مقدمة

مع هزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الثانية، قرّر الحلفاء اقتطاع جزءٍ من الأراضي الألمانية من أجل إقامة وطنٍ قومي لليهود الناجين من المحرقة النازية. بعدها بثلاث سنوات، تحديدًا في 14 مايو/أيار عام 1948، تم الإعلان عن ولادة “الدولة اليهودية” على أراضي ولاية ساكسونيا في شرق ألمانيا وعاصمتها مدينة درسدن. كان هذا الإعلان ثمرة جهود المفكّر والناشط السياسي اليهودي-الألماني ليوبولد شتاين، الذي نجح في انتزاع موافقة زعماء دول الحلفاء الثلاثة الكبار (جوزيف ستالين، فرانكلين روزفلت، وونستون تشرشل) على مشروع “الدولة اليهودية” أثناء اجتماعهم في مؤتمر يالطة الشهير في فبراير/شباط عام 1945، كما نجح في إقناع يهود أوروبا بأن حلم إقامة وطنٍ قومي لهم ما زال ممكنًا رغم فشل محاولاتٍ سابقة في فلسطين وأوغندة وبيروبيجان (في شرق روسيا).

هذه السردية التاريخية، التخيلية بالطبع، هي الأساس الذي تبني عليه الكاتبة الأمريكية سيمون زيليتش روايتها الدولة اليهودية الصادرة عن دار تور في نيويورك عام 2016. تُصنّف رواية الدولة اليهودية في خانة “التاريخ البديل”، وهو جنسٌ أدبي تدور أحداث أعماله في عالمٍ اتخذت فيه واقعةٌ تاريخيةٌ ما مسارًا مختلفًا عما آلت إليه على أرض الواقع. الواقعة التاريخية البديلة في رواية زيليتش هي إقامة دولة يهودية على الأراضي الألمانية بدلًا من فلسطين. رغم أن الرواية باللغة الإنكليزية إلا أن عنوانها والاسم المستخدم للإشارة إلى الدولة اليهودية فيها هو كلمة Judenstaat (يودينشتات) باللغة الألمانية، وهو العنوان الأصلي لكتاب الدولة اليهودية، الذي نظّر فيه ثيودور هرتزل – الأب الروحي للحركة الصهيونية – لمشروع إقامة دولة يهودية في فلسطين.

يمثّل هذا التاريخ البديل خلفية لحبكة الرواية الرئيسية، وهي قصة إثارة تتمحور حول موظّفة في أرشيف المتحف الوطني في مدينة درسدن تدعى يوديت كليمر، أُوكل إليها مهمة إخراج فيلمٍ وثائقي بمناسبة احتفالية “الدولة اليهودية” بالذكرى الأربعين لتأسيسها والتي تحلّ في عام 1988. ولكن أثناء عملها في غرفة الأرشيف، تتلقى رسالةً مجهولة المصدر تزعم بأن السلطات الحكومية كذبت عليها بشأن جريمة قتل زوجها قبل أربع سنوات. رغم أن يوديت يهودية نجا والداها من المحرقة النازية، إلا أنها تزوجت رجلًا يدعى هانز كليمر ينتمي إلى الأقلية الألمانية-الساكسونية التي بقيت في موطنها بعد تأسيس “الدولة اليهودية”. ارتقى هانز ليصبح قائد الأوركسترا الوطنية في “الدولة اليهودية” رغم الاعتراضات المتوقعة على ذلك، قبل أن يقضي نحبه برصاصة قنّاص نازي (بحسب الرواية الرسمية) أثناء قيادته لعرضٍ موسيقي في دار الأوبرا في درسدن. هذه الرسالة تقود يوديت إلى رحلة بحثٍ مضنية تكشف من خلالها حقائق مخفية ليس فقط عن جريمة قتل هانز، بل عن تاريخ “الدولة اليهودية” ذاتها وهويتها القومية.

سأقتصر في هذه المقالة على عرض الجوانب التاريخية للدولة اليهودية المتخيلة ومناقشة أبعادها السياسية من دون تناول الحبكة الأدبية الرئيسية في الرواية. فما اجتذبني أنا شخصيًا إلى رواية الدولة اليهودية هو السؤال الافتراضي الذي تطرحه زيليتش في مقدّمتها: “ماذا لو أقيمت دولة يهودية في ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية؟” والذي يمثّل تجربة ذهنية مثيرة على المستوى السياسي والفكري والثقافي. فضلًا عن ذلك، لا أريد إفساد الرواية لقرّائها المحتملين من خلال الكشف عن تفاصيل حبكتها الأدبية. بعد مناقشة المسار التاريخي للدولة اليهودية وإسقاطاته على أرض الواقع، سأطرح سؤالًا افتراضيًا آخر: كيف كان سيكون النقاش في الإعلام الألماني حول معاداة السامية وعلاقتها بالمهاجرين العرب لو كانت هناك دولة يهودية على الأراضي الألمانية؟ أخيرًا سأعرض باختصار أهمية التاريخ البديل كوسيلة أدبية تساعد على الوصول إلى فهمٍ أعمق لواقعنا الحالي.

أولًا: لمحة تاريخية عن “الدولة اليهودية”

على الرغم من أن “الدولة اليهودية” أُسّست لتكون دولة حيادية بين المعسكرين الشرقي والغربي، إلا أنها خضعت لسيطرة الاتحاد السوفياتي بعد قيامها بوقتً قصير، حيث فرض عليها نظامًا سياسيًا شموليًا بقيادة حركة البوند الاشتراكية[1]، تسهر على حماية هذا النظام وكالة أمن الدولة “شتازي” التي تمارس رقابة شديدة على حياة مواطني “الدولة اليهودية” كما تفعل نظيراتها من أجهزة المخابرات في بقية دول المعسكر الشرقي. بذلك تكون “الدولة اليهودية” المتخيلة في الرواية هجينًا بين دولتي إسرائيل وألمانيا الشرقية على أرض الواقع. بلغت الهيمنة السوفياتية ذروتها عام 1968، عندما شاركت قوات دفاع الدولة اليهودية JDF في قمع ثورة ربيع براغ في تشيكوسلوفاكيا المجاورة، مما أثار احتجاجاتٍ جماهيرية غاضبة في “الدولة اليهودية” قادها طلّاب الجامعات والمثقفون وعمال المناجم، قبل أن يقضي “الشتازي” على هذه الحركة الاحتجاجية ويعتقل قادتها بتهمة الأممية وعدم الولاء للدولة اليهودية.

ولكن في العقدين التاليين قامت “الدولة اليهودية” بتغيير توجّهها السياسي والأيديولوجي، حيث تحولت تدريجيًا نحو اقتصاد السوق وانفتحت على الدول الغربية، وبخاصة ألمانيا، لتصبح بحلول الثمانينيات من القرن الماضي مركزًا تجاريًا وماليًا مهمًا في المنطقة. توّج هذا التوجه الجديد أثناء احتفالات “الدولة اليهودية” بالذكرى الأربعين لقيامها بحملة إعلامية وثقافية تعيد كتابة تاريخ علاقتها مع الاتحاد السوفياتي. فبعد أن كان السوفيات محرّرين من النازية أصبحوا قوة قمعية اضطهدت اليهود والأقلية الساكسونية-الألمانية على حدٍّ سواء.

1- المسألة الساكسونية

كما حال جميع الدول القومية، فإن هوية “الدولة اليهودية” هي في الآن ذاته اللبنة التي بُنيت عليها والإسفين الذي يفرّق بين مكوناتها الاجتماعية والثقافية. تم تأسيس “الدولة اليهودية” بناءً على أربعة أركانٍ رئيسية: يهودية عرقيًا، ألمانية لغويًا، ساكسونية أرضًا، وعلمانية دينيًا. ولكن كل من هذه الأركان الأربعة يطرح إشكالياته وتعقيداته الخاصة.

فقد أدّت الهوية العرقية اليهودية إلى الاضطهاد المُمنهج للأقلية الساكسونية وشعورها بعدم الانتماء إلى الدولة اليهودية، مما خلق قضية سياسية وفكرية شائكة عُرفت باسم “المسألة الساكسونية”[2]. بحسب المنظور الرسمي للدولة اليهودية فإن “الهوية الساكسونية” أسطورة مفبركة، الغاية منها تقويض حقوق اليهود في ساكسونيا. وقد عبّر المؤرخ برونو ويبر عن ذلك بمقولته “الجميع يعرف من هو الألماني، ولكن لا أحد يعرف من هو الساكسوني”. يعكس هذا التأكيد في عالم الرواية التخيلي على ألمانية الساكسونيين مع رفض الاعتراف بأي هوية وطنية خاصة بهم الإصرار الصهيوني في العالم الواقعي على عروبة الفلسطينيين مع إنكار أي هوية وطنية فلسطينية. فالفلسطينيون عرب يستطيعون، بل عليهم الالتحاق بأشقائهم في الدول العربية، وترك “أرض إسرائيل” للشعب اليهودي صاحب الحقّ الحصري المزعوم فيها.

بين عامَي 1953 و1956 شنّ “الفاشيون” الساكسونيون سلسلة من أعمال العنف ضد “الدولة اليهودية” انطلاقًا من مرتفعات سويسرا الساكسونية[3]، إلا أن جهاز “أمن الدولة” نجح في وقفها. إثر ذلك تم بناء جدارٍ عازلٍ على الحدود مع ألمانيا بذريعة منع تهريب الأسلحة إلى المنظمات الساكسونية “الإرهابية”، ولكن مع انفتاح الدولة اليهودية على الغرب وتطهير نفسها بصورة رجعية من الإرث السوفياتي في ثمانينيات القرن الماضي، تم إعادة كتابة تاريخ هذه الحملة “الإرهابية-الفاشية” الساكسونية وتحويلها إلى انتفاضة مقاومة ضد الاحتلال السوفياتي.

2- المسألة اللغوية-الأيديولوجية

الإشكاليتان اللتان تطرحهما الهويتان العلمانية واللغوية-الألمانية للدولة اليهودية متداخلتان إلى حدٍّ كبير. فاليهود الأرثوذوكس في “الدولة اليهودية” يرفضون أيديولوجيا البوند العلمانية بشدّة ويمتنعون عن التعامل مع مؤسسات الدولة الرسمية بما فيها القضاء والشرطة والتعليم. لذلك فهم يعيشون في عزلة تامة عن بقية المجتمع في مدن وتجمعات سكنية خاصة بهم يحافظون فيها على طقوسهم الدينية وعاداتهم الاجتماعية المحافظة، كما يتمتعون بتمويلٍ سخي من الولايات المتحدة الأمريكية. تتمسك هذه الشريحة المتدينة، والتي يشير إليها اليهود العلمانيون ازدراءً بـ “القبّعات السود”، باللغة اليديشية[4] لكي تحافظ على تميزها عن الأغلبية اليهودية العلمانية ذات الثقافة الألمانية.

من جهةٍ أخرى، هناك شريحة أخرى في المجتمع اليهودي، من قلب الأوساط العلمانية، تمسّكت باللغة اليديشية لاعتباراتٍ مختلفة تمامًا عن نظيرتها المتدينة، منها نزعتها الأممية الرافضة للولاءات القومية الضيقة، وتعلّقها بأيديولوجيا البوند الأصلية قبل أن يحقنها شتاين بنفحة قومية-ألمانية. فعلى خلاف اللغة الألمانية التي ارتبطت بقومية معينة ورقعة أرضٍ محدّدة، كانت اللغة اليديشية لغة يتكلمها يهود أوروبا أينما ارتحلوا، فاخترقت الحدود الجغرافية والقومية، الأمر الذي جعل متحدّثيها محلّ شكوك القوميين من شتّى المشارب الذين اتهموهم بعدم الولاء للدول التي يعيشون فيها.

أكثر من مثّل هذا التوجّه الأممي-اليديشي في “الدولة اليهودية” هو ستيفان فايس، رفيق ليوبولد شتاين في مشروع تأسيسها. فايس أصدر بيانًا مكتوبًا باللغة اليديشية يجادل فيه بأن اليهود هم “نقيض القومية” وذلك لثلاثة أسباب: أولًا، التحريم التوراتي على عبادة الأصنام يمنع اليهود من الانحناء أمام أي علمٍ أو عرش؛ ثانيًا، اليهود بطبيعتهم رحّل عابرون للحدود؛ ثالثًا، اليهود يحتفظون بذاكرتهم، في حين أن الدول القومية مجتمعات متخيلة قائمة على محو الماضي واستبداله بأسطورة الأمة الموحدة العابرة للتاريخ. يضيف فايس سببًا رابعًا لرفض القومية بتأكيده أنه لا معنى للقومية في عصر الحرب الباردة، فدول العالم من الناحية العملية ليست أكثر من مستعمراتٍ تتقاسمهما الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي. الحلّ الوحيد لمعضلة التبعية في الحرب الباردة، حسب البيان، هو التبعية المزدوجة، حيث يخدم اليهود مصالح رأس المال الأمريكي والأمن السوفياتي في الآن ذاته. لا يخفي فايس أن في ذلك انتهازية صريحة ستجلب المزيد من شيطنة اليهود، ولكن ماذا يتوقع العالم من الناجين من أعظم إبادة جماعية في التاريخ؟

بالطبع لم تتوافق نزعة فايس الأممية-اليديشية مع مشروع شتاين لتأسيس دولة قومية تقليدية لليهود قائمة على أساس وحدة اللغة (الألمانية) والتجذّر التاريخي في رقعة أرض محددة (ساكسونيا)، والذي عبّر عنه في لحظة تاريخية عندما وقف أمام حطام كنيس مدينة درسدن المدمّر بعد تحريرها من النازيين معلنًا أن “ألمانيا يهودية في الصميم”، وأن اليهود إن أرادوا وطنًا قوميًا “فهو موجود تحت أقدامهم”. تطوّر هذا الاختلاف الأيديولوجي بين قطبَي “الدولة اليهودية” إلى صراعٍ سياسي مفتوح انتهى بفرار فايس عام 1951 خارج البلاد ومحاكمته غيابيًا بتهمة العمالة للاستخبارات الأمريكية. حظرت سلطات الدولة اليهودية إثر ذلك الصحف اليديشية تدريجيًا، وبحلول منتصف الستينيات تم حظر آخر مجلّة ناطقة باللغة اليديشية وهي دورية  دراسات في اللغة الأم.

مع انتصار مشروع شتاين القومي، بذلت الدولة اليهودية جهودًا كبيرة على المستوى الثقافي لإثبات حقوق اليهود في ألمانيا، خصوصًا في مجال علم الآثار. فقد أقام المتحف الوطني في درسدن على سبيل المثال معرضًا تحت عنوان “العصر الذهبي لأشكيناز”، يعرض آثار تثبت الوجود اليهودي في ألمانيا على مدى أكثر من ألف عام: منذ عصر ملك الفرنجة شارلمان وحتى الوقت الحاضر[5]. يعكس هذا الاهتمام الخاص بعلم الآثار في “الدولة اليهودية” وبتجذير وجودها في ساكسونيا الاهتمام الإسرائيلي بعلم الآثار، حيث عادةً ما تحظى الاكتشافات الأثرية التي تعود للعصر التوراتي بتغطية واسعة في الصحف الإسرائيلية.

ثانيًا: بين أيديولوجيا الدولة اليهودية المتخيلة وأيديولوجيا الدولة اليهودية القائمة

من السهل بمكان رؤية التقاطعات بين تاريخ الرواية الخيالي وتاريخ إسرائيل الواقعي، خصوصًا على المستوى الثقافي والأيديولوجي. فالانقسام اليديشي-الألماني في الرواية يعكس الانقسام اليديشي-العبري في بدايات الحركة الصهيونية والذي يستمر في إسرائيل حتى اليوم. فقد أصرّ زعماء الحركة الصهيونية الأوائل على إعادة إحياء اللغة العبرية كلغة قومية لليهود على حساب اليديشية، التي حاربوها بشدّة بسبب ارتباطها بالنزعات الأممية لدى أنصار البوند، الذين رفضوا فكرة وطنٍ قومي خاص باليهود، مطالبين بدلًا من ذلك بقيام مجتمع اشتراكي أوروبي-شرقي يتجاوز العصبيات القومية ويحافظ على الخصوصية اليهودية الثقافية في الآن ذاته. من جهةٍ أخرى، يرفض الكثير من اليهود الأشكيناز المتدينين في إسرائيل وحول العالم التخلّي عن اليديشية كلغة يستخدمونها في الحياة اليومية لصالح العبرية، التي يعدّونها لغة مقدّسة لا يجوز استخدامها خارج الأطر الدينية.

لا تأتي الرواية على ذكر الحركة الصهيونية صراحةً، سواءٌ كحركة منظمة أو كأيديولوجيا سياسية. إلا أنه من الواضح أن قومية ليوبولد شتاين الافتراضية مرآة للقومية الصهيونية وإن اختلفتا في عنصرَي اللغة والأرض، كما تبدو شخصيته مزيجًا بين شخصيتي هرتزل (المؤسّس النظري والأدبي للدولة الصهيونية) وديفيد بن غوريون (المؤسّس الفعلي لها). تتضمّن الرواية إشارة مقتضبة إلى تجربة استيطانية يهودية فاشلة على أرض فلسطين، فإحدى شخصيات الرواية البارزة، وهي مؤرّخة مرموقة في جامعة لايبتزغ تدعى آنا ليمان، قامت بنشر دراسة مطوّلة عن “مستوطنة روتشيلد” في فلسطين، والتي تحاجج فيها بأن فشلها لا يعود بصورةٍ رئيسية للوعود التي قطعتها بريطانيا للعرب أو للثورة الروسية كما يعتقد معظم المؤرخين، بل لـ “عقيدة الخلاص المسيانية” التي شابت التجربة منذ بدايتها، والتي ربطتها بالنبوءة التوراتية بعودة اليهود إلى أرض الميعاد. خلا هذه الإشارة المبهمة شديدة الاختصار، لا تستفيض المؤرخة ليمان للأسف في شرح العلاقة بين عقيدة الخلاص هذه وفشل التجربة الاستيطانية اليهودية في فلسطين، والتي تحمل على الأرجح إسقاطًا ضمنيًا على مستقبل دولة إسرائيل وفرص بقائها كدولة قومية-يهودية.

ثالثًا: الحاضر الواقع من منظور الماضي المتخيل

1- القضية الفلسطينية

من السهل أن يتوقع المرء قبل قراءة الدولة اليهودية أنها معنية بصورةٍ رئيسية بالقضية الفلسطينية والظلم التاريخي الذي وقع على الفلسطينيين. ولكن، في الحقيقة، لا تأخذ “المسألة الساكسونية” (وهي أكثر جوانب الرواية رمزية في هذا الشأن) حيزًا كبيرًا منها بالمقارنة مثلًا مع الصراعات الأيديولوجية والثقافية داخل “الدولة اليهودية” (بين المتدينين والعلمانيين، بين القوميين والأمميين، بين اليديشية والألمانية)، والتي تعكس صراعاتٍ على أرض الواقع داخل المجتمع الإسرائيلي. ربما كان هذا خيارًا أدبيًا حكيمًا من جانب الكاتبة، فالصراع الفلسطيني-الإسرائيلي شديد الاستقطاب ويكاد يكون من المستحيل الحديث عنه في سياقٍ غربي من دون إثارة سجالاتٍ فكريةٍ انفعالية. بوجهٍ عام نجحت الكاتبة أن تبقي نصّ روايتها بعيدًا من الوعظ السياسي سواءٌ في ما يتعلق بالعلاقة بين الصهيونية والفلسطينية، أو علاقة الصهيونية باليهودية.

ولكن مع ذلك، يبقى المشروع الصهيوني (وبصورة غير مباشرة آثاره على الفلسطينيين) هاجسًا رئيسيًا في الرواية رغم غيابه بالاسم. فمن خلال تخيّل دولة يهودية بديلة في ألمانيا تنزع الرواية عن الدولة اليهودية على أرض فلسطين حتميتها التاريخية المزعومة (المستمدة من الميثولوجيا التوراتية) بوصفها “عودة اليهود” لوطنهم الأصلي، أو أي نسخة مُعلْمَنة من هذا المخيال التاريخي، كالفكرة القائلة أنّه إن كان أن يكون لليهود وطنٌ قومي (نتيجةً لمعاداة السامية مثلًا) فالخيار الطبيعي أو المنطقي أن يكون في فلسطين. الرواية تظهر أنه لو شاءت الظروف التاريخية (وعلى رأسها إرادة الدول العظمى) إقامة دولة يهودية على ألمانيا لتلقّت القدر نفسه من التأسيس الأيديولوجي والثقافي والتاريخي. فمن الممكن صوغة أسطورة تاريخية تؤسّس لدولة يهودية في ألمانيا لا تقلّ متانةً وقوةً عن الأسطورة المؤسسة لدولة إسرائيل. بعبارة أخرى، تظهر الرواية، كما تصرّح بذلك الكاتبة في مقدّمتها، أنه لا يوجد حلّ وحيد للمسألة اليهودية، أي أن إسرائيل ليست “الحلّ” المنطقي أو الوحيد لعقدة معاداة السامية.

2- الجدل حول معاداة السامية والهجرة في ألمانيا

تطرح الرواية أيضًا حلًا بديلًا للعلاقة التاريخية الشائكة بين الألمان واليهود. هذا “الحل” للمسألة اليهودية يتناقض بالطبع مع العقيدة السياسية الرسمية في الجمهورية الألمانية في العالم الواقعي، والتي تصف وجود دولة يهودية على أرض فلسطين تعويضًا عن ذنب الألمان التاريخي تجاه اليهود، وتعدّ حمايتها ركنًا أساسيًا للمصلحة القومية الألمانية، كما صرّحت بذلك مرارًا المستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل. إلى جانب ذلك، يتناقض هذا الحلّ مع جهود المؤسسات السياسية والصحافية والثقافية في ألمانيا لإلصاق تهمة معاداة السامية على أي نقدٍ جاد للصهيونية أو أي وصفٍ لسياسات إسرائيل تجاه الفلسطينيين بأنها اضطهادٌ ممنهج.

ولكن إذا افترضنا كما في الرواية وجود دولة يهودية على أراضي ولاية ساكسونيا الألمانية، كيف كان سيكون النقاش في الإعلام الألماني حول معاداة السامية “المستوردة” (أي “المستوردة” من الشرق الأوسط بحسب زعم الكثير من المعلّقين الألمان)؟ الإجابة عن هذا السؤال تحتاج إلى مقالة مستقلّة، لذلك سأكتفي هنا ببضع عباراتٍ مقتضبة: اليهودية لم تعد في ألمانيا “الآخر” الذي اتّخذته العصبية القومية الألمانية-العرقية غريمًا لها، وسعت – في شكلها النازي – لإبادته بالمعنى الحرفي للكلمة. “الآخر” بحسب القومية الألمانية في شكلها الحالي هو المهاجر (تحديدًا اللاجئ) العربي أو المسلم. كون هذا اللاجئ غالبًا ما يحمل مشاعر قوية ضد إسرائيل (قد تختلط أو لا تختلط بمعاداة السامية)، يقوم الكثير من التيارات السياسية الألمانية بتوظيف الذنب التاريخي الألماني تجاه اليهود من أجل شنّ حملات تحمل قدرًا كبيرًا من العنصرية ليس ضد العرب والمسلمين في ألمانيا فحسب، بل ضد مجمل الأقلّيات العرقية غير الأوروبية، تحت غطاء محاربة معاداة السامية. لو كانت هناك دولة يهودية على الأراضي الألمانية، أكاد أجزم بأن أغلب هذه التيارات ستنكص إلى جذورها التاريخية وتوجه سهامها نحو اليهود واليهودية بدلًا من المهاجرين العرب والمسلمين.

لذلك سيكون من المثير جدًا التعرّف إلى ردود الفعل الألمانية على هذه الرواية. لكن، وبشكلٍ مثيرٍ للاستغراب، هناك صمت مطبق حولها في الفضاء الرقمي الناطق باللغة الألمانية. فلم أعثر من خلال محرّكات البحث على أي إشارة لهذه الرواية في أي وسيلة إعلامية أو فكرية ألمانية. لا أستطيع الحكم إن كان جهلًا بريئًا أم تجاهلًا مقصودًا، ولكن في حال التعرّض لروايتها في الإعلام الألماني، فليس من المستبعد أن تصيب كاتبة الرواية اتهاماتٍ بمعاداة السامية، رغم كونها يهودية ورغم ابتعادها في الرواية عن أي نقدٍ صريحٍ لإسرائيل أو الصهيونية. وهذا لن يكون أمرًا غريبًا بالمناسبة، فاتّهام اليهود المتعاطفين مع القضية الفلسطينية بمعاداة السامية أو بأنهم ليسوا “يهودًا جيدين” بات من نافل الأمور في وسائل الإعلام الألمانية.

كلمة أخيرة

ليست زيليتش أول من يطرح في نطاقٍ أدبي/فني فكرة دولة يهودية بديلة أو ثانية في أوروبا أو أمريكا (رعاة مشروع دولة إسرائيل التاريخيين). الكاتب الأمريكي مايكل تشابون في روايته نقابة رجال الشرطة اليديشية (2007) يتخيل انهيار إسرائيل في حرب عام 1948 وإقامة مستوطنة يهودية في ألاسكا بدلًا منها. كما قدّم الفنان الإسرائيلي رونين أيدلمان عام 2008 مشروعًا فنيًا تحت عنوان مدينة فايمار، وهو عبارة عن “حركة سياسية” مفترضة لتأسيس دولة يهودية ثانية في ولاية تورينغين الألمانية (المجاورة لساكسونيا)، يحاول من خلاله تحدّي كل من “معاداة” و”محاباة السامية” في ألمانيا (المبالغة في حبّ اليهود وإسرائيل).

ربما يستشعر القارئ العربي لذّةً في قراءة الأعمال الأدبية التي تطرح فكرة دولة يهودية بعيدة من أرض فلسطين، بوصفها تعويضًا نفسيًا (فانتازيا) عن ظلمٍ تاريخي وقع على الشعب الفلسطيني والشعوب العربية المجاورة. من جهة أخرى، قد يتساءل عن الفائدة من التبحّر في أعمالٍ أدبية لا تقدّم ولا تؤخّر على أرض الواقع، بل وقد يرى الانغماس فيها نوعًا من اللهو الفكري عديم النفع. ولكن علينا أن نتذكّر أن كلّ مشروعٍ قومي ينشأ في عالم الخيال قبل أن يتجسّد دولةً قائمةً على أرض الواقع. فإسرائيل ولدت في عالم الأدب أولًا، تحديدًا في رواية ثيودور هرتزل الأرض الجديدة-القديمة (1902). ولكن هل يعني هذا بأن نهاية أيّ مشروع قومي تبدأ من عالم الأدب أيضًا؟

بخلاف رواية الأرض الجديدة-القديمة، والتي تدور أحداثها في المستقبل الممكن (قياسًا على زمن هرتزل)، تدور أحداث رواية الدولة اليهودية لسيمون زيليتش في “ماضٍ غير حقيقي” (إن جاز استعارة هذا التعبير النحوي)، وبالتالي فهي لا تطرح مشروعًا سياسيًا مستقبليًا على أي حال. ولكن هذا لا يقلّل من أهمية الرواية الفكرية، من حيث إنها تعطي للقارئ (الغربي تحديدًا) فسحةً فكريةً يتخيل من خلالها حلًا آخر للمسألة اليهودية؛ حلًا يكون على حساب الإنسان الغربي الأبيض، وليس على حساب الشعوب العربية (بما فيها المجتمعات اليهودية العربية التي اندثرت في إثر قيام دولة إسرائيل)؛ حلًا يتخيل فيه الحرب والمعاناة والتهجير داخل حدوده الجغرافية، وليس على أرضٍ بعيدة، علّه يدرك المعاناة الحقيقية للشعب الفلسطيني. وعلى رأي الكاتبة في مقدمة روايتها: “كل الدول خيالية” ولكن “المعاناة حقيقية”.