أحسنت إدارة مركز دراسات الوحدة العربية صنعاً بالاحتفال بصدور العدد 500 من مجلة المركز المستقبل العربي، ذلك أن هذه المجلة الرائدة كانت منذ بداية مسيرته خير شاهد على النهج العلمي الذي تعامل به المركز مع قضايا أمته العربية منذ الوهلة الأولى وحتى الآن؛ فقد جمعت بين الصرامة العلمية الفائقة والالتزام القومي الصادق كأن كل من كان مسؤولاً عنها، أو ساهم في إصدارها بأي شكل من الأشكال، كان يتمثل شعار «العروبة والعلم» الذي رفعه المفكر القومي العربي الرائد ساطع الحصري في محاضرته الافتتاحية التاريخية لمعهد البحوث والدراسات العربية في تشرين الثاني/نوفمبر 1953، وهو الكيان الذي أراده أن يكون حاضنة علمية لنضال الأمة العربية. فلم تكن العروبة من وجهة نظره شعارات زاعقة وإنما هي إدراك علمي واعٍ لما يمكن أن تجنيه الأمة من مكاسب وما تراكمه من عوامل قوة، إن هي تحركت في إطار الرابطة العربية. وعبر ما يزيد قليلاً على عقود أربعة اكتمل فيها صدور خمسمئة عدد من هذه المجلة العزيزة لم تحِد يوماً عن هذا الشعار، فلا تناقض على الإطلاق، ولا ينبغي أن يكون بين العروبة والعلم، ولن يفضي الانحراف عن العلم إلا إلى إضعاف العروبة، ولا قيمة للعلم في نضال الأمة إن لم يلتزم بثوابتها القومية. من هنا اكتسبت المستقبل العربي سمعتها الرصينة ومكانتها الرفيعة بمعيارَي الالتزام القومي والصرامة العلمية معاً.

صدر العدد الأول من المجلة في إطار تلك المفارقة التاريخية الغريبة، إذ كانت الأمة قد تمكنت منذ سنوات قليلة من تحقيق الإنجاز التاريخي لحرب تشرين الأول/أكتوبر 1973 المجيدة التي كانت ذروة التجسيد الناجح لمفهوم الأمن القومي العربي وقدرة الأمة العربية على مواجهة التحديات التي تهددها. غير أن النضال العربي لم يلبث أن واجه نكسة الانقسام المصري – العربي حول سبل إدارة الصراع العربي – الإسرائيلي بزيارة القدس وتوقيع اتفاقيتَي كامب دايفيد في العام نفسه الذي صدرت فيه المجلة. وهكذا فُرض على المجلة التحدي منذ لحظة الميلاد، وتلته تحديات أخطر كالغزو العراقي للكويت 1990، والغزو الأمريكي للعراق 2003، وتداعيات الانتفاضات الشعبية العربية بدءاً من أواخر العقد الأول من هذا القرن، التي بُنيت عليها آمال كبار لإقالة الأمة العربية من عثرتها. غير أن تشرذم قوى التغيير، والتلاعب الخارجي بمعطيات الأوضاع الداخلية العربية، قلبا الأمور رأساً على عقب حتى وصلنا إلى ما نمرّ به في الوقت الراهن من تهديد حقيقي لكيانات الدول الوطنية العربية، بل للهوية العربية نفسها؛ وتفاقم للإرهاب والاختراق الخارجي لوطننا العربي وعجز عن التوصل إلى أي ائتلافات عربية متماسكة تمثل قاطرة قوية لمستقبل عربي آمن.

في هذا المناخ غير المسبوق من التحديات الهائلة المتلاحقة، حافظت المستقبل العربي على هويتها العربية والتزامها القومي من دون أن تفرط قيد أُنملة في ضوابطها العلمية، وأتاحت صفحاتها للباحثين من كل الأجيال ومن كل الأقطار العربية، فكانت نعم الجسر للتواصل بين شيوخ العرب وشبابهم وبين مشرقه ومغربه، وحفلت صفحاتها بالإنتاج العلمي لخيرة الباحثين العرب في صورة دراسات عميقة لقضايا الأمة الملحة، وتقارير شاملة عن موضوعات الساعة، ومناقشات موضوعية تنقل وجهات نظر متنوعة يجمعها الحرص على مصالح الأمة، وندوات وحلقات نقاشية تتابع مستجدات الأوضاع العربية والمتغيرات الإقليمية والعالمية التي تؤثر فيها، وعروض نقدية لأحدث الكتب المتصلة بهمومنا العربية تربط قارئ المستقبل العربي بأحدث ما تصل إليه عقول الباحثين في شتى أرجاء العالم، وإحصاءات دقيقة تزوّد الباحثين في الشأن العربي بحقائق لا غنى عنها لإسباغ الصفة العلمية على إنتاجهم البحثي.

ولا يمكن قياس الأثر الفكري والعلمي الذي أحدثته المستقبل العربي من خلال أرقام توزيعها فحسب، فقد حرص المركز دائماً على أن تكون موجودة في أكبر عدد ممكن من مكتبات الجامعات والمؤسسات البحثية والسياسية العربية. وكم كنت أفخر دائماً وأنا أُراجع بحوث طلابي وطالباتي في المرحلة الجامعية الأولى أو رسائلهم العلمية للحصول على درجتي الماجستير والدكتوراه في الموضوعات العربية فأجد حضوراً كثيفاً لمجلة المستقبل العربي في مراجعهم مع أنهم لا ينتمون بالضرورة إلى معسكر الفكر القومي. ولم يكن لهذه الظاهرة من تفسير سوى أن الصرامة العلمية للمجلة وشمول تناولها للقضايا العربية قد أكسبتها مكانة رفيعة لدى جماعة الباحثين.

وفي المرحلة الراهنة الخطيرة التي تمر بها الأمة العربية، وتتعرض فيها أكثر من أي وقت مضى لمخاطر التفتيت والتذويب وتصفية قضايا نضالها القومي، وعلى الرأس منها قضية فلسطين الحبيبة، تزداد جسامة المسؤولية التي تتحملها المستقبل العربي من دون شك؛ من أجل الكشف العلمي عمّا يُحاك للأمة العربية من مخططات تعصف بمصالحها لحساب قوى إقليمية وعالمية والبحث المخلص عن سبل مواجهة هذه المخططات. وإنني لعلى ثقة بأن أسرة مركز دراسات الوحدة العربية من جانب، وجماعة المثقفين العرب المتمسكة بعروبتها مهما كانت المصاعب والتضحيات من جانب آخر، لديهم من العزم والإصرار والإخلاص والقدرة العلمية ما يجعلهم أكثر من أهل لهذا التحدي، وسوف تحتفل الأجيال المقبلة بإذن الله بصدور العدد الألفي من المستقبل العربي وقد أصبحت أمتنا العربية تحتل مكانتها اللائقة بين الأمم.

 

قد يهمكم أيضاً قراءة الافتتاحية الثانية للعدد نفسه  مسؤوليات كبرى لمجلة المستقبل العربي

#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #المستقبل_العربي #مجلة_المستقبل_العربي #الوحدة_العربية #الأمة_العربية #النضال_الفكري #الوطن_العربي #الفكر_القومي #ساطع_الحصري #القومية_العربية #القوميين_العرب