مقدمة:

بدأ أبو القاسم سعد الله مشواره العلمي والثقافي أديباً وشاعراً لينتهي به المطاف مؤرخاً ومفكراً يحمل هموم أمته العربية والإسلامية، ويتوق إلى وحدتها وقوتها، وقد سخّر جهوده العلمية في التدريس وفي الكتابة التاريخية للتصدي للمدرسة التاريخية الفرنسية في الجزائر، وقد عمل على إبراز معالم الثقافة العربية والإسلامية في الجزائر التي عمل المستعمر الفرنسي على طمسها، فكانت موسوعته الثقافية تاريخ الجزائر الثقافي من أهم أعماله، كما اهتم بقضايا الكتابة التاريخية، والتراث والتأخّر التاريخي العربي.

التعريف بأبي القاسم سعد الله

ولد سعد الله أبو القاسم سنة 1930 في «قمار» في الصحراء الجزائرية لأسرة فقيرة كانت تعيش على فلاحة التبغ والنخيل[1]. ونشأ في مسقط رأسه حيث أتمَّ حفظَ القرآن الكريم في سن مبكرة وتلقّى المبادئ الأولية في العلوم الشرعية واللغوية، كما تعلّم القراءة والكتابة وحفظ المتون والتحق بجامع الزيتونة للاستزادة من العلوم الشرعية واللغة العربية عام 1947، وهي المرحلة التي عمّ فيها الظلم الاستعماري وتزوير الانتخابات وقمع المتظاهرين والاحتجاجات، كما ظهرت حركة الانتصار من أجل الديمقراطية بزعامة «مصالي الحاج».

قضى سعد الله في تونس سبع سنوات – حصل خلالها على التأهيل 1951 والتحصيل 1954 – وتحمّل خلال هذه الدراسة أعباءً ومتاعب، حيث كان يعمل ويدرّس.

وقد تأثّر سعد الله بالأحداث التي كانت تجري في تونس آنذاك، ويعترف أنه تأثّر بثلاثة اتجاهات أثناء دراسته في تونس وهي:

1 – التربية الدينية والأخلاقية.

2 – التربية الوطنية التي اكتسبها عن طريق مشاركته في نشاط جمعية الكلية منذ 1948.

3 – التربية الأدبية وذلك بفضل مطالعته لإنتاج المشرق العربي، كما يعترف سعد الله أنه في ذلك الوقت كانت تعوزه التربية السياسية[2]، وأثناء إقامته بتونس قامَ سعد الله بنشر مقالات وقصائد وقصص في جرائد ومجلات حيث نشر في النهضة والأسبوع كما كتب في جريدة البصائر الجزائرية والآداب اللبنانية التي يكن لها حباً وتقديراً كبيرين، كما أسهم سنة 1952 في تأسيس «رابطة القلم الجديد» مع أعضاء تونسيين من بينهم «الشاذلي زوكار» و«منور صمادح».

عاد سعد الله إلى الجزائر يوم 7 تشرين الثاني/نوفمبر 1954‏[3]، وصادف اندلاع الثورة الجزائرية بعد عدة أيام، فقام بالتدريس بمدرسة «الثبات» التي كانت عندئذٍ تحت إدارة الشهيد الشاعر «الربيع بوشامة».

في ربيع العام 1955 انتقل سعد الله إلى مدرسة «التهذيب» في العين الباردة في ضواحي العاصمة الجزائرية، ويذكر سعد الله أنه أحسّ بالغربة وهو في بلده، جرّاء الاحتلال الفرنسي وممارساته «لقد شعرت لأول مرة بالاحتلال يجثم على صدري ويخنقني»[4].

سافر سعد الله بمساعدة جمعية العلماء الجزائريين إلى القاهرة فسافر إلى تونس ثم إلى ليبيا جوا ومنها إلى القاهرة وذلك في تشرين الأول/أكتوبر 1955.

وفي مصر تمكّن من التسجيل في كلية العلوم بجامعة القاهرة في تشرين الأول/أكتوبر 1955، وفي القاهرة تكوّنت لدى سعد الله عاطفة وطنية أساسية، وكذلك قومية عربية.

وفي ربيع عام 1961 سجل في جامعة «منيسوتا» في أمريكا في قسم التاريخ تحت إشراف الدكتور «هارولدسي دويتش»(*) قضى سعد الله في هذه الجامعة خمس سنوات تُوّجت بحصوله على شهادة الماجستير في التاريخ والعلوم السياسية سنة 1962، ثم على شهادة الدكتوراه في التخصّص نفسه سنة 1965.

أولاً: الكتابة التاريخية

بدأ سعد الله تجربة الكتابة في مجال الأدب والشعر فأنتج ديوانه الشعري بعنوان الزمن الأخضر سنة 1985، وكتابه دراسات في الأدب الجزائري الحديث سنة 1985، ومجموعة شعرية: النصر للجزائر سنة 1986، وغيرها من المؤلّفات الأدبية، فأثمرت مجهوداته العلمية ومطالعاته المتنوّعة نزوعه إلى علم التاريخ وحقله الواسع، فالتاريخ عند سعد الله هو مجلى النظر ومحطّ الرحال فيقول[5]: «أما التاريخ عندي فهو مجلى نظري ومحط رحالي بعد أن جلت في الأدب والشعر واللغة وعلم النفس وغيرها من الفنون والعلوم»، فدارس التاريخ يدرك الكثير من تجارب الآخرين، كما يتعرّف إلى الكثير من الحقائق، فتتوسّع مداركه ويكتسب ثقة في أحكامه ومواقفه، كما يكسبه مسطرة يقيس بها الأشياء، وميزاناً يزن به الأمور، فهو المرجع في الحكم على الناس وعلى تصرفاتهم، ولن يفلت من حكم التاريخ أي كان مهما كانت مرتبته، فلا يفلت من حكمه السلطان أو الباشا، ولا الغني ولا المنبوذ فكلهم أمام ميزان التاريخ سواء[6]، ونزوع سعد الله إلى التاريخ كان بدافع الميل إلى العقلنة والاهتمام بالثورة الجزائرية[7]، فالأدب يتصل اتصالاً وثيقاً بالعاطفة التي ترتبط عادةً بمرحلة الشباب، لكن عندما يتحقّق النضج فإن الميل إلى الهدوء والعقلنة والتفكير يكون غالباً على من ينتهج أسلوب العلم والحكمة، ويذكر سعد الله أن ميله إلى العقلنة كان منذ شبابه[8]، وبأنه كان يفضّل الهدوء والتأمّل والتريّث وعدم التسرّع في الأحكام، فالتاريخ عنده من العلوم التي تعتمد العقل وتتجاوز العاطفة وتنتهج مبدأ الشك للاقتراب من الحقائق، فالتاريخ عنده يتحدّى العقل ويجعله يشك في كل ما قيل ويقال[9]. وبهذا فهو يعتمد منهج الشك قبل اليقين، والتثبّث والتريّث قبل إصدار الأحكام، والموضوعية العلمية قبل الذاتية وهوى النفس، وهو أخلاق وعلم وضمير وهذا المنهج يعتمد على جملة الأدلة من وثائق وقرائن[10].

وكانت الثورة الجزائرية من أهم الدوافع لسعد الله إلى دراسة التاريخ والبحث فيه، والتعرّف إلى إنجازات الأجداد[11]، ومقارنة ما فعله هؤلاء السلف وما توصّل إليه الآخرون في الحروب والعلوم والحضارة، وتظهر قيمة التاريخ عند سعد الله كونه يشمل تجارب الأمم، والحضارات المتنوّعة، فدارس التاريخ سيخلص لا محالة إلى عبر ودروس مختلفة، فهناك رسالة يؤدّيها المؤرخ نحو أمته وهذه الرسالة ليست في المدح والثناء أو خطبة في التوجيه وإنما هي رسالة هادئة تدعم كينونةَ الأمة وصيرورتها، وتداوي جراحها وتُبرز العناصر الإيجابية في مسيرته لتتخذها نموذجاً ومثالاً.

ويرى سعد الله أن العرب لم يُحسنوا التعامل مع التاريخ ولم يستفيدوا منه ويتأسف كثيراً كونهم لا يعتبرون من التاريخ ويهملون تجاربه وأحداثه، وذلك على الرغم من أننا ككل أمة ندرسُ التاريخ وندرّسه، فنحن لا نتعلّم منه وبهذا لا ننتجه، وإنما نحن نستهلك التاريخ بالخوض فيه بغير مناهجه، فالكل يخوض في التاريخ؛ المؤرّخ والسياسي والصحفي وحتى الفلاح، وبهذا أصبح التاريخ ملكاً للجميع وفقدَ قيمته عندنا فأصبح: «مبتذلاً أو هو بضاعة شعبية أو خرقة مرقّعة يتبادل لبسها الجميع، إنها ظاهرة غريبة حقاً»[12]، وتبرز هذه الظاهرة في غياب المؤرخين المختصّين، وبالنسبة إلى الجزائر فقد أرجع سعد الله أسبابَ ذلك إلى غياب دولة مركزية أو أسرة مالكة، أو سلطة حاكمة منذ القدم «تكون محور الفكر التاريخي والخط المستمر في مسيرة الزمن الوطني، تاركةً – للمؤرخين – لا لغيرهم تقييم هذه المسيرة وإعطاءها التفسير الملائم في كل جيل»[13].

يرى سعد الله أنه لا يمكن اعتبار وجود «تاريخ» ما لم يكن هناك مؤرّخون متخصصون، يكتبونه وفقَ المناهج العلمية الحديثة بعيداً عن الهوى والتعصّب، فالمؤرخ عند سعد الله هو الذي درسَ المناهج التاريخية الحديثة، ويفرّق بين هذه المناهج ومناهج العلوم الأخرى، كما أن هذا المؤرّخ عليه أن «يحسن استعمال الوثائق ويعرف منها المتفقة والمتعارضة والمزيفة، وأن لا يُصدر حكمه في أي مسألة أو حادثة إلا بعد أن يُعمل الرأي فيها على كامل وجوهه»[14].

فالمؤرخ يقوم بدور فاعل ومهم في الحفاظ على ذاكرة الأمة وتراثها، لأن الأمة العظيمة لن تلد إلا مؤرخين عظماء، يذودون عن حمى هذا التاريخ ويدفعون عنه زيف وأباطيل المتربّصين به، «فالأمة العظيمة هي التي تلد المؤرخ العظيم، والأمة القزمة هي التي تلد المؤرخ القزم»[15]، ويرى سعد الله أن الظروف قد تساعد على خلق المؤرخ، كالثقافة العالية، وتوفر مناخ الحرية، ووجود المحفزات، وبطولات الشعب كلها «تساعد على خلق المؤرخ الذي يكون صوت الجيل»[16].

ويذهب سعد الله إلى أن مؤرّخي احتلال الجزائر أصناف، فهناك المؤرخون «الغلاة» الذين يفسّرون تاريخ الاحتلال على أنه نعمة على الجزائر وأن أهلها كانوا مخطئين حين لم يستسلموا للجيش الفرنسي، ويصنف مدرسة «جورج إيفير»، و«إيميل» و«غوتييه» ضمنَ هذا الاتجاه، وهناك المؤرّخون «المعتدلون» الذين رأوا أن هناك أخطاء قد وقعت، بل وجرائم قد ارتكبت، وأن المقاومة حق للمضطهدين، ويصنف مدرسة «جوليان» و«آجرون» في هذا الاتجاه، ويتساءل سعد الله عن غياب رأي ثالث يقول بتجريم الاحتلال، وبأنه معتد يجب على فاعله دفع الثمن[17]، ويرى أن تسمية هذه الاتجاهات بالمدارس، وتسمية أصحابها بالمفسرين والمنظرين إنما هو من قبيل تلطيف العبارات، وحتى داخل الدول العربية فإنه يوجد أصناف من المؤرخين المنتمين لمختلف المدارس، فهناك المتطرفون وهم وطنيون يغالون في نعوت الاستعمار ورموزه، وغالباً هم الذين شاركوا في الثورة، وهناك المعتدلون، وهم التابعون الذين تتلمذوا على أساتذة فرنسيين بعد الاستقلال وارتبطوا بالحياة الأكاديمية، فالتاريخ ينظر إليه من زوايا مختلفة وبرؤى متعددة، لذلك فإن الحقيقة التاريخية ليست واحدة في كل جيل وفي كل عصر[18].

إن معظم الكتابات والدراسات التاريخية لأبي القاسم سعد الله تتجه لدراسة التراث الوطني الجزائري، فهو يدعو أبناء الجزائر إلى كتابة تاريخهم لأن تاريخ أمة ما لا يكتبه إلا الوطنيون، وهو بذلك لا ينقص من شأن كتابات الآخرين ولكن الوطني يكتب عن حب وقناعة ويحرص على أن لا يشوه تاريخ أمته، مع ضرورة الالتزام بالموضوعية الكاملة والنقد البناء، واعتماد الأدلة والقرائن والابتعاد ما أمكن عن الذاتية، وهو بذلك يشيد ببعض الكتابات التاريخية الجزائرية الحديثة التي تعتمد المنهج العلمي في البحث[19].

ويعتبر سعد الله نموذج المؤرخ الجزائري، الذي كرس حياته لكتابة تاريخ الجزائر الحديث والوقوف بالمرصاد لمحاولات التزييف الاستعماري، إلا أن كتاباته التاريخية يعوزها الفكر الفلسفي الذي يضعها في قالبها التنظيري، ولعلّ عزوف سعد الله عن التنظير فيما كتب، خصوصاً في تاريخ الجزائر الثقافي يعود إلى «تلبية حاجة القارئ العربي وخاصة الجزائري للتعرف أولا على الثقافة الجزائرية في فترات تحولها الحاسمة بفعل تأثير حركة التصوف مع مستهل القرن الثامن الهجري وبعامل الضعف الإداري في القرن الثالث عشر… فأحجم عن تقييد نفسه بمفاهيم محددة وعن إخضاع المادة التاريخية التي عالجها لتوجهات المدارس الفكرية»[20]، كما أن سعد الله لم يتأخر عن الدعوة إلى مدرسة تاريخية وطنية الغرض منها إعادة كتابة التاريخ الوطني بعيدا عن الرؤية الاستعمارية التي عملت لفترة طويلة على أن تكون الأوطان العربية سجينة الأفكار الثقافية الاستعمارية، كما أسهم سعد الله بدراساته التاريخية والفكرية في إبراز الفكر الثقافي الجزائري وأصالته من خلال موسوعته الثقافية، كما برز توجّهه العروبي الإسلامي من خلال دعواته إلى الوحدة العربية وعدم الوقوع في شراك المخطّطات الاستعمارية القديمة والحديثة، والتشبّث بالهوية والعمل على إصلاح الأوضاع الثقافية والاقتصادية من أجل تدارك التأخّر التاريخي.

وبخصوص كتابة تاريخ الثورة التحريرية وتاريخ الحركة الوطنية عموماً فإن سعد الله يعتقد أنه ظهرت كتابات عديدة تناولت هذه المسائل إلا أنه يتأسّف على أن معظم هذه الكتابات لم يكتبها جزائريون بل كُتبت من طرف فرنسيين، ويعتقد أن الكثير منهم تعوزهم الموضوعية في الكتابة، «فالتاريخ الحقيقي في نظرنا هو الذي يكتبه أبناء البلد عن أنفسهم لأنه جزء منهم ولهم، أما وجهات النظر الأجنبية فتظل عملاً مساعداً فقط»[21]، ومن هنا كانت ضرورة تجديد الكتابة التاريخية من طرف أبناء الجزائر، وليس القصد من ذلك الكتابة بذاتية وعاطفة، وإنما يدعو سعد الله إلى التزام المنهج العلمي، وفي الوقت نفسه التصدّي لمغالطات وتشويهات المدرسة الكولونيالية.

وعلى الرغم من انتقاد سعد الله للوضع الثقافي في الجزائر إلا أنه يتفاءل خيراً من خلال وجود مؤرخين وأساتذة سيشكلون ملامح المدرسة التاريخية الوطنية، ويتمثّل الإنتاج الأولي لهؤلاء المؤرخين في أطروحات الدكتوراه والماجستير التي تلتزم بمنهجية البحث العلمي، هذه المدرسة تخالف أطروحات المدرسة الاستعمارية التي مثّلها مؤرخون عسكريون.

يقترح سعد الله أن تعاد كتابة التاريخ انطلاقاً من هيئات متخصصة، أو من أفواج عمل بمساندة مراكز البحث أو الجامعات، ومثل هذا العمل سيمكّن المؤرخ من القضاء على كثير من عراقيل البحث ويساعده على التفرّغ لمشروعه، كما يمكنه من الوثائق اللازمة، ويكفيه مؤونة تكاليف الطبع وغيرها.

يعتبر سعد الله عمليةَ الكتابة التاريخية عملية حيّة ومتجدّدة، فكل جيل له تفسيره للتاريخ بالوسائل التي تلقّاها في المدرسة والبيئة والمعارف المعاصرة، وعملية تجديد التاريخ لا تعني قلب الحقائق والمفاهيم ولكنها تعني «تصحيح ما غاب خطؤه عن الأجيال السابقة.. وقد تكون بعض حقائق التاريخ مزيفة أصلاً فتكشف عملية التجديد أو إعادة الكتابة عن ذلك الزيف في الفترة الاستعمارية»[22]، وهذه المهمة ملقاة على عاتق المؤرخين المتخصصين، كما أن إعادة كتابة التاريخ ليست مجرد القدرة على الكتابة أو الحصول على المؤهل العلمي وإنما هي: «الالتزام بشرف المهنة والشعور بالمسؤولية نحو الجيل والأمة والتاريخ، ومن ثمة فليس كل مؤرخ مؤهلاً للقيام بهذا الدور»[23].

أما في ما يخصّ منهجية كتابة تاريخ الثورة فإن سعد الله يرى أن ذلك ممكن وفق ثلاث طرق: الطريقة الأولى هي الطريقة الرسمية، وهي أن تتبنّى الدولة نفسها كتابة هذا التاريخ والإشراف عليه وتوجيهه وتوفير الوثائق له ونشره بعد كتابته، ومثل هذا المنهج يمكن الشروع فيه حالاً. أما الطريقة الثانية فهي الطريقة الشعبية وذلك بمشاركة الفئات الشعبية المختلفة في عملية الكتابة، من كتاب وصحفيين وأدباء وسياسيين، وهواة التاريخ، فسعد الله يعتبر أن التاريخ ملك للجميع وليس ملكاً للمؤرخين وحدهم، فالكل يسهم بطريقته، أما الطريقة الثالثة فهي الطريقة العلمية وهي من مهام المؤرخين المتخصصين[24] الموجودين في أقسام التاريخ في الجامعات الجزائرية، وتشترط مثل هذه الكتابة توافر المصادر والوثائق، ويعتقد سعد الله أن مثل هذه الكتابة لم يحن وقتها بعد.

كتابة تاريخ الثورة الجزائرية يجب أن تشتمل على جوانب مختلفة، منها التاريخ السياسي والدبلوماسي والاقتصادي، والعسكري، كما أن هذا المشروع يحتاج إلى مادة وتضحية كبيرة، وهي قبل كل شيء مسؤولية وأخلاق لا كما يصورها «بعض الكسلاء والمثبطين وذوي الأغراض الخاصة الذين يتصوّرون كتابة تاريخ الثورة على أنها عبارة عن بيان سياسي يحكم على هذا بالوطنية وعلى ذلك بالخيانة»[25]، ويعتقد سعد الله بضرورة توافر شروط النجاح لمثل هذا المشروع، فمن بين هذه الشروط ضرورة توافر مناخ الحرية، كحرية التعبير والتفكير على أن يكون ذلك وفق ضوابط، مع وجود ضمير وطني حي، فليس للكاتب أن يسمح لنفسه بالطعن والقذف والإساءة أو أن يضخم الأمور أكثر مما تستحق، فيمجد ويشيد ويمدح، وإنما على الكاتب أن يلتزم الموضوعية والأمانة العلمية، فالحرية في الكتابة «تعني أحكاماً متوازنة وموثّقة بإشراف الضمير الوطني الحي والأخلاق والخوف من عقاب الله، وهذا الحكم ينسحب على كل أنواع الكتابة والتعبير»[26].

يذكر سعد الله صعوبات في الكتابة التاريخية منها ذلك النقص الكبير في تدعيم الكتابة وتسهيل مهام الباحثين، فهناك نقص في الوسائل من كتب ومجلات، وكذلك غياب المحفزات والنشر، كما أن الباحث والمؤرخ لا يجد المناخ المناسب والمساعد في ظلّ عدم الاستقرار، فسعد الله يعتبر السكن المريح الذي يتوافر على شروط الراحة والهدوء وسيلة عمل ومن الضروريات لإنتاج الباحث وتقديمه الإضافة اللازمة في مجال تخصصه، وقد لاقى سعد الله صعوبات جمّة في كتاباته إلى درجة أنه وصف الكتابة في الجزائر بالمعجزة، وبأنه كان ينحت الكتابة من حجر صلد ويكتب في ظروف قاسية جداً[27].

وعن دور السلطة السياسية في الكتابة التاريخية يرى سعد الله أن دورها مهم، فكما أنه لا يحقّ لها أن تمنع الكتابة التاريخية في أي موضوع فهي من جهة أخرى مسؤولة على توفير الجو العام، والحماية وتوفير الوسائل ونحوها، إلا أنه لا بدّ من التفريق بين الكتابة والنشر، فإن الكتابة لا تعني النشر، فإذا كان نشر كتاب قد يثير مشاكل في الحاضر وتصدعات سياسية أو اضطرابات اجتماعية فمن حق السلطة أن «تمنع نشره لأننا شعب ما زالت لنا تقاليدنا ومعاييرنا الراسخة في الشرف والأخلاق والقبيلة والأسرة، وهناك من الأعمال ما يضر في العلاقات مع الدول الأخرى أيضاً، ونحن نعلم أن لكل دولة أسرارها ولكل مواطن الحقّ في السرية أو الخصوصية، وهذه الأمور تبث فيها في الحقيقة القوانين، وعلى السلطة السهر على تطبيق القانون في هذا المجال»[28].

فحفاظاً على الاستقرار والأمن العام وعلى الشرف فإن بعض الكتّاب يضعون يومياتهم ومذكراتهم في البنوك ونحوها، ويوصون بعدم فتحها إلا بعد وفاتهم بسنين، وقد تتجاوز الخمسين سنة، ويستدلّ سعد الله على ذلك بمقتل الرئيس الأمريكي «كينيدي» والغموض الذي اكتنفه، والأمر نفسه في ما يخص اغتيالات قيادات في الثورة التحريرية كمقتل «ابن بوالعيد» و«عبان رمضان» و«الحواس» و«العموري» و«شعباني» وغيرهم، ويؤكد سعد الله أنه ليس ثمة فائدة يجنيها الشعب الجزائري من معرفتها في الوقت الحالي[29].

كما تحدث سعد الله على الخوف من التاريخ الذي يعتبر من معوقات الكتابة التاريخية، والخوف من التاريخ قد يمس كلاً من صانع التاريخ والمؤرخ على السواء، ذلك أن صانع التاريخ «يخشى التاريخ إذا كانت صناعته للتاريخ غير وطنية أو غير أخلاقية أو حتى غير إنسانية…قد يكون زعيماً سياسياً أو قائداً عسكرياً، أو مفكراً أورجل دين أو حتى إنساناً عادياً»[30]، والخوف من حكم التاريخ ومن الفضيحة وذهاب المصالح قد يدفع أمثال هؤلاء إلى كبت التاريخ ومحاولة إخفائه بكل الوسائل، سواء بالتأجيل أو التخفيف أو الإرهاب إذا لزم الأمر[31].

ويصف سعد الله المؤرخ بالقاضي، الذي يكون «ممزقاً بين قناعته وبين الواقع»[32]، فإذا كانت قناعته معزّزة بالوثائق والشهود ونحو ذلك من الأدلة فستحثّه على أن يصدع بالحق، كما أن الواقع الذي يخضع للتوازنات والعلاقات العائلية والحزبية والدينية قد يجبره على كبت الحقيقة وطمسها.

ثانياً: مسألة التراث

وفي شأن مسألة التراث فإن سعد الله يعبر عنه بمفهوم واسع «هو نحن في الماضي، هو أسلافنا وأفكارنا وأنسابنا وعقائدنا وإنتاجنا»[33]، والتراث نوعان في نظره، فهناك التراث الشامخ الذي يعبر عن أصالة الأمة وإسهامها الحضاري، وهناك التراث الذي يعني الأساطير والخرافات وأشكالاً متعددة من مظاهر التخلّف العقلي[34]، وقد كان للعرب والمسلمين دور بارز من خلال تراثهم الشامخ في الإسهام في الحضارة الإنسانية ولا ينكر دورهم هذا إلا جاحد وناكر للحقائق التاريخية، «فعلى الرغم من أن العرب هم الذين حافظوا وأبدعوا في التراث الإغريقي وقدموه في طبعة منقحة ومزيدة إلى العالم الحديث، إلا أن هناك مدرسة ظهرت بعد تغلّب أوروبا طبعاً تدعي أن العرب كانوا وسطاء فقط لا مبدعين»[35]، ويُعتقد أن الشعوب كلها تعيش على التراث، إلا أن الفرق بين الشعوب المتقدّمة والشعوب المتأخّرة، أن الأولى تعتزّ بتراثها لكنها «تتجاوزه إلى صنع المستقبل الذي سيصبح طبقاً للسنن الطبيعية تراثاً في حد ذاته»[36]، فحداثة الغرب كانت نتيجة سيرورة تاريخية من الأحداث والتحوّلات، «فهي استمرار وتواصل مع تاريخه المحلي»[37]، أما الشعوب المتأخرة فهي التي «تتشبّث بالتراث لذاته»[38]، بل تتشبث بالمفهوم التقليدي للتراث الذي أطلق عليه الجابري «المفهوم التراثي للتراث»[39].

ومن هنا يتّضح موقف سعد الله بضرورة الاهتمام بالتراث الذي يصفه بالشامخ والذي يعبّر عن أصالة الأمة وإسهاماتها الحضارية، وخصوصاً في مرحلتنا التاريخية هذه فإننا «نحتاج إلى التراث الإيجابي لتحديد هويتنا ونحتاج أيضاً إلى الانطلاق نحو المستقبل لصنع تراث جديد تعتزّ به الأجيال القادمة»[40]، فالتراث الإيجابي سيكون ثمرة النظر في التراث ومعرفة الثابت منه والمتغيّر، فما كان ثابتاً فهو الصالح الذي لا يتجاوزه الزمن، أما المتغيّر فهو ما كان صالحاً للأجداد في زمانهم بطبيعة عصرهم، ولا يصلح لكل الأزمان لأن لكلّ عصر معطياته ومستجدّاته التي لا بدَّ من الأخذ بها بنحو يتماشى مع ما هو ثابث، ومن ثمّة تكون الاستفادة من هذا التراث متوقّفة على النظر والاجتهاد في معرفة الثوابث والمتغيرات، و«إن الكثير مما تركه الأجداد ما يزال صالحاً للأخذ منه أو الاقتداء به أو الاعتبار بما فيه من أخطاء أو انحرافات، وهذا هو معنى الاستفادة من التراث في البناء الحضاري المستمر»[41]، ويعتقدُ سعد الله أن الاهتمام بالتراث المبالغ فيه على حساب الاهتمام بالواقع وبالمستقبل من شأنه أن يعرقل الإرادة العربية والإبداع «وبدل أن يكون التراث دافعاً لنا إلى التطلّع والاستشراف والإبداع، أصبحنا نقتات تراثا ونفكّر بتفكير الماضي، وإن الإسراف في طرح قضية التراث يؤدي لا محالة إلى عرقلة الإرادة العربية والإبداع»[42]، بذلك يتّفق رأي سعد الله مع من ينادون بإحياء التراث لا القطيعة معه بالكامل، كما نادى بذلك مفكّرون عرب معاصرون[43]، وإنما تكون الانطلاقة نحو المعاصرة من التراث نفسه والعمل على صنع تراث آخر يتفق مع العصر وتعتزّ به الأجيال القادمة، وفي الوقت نفسه يعبّر عن أصالة الأمة وحضارتها.

وعملية إحياء التراث وبعثه يجب أن تكون محلّ تخطيط ودراسة، ولا توكل إلى مؤسسات تجارية أو دعائية تسعى وراء الربح المادي، أو وراء الحصول على الشهادات على حساب البحث العلمي والإبداع الفكري، ومثل هذه المؤسسات كثيرة في البلاد العربية كما يوجد «جيش عرمرم من المحققين والمتاجرين بالتراث»[44].

ويذكر سعد الله أن تراثنا التاريخي العربي الإسلامي يتميّز بالوفرة والكثافة وقد شغل التاريخ العام أو العالمي والتاريخ المحلي أو الإقليمي، وبأن مؤرخينا وجغرافيينا قد اكتشفوا آفاقاً وعوالم لم يكن الآخرون ليعرفوها إلا في أزمنة متأخرة ولم يتوصّلوا إلى معرفتها إلا وفق المعلومات التي وفرها لهم أجدادنا[45]، والتراث الإيجابي لأجدادنا لا يُستهان به، فقد كان إنتاجهم الفكري مبنياً على «نظرات نقدية صائبة وفهم مستفرد للبحث، اعتمد في الأساس على قواعد تمحيص الحديث الشريف التي ابتدعوها»[46]، كما أن العرب قد أبدعوا في التراث الإغريقي وقدّموه في طبعة منقّحة ومزيدة استفاد منها العالم الحديث[47].

ومن بين الثغرات التي طبعت التراث العربي الإسلامي، طغيان التاريخ السياسي على باقي جوانب الحياة التي كان الأجداد يحيونها، لكن هذه الظاهرة يشترك فيها مؤرخونا مع مؤرخي العالم «فكتبوا عن الدول والملوك والسلاطين والأمراء وأرّخوا للفتن والحروب والمذاهب السياسية، وأهملوا كما فعل غيرهم أيضاً حياة الناس وأنماط تفكيرهم وجمعياتهم ونزاعاتهم الدينية ونوازعهم إلى حياة أفضل»[48].

ثالثاً: مسألة التأخّر التاريخي العربي

نوّه سعد الله بالماضي المشرق للأمة العربية، وإسهامها في الحضارة الإنسانية، وبأن العرب يحقّ لهم أن يعتزّوا بهذا الماضي المجيد، وأن ترتفع معنوياتهم من أجل الانطلاق نحو المستقبل بثقة وباعتزاز كبيرين، لكن العيب كل العيب أن يستغرق هؤلاء الوقت كله في تمجيد الماضي، وأن يسكنوا فيه وينسوا بذلك واقعهم ومستقبلهم، فأصبحت السلبية أهم ما يميّز الحياةَ العربية المعاصرة[49].

وقد مرّت الأمة العربية «بأزمات حادّة أدخلتها عالم المتخلّفين عن مسايرة ركب الحضارة البشرية، وقد زاد في تأزُّم وضع هذه الأمة طول أمد هذا الركود والتخّلف حتى أثّر ذلك في رؤيتها للأشياء وكاد يفقدها الثقة في النفس، وهو أخطر ما تُصاب به أمة من الأمم، وعندما بدأت الأمة تستفيق وجدت نفسها أمام الثالوث المقيت: الاستعمار والفقر والجهل، فالأمة العربية كانت مثالاً في التعلّم والثقافة والإبداع ثم أصبح الجهل يطبع وجودها، فأصبحت تجهل نفسها وتؤمن بالخرافة والشعوذة والقوى الخارقة وتبحث عن الإنقاذ من قوى غامضة[50]، وقد زاد الاستعمار في تخلّف الأمة وطول أمده بسياسته التجهيلية والتفقيرية ثم بنى مفاهيم على هذا الجهل تسيء للأمة وحقيقتها وتاريخها وبأن «العرب كلهم متخلفون وأنهم مخربون ونهّابون وأهل بادية لم يعرفوا الحضارة ولا عيش المدن ولم يسهموا في الإنتاج الحضاري»[51].

وكان على الأمة أن تتدارك تأخُّرها التاريخي ومظاهر هذا التأخّر من فقر وجهل وقيود استعمارية، ويذكر سعد الله أنه وجدت عدّة نظريات كانت تهدف لقيادة الأمة نحو الخلاص، من بينها، النظرية الثورية – السياسية التي دعت إلى استعمال الوسائل المباشرة من أجل التحرّر، ومنها كذلك نظرية الاستعداد الذاتي وذلك بالاعتماد على نشر الوعي وتحقيق الإصلاح الاجتماعي، وهذا قبل الحديث عن التحرّر الذي يتحقق تلقائياً لدى الأمة المتعلّمة، ومن النظريات كذلك نظرية المجاراة والمنافسة والتكافل بين العرب والمسلمين بهدف التحرّر من الثالوث المذكور.

فسعد الله يصفُ الوضع العربي بالمريض، وبأن هذا المرض قد استشرى واستفحلَ وبلغ منتهاه، وأنه يتطلّب آخر الدواء الذي هو الكي، فلا حاجة إلى المسكنات والمنومات، فلا بدَّ من عهد جديد، عهد الرجوع إلى النفس ومراجعتها وحملها على التغيير، وغسل خطايا الماضي والحاضر المترسبة في ذاتنا[52]، على اعتبار أن التغيير الحقيقي يكون على مستوى النفس والفكر «فالتأخّر التاريخي هو أولاً وأخيراً تأخُّر في الذهنية»[53] فيجب أن تتجدّد الذهنيات وتتطهّر العقول، ويرى سعد الله أن مهمة التغيير تقع على عاتق المثقّف العربي، وعليه أن يسلك طريقاً سلمياً بعيداً عن العنف، وأن يكون هذا المثقف حراً، يقول كلمته بحرية واقتناع من دون مجاملة أو دجل[54].

ويرى سعد الله أن حلم المثقفين العرب في الوحدة العربية قد أُجهض بوعد بلفور وبقيام إسرائيل[55]، ذلك أن فلسطين وإلى جانبها مصر تشكلان رمزاً للأمة العربية، ولا يمكن إنجاز مشروع حضاري مستقبلي لهذه الأمة إلا عن طريقهما، ويعتبر سعد الله أن القضية الفلسطينية هي من أهم القضايا العربية الراهنة، وأنه من حق الفلسطينيين مقاومة المحتل الصهيوني، ويشبّه سعد الله الواقعَ الفلسطيني بالواقع الجزائري أثناء الاحتلال الفرنسي أيام المارشال «بوجو» في العمليات الاستيطانية ومصادرة الأراضي، والعقاب الجماعي ونسف البيوت والطرد من الوطن، ووصف المقاومين بالإرهاب والتعصّب، ويرى سعد الله أنه من الواجب اليوم تسليط الأضواء على تحديد المفاهيم والمصطلحات حتى لا تكون محلّ تلاعب كمفهوم الإرهاب والتحرير الوطني والدفاع عن الحق، والاعتداء.

ويعتقد سعد الله أن من أهم ما يجب أن يتسلّح به الفلسطينيون ضدّ المحتل الغاصب ومناصريه هو خيار الوحدة الوطنية الفلسطينية، والابتعاد ما أمكن عن النعرات والخلافات الفكرية والمذهبية والترفّع عن أهواء النفس وحبّ الزعامة، وعلى الفلسطينيين أن يتعلّموا درساً خالداً من الثورة الجزائرية وهو أن لا بطل إلا الشعب، ولا زعيم إلا السلاح، ولا وسيلة إلا القوة والوحدة، كما يجب عليهم التوكل على الله والاعتماد على أنفسهم، وأن لا يطمعوا في نصرة الزعماء العرب لأن واقعنا العربي مرّ، ووطننا العربي مليء بالزعامات ولكنها جميعاً مزيفة لأنها لا تخيف عدواً ولا تسند صديقاً[56].

خاتمة

يمكن القول إن أبا القاسم سعد الله من المؤرخين العرب المعاصرين الذين حملوا هموم الأمة العربية وتألموا لتفرق شعوبها، وهو من خلال كتاباته يبرز ارتباط الجزائر بالعروبة وبالإسلام، ومجمل أفكار أبي القاسم سعد الله تصبُّ في ضرورة التشبّث بالثقافة العربية والإسلامية، والتصدّي لمحاولات المسخ الثقافي الاستعماري، وبأن على العرب والمسلمين أن يعتزّوا بتاريخهم وبتراثهم الحضاري شريطةَ أن لا يسكنوا الماضي فيبقوا على تخلفهم، بل عليهم مواكبة العصر، وأن يكون ذلك في إطار وحدة عربية ومغاربية لأن ما يجمع هذه الأمة أكثر مما يفرقها، وتقع مهمة هذا التحوّل على عاتق المثقف العربي.

 

قد يهمكم أيضاً  عبد الـحميد مهري: سيرة وعطاء

#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #أعلام# سير #أبو_القاسم_سعد_الله #مؤرخ #مفكر