تلقّى سؤال الهوية في مصر إجابات عديدة متتابعة منذ تبلور الحركة الوطنية الحديثة والحصول على الاستقلال الاسمي بمقتضى التصريح البريطاني الصادر في 28 شباط/فبراير 1922 عقب ثورة 1919 الشعبية، ثم إصدار دستور عام 1923. فكيف تجلت الهوية المصرية في دساتيرها اعتباراً من دستور 1923؟ وماذا قال هذا الدستور والدساتير التالية عن الهوية؟

أولاً: الهوية المصرية في دستور 1923

جاء دستور 1923 عقب ثورة 1919 الشعبية التي رفعت ثلاثة شعارات: «مصر للمصريين»، «يحيا تضامن الهلال والصليب»، «يا عم حمزة، نحن التلامذة». كانت مصر الحديثة تتلمس أقدامها في عالم جديد، عالم اختفت منه دولة «دار الإسلام»، حقيقية كانت أو مزعومة، وارتفعت عالياً راية بريطانيا وفرنسا الاستعمارية، عالم الحرب وما بعد الحرب، وانبثاق حركة التحرر الوطني ضد الاستعمار في أهم معاقله بالعالم الأفريقي ـ الآسيوي، وبخاصة على محور مصر ـ الهند، وكلتاهما «دّرة للتاج البريطاني» في ما قيل.

هكذا امتزجت روح حركة التحرر الوطني الوليدة، وسطوة الاستعمار البريطاني، وانبثاق سلطة ذات أضلاعٍ ثلاثة «القصر الملكي ـ دار السفير البريطاني ـ الإقطاع الزراعي وبدايات رأس المال». ولم يعكس دستور 1923 ـ الصادر بأسلوب «المنحة» من الملك فؤاد الأول ـ لغة فقه القانون الدستوري، بدءاً من العنوان: «أمر ملكي رقم 42 لسنة 1923 بوضع نظام للدولة المصرية».

وهكذا قضت ديباجة الدستور: «نحن ملك مصر… أَمَرنا بما هو آتٍ»، ثم جرى نص المادة الأولى، المقررة للهوية ـ هوية الدولة والمجتمع ـ على النسق الآتي الذي جرت صياغته باعتبارها هي بذاتها «الباب الأول» دون زيادة أو نقصان، تحت عنوان: الدولة المصرية ونظام الحكم فيها: «مصر دولة ذات سيادة، وهي حرة مستقلة، مُلْكها لا يتجزأ ولا ينزل عن شيء منه، وحكومتها ملكية وراثية، وشكلها نيابي».

هكذا انشغل الدستور بهاجس الاستقلال الوليد، المهموم بإنشاء مشروع دولة هي في الحقيقة غير مستقلة، نظراً إلى التحفظات الأربعة الواردة في صلب تصريح 28 شباط/فبراير 1922؛ ولذا جاء الدستور ليقرر ـ باعتبار «ما سيكون» ـ أن «مصر دولة ذات سيادة وهي حرة مستقلة». وأول عناصر الدولة ـ في القانون الدستوري ـ هو «الإقليم» معيَّناً بالحدود، لذلك اهتم الدستور بالنص على أن مصر «ملكها لا يتجزأ ولا ينزل عن شيء منه»، ولعله كان يشير من طرف خفي إلى ما كان يشغل الملك فؤاد الأول آنئذ باعتباره رمزياً «ملك مصر والسودان»… وتلك معضلة أخرى سوف تترك آثارها الغائرة في امتداد المراحل التالية.

والأهم ـ من وجهة نظر الملك مانح الدستور ـ ليس مجرد رمز السيادة والاستقلال الاسمي ولكن النص في صلب المادة الأولى محل النظر على أن مصر «حكومتها ملكية» فذلك هو «مربط الفرس» كما يقولون. وجرياً على سُنّة التأنّق القانوني في مجال «حَبْك» الصياغة الدستورية، فقد نصت المادة المذكورة بشأن الحكومة على أن «شكلها نيابي».

ثانياً: ثورة يوليو 1952 ومشروع دستور 1954

قامت «حركة الجيش المباركة» صبيحة الثالث والعشرين من تموز/يوليو 1952، مركزة في بدايتها على شعار القضاء على الفساد المستشري داخل الجيش، في إثر نكبة فلسطين عام 1948، بقيادة «تنظيم الضباط الأحرار» الذي أسسه جمال عبد الناصر. وفي غمار الصراع على السلطة خلال الفترة التالية، بين معسكر «الضباط الأحرار» الداعي إلى تطوير الحركة إلى ثورة والاستمرار بها، والمعسكر الداعي إلى «عودة الجيش إلى ثكناته»، والذي تكوّن من «الإخوان المسلمين» و«الشيوعيين» مع حضور رمزي قوي للواء محمد نجيب، تمت صياغة مشروع دستور سمي مشروع 1954.

جاء الباب الأول من مشروع الدستور المذكور تحت عنوان «الدولة المصرية ونظام الحكم فيها» ـ على غرار دستور 1923 افصل إلى حد بعيد ـ مكوناً من مادة وحيدة جرت صياغتها على النحو التالي: «مادة 1: مصر دولة موحدة ذات سيادة، وهي حرة مستقلة، وحكومتها جمهورية نيابية برلمانية».

مرة أخرى، تجنبت القوى السياسية عام 1954 الخوض في مضمار حسم مسألة الهوية، حالها كحال القوى السياسية السائدة في عام 1923، وإنما ركزت على ما يهمها بالدرجة الأولى، وهو تحديد «هوية» النظام السياسي بما يضمن عدم السماح بتبلور «شرعية ثورية» وبخاصة لحركة الجيش.

ولا يهم هنا ما جرى تكراره من نص المادة الأولى لدستور 1923. وفي ما عدا إغفال النص على أن مصر دولة «موحدة… مُلْكها لا يجزأ ولا ينزل عن شيء منه» مما تم تأكيده عام 1923، فإن النص الجديد يعيد القول إنها «دولة.. ذات سيادة.. وهي حرة مستقلة». بيْد أن «مربط الفرس» في مشروع 1954 يختلف تماماً عن مربط الفرس للقوى السياسية عام 1923.

لقد جاء تحديد «هوية» نظام الحكم المستهدف، طاغياً على حسم إشكال الهوية لمصر، كما يلي: «… وحكومتها جمهورية نيابية برلمانية».

لقد كان قد حُسم الأمر تقريباً منذ صبيحة 23 يوليو/تموز 1952، فذهبت المَلَكية إلى غير رجعة ـ وإن تم ذلك تدريجياً ـ فكان من الطبيعي أن تحل محل الحكومة الملكية الوارثية «التي شكلها نيابي»، حكومة «جمهورية نيابية»، واستكملت صفة الجمهورية فإذا بها «نيابية برلمانية». ولطالما ظل مطلب إقامة «جمهورية برلمانية» هو الشعار الأثير الذي رفعته الحركة الشيوعية واليسارية المصرية طوال عقود، وربما حتى الآن، تساندها القوى المسماة الليبرالية التي ركزت على لفظة «نيابية…».

ولكن النظام السياسي الذي نشأ من حول حركة الجيش وقائدها الكارزمي، زعيمها الوحيد، لم يقدر له على الإطلاق أن يكون «برلمانياً» وإنما جاء فيما بعد «رئاسيا»، وأيّ رئاسي…؟ لقد تخلق نظام سياسي قوامه النخبة العسكرية الثورية الجديدة، ورمزه جمال عبد الناصر غير منازع. وانعكس هذا جلياً في «دستور الثورة والزعيم»، دستور 1956.

ثالثاً: دستور الجمهورية المصرية (دستور 1956)

شيئاً فشيئاً، تحولت الحركة إلى «ثورة»، وأخذت هذه «الثورة» تصنع لنفسها عالماً سياسياً واجتماعياً خاصاً، فإذا بعالمها السياسي ينفتح على أفق عربي مبين، في إطار حركة للتحرر الوطني مصرية ـ عربية حقاً، ذات بعد استقلالي عن الاستعمار القديم والجديد معاً، في وجه تمنّع، غربي ـ أمريكي، عن تمويل مشروع «السد العالي» ذي الأهمية الاستراتيجية الفائقة من وجهة نظر «الثورة»، ما استدعى تأميم شركة قناة السويس، ثم التعرض لعدوان عسكري ثلاثي «بريطاني ـ فرنسي ـ إسرائيلي»… كل ذلك مع تلمس طريق التطور الاقتصادي انتقالاً من «الاقتصاد الحر» الذي كان محور مشروع دستور 1954 إلى «اقتصاد موجّه» بل و«مخطط»، بعد أن فشل مشروع الاعتماد الأحادي على القطاع الخاص لتحقيق التنمية.

في هذا الإطار الجديد، اكتشفت مصر هويتها من خلال ثورتها، فإذا هي هوية عربية خالصة دون تشوّش. وفي مقدمة الدستور نقرأ ما يلي:

«نحن الشعب المصري… الذي يشعر بوجوده متفاعلاً في الكيان العربي الكبير، ويقدر مسئولياته والتزاماته حيال النضال العربي المشترك، لعزة الأمة العربية ومجدها».

وفي المادة الرقم 1 من الدستور، ضمن الباب الأول المعنون «الدولة المصرية» نقرأ ما يلي:

«مصر دولة عربية مستقلة ذات سيادة، وهي جمهورية ديمقراطية، والشعب المصري جزء من الأمة العربية».

لأول مرة في التاريخ الحديث يحسم إشكال الهوية على هذا النحو فيقال: «مصر دولة عربية…» و«الشعب المصري جزء من الأمة العربية».

ويستكمل بيان الهوية في المادة الثانية حيث «السيادة للأمة…» والمادة الثالثة «الإسلام دين الدولة، واللغة العربية لغتها الرسمية»

رابعاً: الدستور الموقت للجمهورية العربية المتحدة
(5 آذار/مارس 1958)

عقب قيام دولة الوحدة بين مصر وسورية في 22 شباط/فبراير 1958، صدر دستور موقت بتاريخ 5 آذار/مارس من نفس العام، وجرت المادة الأولى على نفس النحو المحدد في دستور 1956، مع تعديل في الصياغة يراعى واقع الحال، مع نص أكثر إحكاماً، وذلك على النحو التالي: «الجمهورية العربية المتحدة جمهورية ديمقراطية مستقلة ذات سيادة، وشعبها جزء من الأمة العربية».

هكذا إذاً كرس الدستور الجديد لأول وحدة سياسية عربية في التاريخ الحديث، هوية مصر كجزء من دولة عربية «متحدة»، يشير اسمها إلى رسمها الحقيقي باعتبارها «الجمهورية العربية المتحدة»، والتي يعتبر شعبها الموحد جزءاً من أمة عربية واحدة.

خامساً: دستور 1964

وقع الانفصال بين مصر وسورية في 28 أيلول/سبتمبر 1961، وظلت الدولة محتفظة باسمها «الجمهورية العربية المتحدة» دلالة على هويتها الثابتة، وعدم اعترافها بواقع الانفصال، وسعيها لاستعادة الأمر الطبيعي لأمة أجبرتها الظروف التاريخية على التجزئة. وإضافة إلى تأكيد الهوية العربية، طوّرت البلاد نظاماً اقتصادياً واجتماعياً جديداً قائماً على الدور المحوري للوظيفة الاجتماعية للدولة، والقطاع العام، والتخطيط القومي الشامل، سعياً إلى التنمية الشاملة، كما بلورت نظاماً سياسياً يقوم على «التعبئة المجتمعية» من حول مشروع الثورة وقائدها من خلال منظمة سياسية مفتوحة العضوية وإن تكن تمثيلاً للتقنين المحكم لدور المشاركة الشعبية في الحكم، في ظل استبعاد نفوذ تحالف الإقطاع ورأس المال الكبير، بمقتضى قوانين الإصلاح الزراعي والتأميمات ومنظومة تشريعات وسياسات وإجراءات محددة، وهو ما سمي النظام القائم على «تحالف قوى الشعب العاملة». وهكذا جاءت المادة الأولى مقررة لهوية الدولة على النحو التالي: «الجمهورية العربية المتحدة دولة ديمقراطية اشتراكية، تقوم على تحالف قوى الشعب العاملة، والشعب المصري جزء من الأمة العربية». وجاءت المادة الخامسة لتقدم النص التكميلي للهوية: «الإسلام دين الدولة واللغة العربية لغتها الرسمية».

سادساً: دستور 1971

ظهر ما سمي «الدستور الدائم لجمهورية مصر العربية الصادر في 11 أيلول/سبتمبر 1971» في ظروف فريدة حقاً، في قلب الخضم المتلاطم على مدى السنوات الثلاث من سبتمبر/أيلول 1970 حتى تشرين الأول/أكتوبر 1973، ابتداء من وفاة الرئيس عبد الناصر إلى قيام «حرب تشرين الأول/أكتوبر»، مروراً بتولّي «السادات» رئاسة الجمهورية. وكان صدور الدستور تدشيناً لعهد مختلف تماماً عن «العهد الناصري» في كل شيء تقريباً، إذ حل «الانفتاح الاقتصادي» محل الخيار الاشتراكي، وحلت نزعة «الانكفاء المصري عن العروبة» محل الدور الريادي لمصر عبد الناصر في «معارك النضال العربي»، وحلّت علاقة التبعية المستترة للمعسكر الغربي ـ الأمريكي، محل «عدم الانحياز النسبي» في العلاقات الدولية.

ومن الناحية الشكلية فإن دستور 1971 قد سبقه «دستور اتحاد الجمهوريات العربية» المستفتَى عليه في الفاتح من أيلول/سبتمبر 1971، تطبيقاً لما سمي «إعلان بنغازي» في 17 نيسان/أبريل 1971، و«إعلان دمشق» في 20 آب/أغسطس 1971.

وقد تحددت هوية الدولة الاتحادية المزمعة في «دستور اتحاد الجمهوريات العربية» باعتبار أن «الشعب في اتحاد الجمهوريات العربية جزء من الأمة العربية»: (المادة 3)، و«نظام الحكم ديمقراطي واشتراكي»: (المادة 4)، و«اللغة العربية هي اللغة الرسمية في الاتحاد»: (المادة 5)، و«… الشريعة الإسلامية مصدراً رئيسياً للتشريع»: (المادة 6).

وكانت هذه الخلفية من وراء دستور 1971، وبخاصة في ما تضمنه من تحديد للهوية المصرية. وقد ورد في «وثيقة إعلان الدستور» ما يؤكد ذلك، بالنص على أن «الوحدة: أمل أمتنا العربية، عن يقين بأن الوحدة العربية نداء تاريخ ودعوة مستقبل وضرورة مصير، وأنها لا يمكن أن تتحقق إلا في حماية أمة عربية قادرة على دفع وردع أي تهديد مهما كان مصدره ومهما كانت الدعاوى التي تسانده».

وبرغم التعديلات التي أجريت على دستور 1971 بمقتضى عدد من الاستفتاءات المتتابعة وأولها الاستفتاء الذي تم في عهد السادات بتاريخ 22 أيار/مايو 1980 بغرض النص على أن تصبح «مبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الأساسي للتشريع» ثم استفتاءين في عهد مبارك (2007 و2010) بغرض استحداث تعديل على طريقة اختيار رئيس الجمهورية وما يرتبط به من قضايا متعلقة بنظام الانتخاب والنظام الحزبي… إلخ، إلا أن ما تم إحداثه في النص الأصلي لدستور 1971 بشأن جوهر الهوية العربية لمصر ظل قائماً، وذلك بالتقرير لأول مرة في التاريخ الدستوري المصري بأن «الشعب المصري جزء من الأمة العربية يعمل على تحقيق وحدتها الشاملة».

إن هذه الإضافة التي تحول المادة الأولى من الدستور المصري إلى مادة ملزمة للدولة المصرية بالعمل من أجل تحقيق الوحدة العربية الشاملة، هي ما نقصده بالذات في هذا المقام.

وبغض النظر عما إذا كان دستور 1971 قد فعل ذلك بوحي من اقتناع جوهري بالمضمون، أم أن القيادة «الساداتية» أجرت التعديل ـ بالإضافة ـ لمجاراة مقتضيات صراعه من أجل السلطة والنفوذ مصرياً عربياً، فإن الحقيقة المؤكدة تبقى مشيرة إلى عمق الإنجاز المحقق بالنص دستورياً على الالتزام القومي ـ العربي للدولة المصرية، تجلياً للتحول الإدراكي في العقيدة الدستورية، ولو على الصعيد النظري ـ المبدئي فقط.

سابعاً: ما بعد ثورة 25 يناير 2011

كان الإعلان الدستوري الصادر عن المجلس الأعلى للقوات المسلحة في 13 شباط/فبراير 2011 بمنزلة «إعلان إجرائي» يحدد خطوات نقل السلطة عقب «تنحّي مبارك» يوم 11 شباط/فبراير بفعل الهبّة الشعبية العارمة.

أما الإعلان الدستوري الصادر في 30 آذار/مارس 2011 بمقتضى الموافقة الشعبية في الاستفتاء على «التعديلات الدستورية» والذي جرى في 19 آذار/مارس، فقد تمحور حول الموضوع، حيث قرر بشأن هوية الدولة، في المادة 1 منه، ما كان قد تقرر بالنص في دستور 1971 المعدل، كما يلي: «جمهورية مصر العربية دولة نظامها ديمقراطي يقوم على أساس المواطنة، والشعب المصري جزء من الأمة العربية يعمل على تحقيق وحدتها الشاملة». وفي المادة رقم 2، يستكمل شأن الهوية بالنص على ما أجراه دستور 1971 أيضاً حول موضوعات: دين الدولة «الإسلام»، واللغة الرسمية «العربية»، ومبادئ الشريعة الإسلامية «المصدر الرئيسي للتشريع».

وتجدر الإشارة إلى أن المادة 1، والمادة 2، لم يكونا من بين المواد المعروضة ضمن «التعديلات الدستورية» المشار إليها، وإنما تم تضمنيهما في الإعلان الدستوري جرياً على نسق النصوص الأصلية لدستور 1971 المعدل.

هذا وقد جرى جدال حاد في مصر عقب صدور التعديلات الدستورية، وإن شئت فقلْ «الدستور المعدل» في 30 آذار/مارس 2011 جرى تبسيطه في شكل سؤال: الدستور أولاً أم الانتخابات أولاً؟

كانت «جماعة الإخوان المسلمين» وحلفاؤها من تيار «الإسلام السياسي» تفضل المسار القائم على «الانتخابات أولاً»، إذْ كانت عقب كانون الثاني/يناير 2011 تتمتع بتأييد شعبي يضمن لها الحصول على أغلبية الأصوات في أي انتخابات قادمة، ما يتيح لها كتابة دستور يتوافق مع تطلعاتها السياسية الكبيرة نحو إعادة تشكيل السلطة في مصر. أما «القوى السياسية» عدا «الإسلام السياسي» فكانت تميل إلى تفضيل التبكير بوضع الدستور، أملاً منها أن تتاح فسحة زمنية تمكنها من دعم قوتها السياسية في المجتمع، بما يسمح لها بالمشاركة المتكافئة نسبياً في بنية السلطة مستقبلاً.

وجرت الانتخابات البرلمانية بالفعل أواخر 2011 وأوائل 2012 لكل من الغرفتين «مجلس الشعب ومجلس الشورى»، وحدث ما توقعه الإسلاميون بالفعل من تحقيق أغلبية «مريحة» في كلا المجلسين. وتلا ذلك، عقد الانتخابات الرئاسية التي فاز فيها مرشح «جماعة الإخوان المسلمين» بعد أن حظي بتأييد عام من أغلبية القوى السياسية المنتسبة إلى التيار العريض لثورة 25 يناير.

وكان المرشح الرئاسي لجماعة الإخوان المسلمين «الدكتور محمد مرسي» قد قدم تعهدات صريحة للقوى السياسية، وفق ما سمي «اتفاق فندق فيرمونت» بعد عقد الانتخابات ـ وقبل إعلان النتيجة النهائية ـ يلتزم بموجبها بالقيام بعدة خطوات من شأنها تحقيق نوع من المشاركة المتكافئة بين قوى ثورة يناير ـ من «إسلامية» و«غير إسلامية» ـ في بنيان سلطة الدولة، من خلال تعيين ثلاثة نواب للرئيس، وغير ذلك. ولكن سرعان ما نكث الرئيس المنتخب بوعوده الصريحة وأخذ يعمل حثيثاً على التمكين لجماعته خصوصاً، وتيار الإسلام السياسي عموماً. وكان أن استمر مسلسل إعداد الدستور بدفع قوى من جماعة الأخوان المسلمين وشركائها من تيار الإسلام السياسي بصفة أساسية، حتى صدر بالفعل ـ بليْلٍ كما يقال ـ في 30 تشرين الثاني/نوفمبر 2012.

وقد تضمن دستور 2012 ـ الذي عرّفه البعض بأنه «دستور الإخوان المسلمين» ـ ما يعتبر تحولاً جوهرياً في تعريف الهوية المصرية عما استقر عليه الحال منذ ثورة 23 يوليو 1952 وحتى ثورة 25 يناير 2011. وجرى ذلك بالنص في المادة الرقم 1 من الدستور المذكور على ما يأتي:

«جمهورية مصر العربية دولة مستقلة ذات سيادة، موحدة لا تقبل التجزئة، ونظامها ديمقراطي، والشعب المصري جزء من الأمتين العربية والإسلامية، ويعتز بانتمائه لحوض النيل والقارة الأفريقية وبامتداده الآسيوي، ويشارك بإيجابية في الحضارة الإنسانية».

ومن هذا النص المركب، تتحدد أبرز معالم تحولات الهوية المصرية التي أجراها تيار «الإسلام السياسي» على الدستور، في ما يأتي:

1 ـ حذف النص الدالّ على الهوية العربية المركزية لمصر، عبر «تمييع» الانتماء بتوزيعه على «الأمتين العربية والإسلامية».

والحقّ أنه قد جرى نوع من التوافق العام في أدبيات علم الاجتماع، والاجتماع السياسي، على تعريف «الأمة»، من جهة أولى، بالاختلاف الكيفي عما اعتبر «تكوينات اجتماعية دون الأمة» وبخاصة العشائر والقبائل والأعراق الفرعية، وما يعبّر عنها من الانتماءات الفرعية أو الجزئية في الدراسات السوسيولوجية؛ والاختلاف الكيفي، من جهة ثانية، عما يعتبر من قبيل «التكوينات» فوق القومية كما في حالة الانتماءات العابرة الأمم والأقاليم والقارات.

وما بين الحدين المتعارضين، يقف مفهوم الأمة ليعبر عن قوام اجتماعي ـ تاريخي محدد، حيث جرى تعريفها على سبيل المثال كما يأتي[1]:

«الأمة هي جماعة من الناس تكونت تاريخياً على رقعة أرض محددة، ولها نمط حضاري متميز، ممتد وعميق، في المجالين المادي والمعنوي».

وبنظرة طائر محلق على مثل هذا التعريف يظهر، كما هو واضح، أن أهم مقومات الأمة هي:

أ ـ جماعة من الناس تكونت تاريخياً، بما يفيد معنى «التاريخ الوثيق المشترك».

ب ـ على رقعة معيَّنة من الأرض، بما يفيد معنى توافر حد أدنى معين من «الاتصال الجغرافي»

ج ـ فرادة النمط الحضاري المتكون تاريخياً، بما يميز الأمة عن غيرها، ولو اجتمع لها رابط مشترك مع بعض الأمم الأخرى، ووشائج روحية أو ثقافية متنوعة.

د ـ يتفرع النمط الحضاري إلى مجال مادي متمثل بـ «حياة اقتصادية مشتركة» عبر حقب زمنية متفاوتة، ومجال معنوي أو ثقافي قائم على الخبرات الإدراكية المشتركة سواء بفعل وحدة اللغة، التي إن لم تكن شرطاً كافياً بذاتها، إلا أنها شرط ضروري للتكوين القومي تدعمها «السجايا النفس ـ اجتماعية المشتركة».

ويمكن الاحتجاج بتوافر هذه المقومات، مجتمعة أو غير مجتمعة، على «العرب»، بحيث يتحقق انطباق المفهوم العلمي للأمة على الجماعة البشرية العربية القائمة على امتداد إقليم موصول جغرافياً في النطاق الأفريقي ـ الآسيوي، والتي تكوّن لها في إطار التاريخ الإسلامي نمط حضاري متميز على صعيد اللغة والاجتماع الثقافي والاقتصادي والسياسي، ويصح تعريفه بالنمط الحضاري العربي، أو العربي ـ الإسلامي، تمييزاً له عن الأنماط المجاورة في الإطار العريض للحضارة الإسلامية أو العالم الإسلامي الكبير، الممتد من جنوب شرق آسيا إلى غرب أفريقيا، مثل النمط الحضاري الفارسي «أو الإيراني» والنمط التركي والنمط الهندي «الباكستاني»… إلخ.

وهكذا تتخذ «الأمة العربية» موقعها الطبيعي إلى جانب سائر الأمم والجماعات البشرية ضمن دوائر الانتماء الأوسع، في إطار المشتركات التاريخية والجغرافية، وفي مقدمها الأمم والجماعات المنتمية إلى «الإقليم العربي ـ الأفريقي» و«العالم الإسلامي».

لا يستقيم إذاً في ضوء ذلك أن يتم الحديث بلغة العلم عن «أمة إسلامية» إلى جانب الأمة العربية، وإنما توجد أمم إسلامية شتى وجماعات، ومن بينها وفي نواتها المركزية: الأمة العربية، بطبيعة الحال.

2 ـ عدا عن التعديل بالحذف (حذف أولوية الانتماء إلى الأمة العربية)، فإن دستور «الإخوان المسلمين» لعام 2012 قد أجرى تعديلاً إضافياً، حين نص في الفقرة التالية لما سبق مباشرة على أن الشعب المصري «يعتز بانتمائه لحوض النيل والقارة الأفريقية…».

ولسنا نعرف، وأيمُ الحق، دستوراً لدولة تمر بمرحلة انتقال «ثورية»، يعبّر عن رابطة الانتماء وعن مُدرَك الهوية، باستخدام اللفظ «يعتز»، بما يشير إليه من «حمولة» ذات نفَس عاطفي أو انفعالي عميق، وليس إلى منحى عقلي في المقام الأول؛ وبم يعتز الشعب المصري؟ أيعتز بانتمائه إلى حوض النيل والقارة الأفريقية؟

والحق أن الانتماء المصري إلى أفريقيا يرتفع فوق مستوى مشاعر الاعتزاز العاطفي وهو ما يجب معه رفع مستوى التعبير عن الهوية إلى ما هو أعلى من ذلك، عبر الإشارة الضرورية إلى «مندمج» أو مشترَك تاريخي ـ حضاري، كأن نقول على سبيل المثال «الإقليم العربي ـ الأفريقي».

أما عن إضافة الإشارة إلى «الاعتزاز» بالانتماء إلى حوض النيل، فنحن ننزّه «الشعب المصري» عن أن يتذكر «حوض النيل» بمناسبة نشوب أزمة المياه في الحوض هذه الأيام، دون إيجاز مركز للمبررات الموجبة لذلك، في ميزان العقل الحضاري، إذا صح هذا التعبير»؛ فإن لم تكن هذه المبررات قائمة، كما يجب، فليس هناك ما يدعو إلى تلك الإشارة، ويكفي تأكيد رابطة الانتماء إلى «المشترَك العربي ـ الأفريقي» كما ذكرنا.

3 ـ التعديل الثاني، والذي جاء في فقرة تالية أو ملحقة بالفقرة الدالّة على «الاعتزاز» «الأفريقي ـ النيلي»، ينصبّ على «اعتزاز» الشعب المصري أيضاً «بامتداده الآسيوي».

وهكذا فإن دستور 2012 في حين يقرر انتماء الشعب المصري «الواحد» إلى أمّتين مختلفتين في وقت واحد «الأمة العربية والأمة الإسلامية» إن صح أن تكون هناك «أمة إسلامية» في ميزان العلم، وهو غير صحيح، فإنه يضع ملحقاً لمُدرَك الهوية يقوم على المدماك العاطفي ـ بالاعتزاز ـ تجاه قارة أفريقيا وحوض النيل، ثم إذا به يقذف بجزء من المعمور المصري خارج دائرة الانتماء الأصيل، عقلياً كان أو عاطفياً، ليجعله «امتداداً» لعله امتداد الظل للأصل، وهو «الامتداد الآسيوي» ! ولا نحتاج إلى كثير عناء لنعرف أن الامتداد الآسيوي المشار إليه إنما هو «شبه جزيرة سيناء».

ولسنا ممن ينسبون إلى «جماعة الإخوان المسلمين» و«الرئيس المعزول» تهماً غامضة، ولعلها «وهمية» إلى حد بعيد، تدور حول نيّة التخلي عن جزء من سيناء لإقامة «وطن فلسطيني بديل» مثلاً، كما لا نجد دليلاً أكيداً على تهمة مماثلة بخصوص المنطقة الملاصقة للشقيقة السودان على البحر الأحمر في ما يعرف بمثلث حلايب وشلاتين، ولكنا نربأ بجماعة «الإخوان المسلمين» ألا تجد في شبه جزيرة سيناء أكثر من «امتداد» لـ «الوطن الأم» في قارة آسيا. فذلك مما يعد تأكيداً لواقع التهميش الذي عانته سيناء، بحيث لم يعد يعتبر مجرد تهميش اقتصادي أو «استبعاد» اجتماعي، وإنما صار ـ على يد دستور 2012 الذي سمي بعد 30 حزيران/يونيو 2013 «الدستور المعطل» ـ تهميشاً على صعيد الوجود أو الكينونة، باعتبار سيناء مجرد «استطالة» جغرافية صحراوية، إن شئت، للمعمور المصري المركزي…!

فهل سلّم «الدستور المعطَّل» بالأثر المعطِّل لقناة السويس في مضمار «الفصل الاعتباري» لسيناء عن بقية الوطن، في حين تقوم سيناء في الواقع الحقيقي بدور «همزة الوصل» التاريخية ـ الحضارية بين مصر وسائر وطنها العربي الكبير في آسيا، باعتبار مصر البلد الآفرو ـ آسيوي «الوحيد»؟

تلك هي فحوى تحولات الهوية المصرية التي أجراها «الدستور المعطل» وفق نص مادته الأولى، ولا نشير إلى ما تم النص عليه في ما يسمى بالمادة المفسرة للمادة الثانية حول «مبادئ الشريعة الإسلامية» وهي المادة 219، فذلك مما يجب تناوله في مقام آخر.

ويقتضي شمول المعالجة أن نشير إلى ما جرى النص عليه في «الإعلان الدستوري» الصادر في 8 تموز/يوليو 2013 والذي أصدره «رئيس الجمهورية الموقت» عقب الحدث المجلجل ليوم 30 حزيران/يونيو 2013، ثم الثالث من تموز/يوليو، ونشير إلى «تنحية» الرئيس «المعزول» وإصدار «خريطة المستقبل» للفترة القادمة.

ثامناً: الإعلان الدستوري الصادر في 8 تموز/يوليو 2013

في مواجهة الإهدار المتعمد من جانب «الدستور المعطل» لمدركات الهوية المصرية الحقيقية، كما استقرت في اليقين الثقافي المصري والتراث الدستوري، منذ ثورة 23 يوليو 1952، فإن الإعلان الدستوري المعبّر عن الهبّة الشعبية في 30 حزيران/يونيو، والصادر في 8 تموز/يوليو 2013، قد أغفل موضوع الهوية المصرية إغفالاً تاماً، متعمداً في ما يبدو، ربما ليسدّ أبواباً للجدل قد تفتح في غير أوانها. وربما أراد «الإعلان الدستوري» من وراء ذلك، إحالة موضوع الهوية، مع غيرها من الموضوعات «الشائكة»، إلى اللجنتين المكلفتين وضع التعديلات الدستورية الملائمة على «الدستور المعطل»، وهي «لجنة العشرة» ثم «لجنة الخمسين»، وذلك وفق الآلية المعتمدة في ذلك الإعلان. وقد تم إعداد مشروع التعديلات الدستورية على «الدستور المعطّل»، وجرى تحديد يوميْ 14 و15 كانون الثاني/يناير 2014، للاستفتاء العام على ذلك المشروع.

تاسعاً: الهوية المصرية في التعديلات الدستورية الجديدة

1 ـ كان قد رشح عن «لجنة الخمسين» أثناء إعداد مشروع التعديلات الدستورية وقبل الإعلان عن المسودة النهائية، أن المادة الأولى من الباب الأول للدستور المعّدل ـ باب «الدولة» ـ سوف تتضمن في عجزها ـ فقرتها الثانية ـ ما يلي: «[…] الشعب المصري جزء من الأمة العربية تعمل على تكاملها ووحدتها، وهي جزء من العالم الإسلامي، وتنتمي إلى القارة الأفريقية والآسيوية، وتسهم في بناء الحضارة الإنسانية».

وكان يعيب صياغة هذا النص ـ من وجهة نظرنا ـ عدة أمور: أولها الإشارة إلى «مصر»، كجزء من الأمة العربية، في إيماءة إلى كيان مُصْمَت يلفّه الغموض باسم «مصر»، ينضوي تحت لواء «أمة» أكبر منه. وثانيها أن النص قدم الانتماء إلى العالم الإسلامي على الانتماء الأفريقي والآسيوي، في حين يبدو الأقرب إلى منطق التدبر الجيوستراتيجي أن يحدث العكس. وثالثها تجزئة الكيان الجغرافي المصري باستخدام حرف العطف «و» بما يحيل الانتماء المندمج إلى انتماءين: أفريقي وآسيوي، في حين تعتبر مصر بلداً «أفريقيا آسيوياً» بغير فصل يتلوه عطف كما بدا في العبارة المذكورة، لا بل هي البلد الأفريقي الآسيوي الوحيد، برغم ما يبدو من أثر للحاجز المائي المتمثل بـ «قناة السويس» حديثة المنشأ. أما آخر العيوب في نظرنا فهو اعتبار «الإسهام في الحضارة الإنسانية» تعبيراً عن دائرة من دوائر الانتماء، بينما أن ذلك الإسهام يرتبط بالانتماء ارتباط الفرع بالأصل، أو ارتباط «الجوهر» بالوجود، إذا صح هذا التعبير.

2 ـ اتسمت مداولات لجنة الخمسين بالطابع «الدائري» المعقد، مع تأثر زائد عن الحد في بعض الأحيان من جانب «قوى الضغط» المحيطة بها من كل جانب. ورغم ما قد يتضمنه ذلك من حسنات، بالنظر إلى التفتح على التجاوب مع ما يفرزه الحوار المجتمعي المعقد[2]، إلا أن له عيوباً في الجانب المقابل، نظراً لما يحمله من نزعة «توفيقية» تروم الجمع بين متناقضات لا تجتمع، فتعتريها شبه «التلفيق».

وفي هذا السياق، صدر النص النهائي لمشروع التعديلات الدستورية المعروض للاستفتاء الشعبي، بحيث تضمنت المادة الأولى من الباب الأول، فقرتين تنص أولاهما على ما يأتي: «جمهورية مصر العربية دولة ذات سيادة، موحدة لا تقبل التجزئة، ولا ينزل عن شيء منها، نظامها جمهوري ديمقراطي، يقوم على أساس المواطنة وسيادة القانون».

ويجري نص الفقرة الثانية على النحو التالي «الشعب المصري جزء من الأمة العربية يعمل على تكاملها ووحدتها، ومصر جزء من العالم الإسلامي، تنتمي إلى القارة الأفريقية، وتعتز بامتدادها الآسيوي، وتسهم في بناء الحضارة الإنسانية».

وفي سبيل المقاربة النقدية لهذا النص، بالتركيز على الفقرة الثانية نشير إلى ما يلي:

1 ـ حسناً فعل كُتاب الدستور حين أعادوا الإشارة إلى الانتماء العربي باسم «الشعب المصري» وليس «مصر»، وكنا نفضل «الشعب العربي في مصر»، إذْ الأمة ـ بالتعريف العلمي ـ مكونة من شعب واحد يعيش على أرض مشتركة «وطن» ويبدع حضارة موحدة.

وإذا تجاوزنا عن ذلك، بغير رضا على كل حال، فإن الجملة المتعلقة بالانتماء العربي أقل في مبناها مما ورد في ذلك النص الذي انتهت إليه الحركة الوطنية المصرية المعاصرة، انطلاقاً من ثورة 23 تموز/يوليو 1952، وفق الصيغة الأخيرة الواردة في الدساتير والإعلانات الدستورية المتتابعة بين 1971 و2011، أي: «الشعب المصري جزء من الأمة العربية ويعمل على تحقيق وحدتها الشاملة». ونرى أن النص على العمل على «تحقيق الوحدة الشاملة» أشمل وأدق من الحديث عن العمل على «تكاملها ووحدتها».

2 ـ اقتفى النص النهائي لمشروع التعديلات، أثر النص الذي رشح عن لجنة الخمسين في تقديم عبارة «مصر جزء من العالم الإسلامي» على ما عداها من دوائر الانتماء بعد الدائرة العربية. وسبق أن أوضحنا المأخذ على ذلك من وجهة نظرنا، مع الإشارة إلى أن «النص النهائي» قد صادفه التوفيق بالإشارة إلى «مصر» هنا ـ وكنا نفضل «مصر العربية» ـ كجزء من «العالم» الإسلامي، إذ المقابلة بين الحدّين، الجزء والكل، منسجمة إلى حد كبير في هذه الحالة.

3 ـ فصل «النص النهائي» لمشروع التعديلات الدستورية الجديدة، في موضوعة الانتماء ـ بعد الإشارة إلى «الانتماء العربي» ـ بالقول إن مصر «تنتمي إلى القارة الأفريقية، وتعتز بامتدادها الآسيوي». وتمثل هذه العبارة نوعاً من «التقدم» بالمقارنة مع نص «الدستور المعطل» الذي كان اعتبر أن «الشعب المصري جزء من الأمتين العربية والإسلامية» في «تمييع» مقصود لقضية الهوية العربية، كما كان قد أشار إلى الانتماء بلفظة «يعتز»، قائلاً على لسان «الشعب المصري»: «… ويعتز بانتمائه لحوض النيل والقارة الأفريقية وبامتداده الآسيوي» فجعل الاعتزاز بالانتماء في هذا المجال مقصوراً ـ على المشاع ـ على حوض النيل والقارة الأفريقية، ثم ألحق بهما الشطر الآسيوي ـ أي شبه جزيرة سيناء ـ باعتباره مجرد «امتداد» لمصر، أو «استطالة». وقد جاء النص النهائي لمشروع التعديلات الدستورية ليجعل الانتماء مقصوراً على «القارة الأفريقية»، بعد حذف إشارة غير مبررة إلى «حوض النيل»، مع استبعاد الشطر الآسيوي ـ أي شبه جزيرة سيناء ـ من دائرة الانتماء، ومع استعادة للنفَس الانفعالي المتضمن في فعل «الاعتزاز» بإرجاعه إلى «الامتداد الآسيوي»، في عود غير حميد إلى سيرة «الدستور المعطل» في هذا الشأن. ومع تأكيدنا لأهمية الإشارة إلى دائرة الانتماء الأفريقي، فقد كنا نفضل الإشارة إلى أن مصر العربية «تنتمي إلى القارتين الأفريقية والآسيوية».

4 ـ أخيراً أضاف النص النهائي لمشروع التعديلات الدستورية ـ بالإشارة إلى مصر ـ عبارة: «… وتسهم في بناء الحضارة الإنسانية»، مقتفياً أثر «الدستور المعطل» في هذا الشأن أيضاً، ولكن على مستوى أضعف نسبياً، بالمقارنة مع نص ذلك الدستور على أن «الشعب المصري» [… يشارك بإيجابية في الحضارة الإنسانية].

بيْد أنّا نعيد تأكيد عيب النص في الحالتين، إذ إن فعل «الإسهام» أو «المشاركة» الحضارية، ليس معبّراً بذاته عن واقعة «الانتماء»، وليس مرادفاً له، وإنما هو متغير تابع له، أو هو ظاهرة من ظواهر التجلي لتلك الواقعة الأصلية بالذات. وكنا نفضل التعبير بما يفيد الانتماء إلى «الأممية الإنسانية العامة».

5 ـ في ضوء ما سبق، يمكن القول إن النص النهائي لمشروع التعديلات الدستورية، قد أحسن بالإشارة المؤكدة إلى الهوية العربية لمصر، على عكس «الدستور المعطل»، غير أنه حمل في بعض جوانبه آثار «الإثم» الباقية من «الدستور المعطل»، كما ألمحنا غير مرة. والرأي عندنا أنه كان يحسن التخفف من التفاصيل المتعلقة بدوائر الانتماء والهوية المتتابعة في صلب الدستور المعدل الجديد، وأن يقتصر النص على تأكيد بُعد الهوية الأساسي على هذا النحو: «الشعب العربي في مصر جزء من الأمة العربية ويعمل على تحقيق وحدتها الشاملة».

ولكنها طبيعة المرحلة الانتقالية الراهنة في مصر، بتعقيداتها المتداخلة، ولا بأس! ¨

كتب ذات صلة:

ولاية سيناء: تحولات العنف الجهادي في مصر

الحركات الاجتماعية والأحزاب السياسية: الإسلام السياسي في مصر وتونس والمغرب

الفريق سعد الدين الشاذلي: شهادات ووثائق

السادات وإسرائيل: صراع الأساطير والأوهام