يعيش العالم حاليًا حقبة تحولات مفصلية وحادة، عالم بدأت تتبدل فيه الديناميات السياسية وتبرز من خلاله إمكانيات وعلاقات جديدة للقوة بشقيها الناعم والصلب.

يصاحب ذلك شكوى من الأم الأرض، التي بقينا نعاملها بقسوة ونعيش فوقها لا معها، ودعوة منها إلى وجوب التوقف والنظر إلى الأفعال والظواهر الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والعلاقات الدولية في إطارها الإيكولوجي تفاديًا للكوارث التي بدأت تهدد الوجود البشري.

من جانب آخر، ظهرت عوامل لابشرية (بيولوجية) كظاهرة الوباء الذي أدى إلى تصدعات بالغة الأثر في الحياة الإنسانية والإنجاز الحضاري.

ولعل الأهم من ذلك كله اشتعال الحرب في القارة الأوروبية التي قدحت فيها روسيا الزناد لإنهاء التاريخ المعاصر، ونزع المركزية عن النظام العالمي، ووضعت حدًا لحالة التعايش السلمي التي ظلت سائدة منذ الحرب العالمية الثانية وأدخلت العالم في مرحلة جديدة (مرحلة الحرب والمواجهة) بهدف إقامة سياسة دولية جديدة بعيدة من هيمنة المركزية الغربية والسلم على الطريقة الأمريكية (Pax Americana) والعمل على التأسيس لنسق دولي ما بعد كولونيالي بقيم محافظة وتعددية قطبية فاعلة.

كلنا يتذكَّر ماذا حدث بعد سقوط حائط برلين ونهاية الحرب الباردة وزوال الثنائية القطبية والإعلان من طرف واحد عن انتصار الليبرالية والدخول في مرحلة الأحادية القطبية، فقد ساد الغرب زخم من التفاؤل بهيمنة وسواد نموذجه الحداثي كنموذج كوني من دون منازع.

وقد تجسَّد ذلك في أعمال المؤرخ فرانسيس فوكوياما حيث وضع كتابه الشهير نهاية التاريخ والإنسان الأخير وبتأثر واضح بفلسفتي هيغل ونيتشه؛ فقد أعرب بصورة جازمة أن الليبرالية هي الوجه الأمثل والنهائي لحكم الإنسان. وكنت قد كتبت مقالة في وقتها أرد فيها على إغفال المؤلف لدينامية التاريخ، إذ شبهته بمذيع الأنواء الجوية الذي يظهر يومًا على شاشة التلفاز ليبلغ الناس بأنه ابتداء من الغد سيبقى الطقس صحوًا إلى يوم الدين.

ولا نختلف في قولنا بأن رؤية العالم (إبستيمولوجيًا) التي تحكمت في قناعات فوكوياما بنهاية التاريخ هي رؤية خطية (Linear) تعتقد باللعبة الصفرية التي تنتهي بزوال الآخر وانتصار الأنا وتؤمن بالحتمية، ومن خلال عدسات محددة بؤرتها المركزية الغربية/الأوروبية التي حذر منها صديقنا الراحل سمير أمين منذ عقود في إطار مساهماته في تطوير نظرية التبعية، حيث انتقد تعميمات تلك المركزية ذات الثقافة المسيحية/اليهودية التي يرغب الغرب من خلالها في فرض نموذجه الكوني على العالم.

منهجيًا، إن الأخذ من الماضي كإطار مرجعي لفهم الظواهر الدولية المعاصرة قد يوفر بعض التبصُّرات حول الجوانب الاجتماعية/السياسية أو المعيارية، ولكن الحقيقة الدولية بعد انتهاء الحرب الباردة بكل تعقُّداتها، تجعل من المقارنات التاريخية مصدرًا لسوء التفسير والتأويل نتيجة تجاهل طبيعة المتغيرات البازغة والآليات السببية القابعة خلف السيرورة الدولية المعاصرة.

والأخطر من هذا أن حصر المرجعية بالماضي وبالنزعة الخطية للظواهر ومد الحاضر بالمستقبل، تنحرف عادة عن وظيفتها التفسيرية لتخدم أغراض أيديولوجية، منها إضفاء تبريرات وشرعية على عمليات صنع القرار السياسي لدى الدول. ذلك هو السائد في النهج الوضعي لنظريات العلاقات الدولية المتداولة.

والآن علينا أن نتساءل: إذا كانت النظريات الوضعية المتوافرة لدينا ذات قناعات أنتولوجية ورؤى إبستيمولوجية نابعة من المركزية الغربية وكونية نموذجها الحداثي، هل يمكن استخدامها لفهم ما يجري من تحولات في السياسة الدولية والنظام العالمي بعد نشوب الحرب في أوكرانيا؟

في نظري إن المخيال السوسيولوجي والتفكير المتداول داخل نظريات العلاقات الدولية السائدة يستند إلى مسلمات فكرية ومعرفية لا يمكن أن تحمل صفة الكونية، ولكن تم إقحام صفة الكونية عليها. مثل هذا التفكير ينتمي إلى تقاليد فلسفية تفترض أولوية الكيانات القائمة مسبقًا والثابتة والمستمرة.

من خلال التسليم بهذه الأولوية، فإن البحث يتحدد في خصائص هذه الكيانات والعلاقات التي تدخل في إطارها. وذلك بدوره يؤثر في وحدات التحليل ومفاهيمها، منها فرض الإنسان ككائن كوني خصائصه (المنطق والعقل واللغة… إلخ)؛ وإن مداخل التحليل هي الدول، والتنظيمات المتعددة الأطراف، وتوازن القوى… إلخ، وكذلك الظواهر المصاحبة (الحروب، والأنساق السياسية، وتدهور البيئة… إلخ).

الأكثر من هذا، أن فهم معنى النظام (Order) في إطار تلك المقاربات النظرية للعلاقات الدولية، النابع من المخيال الحداثي الغربي، يعني التخلص من الظواهر التي تبعث على الفوضى وعدم التكيُّف، التي أتت (تاريخيًا) كنتيجة للثورة العلمية وعصر التنوير. وعليه، فالنظام ضمن تلك الأطر المرجعية هو «كيان معرّف» ويمكن حسابه، فهو العالم العقلاني. أما «اللاعقلانية» التي لا تخضع لمعايير النظام فيجب تجاهلها. وعليه فإن الطريقة العلمية أصبحت تمثل نزعة اختزالية وخطية ويمكن التنبؤ بها. ذلك هو إطار الدلالة الذي حدد الفكر الاجتماعي لتالكوت بارسونز في دراسة الأنساق الاجتماعية والسياسية واعتبارها دائمًا تنحى نحو حالة التعادل (Equilibrium) والنزوع لها من جديد في حالة استقلالها.

سوسيولوجيًا، يتشكل مخيالنا العلمي في إطار حالة مستمرة ومتراكمة من أثر العلوم المصنَّعة (Manufactured Sciences) التي تشتغل بطريقة آلية وتقوم بعملها على نحو يمنعنا من التحقق من أن المستقبل يولد وينشأ ونحن في غفلة عنه. يحدث ذلك ببساطة لكوننا أسرى تمثلاتنا الإبستيمولوجية للعالم وللعلاقات الدولية والسياسة الدولية.

وبهذا الصدد، قد يفيدنا الاستعانة بفكر الفيلسوف غاستون باشلار، إذ يعتقد أن التوصل إلى رؤى ومقاربات جديدة في النظر إلى المشكلات في العلوم، يتطلب تجاوز الحواجز الإبستيمولوجية التي تمثل التحدي الفكري الذي يواجه العلماء والباحثين، والتخلي عن العوائق التي تفرضها رؤيتهم المسبقة للعالم، فهل نحن نفكر في ما نفكر بسبب ما نلاحظه ونراه؟ أم أننا نرى ما نرى بسبب ما نفكر به؟

تلك الأسئلة تطرح مسألة «العائق الإبستيمولوجي في توليد المعرفة».

من جانب آخر، يجب ألّا يغيب عنَّا أن العلوم عادة لا تمر عبر الزمن بتطور خطي مستمر، ولكن بهزّات تتميز بالقطيعة مع الفكر العلمي المألوف. هذه التقطعات في التاريخ التي تزيد من حدتها الكوارث والحروب، كما هي الحال من الحرب «الروسية – الأوكرانية»، هي التي تولد مقاربات جديدة للمشكلات العلمية والاجتماعية – السياسية والثقافية، وتؤدي غالبًا إلى مقاربات جديدة للعلم عمومًا ورؤية جديدة للعالم.

لقد اعتادت نظريات العلاقات الدولية التعامل مع «قواعد» تحكم عملها. وهي عادة تعميمات تعمل على توصيل أنماط من السلوك بأنماط من الفاعلين، وترجعها إلى أنماط من الأوضاع، ومن أجل تأكيد وجود القواعد يتم اللجوء إلى عمليات التعميم والتصنيف ومأسسة الفعل السياسي، كون ذلك يصبح من باب الضرورة.

كل ذلك يستدعي منا أن نوجِّه الانتباه إلى تلك المقاربات الاختزالية وأن ننظر إليها بمنظار إشكالي، فمنطق ظاهرة كونية مثل هذه الحرب التي بدّلت من معنى فائض التاريخ ومركزيته يجعل من غياب المعرفة حولها أشد صلة بالمعرفة التي قد نمتلكها عنها.

عندي، إن الأزمة الإدراكية والمعرفية في هذا المقطع التاريخي الذي جاءت في إطاره الحرب، هي أزمة ثقافية سببها عدم قدرتنا على تخيل طرائق بديلة للتعرف والفهم، فالحقبة التطورية الحالية في التاريخ المعاصر الذي تمر البشرية به، ومظاهر التعقُّد التي أفرزتها ثورة النفاذ إلى المعلومة، واتساع قنوات التواصل والتعبئة، قد جاءت بتبعات جعلت كل مسلمات نظريات العلاقات الدولية وفرضياتها محل تساؤل، فيما يتعلق بالقوة وتجلياتها الصلبة والناعمة وتمظهراتها وبالمعرفة والذات والحقيقة والزمن الاجتماعي – السياسي.

بتعبير آخر، إن ما نحتاج إليه حاليًا هو إعادة التبصر لإحداث انعطافة في الفكر السياسي الشائع في اتجاه التعامل مع الحرب ضمن نسقها التعقدي، إذ إن هذا المخبر الحي للعلاقات الدولية والنظام العالمي الذي ولدته الحرب، يحتاج إلى تفكير نسقي مغاير وإلى أدوات منهجية جديدة، فالمقطع التاريخي الحالي هو بمنزلة بوابة بين عالم وآخر، وهو ما يجبرنا على إعادة ترتيب المخيال حول ما هو سياسي واجتماعي وثقافي.

ومن حقنا مرة أخرى أن نتساءل في نقد نظريات العلاقات الدولية السائدة: إلى أي حد، ونحن في هذه الانعطافة التاريخية، يمكننا أن نتحمل معاملة الفاعلين في إعادة تشكيل النظام العالمي كمستقلين عن أنساقهم وعن محيطهم الإيكولوجي، وإلى أي حد يمكن إهمال السياقات المتصارعة وديناميتها ونتائج تفاعلها وطبيعته في التصورات النظرية؟

قد نتفق جميعًا في استنتاجنا أن بروز علوية القرن الآسيوي والتعامل مع ثقافات كالبوذية والهندوسية والكونفوشيوسية، سيقدمان تحديات كبيرة لإعادة صوغ نظرية العلاقات الدولية؛ فالحرب الباردة التي غالبًا ما يتم وصفها كنزاع بين الشرق والغرب بقيت في إطار النظريات السائدة وتحليلاتها شأنًا أوروبيًا، فكارل ماركس وآدم سميث أوربيان، والولايات المتحدة تأسست على أساس الحضارة الأوروبية، والاتحاد السوفياتي على الرغم من أنه يمسح أجزاءً من أوروبا وآسيا فهو كذلك جزء من ذلك التراث الأوروبي.

والآن، وفي ظل الحرب القادمة، وبروز الصين والهند كقوى إقليمية تريد أن يكون لها وزنها في التأثير في النظام العالمي الجديد، على الغرب أن يتعامل مع ديانات وثقافات ذات هوية جماعية مختلفة عن الفردانية التي هي أساس المشروع الحداثي الغربي والمركزية الأوروبية.

وبودي أن أورد مثلًا على ذلك، ففي الثقافات المستندة إلى الجماعية، شرق آسيا بالذات، تؤكد قناعاتها الفلسفية، أن الفردانية واستقلالية الذات الفردية لا وجود لها، وأن التسليم باستقلالها أو الإيمان بها يقود إلى الإخفاق وإلى تفاقم المعاناة في مواجهة الكوارث والحروب.

المعاناة من الكوارث والحروب في أفقها الفلسفي، عندهم، هي علاقاتية (Relational) وذات تأثير سوسيو-ثقافي متبادل. معنى ذلك أن معاناة الفرد هي من معاناة الجماعة، في إطار الرؤية الكلية للعالم التي تربط القوى العلاقاتية الاجتماعية – السياسية والثقافية والطبيعية/الإيكولوجية بشكل عضوي. وعليه إذا ما أراد الغرب أن يشارك في الزمن الجديد الذي ستفرزه الحرب الدائرة حاليًا، فإن عليه أن يهجر نهجه التقليدي القائم على علوية ومركزية قيمه وأبعادها الكونية الصالحة لكل الثقافات وأن يتبنى عوضًا من ذلك تعدد الحداثات بدلاً من الاقتصار على حداثة الرجل الأبيض بوصفها المعيار الأوحد.

لا يبدو الأمر كذلك حاليًا أو في المستقبل القريب، فالغرب ما زال تحت نشوة التضامن بين جانبي الأطلسي كمعسكر ديمقراطي في مواجهة القوى التسلطية.

وعند الاستماع إلى دبلوماسي أوروبي بمنزلة جوزيب بوريل، لا يملك أحدنا إلا أن يشعر بالامتعاض، وذلك عندما يصرّح بأن أوروبا تبقى هي الجنائن والحدائق الغناء وبقية العالم حولها لا يكون إلا مجرَّد أدغال، وأن تلك الأدغال يمكن أن تتسلل وتغزو الجنائن.

وبالرغم من الخلفية اليسارية لهذا المسؤول، يمكننا أن نضيف كذلك الفاشية الجديدة واليمين المتطرف الذي بدأ يتسرب إلى الحكم في أوروبا، وكذلك في الولايات المتحدة، وفي نظري فإن نتائج الانتخابات الأمريكية عام 2024 ستشكل حدثًا مفصليًا في قناعات الغرب بالحكم الديمقراطي وقضايا حقوق الإنسان وفي طبيعة تشكلات النظام العالمي الجديد، فإما الانعزالية وبروز نزعات الهوية والقومية والتخلي عن العلاقات المتعددة الأطراف ومؤسساتها، والتمسك بشعار «أمريكا أولاً» وإما الإصرار على إنقاذ ما يمكن إنقاذه لإطالة عمر الأحادية القطبية.

من جانب آخر، على الغرب أن يدرك أنه مع الفرصة التاريخية التي أتاحتها الحرب في أوكرانيا بنزع المركزية والأحادية عن النظام الدولي، فإن هنالك معادلات جديدة قد بزغت في توازن القوى، وإن مصطلح «الجنوب» لم يعد مجرّد حيّز يقع في التخوم ويتم تداوله في الدراسات الأكاديمية، إذ تحاول تلك الدول أن تنفض عن كتفيها إرثها الكولونيالي (ما يجري في أفريقيا حاليًا من تحوُّلات سياسية وتظاهرات شعبية مثال على ذلك) وأن يكون لها مواقف استباقية في تحرير التاريخ وتحقيق موقع قدم استراتيجي في تقرير النظام الدولي المقبل.

بتعبير آخر، على الرغم من أن الحرب في أوكرانيا قد قادت إلى تلاحم الغرب على جانبي الأطلسي فإنها أدت في الوقت نفسه إلى توحيد مواقف الجنوب وتقوية بناءاته المؤسسية (مثال: التوسع في مجموعة البركس، ودخول الاتحاد الأفريقي في مجموعة العشرين كعضو دائم مقابل العضوية الدائمة للاتحاد الأوروبي، وعودة مجموعة الـ 77 بقوة إلى تبني مواقف الجنوب والدفاع عنها). كل ذلك يدل على أن هنالك هزة جيوسياسية قادمة ستمهد لولادة النظام الدولي المتعدد الأقطاب وبروزًا للقوى الإقليمية التي تعبر عن صوت الجنوب كفاعل رئيسي.

معنى ذلك أنه لم يعد مقبولاً التعامل مع دول الجنوب كبيادق في لعبة الشطرنج وكدول للمصادر الأولية، وباستقلال عن ثقافتها وفق منطق «التقدم» و«التخلف» الكولونيالي النزعة والتوجُّه، وتهميش المشكلات التي يعانونها، كالتنمية والفقر وتطور عدم المساواة والفجوة والتفاوت في العلاقات الدولية.

ما نلاحظه كذلك هو اختفاء مصطلح «العالم الثالث» الذي اقترن اسمه بحقبة باندونغ وعدم الانحياز، فالتحالفات القائمة حاليًا وتلك التي هي قيد التشكل بين بلدان الجنوب تضم الاقتصادات الآسيوية العملاقة وبلدان كالبرازيل والصين والهند، وهو ما يجعل مصطلح «الجنوب ذو البعد الكوني أو المعولم» (Global South) يحل محله.

من منطلق الواقعية التطورية يمكننا الإقرار بأن الأوان قد آن لكي يتخلى الغرب عن نظرته الاستشراقية لتبيان أنه هو من يصنع التاريخ ويحقق فائضه، ومهمته الرسولية هي تحقيق الانتشار والتعميم نظرًا إلى أهميته القيمية المتمركزة حول الفرد وحقوقه وحاجاته في الحياة.

بطبيعة الحال، كل تلك الفرضيات أثبتت زيفها ومعاييرها المزدوجة، وذلك لأن الانتشار والتوسع وازعه أيديولوجي وكولونيالي عنصري.

وبالإشارة إلى تصريح وزير خارجية الهند أخيرًا، ذي الدلالة العالمية، فإن على المركزية الأوروبية الغربية في هذا المقطع الفاعل في التاريخ، أن تعيد توجهات بوصلتها وأن تخرج من محدودية عقلها السياسي، وأن تنزع عنها قناعاتها بأن مشكلات الغرب هي مشكلات العالم بأسره؛ ولكن مشكلات ذلك العالم (عالم التخوم) ليست مشكلات الغرب ولا تدخل في حساباته، بل قد تمسك بخيوطها لإثارة الأزمات بما يخدم مصالحها.

ولا يخفى عن أي واحد منا كباحثين في حقول العلوم الاجتماعية، أن المركزية الأوروبية قد تم تحديها على المستوى الأكاديمي منذ عقود، ولكن التحدي الميداني الحقيقي والمباشر في مثل هذه الفرصة التاريخية هو موقف القوى الإقليمية وبلدان الجنوب من الحرب في أوكرانيا، ودخولها كقوى قصدية فاعلة (Agents) في صنع الحقبة الجديدة من التاريخ المعاصر في السياسة الدولية والعلاقات والنظام الدولي الذي يحكمها.

لا شك عندي في أن الدينامية اللاخطية، هي إحدى سمات القادم من تفاعلات القوى الدولية والإقليمية، وذلك لأن تنوع وكثافة الفاعلين وعلاقاتهم في النسق الدولي البالغ التعقُّد، يقودنا إلى الاستنتاج أن تبعات محاولة أي طرف من الفاعلين التأثير في الفاعل الآخر أو تغيير النسق قد يتزايد أو يتناقص في كثافته عبر الزمن. ولعل العامل المساعد لذلك هو وجود تغذية راجعة وتعددية في مصادر التواصل والتعبئة والحصول على المعلومات التي تجعل من السبب والتبعات والمواقف المتكيِّفة تتخذ أكثر من اتجاه لا اتجاهًا واحدًا، فنحن نتعامل مع نسق دولي مفتوح وليس مغلقًا كما تصوره نظريات العلاقات الدولية السائدة.

من جانب آخر فإن عدم القدرة على التنبؤ هو إحدى السمات الأخرى للنسق الدولي إذا نظرنا إليه كذلك من منظور التعقُّد، إذ يصعب علينا التنبؤ بالمخاطر أو الفرص التي ستبزغ والتنظيمات الذاتية التي ستتشكل من أجل المواجهة.

وفي نظري كذلك، فإن الحرب في أوكرانيا قد تسببت في تصدع هائل على طول حدود الستار الحديدي، وإن الفجوة بين الشرق والغرب عادت بقوة، وقد بدأت تلك الانقسامات الحادة تظهر بشكل جماعة (نحن) مقابل جماعة (هم) بالمعنى الثقافي بالأساس، بدلاً من الخطوط الاقتصادية أو الجيوسياسية.

قد يكون هذا الانقسام بين الشرق والغرب هو الأعمق منذ عقود، وسيظل كذلك في المستقبل المنظور. ولكن بودي أن أشير إلى أن ذلك لن يأخذ شكل «اللعبة الصفرية» كما كان الأمر عليه إبان الحرب الباردة، بل سيرضى كل طرف بما قد يحصل عليه دون المأمول أو دون ما يطمح إليه بشكل كامل (Sub-optimum)، وعليه فإن النظام العالمي قيد التشكل لن يكون في أحد أطرافه مضادًا لليبرالية (Anti-Liberal)، ولكن وفق قناعتي بمفهوم التراكم سينتج لدينا نظام ما بعد ليبرالي (Post-Liberal) في إطار التعددية القطبية وتعدد الحداثات ونسبية القيم لا كونيتها.

ولعل الصين ستعمل أكثر من غيرها على تكريس هذا التراكم، فكل الأطراف شرقًا وغربًا هذه المرة هي داخل مربع السوق، الذي يحتاج في معاملاته وتبادلاته التجارية وحرية تنقل الأصول إلى الليبرالية المتحكم فيها وليست السائبة كما كان الأمر سابقًا.

انتهى التاريخ المعاصر الذي كان متمحورًا حول المركزية الأوروبية وسيكون شكل النظام العالمي القادم من دون مركزية حاكمة كما كان الأمر عليه سابقًا، فقد انتهت حقبة السلم على الطريقة الأمريكية ولن يكون أحد من الأطراف الدولية أو الإقليمية الفاعلة في النظام الجديد قادرًا على الإتيان بنمط سلم بمركزية جديدة يقود من خلالها العالم.

فالصين، الفاعل الأساسي في توازنات النظام القادم، لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تكون أمريكا الجديدة بعد الحرب العالمية الثانية، ولن يكون هنالك مجال للحديث عن السلم على الطريقة الصينية (Pax Chinana)، فقيادة العالم تحتاج إلى امتلاك مقومات القوة الشاملة، ويبقى ذلك يمثل الاستثناء الأمريكي الذي استطاع أن يضع الأطر المؤسسية والقيمية لنظام عالمي متعدد الأطراف تم تتويجه بتأسيس منظمة الأمم المتحدة وصوغ ميثاقها وإصدار شرعة حقوق الإنسان، ووضع الأسس لنظام نقدي وإنمائي قائم على حرية السوق، إذ أطرته اتفاقية بريتون وود بقيام صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، وفي مرحلة لاحقة منظمة التجارة العالمية.

بوجه عام، وفي إطار الخطوط العريضة، ستشهد مرحلة الانتقال (Transition) من قيادة أحادية الطرف إلى قيادة متعددة الأطراف حقبة من حالة ما أسميه اللانظام الدولي تتميز بالفوضى وعدم الاستقرار وبروز النزاعات البازغة بهدف حجز المواقع في لعبة الكراسي، يصحبها احتمالات للتصدع واختلاف المواقف وأشكال المواجهة داخل المعسكر الغربي أو المعسكر المقابل. تتجلى النزاعات كذلك في محاولات الحد من مقومات القوة الشاملة للدولة التي ظلت تقود النظام العالمي لعقود، والطعن في ازدواجية قيمها واستراتيجياتها التي تسعى إلى الهيمنة، وتقديم بدائل في شأن نسبية القيم، كما هو الشأن مع المبادرة الصينية تحت عنوان «مبادرة الجنوب المعولمة» التي تستكمل مبادرتين أخريين في الاتجاه نفسه، إحداهما أمنية/سياسية تدعى «المبادرة الكونية الأمنية» والثانية اقتصادية تحت عنوان «المبادرة الكونية الأنمائية». ما يجمع المبادرات الثلاث هو الفكر ما بعد الكولونيالي، أي الوقوف ضد المعايير المزدوجة للغرب في ترويجه للحقوق والنماذج الكونية، والعمل على تقويض المرتكزات الأساسية للنظام العالمي بعد الحرب العالمية الثانية، وبالأخص بعد انتهاء الحرب الباردة.

في السياق نفسه، ستشتد المواقف حول المؤسسات المتعددة الأطراف، ومحاولة تعديل مراكز القرار فيها لمصلحة بلدان الجنوب، وستتفاقم الإجراءات للحد من هيمنة الدولار وبروز وحدات نقدية جديدة وإنشاء وتقوية المؤسسات الموازية لنظام  بريتون وود.

والأخطر من هذا، هو السباق المحموم في التشبيك والتوسع المعولم وإقامة التحالفات مقابل التوسع والتحالفات المضادة. وفي مجال التسلح يسعى كل طرف إلى تحقيق السبق التكنولوجي المتطور في البر والبحر والجو، مصحوبة بحرب المعلومات واستخدام الذكاء الاصطناعي. وعلى الساحة التجارية، ستتفاقم الحروب والنزاعات للتحكم والسيطرة على قنوات التزويد وتعديل مساراتها ومسارات سلاسل القيمة في الإنتاج على المستوى الدولي.

وستأخذ حالة اللانظام الدولي هذه، البالغة التعقد وذات الاتجاه اللاخطي في تفاعلاتها، ردحاً طويلاً من الزمن، وحتى الوصول إلى مرحلة التحوُّل (Transformation) في إرساء تعددية الأقطاب والوصول، ضمناً أو صراحة، إلى عهد جديد (New Deal) ، وذلك ليس في القريب المنظور، أو قد يحتاج إلى هزة جيوستراتيجية أكثر تأثيراً.

كتب ذات صلة:

تفكيك الرأسمالية: بحث في تقويض المشترك البيئي الإنساني

نقد الثقافة الغربية: في الإستشراق والمركزية الأوروبية