تتعاظم على نحوٍ متواصل حالات الضياع العربي والنزاعات فيما بين الكيانات العربية كما تمّ ترسيمها وتحديد حدودها في اتفاق سايكس – بيكو، أي اتفاق القوى الاستعمارية الرئيسية فيما بينها. أضف إلى ذلك العملَ المتواصلَ من جانب كل من بريطانيا وفرنسا لتفتيت المنطقة العربية التي كانت تعيش سابقًا في كيان واحد ضمن السلطة العثمانية. وقد كانت فلسطين جزءًا لا يتجزأ من هذا الكيان، كما كانت المنطقة العربية تكوّن سوقًا اقتصادية واحدة، فلا جمارك ولا حدود بين مختلف الأقطار.

وفي فلسطين بالذات كان يتعايش ويتداخل كل سكانها من أي دين كانوا، كما كانت الحال منذ آلاف السنين.

غير أن المشاريع الاستعمارية الطابع على يد كل من بريطانيا وفرنسا بدأت تظهر خلال الجزء الثاني من القرن التاسع عشر، وبوجه خاص في بلاد الشام، حيث انفجرت بين عامي 1840 و1860 فتنة فتّاكة بين الدروز والموارنة نتيجة الهجمة الاستعمارية المزدوجة البريطانية – الفرنسية على جبل لبنان. وقد تحالفت بريطانيا مع القيادات الدرزية وفرنسا مع القيادات المارونية، الأمر الذي أدى الى إقامة نظام القائمقاميتين؛ أي واحدة درزية وأخرى مارونية خلال الحقبة 1845 – 1860. وقد فشل هذا النظام في إعادة السلام إلى منطقة الشوف.

وفي عام 1860 أنزلت البحرية الفرنسية قوات على الشاطئ اللبناني لإثبات وجودها كقوى استعمارية، في حين كانت السلطنة العثمانية تسعى لإعادة الهدوء في هذه المنطقة. والحقيقة أن لبنان الحديث قد نشأ من جرّاء الصدام بين القوتين الاستعماريتين، بحيث أصبح «دولة حاجز» بين الأطماع الفرنسية والبريطانية. وقد هدأت الحالة عندما توسعت الهجمة الاستعمارية لتصبح متعددة الأطراف بين الدول الخمس الأوروبية الاستعمارية؛ أي كل من فرنسا وإنكلترا وبروسيا وإيطاليا والنمسا، وأنتجت نظام المتصرفية الذي أمّن للبنان أكثر من نصف قرن من الهدوء والسلام، وبخاصة أن الدول الأوروبية المذكورة اتفقت مع السلطنة العثمانية على إنشاء هذا النظام. وقد تمادت فيما بعد الدولة الفرنسية خلال عهد الانتداب في تأسيس الطوائف اللبنانية كأساس الحياة العامة والخاصة في لبنان. وجعل المندوب السامي الفرنسي في عام 1936 من الطوائف اللبنانية المستحدثة أساس الحياة السياسية والفردية بقرار شهير لا يزال إلى اليوم أهم من الدستور اللبناني.

نذكر هذه التطورات التاريخية لكي نؤكد أن السياسة الاستعمارية الطابع لم تتغير في المنطقة منذ القرن التاسع عشر، وأن الولايات المتحدة خلال العقود الأخيرة قد عملت على أساس خلق شرق أوسط جديد منظم على أساس الهويات الطائفية للمجموعات البشرية كما فعلت في العراق على سبيل المثال بعد غزوها العسكري لهذا البلد، وكما كانت تنوي أن تفعل في سورية.

ولا بدّ من التذكير بما قامت به الولايات المتحدة عند احتلالها العراق عام 2003 من دستور مبني على إثارة العصبيات الطائفية الطابع وأدت إلى شلل الدولة المركزية؛ هذا من دون نسيان الحظر الاقتصادي الذي عاناه الشعب العراقي خلال سنوات طويلة. ومن يقرأ الأدبيات الصهيونية والأمريكية يعِ الرغبةَ القوية للولايات المتحدة والكيان الصهيوني في تفتيت المنطقة إلى كيانات هزيلة تتمكن من خلالها الأولى من أن تسيطر على المنطقة بكل سهولة. فلنتذكر ما قالته وزيرة خارجية الولايات المتحدة كونداليزا رايس عام 2006 بأن الحرب بين حزب الله والكيان الصهيوني هي مخاض لنشوء شرق أوسط جديد.

إن سياسة تفتيت الكيانات العربية الحديثة وإضعافها هي التي تسود المنطقة العربية خدمة للمصالح الأمريكية والصهيونية، وهنالك الكثير من الكتابات الإسرائيلية التي تدعو جهارًا إلى تفتيت المنطقة العربية على أساس كيانات طائفية الطابع، وهذه كانت أيضًا سياسة فرنسا في سورية خلال عهد الانتداب، إنما لم يرضخ الشعب السوري للرغبة الفرنسية ودفع ثمنًا غاليًا. لكن يجب أن نذكر كيف لم تتردد فرنسا عام 1939، وهي كانت تقدم نفسها كحامية المسيحية في الشرق، في تسليم الجمهورية التركية لواء الإسكندرونة ومدينة إنطاكيا مهد المسيحية والكنائس الأولى.

أما اليوم فإن المشهد العربي هو مؤسف جدًا، إذ يرى بعض القادة العرب أن التقارب من الكيان الصهيوني قد يجنبهم سطوته وقدرته في زعزعة استقرارهم، وهذا أيضًا متفرع من سياسة التقرُّب من الولايات المتحدة وإرضاءً لها. ولكن في العالم الذي نعيشه فإن العودة إلى ميثاق الجامعة العربية والعودة إلى الانسجام والتوافق فيما بين العرب هما بلا شك أكبر ضمانة للاستقرار السياسي. وعلى أي حال يجب أن نحيّي هنا نضال الشعب الفلسطيني المتعدد الوجوه ضد النظام العنصري الصهيوني الذي لا بدّ من أن يزول يومًا ما، كما زال مثل هذا النظام في الجزائر التي قامت فرنسا بغزو أراضيها في القرن التاسع عشر، وكما زال نظام التفرقة العنصرية في جنوب أفريقيا بفضل المواقف الجريئة للزعيم الراحل نلسون مانديلّا الذي زُجّ في السجن سنوات طويلة.

 

قد يهمكم أيضاً  «الهوية المتخيلة» للدولة العربية وتحديات الانتماءات الفرعية

#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #القومية_العربية #الضياع_العربي #الهوية_العربية #المطامع_الغربية #الحروب_في_العالم_العربي #الوحدة_العربية #تفتيت_المنطقة_العربية #حال_الأمة_العربية #الاحتلال #المشاريع_الاستعمارية