم»‏[1].

أما ليو بنسكر (1821 – 1891) فقد شدد هو الآخر على اللاسامية التي باتت جزءاً من حياة اليهود وممارسات الآخرين بحقهم، فنجده يكتب «بالنسبة للأحياء يعتبر اليهودي ميتاً، وللمواطنين أجنبياً، وللسكان متحولاً، وللأغنياء شحاداً، وللفقراء غنياً مستغـلاً، وللوطنيين لا بلاد له، وبالنسبة للجميع منافساً مكروهاً»‏[2].

شكّلت هذه الآراء وغيرها العشرات من إرهاصات ظهور ما بات يعرف بالحركة الصهيونية، ودعت بعضها صراحة لحل المسألة اليهودية المتفاقمة في أوروبا من خلال إقامة دولة لليهود. غير أن هرتزل كان أول من التقط هذه القضية بحماسة، محولاً إياها إلى حجر الزاوية في الفكر الصهيوني، وفي تجسيد الحركة الصهيونية، لتنشأ هذه الحركة في رحم الحاضنة الاستعمارية وتصبح جزءاً مهماً من منظومتها.

ففي كتابه دولة اليهود كتب تيودور هرتزل «إن اللاسامية ستبقى إلى الأبد»‏[3]. وكرر في موقع آخر من الكتاب «الكراهية من حولنا هي التي تصنع منا أناساً غرباء»‏[4]. غير أن هذا الاستيطان للشعور بعقدة الاضطهاد تفضحه النيات الخفية والكامنة في الفكرة الصهيونية، ففي مذكراته يكشف هرتزل أن معاداة السامية ما هي إلا ذريعة، وخدمة جليلة للمشروع الصهيوني كمشروع استيطاني استعماري، حيث يكتب: «سيكون المعادون للسامية خير حلفاء لنا»‏[5]. وهذا يعني أنه لو لم تكن اللاسامية موجودة بالفعل لاستدعى ذلك خلقها في خدمة المرامي والأهداف الصهيونية.

وينسب إلى بن غوريون (مجسد فكرة الصهيونية) القول التالي: «إذا لم يوجد هذا العداء فلا بد أن يولد ويستثار، فإن أدنى لمحة من الكراهية أو التمييز ضد اليهود ينبغي أن يجري تضخيمها، وتأجيجها حتى تبدو وكأن هناك مطاردة واضطهاداً دائماً خارج إسرائيل ضد اليهود»‏[6].

تجدر الإشارة إلى أن معاداة السامية هي ظاهرة غربية أوروبية بالأساس ولم تشمل التجمعات اليهودية كافة في بقية أنحاء العالم كما تدعي الصهيونية؛ ولم تكن هذه الظاهرة شاملة في أنحار القارة الأوروبية، وإنما برزت بعض مظاهرها في عدد من بلدان أوروبا الشرقية وروسيا. كما يؤكد عبد الوهاب المسيري في كتابه، الأمر الذي ينفي ادعاء هرتزل «إن المسألة اليهودية قائمة في كل مكان يتواجد فيها اليهود بأعداد كبيرة، ولأننا نتجه إلى الأماكن التي لا يضطهدونا فيها، ولكن مع وصولنا إلى هناك يتبعنا الاضطهاد»‏[7].

كانت اللاسامية هي الأساس في بلورة الحركة الصهيونية ومبرر وجودها، لكن السؤال المطروح: ما الذي جعل الصهيونية، التي ولدت من رحم الملاحقة والاضطهاد ومعاداة اليهود كما تدعي، تتحوّل إلى ظاهرة استعمارية عنصرية إحلالية تُشكّل خطراً على الآخرين؟

ثانياً: المرجعية الفكرية الاستعمارية للحركة الصهيونية

يتبنى هرتزل بوضوح في كتابه دولة اليهود نبرة خطاب أوروبا في القرن التاسع عشر الكولونيالية التي تقسم العالم إلى أمم متحضرة وأمم بربرية. ويضع المشروع الصهيوني بوضوح كجزء من المشروع الأوروبي الحضاري الكولونيالي، ويكتب «بالنسبة إلى أوروبا سنمثل جزءاً من السد أمام آسيا، سنخدم في الخط الأمامي لندافع عن الحضارة ضد البربرية وسنبقى كدولة مستقلة متحالفين مع أوروبا التي ستضمن في المقابل وجودنا»‏[8].

من هنا يتضح جوهر الصهيونية ومبرر وجودها، وفي هذه الحالة فإن «الأنا» الصهيونية قد حددت هويتها بوصفها جزءاً من المنظومة الحضارية والثقافية الغربية الاستعمارية مقابل «الآخر» الذي يحدده هرتزل بصيغة الشرق عموماً الذي وصفه بالبربري، كما ينطوي هذا التعبير على الروح الاستشراقية الاستعمارية التي تتشبع بها الصهيونية.

ففي السياق الاستعماري تجسد الحدود الاجتماعية والنفسية والثقافية التي تفصل المستعمر عن المستعمر معاني عديدة. إنها تحدد الحقوق والفرضيات التي تتعلق بطبيعة الآخر وعلاقات القوة‏[9].

ويرى البعض أن إحدى مصائب الصهيونية تكمن أساساً في طابعها الحداثي الأوروبي وليس في انزياحها عن النموذج، إنما لكونها جزءاً من النموذج الذي ورث العالم الاستعماري، الأبارتهايد، وحروب الإبادة ضد الشعوب صاحبة البلاد‏[10].

ففي حالة استعمار فلسطين، فإن كل محاولة لفحص الأنا عبر الآخر تصبح بالضرورة تحويراً على بنية التبعية للآخر الرأسمالي الأوروبي بطبيعته الاستعمارية الاستيطانية، فهذا الشكل من فحص الأنا بموضعها والآخر على المسرح نفسه وكأنها حالة من التساوي في التضاد والعكس‏[11]. فمنذ الأيام الأولى لحركة الاستعمار الصهيوني تغلبت الادعاءات الأوروبية بالتفوق واحتقار الآخرين‏[12].

ويرى عبد الوهاب المسيري أن الدولة الصهيونية هي تجمع استيطاني إحلالي يوظف الديباجات اليهودية وأن نقطة انطلاقه هي الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة التي تذهب في نهاية الأمر، وفي التحليل الأخير، إلى أن اليهود شعب عضوي يعيش في الغرب وينتمي إليه، لذا يجب أن يوطن في أرض أجداده أي فلسطين التي يجب أن تفرغ ممن تصادف وجودهم فيها من البشر‏[13].

ولتحقيق هدفها في اغتصاب فلسطين وطرد أهلها وتجنيد يهود العالم لدعم مشروعها ومده بالمادة البشرية المطلوبة، طورت الصهيونية خطاباً هلامياً مبهماً غير متجانس بشكل متعمد، يتسم بدرجة عالية من عدم الاتساق، ويحتوي على فجوات كثيرة بهدف تغييب الضحية وتشويه صورته‏[14].

ويؤكد المسيري أن هذا التجمع الاستيطاني الإحلالي شأنه شأن كل الجيوب الاستيطانية الإحلالية، مبني على الحد الأقصى من الضعف الموجَّه ضد الآخرين، ضد الذات‏[15].

والقيادة الصهيونية منذ اليشوف العبري لم تنظر إلى العربي في الحيز الجغرافي كإنسان يملك إنسانية جوهرية بل تمت موضعته خارج الحدود الأخلاقية الإنسانية‏[16] حيث كان المستوطنون الأوائل يحتقرون العرب، ويستغلونهم، ففي أول زيارة قام بها أحاد هعام أحد المفكرين الصهاينة لفلسطين عام 1891 لفت نظره مثـلاً «أن المستوطنين يعاملون العرب بعداء وقسوة ويعتدون عليهم دون مبرر ويضربونهم باحتقار دون سبب»‏[17].

أما خلفية هذا الاحتقار فيؤكد أحاد هعام «ساد لدينا الاعتقاد خارج البلد أن العرب جميعهم متوحشون صحراويون، شعب يشبه الحمير، لا يرون ولا يفهمون ما يدور حولهم»‏[18]. والخلفية الفكرية الاستعمارية الغربية سنجدها واضحة تماماً لدى زئيف جابوتنسكي الذي سيغدو بأفكاره وتصوراته الأب الروحي لليمين الإسرائيلي.

ويسمي جابوتنسكي الأشياء بمسمياتها، ويشير بوضوح إلى انتماء الفكرة الصهيونية للمنظومة الاستعمارية الغربية، ويقول في إحدى كتاباته «نحن اليهود لا صلة لنا بالشرق ويجب كنس الروح العربية خارج أرض إسرائيل»‏[19]. بهذا يحدد جابوتنسكي انتماءه («الأنا الصهيونية») للغرب، ويحدد «الآخر» أي العربي الذي يتوجب التخلص منه بأي وسيلة.

ويستغرق جابوتنسكي في احتقاره للشرق قائـلاً «إن الشرق غريب بالنسبة إليّ وكذلك كل ما يرتبط بهذا المصطلح، أنا لا أفهم تقاليده ولا أفهم جماله، أذني لا تستسيغ أنغامه وأفكاره لا تثير اهتمامي، ولو قيِّض لي أن أزور قبيلة الأسكيمو في أقصى القطب الشمالي، لكنت شعرت بأنني واحد منهم أكثر مما هو هنا»‏[20]. إن لغة جابوتنسكي تنطوي على خطاب استعماري استشراقي عنصري ولا ينطوي على شعور بالاضطهاد وعقدة اللاسامية التي شكلت الذريعة الأساس في الخطاب الصهيوني.

ويواصل جابوتنسكي الغزل على المنوال نفسه قائـلاً «نحن اليهود ننتمي إلى الغرب، أوروبا نحن من بناتها وروادها الأوائل، أكثر من أي شعب آخر. ويحق لنا أن نقول إن الثقافة الغربية هي دم من دمنا، لحم من لحمنا، وروح من روحنا، لذلك فإن الاقتراب من الشرق يعني بالنسبة لنا التنكر لأنفسنا»‏[21]. ويضيف جابوتنسكي كاشفاً الستار تماماً عن المزاعم الصهيونية «نحن ذاهبون إلى أرض إسرائيل أولاً من أجل راحتنا القومية، وثانياً من أجل توسيع حدود أوروبا حتى نهر الفرات»‏[22].

وهكذا تحددت الهوية اليهودية الصهيونية بانتمائها التام إلى الهوية الأوروبية الاستعمارية، وهو ما يعكس المهمة الوظيفية التي تعرضها الصهيونية كأداة في خدمة القوى الاستعمارية الأوروبية، وقلعة متقدمة في وجه الشرق.

وإذا كان الآخر لدى هرتزل وجابوتنسكي هو الشرق، فإنه لدى بن غوريون لا يعني سوى العرب؛ وبهذا تتحدد هوية الآخر كعدو وفقاً لما هو قائم من تعقيداته على الأرض.

فقد شدد بن غوريون على ضرورة إقامة تحالفات إقليمية بين الحركة الصهيونية وقوميات تعيش في الوطن العربي، وما قاله بن غوريون منذ ثلاثينيات القرن الماضي أصبح بمرور الوقت ثوابت صهيونية لا جدال فيها، ومن هذه الأمور أن العرب هم العدو الأول اللدود، لذلك ينبغي البحث عن الحلفاء في منطقة الشرق إلى جانب الحلفاء في الغرب، فأية طائفة أو جماعة تعادي القومية العربية، أو أي مشروع وحدوي وتبدي استعدادها لمحاربته أو مقاومته، هي في حقيقة الأمر حليف يمكن استغلاله في تنفيذ السياسات الصهيونية من استيطان وتهويد واقتلاع وتوسع وهيمنة ‏[23].

ومنذ وضع هذا التصور فإن الشرق يتضمن حلفاء محتملين إزاء الآخر العربي الذي بات هو العدو. فمنذ افتتاحه لمفاعل ديمونا سنة 1963 أعلن بن غوريون «أن القنبلة النووية لن تفيدنا بشيء فسلاحنا الأقوى هو تفكيك الدول العربية الكبرى مصر وسورية والعراق» وإغراقها في الحروب الأهلية»‏[24].

إلا أن «الآخر» يتغير شكله لا مضمونه وفقاً لسياسة تدوير الزوايا الصهيونية، ففي كتابه مكان بين الأمم يجدد بنيامين نتنياهو تأكيده العلاقة الوثيقة مع الغرب وانتماء الدولة العبرية إليه، مشدداً على هوية الآخر أي العربي كمعادٍ لإسرائيل وللغرب على حد سواء، مع الإشارة إلى أن العرب لا يكرهون الغرب بسبب «إسرائيل» بل يكرهون «إسرائيل» بسبب الغرب‏[25].

يضع نتنياهو «إسرائيل» تماماً في موقعها كمستعمرة غربية، ومع أن هذا الشعار وإن انطوى على بلاغة كلامية، إلا أنه يخفي في أعماقه دلالات واضحة حول جدلية تحديد «الأنا» الصهيونية إزاء الآخر المعادي، وفي الوقت نفسه يعيد التذكير بالكراهيات الكامنة والقديمة وإن جاءت بهذه الصيغة الغائمة.

إلا أن نتنياهو سيعود على هذا الشعار، ولكن «الآخر» ينقلب هذه المرة إلى شكل آخر، فعندما دعا مباشرة بعد هجمات أيلول/سبتمبر لإبداء رأيه في قضية الإرهاب أمام لجنة الإصلاحات في مجلس النواب الأمريكي عرض نتنياهو في حديثه عن الحرب ضد الإرهاب الدولي كحرب ضرورية من أجل استمرار الحضارة الغربية، وقال إن المحرك الرئيسي لشبكات الإرهاب حتى وإن بدا الصراع محلياً، هو العداء للغرب والرغبة في قلب التاريخ وفرض شكل من التطرف الإسلامي على العالم.

وعاد يكرر عبارته، وهذه المرة بالقول «إن جنود الإسلام المتطرف لا يكرهون الغرب بسبب إسرائيل بل يكرهون إسرائيل بسبب الغرب»‏[26].

وهذه المرة تم استبدال «الآخر» العربي بالآخر الإسلامي المتطرف، ووفقاً لسياسة تدوير الزوايا بالنسبة إلى الآخر، فإن إيران في الوقت الراهن تحتل هذا الدور، بينما نجد «بعض الدول الإسلامية السنية المعتدلة» إلى جانب بعض البلدان العربية المعتدلة تصبح حليفاً لإسرائيل إزاء الآخر «الشيعي» المتمثل بإيران التي باتت تصنفها «إسرائيل» العدو الأول لها، بعد أن كانت حليفاً قوياً لها قبل أكثر من أربعة عقود. وهذا لا يعني بالطبع أن قواعد اللعبة قد تغيرت بالنسبة إلى نظرة «إسرائيل» إلى الآخر، بل بقيت في المضمون واحدة لا تتغير، وحدود الشكل تغيرت فحسب، بالشرق والغرب، والإسلام بشقيه السني والشيعي، يبقى هو الآخر طالما حددت الصهيونية موقعها في جهة الغرب، وخاصة في حقبته الاستعمارية السوداء المظلمة وفي تعبيراته الحالية المتمثلة بالولايات المتحدة الأمريكية.

ثالثاً: من نفي المنفى إلى نفي الآخر

مثّل مفهوم المنفى حلقة مركزية في الفكر الديني اليهودي بوصفه وجهاً من وجوه العقاب الإلهي، وأنه مرحلة ضرورية في طريق الخلاص في انتظار المسيح المخلص.

أما مقولة نفي المنفي فهي مقولة صهيونية خالصة مضادة للفكر الديني القبلي، فالمقولة الأساسية في الصهيونية تقوم على فكرة نفي المنفى، أي أن المنفي يحضر بوصفه صورة دينية وغير طبيعية ومؤقتة في حياة اليهودي، لذا فإن حياة اليهودي في المنفى هي غير طبيعية وناقصة ولا يكتمل الوجود والمعنى الروحي تماماً إلا عندما يلتقي يهودي المنفي أرضه الموعودة، أرض «إسرائيل» ويقيم بيته القومي‏[27]. لقد شدد القادة الصهاينة على ضرورة إنهاء حالة المنفى ولأن معاناة اليهود حسب مزاعمهم سببها بقاؤهم بعيدين من وطنهم.

على حد زعمهم لا معنى للأرض – أرض «إسرائيل» من دون الشعب ولا معنى للشعب بلا الأرض، وبالتالي فالآخر يحضر بصفتين: مرة يكون المنفى عادة أوروبا ومرة أخرى يكون الشعب الآخر الذي يعيش فوق الأرض الموعودة أي الشعب الفلسطيني. فالمعنى المادي لفكرة نفي المنفى يتمثل بفكرة الهجرة وجمع الشتات، وبالتالي لا بد لأي مدخل لفهم «إسرائيل» أن يأخذ بعين الاعتبار أنها دولة مهاجرين. أما الوجه المادي الآخر لفكرة نفي المنفى فيعني إزاحة أو طرد الفلسطينيين من فلسطين كي تصبح وطناً قومياً فيه أغلبية يهودية لأن الفلسطينيين يقفون حاجزاً بين الذات والموضوع، بني اليهود وأرض «إسرائيل». هكذا تطور الصهيونية علاقة خاصة في نوعها مع الآخر، العربي الفلسطيني وتقوم على تغييبه من المكان‏[28].

نجحت الصهيونية في ابتكار صيغ منحوتة بصورة بلاغية في خطابها لتسويق فكرتها بما فيها ما تضمنه هذا الخطاب من تصورات للآخر في إطار السعي لتجسيد الحلم الصهيوني؛ ويتسم شعار «أرض بلا شعب لشعب بلا أرض» على سبيل المثال، بتناسقه اللفظي الساحر، فهو ينقسم إلى قسمين متساويين يستخدم كل قسم القدر نفسه من الكلمات – كلمة «بلا» في القسمين هي المركز الثابت – العنصر المشترك وما يتحرك هو كلمتا «الأرض» و«الشعب» فيتبادلان مواقعهما تماماً كما سيتبادل اليهود العرب مواقعهم‏[29].

ويرى المسيري أن هذه الصيغة الصهيونية السوقية التي تكشف المضمون الحقيقي للصهيونية وتبين نزعتها العنصرية الإبادية الشرسة، قد اختفت تماماً في الخطاب الصهيوني وحلت محلها صيغ أكثر صقـلاً وتركيباً مثل «الحقوق المطلقة للشعب اليهودي» التي تشير في واقع الأمر إلى أن حقوق الآخرين (العرب) نسبية عرضية ومن ثم يمكن تهميشها وإلغاؤها في نهاية المطاف‏[30].

والصهاينة في إطار مقاربتهم للآخر، أي الفلسطيني الذي سيغدو العدو الأول للصهيونية، لجأوا إلى أكثر من صيغة، لإنكار وجود الآخر، بدءاً بالشعار الصهيوني التقليدي «أرض بلا شعب» ومروراً بعشرات المواقف الصادرة من القادة الصهاينة، على شاكلة «غولدا مائير» التي قالت «ليس صحيحاً أنه كان هناك أناس في فلسطين يعتبرون أنفسهم الشعب الفلسطيني، ونحن جئنا وألقينا بهم في الخارج، وأخذنا وطنهم منهم إنهم لم يكونوا موجودين»، وليس انتهاءً بمواقف «نتنياهو»، الذي صاغ الموقف الصهيوني «بأن العرب أوجدوا هوية فلسطينية جديدة، وخلقوا الأكاذيب شعباً جديداً مختلفاً هم الفلسطينيون في الضفة والقطاع، اليهود لم يسلموا العرب أرضهم، وإنما العرب هم الذين سلبوا أرض اليهود»‏[31].

ولعل نتنياهو تأثر مبكراً بهذه الفكرة، من والده بن تسيون نتنياهو وهو أحد المفكرين الصهاينة، ففي مقابلة أجرتها معه صحيفة معاريف في 3 نيسان/أبريل 2009، صرح نتنياهو الأب قائـلاً «ليس هنالك شعبان، بل يوجد شعب يهودي وسكان عرب، ليس هناك من شعب فلسطيني، لذلك لا يجوز إقامة دولة لأمة متخيلة».

بهذه الصيغ الكلامية، يجري قلب الصورة، ويصبح العرب محتلين وسارقين ومعتدين ومجرد جماعة وليسوا شعباً، وهو ما يبرر إبادتهم وطردهم من أرضهم، كما حدث عام 1948 من قتل وتهجير واقتلاع وتدمير أي أثر يدل على وجود الآخر في المكان وطمس ثقافة الآخر ومسمياته وإزالة الأسماء العربية. وفي هذا الصدد يقول بن غوريون «إننا مضطرون إلى إزالة الأسماء العربية لأسباب تتعلق بالدولة تماماً مثلما لا نعترف بحق الملكية السياسية للعرب في الأرض، هكذا أيضاً لا نعترف بحقهم في الملكية الروحية وبأسمائهم».

ولم تقم الصهاينة بعبرنة الأسماء التي لها أصول توراتية، وإنما قاموا أيضاً بعبرنة جميع الأسماء العربية حتى لو لم يكن هناك اسم عبري لها في السابق فقط لأنهم يريدون اتصالاً مباشراً بإرثهم القديم‏[32].

فالتسمية تدل على الملكية فكانت المحاولات الصهيونية الدؤوبة لطمس أي أثر عربي، تنبع من هاجس تجذر هوية الآخر في المكان، وهذا يستدعي اجتثاث هذا الأثر الذي سيظل مثل شبح يقض مضجع الصهيونية، وإذا لم يجرِ اقتلاعه وطمسه بالمسميات العبرية.

وكتب هرتزل في كتابه دولة اليهود «في الوقت الذي أريد فيه بناء بيت جديد بمكان قديم، عليّ أن أقوم بالهدم في البداية ومن ثم البناء، سأحافظ إذاً على هذا الترتيب المنطقي»‏[33].

تمثل هذه المقولة جوهر العلاقة بين الصهيونية والاستعمار، وتعكس الخطاب الاستعماري الإحلالي الكامن في الفكر الصهيوني، فبناء البيت الجديد، أي إقامة الدولة الصهيونية تقتضي هدم ما هو قائم من مدن وبلديات وقرى، وإزاحة سكان المكان، حتى يتسنى للدولة العتيدة أن تبني نفسها على الطراز الغربي الاستعماري وتسير بخطاها على ذات النسق في إبادة وطرد السكان الأصليين. وهذا ما أقدمت عليه العصابات الصهيونية سنة 1948، حين قامت بتدمير أكثر من 530 بلدة وحياً عربياً وتهجير أكثر من 800 ألف فلسطيني، وترافقت هذه العملية مع ارتكاب عشرات المذابح كما جرى في دير ياسين، والطنطورة، واللد. ومنذ ذلك الحين وعلى مدى أكثر من 70 سنة ظلت الدولة العبرية على خطابها وممارساتها نفسها في الحروب والهدم والتهجير، وما انفكت الدعوات الهستيرية داخل هذه الدولة للترانسفير، والقتل، والهدم، تعكس ما يعانيه الإسرائيلي من هاجس العربي الفلسطيني، الذي بات أشبه بالكابوس الوجودي الذي يهدد مستقبل المشروع الصهيوني، الأمر الذي يستدعي القيام بخطوات تنطوي على تغييب الآخر والقضاء عليه تماماً.

وفي السنوات الأخيرة تزايدت حدة الدعوات والممارسات التي تستهدف مباشرة حياة الفلسطينيين على الأرض، وقد وصلت إلى حد شن ثلاثة حروب قاسية ضد القطاع وحصاره وتجويع سكانه ومواصلة استهدافهم.

ومنذ اندلاع الانتفاضة الثانية، وفي إطار السعي لإخماد جذوتها، حصل قادة الألوية في الجيش الإسرائيلي على استقلالية، وعلى ضوء أخضر للقيام بأي عمل من شأنه أن ينهك الفلسطيني ويبرهن لهم بأن نضالهم غير مجدٍ، وكان الهدف من ذلك «كيّ وعيهم» حسب تعبير نائب رئيس الأركان موشيه يعلون، حتى يفهموا أن الحدود الجغرافية الاقتصادية والثقافية والاجتماعي التي حددتها «إسرائيل» لهم‏[34].

يمثل هاجس الديمغرافيا كابوساً فظيعاً لإسرائيل، فمنذ البدايات الأولى لولادة الصهيونية، رأت بالآخر العربي الفلسطيني كموضوع إما للإبادة أو الترحيل أو البقاء، ولكن تحت حكم عسكري بشروط وظروف الحد الأدنى للحياة الإنسانية. وأطلقت آلاف الدعوات والمواقف الصهيونية الداعية إلى طرد العرب من الأرض؛ وشملت هذه المواقف أوساطاً فكرية وسياسية وحزبية وعسكرية وثقافية ودينية وأكاديمية وقضائية.

كتب يوسف فايتس مسؤول الصندوق القومي اليهودي سنة 1940 يقول «لا يوجد متسع لكلا الشعبين في هذه البلاد، ولا توجد طريقة أخرى سوى طرد العرب إلى البلدان المجاورة، وذلك بشكل جماعي دون الإبقاء على قرية واحدة أو قبيلة واحدة»‏[35]. وقد كان فايتس مستشاراً مقرباً لبن غوريون الذي عهد إليه بعد نكبة 1948 الإشراف على تدمير مئات القرى العربية التي جرى تهجير أهلها وتحوّلوا إلى لاجئين.

أما بن غوريون ذاته فكان من أكثر المتحمسين لفكرة الترانسفير، وينسب إليه وإلى غيره من القادة الذين تولوا إدارة الدولة، عشرات المواقف الداعية صراحة لطرد العرب والتحذير من المشكلة الديمغرافية التي جرى وصفها بالقنبلة الديمغرافية حيث تحولت هذه القضية إلى حالة من الهستيريا.

يُنسب إلى إسحاق رابين رئيس الحكومة الإسرائيلية الأسبق تصريحاً قال فيه بأن نسبة 20 بالمئة من السكان هي النسبة الأعلى المسموح للعرب في «إسرائيل» بها، وأنها خط أحمر لا يجوز تخطيه‏[36]. كما صرح مع إيهود أولمرت أثناء شغله منصب القائم بأعمال رئيس الحكومة سنة 2003 «إن غمامة الديمغرافيا تخيم على كل شيء وسوف تهبط علينا ليس في المستقبل البعيد إنما بعد سنوات معدودة»‏[37].

وهي تحذيرات كُرِّرت، وإن بصورة أكثر وضوحاً، كدعوات الترانسفير الصادرة عن حركات وأحزاب وقيادات اليمين في «إسرائيل» كرفائيل ايتان ومائير كهانا وافيغدور ليبرمان وغيرهم من قادة الأحزاب اليمينية والدينية.

كما تصدرت المؤسسات الأكاديمية هي الأخرى المشهد لقرع ناقوس الخطر الديمغرافي، ولعل الدراسة التي أجراها الأستاذ الجامعي أرنون سوفير تؤدي دوراً خطيراً ومؤثراً لدى صانع القرار السياسي. فقد نشرت هذه الدراسة سنة 2000 بعنوان «إسرائيل ديمغرافيا 2000 – 2020 مخاطر وإمكانيات» توصل فيها إلى أن 42 بالمئة فقط من اليهود مقابل 58 بالمئة من العرب سيعيشون في المنطقة الواقعة بين الأردن والبحر في سنة 2020، وأنه من دون الفصل ستختفي «إسرائيل» عن الخارطة خلال سنوات. ثم أضاف محرضاً الأوساط الحكومية لاتخاذ القرارات اللازمة (الساعة الديمغرافية حول إسرائيل تتسارع بوتيرة الفهد، بينما يتسارع اتخاذ القرارات القومية بوتيرة السلحفاة)‏[38].

وقد ظهر عدد من الدراسات المماثلة في السنوات الأخيرة المنبهة من مخاطر المشكلة الديمغرافية، فيما تزايدت التصريحات السياسية الداعية إلى حل هذه المعضلة من خلال الانفصال عن الفلسطينيين، وطردهم بصورة جماعية. هذه الدعوات والممارسات بحق الفلسطينيين كشفت تساؤلاً مهماً حول التسوية واتفاقيات السلام الموقعة مع الأطراف العربية والفلسطينية فما هي رؤية «إسرائيل» للسلام في المنطقة؟ وما هو السلام المتوقع إحرازه مع الآخر الفلسطيني والعربي ولا سيّما بعد أكثر من ثلاثة عقود على انطلاق قطار التسوية في المنطقة.

لقد كان بن غوريون قد رسم بصورة واضحة رؤية «إسرائيل» للسلام حين صرح بالقول «إن السلام بالنسبة لنا هو وسيلة وليست غاية، والغاية هو التحقيق الكامل والتام للصهيونية» فالسلام هو وسيلة لا غير وليست غاية منشودة تسعى «إسرائيل» لإنجازها كما تدعي.

ويُكمل بن غوريون كاشفاً بصراحة عن هذه الرؤية «إن الاتفاق الشامل هو بلا شك أمرٌ مستبعدٌ الآن، فقط بعد أن يدب اليأس الكامل في نفوس العرب»‏[39] فرؤية السلام من ناحية بن غوريون هو سلام الإخضاع للعرب، والإذعان من طرفهم لهذه الرؤية.

وهو ما شدد عليه نتنياهو بالقول «إن السلام الذي تستطيع دولة إسرائيل أن تتوقع الحصول عليه هو سلام الردع فقط، وأي تسوية سلمية منوطة بقدرة إسرائيل على ردع الطرف الآخر عن خرق هذه التسويات وشق حرب جديدة عليها»‏[40]. أما شمعون بيريز المعروف بمواقفه الحمائمية الداعية إلى تجسيد السلام فموقفه لا يختلف كثيراً عن بن غوريون أو نتنياهو، فقد صرح سنة 1962 «السلام فقط أهم من القوة، وفي غياب السلام علينا أن نعتمد على قوتنا»‏[41]. ثم يؤكد هذه الرؤية بعد ثلاثة عقود بعد توقيع اتفاقية أوسلو، ولكن من زاوية الهيمنة الاقتصادية، حيث صرح «نحن لا نبحث عن سلام رايات، بل نهتم بسلام الأسواق». أما شلومو بن عامي وزير خارجية «إسرائيل» في أواخر تسعينيات القرن الماضي، والمحسوب على «الحمائم»، فقد عبّر عن هذا الموقف بالقول «إن الهدف من أوسلو هو إنشاء حالة نهائية للتبعية الاستعمارية الجديدة للأراضي المحتلة، أما السلام الاقتصادي الذي دعا إليه نتنياهو مراراً في السنوات الأخيرة فإنه يلتقي مع هذه الرؤية، بل هو كلمة السر للهيمنة الاستعمارية الصهيونية الدائمة على الفلسطينيين بوجه خاص وعلى المنطقة العربية بصورة عامة.

رابعاً: العنصرية الصهيونية تجاه الآخر

يتضمن الفكر الصهيوني مركّبين ينطويان على رؤى وتصورات عنصرية تجاه الآخر. الأول مستمد من المقولات الاستعمارية الاستشراقية العنصرية، أما الثاني فمستمد من المقولات التوراتية والتلمودية والتراث الديني اليهودي الذي يحتقر الآخرين ويصفهم بالأغيار، ولا سيّما العرب الذين يُطلق عليهم عدد من التوصيفات العنصرية: كالإسماعيليين وأبناء الجارية والعمالقة والكنعانيين.

بالنسبة إلى المركَّب الأول، فبالإمكان تتبع العنصرية الصهيونية المستقاة من الفكر الاستعماري الغربي من خلال تصريحات وكتابات عدد من المفكرين والسياسيين الصهاينة، ويكفي الاستشهاد بما قاله زئيف جابوتنسكي الأب الروحي لليمين الصهيوني حين كتب في ثلاثينيات القرن الماضي «خلال الفترة الانتقالية أو بعدها سنضطر للعيش في أرض إسرائيل وسط بيئة مشبعة برائحة الشرق، نحن ننصح كل واحد منا حين يسير مرتدياً معطفاً في الشوارع الشرقية في القاهرة أو القدس أو إسطنبول، أن يثني أطراف معطفه كي لا يلمسه الغبار بأي شكل كان وأن ينظر جيداً قبل أن يضع قدمه، ليس لأننا يهود وحتى ليس لأننا من أوروبا، وإنما ببساطة لأننا أناس متحضرون»‏[42]. يُمثّل هذا الموقف امتداداً لرؤية هرتزل التي قسمت الأمم والشعوب إلى متحضرة وغير متحضرة، وهو موقف متماهي تماماً مع الرؤية الاستعمارية الغربية.

أما بن تسيون نتنياهو، والد رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، الذي عمل سكرتيراً خاصاً لجابوتنسكي، وكان من أشد المعجبين المتحمسين لأفكاره، فقد صرح قائـلاً: «لم يجد الكتاب المقدس أي صورة أسوأ من هذه الصورة للرجل القادم من الصحراء… لماذا؟ لأنه لا يحترم أي قانون ولأنه لا يستطيع أن يفعل ما يحلو له في الصحراء… إن النزعة التي تميل إلى الصحراء هي في جوهرها نزعة العرب، فهو عدو في جوهره شخصيته لن تسمح له بالتوصل إلى أي تسوية أو اتفاق… إن وجوده مرتبط بحرب أبدية معه» ويتباهى نتنياهو في أغلب المناسبات بأنه يتبنى المبادئ التي رباه والده عليها، وهو ذاته كان قد ترعرع على تعاليم زئيف جابوتنسكي‏[43].

لقد انعكس هذا الخطاب في بنية الدولة ومؤسساتها وتشريعاتها وحتى في أنظمتها التربوية والثقافية، فقد دعم الصهاينة صورة العربي المتخلف وأصوله الصحراوية حتى وإن سكن بعضهم القرى والمدن، فإن نمط الحياة البدوية كامن في الشخصية العربية الوحشية والصحراوية مقابل اليهودي المتحضر الذي سعى لتطوير الصحراء وجعلها جنَّة مزدهرة.

ففي الكتب المدرسية لتدريس مساقات «اعرف البلد» تم تصوير العرب على أنهم يتحملون مسؤولية الخراب البيئي للبلد كله، «فهم الذين دمروا البيئة الزراعية القديمة وهذا سبب تآكل التربة وتعرية الجبال… وبسببهم جفت الجداول، وأصبحت السهول الساحلية أرضاً لمستنقعات الملاريا، وأتلفت ماعزهم الغابات القديمة وبسبب حروبهم العنيفة تحولت الأرض إلى ساحة معركة دائمة، وبالتالي لم يقم الصهاينة بسرقة الأرض من سكان البلد وحسب وإنما أنقذوها من الخراب»‏[44].

وقد صدرت عن عدد من القادة السياسيين الكثير من التعبيرات ذات الطبيعة العنصرية على شاكلة: العرب أفاع سامة، وصراصير مسممة في قنينة، وسرطان يجب استئصاله، وحيوانات آدمية، والعربي الجيد هو العربي الميت، وغيرها الكثير، وقد نسبت تصريحات مشابهة على ألسنة قادة وزعماء دينيين مثل عوفاديا يوسف ورفائل إيتان وليبرمان وكاهانا ويعلون وغيرهم. أما المركب الآخر العنصري في الفكر الصهيوني فيستمد مقولاته من التراث الديني اليهودي.

ويعلق الصحافي الإسرائيلي جدعون ليفي في مقابلة أجريت معه أن العنصرية في «إسرائيل» توجد في الأساس في فكرة الشعب المختار الذي يؤمن بها جميع الإسرائيليين تقريباً، والترويج أن اليهود هم الضحية‏[45]. فالجمهور المتدين، ولا سيّما ما بات يعرف بالصهيونية الدينية، يؤمن تماماً بالعنصرية التي تؤكد أفضلية اليهود بوصفهم شعب الله المختار، بينما الآخرون أي الفلسطينيون ليسوا أكثر من نزلاء موجودين في الأرض بمحض الصدفة.

وقد صرح تسفي يهودا كوك الأب الروحي للصهيونية الدينية قائـلاً «كل هذه الأرض لنا، تماماً تخصنا جميعاً، ولا نقبل التحويل إلى الآخرين حتى جزئياً، لا يوجد هنا مناطق وأراضٍ عربية، بل أراضي إسرائيل، الميراث الأبدي لأجدادنا الذي جاء إليه العربي وبنوا عليه دون إذن منا وفي غيابنا»‏[46].

وفي العادة يطلق الصهاينة الأصوليون المتدينون على الفلسطينيين مسميات متعددة على شاكلة العمالقة والكنعانيين والإسماعيليين، وهي مسميات تنطوي على المنطق العنصري في الموروث الديني تجاه الفلسطينيين. وقد تزايدت فتاوى وتصريحات الحاخامات المتزمتين الداعين إلى طرد العرب وحتى قتلهم وتحريم التنازل لهم عن أية قطعة أرض، وتشجيع إتلاف مزروعاتهم وأشجارهم وتخريب ممتلكاتهم، وتحريم مد يد العون لهم.

ويكفي إيراد ما كتبه اسحق غينزبرغ الذي كان يترأس المدرسة الدينية في قبر يوسف قرب نابلس، الذي يعد الأب الروحي لفتيان التلال، فقد كتب في كتابه ملكوت إسرائيل «لن يكون ممكناً إنشاء ملكوت القدسية طالما لا نعرف كيف نكون أشراراً حقاً حيال الآخر، الذي يستحق ذلك وينبغي طرد أي غريب غير يهودي من حدودنا بالقوة»‏[47].

وقد ترُجمت هذه الأقوال إلى أفعال ملموسة من جانب فتيان التلال الذين يُنسب إليهم اجتثاث آلاف الأشجار المثمرة، وإحراق عائلة دوابشة، وإلقاء الحجارة على السيارات الفلسطينية في الشوارع تسببت في الأشهر الأخيرة في مقتل الفلسطينية عائشة الرابي، كما تسببت ممارساتهم في إلحاق الأذى بالبيوت والحيوانات والشوارع الفلسطينية.

في السنوات الأخيرة برز عدد من المواقف الإسرائيلية المحذرة من تفشي العنصرية، فقد صرح نائب رئيس الأركان يائير غولان في خطاب ألقاه في أيار/مايو 2016 بمناسبة ذكرى الهولوكوست، محذراً «إذا كان هناك شيء يخيفني في هذه الذكرى، فإن رؤية تطورات مثيرة للرعب حدثت في أوروبا عامة وفي ألمانيا خاصة في ذلك الحين، ووجود ما يشبهها هنا بيننا سنة 2016»، كما صرح ابراهام بورغ، رئيس الكنيست السابق، بأقوال مشابهة حين قال «في إسرائيل طبقات ومستويات رهيبة من العنصرية لا تختلف في جوهرها عن تلك التي أبادتنا» وهي إشارة صريحة إلى استيطان «إسرائيل» للروح النازية.

ويستطرد بورغ قائـلاً: «لقد غفرنا بسرعة أكثر من اللازم لألمانيا لكننا لن نصفح للعرب أبداً، لقد فسخنا الغضب والرغبة في الانتقام من شعب آخر»‏[48]. غير أن هذه المواقف سرعان ما يجري التصدي لها ومهاجمتها وتغييبها من النقاش العام، وتكاد هذه المواقف تكون شاذة في ظل الهيمنة الشاملة لخطاب العنصرية القومي الذي تتبناه الدولة بصورة رسمية، وتدافع عنه حكوماتها المتعاقبة، ولعل قانون القومية الأخير الذي أقره الكنيست الإسرائيلي كقانون أساس يؤكد هذه العنصرية ويكرس الملكية الحصرية للبلاد ويجعلها حصراً على اليهود، بينما الآخر، أي الفلسطيني مجرد شيء مؤقت، سيجري التخلص منه في أية فرصة ممكنة، وبأية طريقة ممكنة.

خاتمة

عالجت هذه الدراسة المنطلقات التي ينطلق منها الفكر الصهيوني في رؤيته وتصوراته للآخر، والهواجس الظاهرة والكامنة في بنية هذا الفكر تجاه الفلسطينيين والعرب بوصفهم يمثلون المادة العدائية للصهيونية.

وقد كشفت هذه الدراسة عن المركب الاستعماري الغربي في الفكر الصهيوني، الأمر الذي يجعل من المبررات الواهية التي غزلتها الصهيونية لظهورها، كقضية «اللاسامية» ومعاداة اليهود، ما هي إلا ذرائع لإخفاء طابعها الاستعماري الإحلالي العنصري، وهو ما عبر عنه صراحةً عدد من القادة والمفكرين الصهاينة كهرتزل وجابوتنسكي وبن غوريون ونتنياهو الذي يمثل بفكره السياسي الصيغة الجوهرية للصهيونية بوصفها ظاهرة استعمارية تقوم بأداء مهمة وظيفية في المنطقة.

وفي إطار سعيها لتجسيد فكرة الدولة، فإنها تستَّرت بالرداء الديني اليهودي، واستخدمت ديباجاته وخطابه، وفي ذات الوقت انقلبت عليه، وحرضت اليهود على ضرورة نفي المنفى، والهجرة إلى «أرض إسرائيل» مختلقة بذلك شعباً وقومية يهودية من العدم، واخترعت عدداً متمثـلاً بالعرب والفلسطينيين، وفي إطار هذا السعي استبطنت الصهيونية خطاباً عنصرياً يستقي مقولاته تارة من الفكر الاستعماري الغربي، وتارة أخرى من الموروث الديني اليهودي الذي لا يرى في الآخرين سوى أغيار أقل منزلةً من اليهود بوصفهم شعب الله المختار.

كما حاولت هذه الدراسة أن تسلط الضوء على الممارسات الصهيونية على الأرض ارتباطاً بفكرتها العدائية تجاه الآخر، وتصوراتها لقضية السلام والتسوية التي أثبتت التجربة أن السلام مجرد وسيلة وليست غاية، أما الغاية فهي التحقيق الكامل للصهيونية كما عبر عنها بن غوريون بصورة واضحة لا تترك مجالاً لأي لبس.

 

اطلعوا ايضاً على  التطبيع والمطبِّعون والمواجهة