أدّت القوات العسكرية أدواراً حاسمة في معظم التغيرات السياسية الكبرى لعدد كبير من البلدان في جميع أنحاء العالم، فقد حصلت عدة دول على استقلالها من خلال الكفاح المسلح، كما حددت الحروب الأهلية مجرى التاريخ في بلدان أخرى، وأدت حروب دولية إلى كسب أراضٍ أو خسارتها، وإلى المحافظة على السيادة أو فقدانها. وعلى الرغم من انتهاء القتال، واصلَ القادة العسكريون والوحدات التابعة لهم ممارسة السلطة في الحياة السياسية.

وبحسب براين لوفمان «في عام 1979، كان أكثر من ثلثي شعوب أمريكا اللاتينية يعيشون تحت الحكم العسكري»[1]، وخلال تلك الفترة، كانت جيوش غواتيمالا والسلفادور والأرجنتين وحدها مسؤولة بصورة جماعية عن نحو 300,000 حالة وفاة واختفاء[2]. إلا أنه بحلول عام 1993، «لم يبق هناك نظام عسكري واحد في أمريكا الوسطى أو الجنوبية»[3].

ربط هذا التحول الكبير في طبيعة الأنظمة السياسية في أمريكا اللاتينية، مع ما تعانيه الأنظمة العربية من استمرار وجود دور حيوي للجيوش في السياسة الداخلية، يجعلنا نخصص هذه الدراسة للإجابة عن التساؤل حول طرق انتهاء الحكم العسكري المباشر من أمريكا اللاتينية، وعن طبيعة العلاقات المدنية – العسكرية الجديدة في بلدانها، وطبيعة الدور الحالي الذي تقوم به القوات المسلحة في تلك المنطقة من العالم. وذلك من خلال ثلاثة محاور رئيسية؛ المحور الأول يناقش مراحل وأنماط التحول عن الحكم العسكري في أمريكا اللاتينية، والمحور الثاني يهتم بتحديد طبيعة العلاقات المدنية – العسكرية السائدة في مرحلة ما بعد التحول، أما المحور الثالث فيبحث عن أدوار ومهمات القوات المسلحة في ظل الأنظمة الديمقراطية في أمريكا اللاتينية. وذلك على النحو الآتي:

أولاً: التحول عن الحكم العسكري: المراحل والأنماط

من المهم أن نبدأ بتوصيف حجم الظاهرة العسكرية في أمريكا اللاتينية حتى نستطيع الوقوف على التغيير الكبير الذي شهدته المنطقة خلال ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، ولعل أبرز ما يمكن أن يوضح حجم تلك الظاهرة، هو تكرار حدوث الانقلابات العسكرية في بلدان تلك المنطقة، كما يبين هذا الجدول.

هذا العدد الكبير من الانقلابات العسكرية الذي تفوقت به أمريكا اللاتينية على غيرها من الأقاليم، حتى الشرق الأوسط وبفارق كبير، يوضح مدى عمق الظاهرة العسكرية في تلك المنطقة من العالم.

وبعيداً من الدخول في أسباب التحول الديمقراطي الذي شمل كلَّ بلدان أمريكا اللاتينية، نقدم فيما يلي وصفاً للتقدم الذي لحق بوضع المؤسسة العسكرية هناك، وذلك بعد أن ترك الجنرالات الحكم المباشر، وحل محلهم طائفة من الرؤساء المثقفين والتكنوقراط ورجال الأعمال الناجحين الذين حملتهم الانتخابات الشعبية إلى سدة الحكم.

النقيض لحكم العسكريين أو ما يُسمى «دولة الثكن» (Garrison State)، هو الحكم المدني، وفيه يكون الجيش خاضعاً لــ «الرقابة الديمقراطية» (Democratic Control)»، من خلال الأدوات التالية[4]:

– سيطرة مدنية: حيث يكون للسلطات المدنية السيطرة على مهمات الجيش وتكوينه، والميزانية والمشتريات العسكرية. وأن تكون الموافقة على سياسة الجيش من قبل القيادة المدنية، مع تمتع الجيش بالحرية في تحديد العمليات المطلوبة لتحقيق أهداف السياسة العامة التي تحددها السلطة المدنية.

– حكم ديمقراطي: من خلال مؤسسات برلمانية وقضائية ديمقراطية، ومجتمع مدني قوي ووسائل إعلام مستقلة تشرف على أداء الجيش. وهذا يضمن المساءلة أمام كل من المواطنين والحكومة، ويعزز الشفافية في قراراتها وأفعالها.

– خبرة مدنية: بأن يتوافر للمدنيين الخبرة اللازمة للإدارة والإشراف على المسؤوليات الدفاعية، ويحد من ذلك احترام المدنيين للخبرة المهنية للعسكريين.

– الحياد الأيديولوجي وعدم التدخل في السياسة الداخلية: حيث لا يؤيد الجيش أو أي من أفراده أي أيديولوجية أو توجه بخلاف الولاء للدولة.

– حد أدنى من الدور الاقتصادي: للجيش دور اقتصادي في القطاعات المرتبطة بالدفاع، لكنها يجب ألا تؤدي إلى تمييع ولاء الجيش للقيادة المدنية الديمقراطية، أو أن يدخل الجيش بمنافسة غير متكافئة مع القطاع الصناعي المدني[5].

تلتزم الولايات المتحدة الأمريكية ودول أوروبا الغربية بضوابط السيطرة الديمقراطية السابقة بشكل كامل، كما أن هناك الكثير من الأصوات المطالبة بتطبيق هذا النموذج في عدد من بلدان الشرق الأوسط، على أساس أنه النموذج المتعارف عليه للسيطرة على القوات المسلحة. لكن الحال في بلدان أمريكا اللاتينية ليس على هذا النحو، فالسيطرة على القوات المسلحة لا تتسم بهذا النمط الذي ميز الديمقراطيات الغربية الراسخة، لأن المنطقة تعرف أشكالاً متنوعة من السيطرة، مع المحافظة على جوهر العملية الديمقراطية.

ومن خلال البحث في أدبيات العلاقات المدنية – العسكرية في أمريكا اللاتينية، نجد أنها تميز بين دول المنطقة من خلال درجة وأساليب سيطرتها على قواتها المسلحة، فنجد وندي هانتر في دراسته عن «الدولة والجندي في أمريكا اللاتينية» يضع ثلاثة مستويات للسيطرة المدنية، المستوى الأول تتحكم فيه الدولة والسلطات المدنية في قواتها المسلحة، بدرجة مقاربة للنموذج الغربي، وتحصر دورها في مهمة الدفاع التقليدية وفي مهمات حفظ السلام الدولية بشكل شبه مطلق، ومثال لذلك النموذج الأرجنتيني. والمستوى الثاني الذي تكون فيه القوات المسلحة تابعة للسلطات المدنية مع تمتعها بقدر من النفوذ للمحافظة على قيامها بالأدوار التي تفضلها والتي لا تنحصر في الدور الدفاعي ومهمات حفظ السلام كما في النموذج السابق بل تشمل مهمات الأمن الداخلي وبعض الأدوار المدنية الأخرى، وهو ما يمثله النموذج البرازيلي. أما المستوى الثالث وفق دراسة هنتر، فتتمتع المؤسسة العسكرية فيه بدرجة كبيرة من الاستقلالية في اختيار الأدوار التي تود القيام بها، كأن تقوم بتقليل دورها في مهمات حفظ السلام الدولية، والتركيز على المهمات الدفاعية التقليدية والمهمات الداخلية، وهكذا تُدار الأمور في دولة تشيلي[6]. إن الاختلاف حول درجة السيطرة المدنية على القوات المسلحة في أمريكا اللاتينية راجع بالأساس للاختلافات في أنماط التحول من الحكم العسكري إلى المدني، فالأصل في تراجع درجة السيطرة المدنية هو ما حظيت به المؤسسات العسكرية من امتيازات في مفاوضات ترك السلطة السياسية للمدنيين في البلاد.

وفي دراسة له عن القوات المسلحة في أمريكا اللاتينية، يسرد براين لوفمن قائمة من الامتيازات العسكرية التي بقيت بعد التحول من الحكم العسكري إلى الديمقراطي، حيث تتضمن: (1) الاستثناءات كعنصر أساسي في دساتير أمريكا اللاتينية، (2) تعليق الحماية القضائية للحريات والحقوق المدنية خلال حالات الطوارئ، أو عند تطبيق قوانين الأمن القومي، (3) تعريف الأمن الداخلي والأدوار السياسية للقوات المسلحة في الدستور الذي جعل من القوات المسلحة – افتراضياً – الفرع الرابع للأوصياء الحكوميّين على الأمة، (4) قوانين أساسية «بنيوية» تزيد من ترسيخ الدور السياسي والاستقلال النسبي للقوات المسلحة في الأسس القانونية للدولة، (5) المحاكمات العسكرية على المدنيين بتهمة ارتكاب «جرائم ضد الأمن الداخلي»، «الإرهاب»، أو حتى إهانة الضباط، (6) تمثيل رسمي للقوات المسلحة في صنع السياسات؛ على سبيل المثال، في الكونغرس والقضاء والأجهزة التنفيذية، والإدارة العامة، والمؤسسات العامة، (7) الاستقلال الذاتي – الجزئي – للقوات المسلحة في ميزانيتها، مثلاً: حدٌّ أدنى للميزانية ثابت دستورياً، ونسب مئوية من عائدات التصدير، أو عائدات شركات معينة، أو الضرائب العامة، وغير خاضعة للرقابة – من السلطة التشريعية – قد تستخدم لدعم أجهزة الاستخبارات أو وظائف عسكرية خاصة، و(8) الاستقلال الذاتي الدستوري والقانوني الواسع للجيش من الرقابة على المسائل المهنية الداخلية مثل التعليم العسكري، والترقيات، والتقاعد[7].

بالتأكيد تراجعت تلك الامتيازات خلال السنوات التالية للتحول الديمقراطي. لكن لم يكن من السهل أن تنتهي الظاهرة العسكرية في أمريكا اللاتينية بمجرد أن وصلت الموجة الثالثة من التحول الديمقراطي إلى بلدانها. فهناك دول اختارت جيوشها أن تعود إلى ثُكَنِها كالأرجنتين وأورغواي، أو حتى تسريح جيشها مثل كوستاريكا، ودول أخرى ظل الجيش فيها منخرطاً في العملية السياسية بطريقة أو بأخرى، لعدد من السنوات بعد التحول الديمقراطي.

إذاً، هكذا تم التحول، الذي لم يُنهِ الظاهرة العسكرية بين عشية وضحاها، بل ظل العسكريون يمارسون بعض الأدوار السياسية خلال السنوات الأولى من التحول للحكم الديمقراطي. ولتفسير عملية التحول عن الحكم العسكري بدرجة أكبر، يلزم الإشارة إلى أنماط التحول التي تمت في بلدان تلك المنطقة من العالم، والتي شملت ثلاثة نماذج رئيسية:

1 – الانقسامات داخل الحكومة العسكرية، الناجمة عن الخلافات بين مكوناتها المختلفة.

2 – اتفاق/معاهدة بين النخب: وهو مسار أسهل وأكثر إنجاحاً للديمقراطية، ويُؤسس لصيغة تبادل السلطة المُتفق عليها، وكيفية توزيع المناصب القيادية في الدولة.

3 – التفاوض بين الحكومات العسكرية والمدنيين: لضمان استمرار دورهم في العملية السياسية وحماية أنفسهم من المحاكمة عن الجرائم التي ارتكبت خلال حكمهم، كما حدث في تشيلي والبرازيل. وتمتاز هذه الصيغة الانتقالية بتقليل الصراع بين المدنيين والعسكريين، ولكن التقدم في الحالة الديمقراطية يكون ضعيفاً[8].

التحول الديمقراطي: من الحكم العسكري إلى الديمقراطية

المصدر: Juan Emilio Cheyre, «Characteristics of and Influences on the Armed Forces during Democratic Transition in Latin America,» in: Dennis Blair, ed., Military Engagement: Influencing Armed Forces Worldwide to Support Democratic Transitions (New York: Brookings Institution Press, 2013), vol. 2, p. 14.

بعد عقود طويلة من سلطة حكومات شمولية ذات طبيعة عسكرية، استطاعت جمهوريات أمريكا اللاتينية أن تلحق «تدريجاً» بركب الديمقراطية ابتداء من ثمانينيات القرن العشرين، مع الاختلاف حول مدى كفاءة تلك الأنظمة الديمقراطية(*)، إذ مست حركة الانتقال التاريخي من الدكتاتوريات العسكرية إلى الديمقراطيات كلّ دول القارة وحل محل الجنرالات طائفة من الرؤساء المثقفين والتكنوقراط ورجال الأعمال الناجحين الذين حملتهم الانتخابات الشعبية إلى سدة الحكم. ويمكن القول إن استمرار الحياة الديمقراطية في دول أمريكا اللاتينية منذ أن شملتها الموجة الثالثة للتحول الديمقراطي في ثمانينيات القرن الماضي وحتى الآن، تُعد مؤشراً مُهماً على قدرة تلك الأنظمة – على ما فيها من اختلال في طبيعة السيطرة المدنية – على الحفاظ على مدنية الدولة وعلى تداول السلطة فيها، وعلى إبقاء القرار السياسي ملكاً للمدنيين بالدرجة الأولى.

ثانياً: اتجاهات العلاقات المدنية العسكرية
عقب التحول الديمقراطي

بنهاية الحكم العسكري المباشر لدول أمريكا اللاتينية، تغيَّر نمط العلاقات المدنية – العسكرية، التي تنوعت بحسب طبيعة عملية التحول التي شهدتها كل دولة، وبحسب درجة كفاءة النظام الديمقراطي في كل منها. ذلك أن القدرة على تحقيق الرقابة الديمقراطية على القوات المسلحة تتوقف وبشكل عام على مدى نضج العملية الديمقراطية.

وفيما يلي نقدم عرضاً لأبرز ثلاثة نماذج جديدة للعلاقات المدنية – العسكرية في أمريكا اللاتينية، شهدتها بلدانها عقب التحول عن الحكم العسكري، وهي كالتالي:

1 – العودة إلى الثُكَن

يشير هذا النمط إلى حالة مأسسة ثابتة وناجحة للحكومات المدنية، على أساس تعاقب الحكومات الذي يتم تنظيمه من خلال انتخابات حرة. كما أن هناك دعماً شعبياً متزايداً واسع النطاق للنظام الديمقراطي نتيجة للشرعية التي يتمتع بها السياسيون المنتخبون ديمقراطياً، بما أدى إلى التآكل التدريجي في امتيازات وقوة الجيش. الحالة الكلاسيكية لهذا الاتجاه هي كوستاريكا، حيث تم إلغاء الجيش فيها في محاولة لتجنب أي تدخل للقوات المسلحة في السياسة، واستثمار البنود المالية المخصصة للدفاع في قطاعات التعليم والصحة العامة.

في حالات العودة النهائية إلى الثكن، عادة ما تكون الحكومة العسكرية قد فقدت مصداقيتها علناً. في النهاية، يختار الجيش إعادة تركيز جهوده على تعزيز الكفاءة المهنية والمؤسسية، في حين تنتقل قضية القانون والنظام إلى أيدي السلطات المدنية.

الأرجنتين والبرازيل وأورغواي، وربما بوليفيا والسلفادور، هي أمثلة على هذا النمط، فلقد فشل مشروع فرض الوصاية العسكرية في البرازيل من خلال حكومة سارني (Sarney)، الذي جسد التحالف المدني العسكري، بخسارته المدوية لانتخابات 1989. واتبعت الحكومات اللاحقة لكل من كولور (Collor) وكاردوسو (Cardoso) استراتيجية الخفض المتزايد للصلاحيات العسكرية. وبعد أن خسرت المؤسسة العسكرية هيبتها التي كانت خلال الحكم العسكري، وتراجعت طموحاتها السياسية بشكل كبير في تلك الدول، تحولت للحفاظ على ولائها للحكومة الشرعية، على الرغم من بعض محاولات التمرد، ولا سيما أن ملف انتهاكات حقوق الإنسان – الخاص بعناصر داخل الجيش أثناء فترة الحكم العسكري – لم تتِمَّ معالجته بشكل مناسب حتى وقت قريب[9].

2 – الديمقراطية المدرعة

يشير هذا النموذج إلى الحفاظ على طموحات التدخل العسكرية، حيث يمكن الحفاظ على هذه الطموحات في سياق تتميز فيه الحكومات الديمقراطية بالضعف وتستمر فيه الصراعات السياسية بين السياسيين المدنيين. في ظل هذه الظروف، نصل إلى وضع يقوم فيه الجيش – أو يُدعى للقيام – بدور الوصي (Guardian) أو المحكم (Arbitrator) في ما يتعلق بالمؤسسات الديمقراطية التي عادت رسمياً.

وبقبوله شرعية الحكومة المدنية وأداء المؤسسات الديمقراطية، يضطلع الجيش بمهمة ضمان أن لا تصبح الديمقراطية خطراً على الدولة. وبالاستفادة من الدعم الضمني أو الصريح لقطاعات واسعة من السكان، رفضت القيادة العسكرية – في حالات عديدة – تحمل المسؤولية عن عنف الماضي.

وفي بعض الحالات، قام القادة العسكريون بالتحالف مع المدنيين ومشاركتهم في الحكومة، خلف واجهة الديمقراطية، واستفادوا من دور الجيش بوصفه حامي الديمقراطية، للحفاظ على نفوذهم[10]. وأوضح مثال على ذلك هو حالة غواتيمالا في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي. في الثمانينيات، طور الجيش عقيدة «الاستقرار الوطني» للإشراف على عملية العودة إلى الديمقراطية. ومع بداية التسعينيات بدأ العسكريون بحذر شديد عملية مفاوضات السلام، لضمان الحفاظ على «الاستقرار» خلال فترة الانتقال.

وعلى الرغم من استقرار العملية الانتقالية في دولة تشيلي فإنها تندرج ضمن هذا النموذج أيضاً، فعلى الرغم من انتهاء النظام الدكتاتوري فيها إلا أن النفوذ السياسي للقوات المسلحة في ذلك البلد استمر بفضل التشريعات الموروثة من فترة بينوشيه (قانون العفو في ما يتعلق بانتهاكات حقوق الإنسان). كما حظي النظام العسكري بدعم اثنين من الأحزاب السياسية اليمينية<*> (RN وUDI) التي لديها قوة شعبية كبيرة كادت تصل بمرشح التحالف المدني العسكري لافين (Joaquín Lavín)» إلى أعلى سلطة في البلاد في الانتخابات الرئاسية عام 2000، إلا أن الرغبة الشعبية في التخلص من الإرث العسكري جعلته يخسر بفارق طفيف لصالح مرشح التيارات السياسية اليسارية.

كما أن حالات تدخل الجيش لإبعاد رؤساء من السلطة قبل انتهاء مددهم الرئاسية التي شهدتها هندوراس وباراغواي، ضد كل من مانويل زيلايا عام 2009، وفرناندو لوغو عام 2012، بعد صدور قرارات سواء من البرلمان أو من المحكمة الدستورية بإزاحتهم من السلطة وتعيين آخرين في المنصب إلى حين إجراء انتخابات جديدة، تدخل أيضاً ضمن نموذج «الديمقراطية المدرعة» حيث لم يتم تصنيف ما حدث على أنه انقلاب عسكري بل سمّاه البعض انقلاباً برلمانياً أو انقلاباً دستورياً[11].

3 – تحالف المدنيين والعسكريين الأقوياء

يمثل هذا النموذج نسخة حديثة من التحالف المدني العسكري في ظل نظام سياسي استبدادي (دكتاتورية مدنية)، تكون فيها القوات المسلحة ذراعاً قوية للنظام. والحالة المثالية لهذا النموذج ظهرت عندما دعمت المؤسسة العسكرية في بيرو حكومة فوجيموري (1990 – 2000)، ذات الخلفية الأكاديمية. وكان فوجيموري قد وصل إلى الحكم بانتخابات ديمقراطية عام 1990، إلا أنه أقدم على تنفيذ انقلاب ذاتي عام 1992<**>، بمساعدة من رئيس الاستخبارات وقائد الجيش لضمان ترويض الشعب والتلاعب بالرأي العام وبالانتخابات البرلمانية ليُعاد انتخابه في 1995 وفي 2000، إلا أن نظام فوجيموري انهار بعد أشهر قليلة من فوزه، بعد تورط نظامه في قضايا فساد، ومع زيادة المقاومة الشعبية ضده[12].

قد يكون هذا النموذج هو الأقل انتشاراً في أمريكا اللاتينية عقب التحول الديمقراطي، بيد أن دراسته قد تعطي دلالات مهمّة لحالة بعض الدول العربية، وبالتالي فإن ما تحقق من تطور الحالة الديمقراطية في بلدان هذا النموذج ربما كان أكثر إفادة في محاولتنا لدعم العملية الديمقراطية في الوطن العربي.

ثالثاً: الأدوار المتغيرة للقوات المسلحة في أمريكا اللاتينية

على الرغم من أن التغيير الأكبر في طبيعة المؤسسة العسكرية في أمريكا اللاتينية عقب التحول الديمقراطي وإبعاد الجيش من السلطة كان لصالح تركيزه على «المهمات الدولية» ضمن بعثات حفظ السلام في العديد من بلدان العالم التي تشهد صراعات وأزمات. إلا أن ضعف بنية الدولة ومؤسساتها الجديدة في عدد من دول المنطقة جعل من الصعب الاستغناء نهائياً عن وجود دور محلي للجيش. لذا، درجت جيوش تلك المنطقة على القيام بعدد من الأدوار والمهمات الداخلية بعد مرحلة التحول الديمقراطي، جاءت في حالات كثيرة بناء على طلب من الحكومات المدنية.

ومن أبرز الأدوار الداخلية التي تضطلع بها جيوش أمريكا اللاتينية المعاصرة:

أ – فرض القانون ومكافحة الاتجار بالمخدرات

تزايد المشكلات الأمنية في دول أمريكا اللاتينية، متمثلة بانتشار الأسلحة والاتجار بالمخدرات والتربح من الهجرة غير الشرعية، وزيادة الجريمة والعنف نتيجة للظروف الاقتصادية الصعبة، وارتفاع معدلات البطالة، وضعف المؤسسات السياسية والتشريعية والقضائية التي ينظر إليها على أنها غير فعالة وفاسدة، وعدم قدرة الشرطة على التعامل مع الجريمة الحادة أجبر عدداً من دول المنطقة على استخدام جيوشها للتعامل مع هذا الوضع[13]. بل إن مشكلات مكافحة المخدرات، والهجرة، وحماية البيئة صُنّفت ضمن قضايا الأمن القومي لدول أمريكا اللاتينية ليكون للقوات المسلحة دور رئيسي في مواجهتها[14].

في أيار/مايو 2004، وضع الرئيس البرازيلي لولا دا سيلفا 5,600 جندي على أهبة الاستعداد لدخول ريو دي جانيرو لمساعدة الشرطة على شن هجومٍ ضد العنف المتصاعد وتهريب المخدرات في روسينيا (Rocinha)، أحد أكبر الأحياء الفقيرة في المدينة. كما دعمت الولايات المتحدة الأمريكية دور القوات المسلحة في مكافحة المخدرات في بلدان أمريكا اللاتينية من خلال المراقبة والكشف عن عمليات تدفق المخدرات غير المشروعة بين بلدان المنطقة وإلى الولايات المتحدة[15].

ب – المساهمة في التنمية

هناك عقيدة عسكرية ناشئة مفادها أن «الأمن هو التنمية» (Security is Development)، ترى أن أمن الدولة يدل عليه مستوى التنمية الاجتماعية والاقتصادية والتكنولوجية والسياسية، حيث الأمن يتجاوز الأبعاد العسكرية ليشمل عوامل مثل استمرارية الديمقراطية والتنمية الاجتماعية والاقتصادية وحماية البيئة. وفي بعض بلدان أمريكا اللاتينية، دخلت الجيوش المجالات المدنية بالأساس مثل إنتاج الحبوب وتصنيع والملابس، وإنتاج الإسمنت، وحتى المجال المصرفي. وفي كثير من الحالات اتخذت الجيوش أدواراً هندسية؛ إنشاء الطرق والمدارس والمستشفيات[16].

وفي بوليفيا اضطلع الجيش بعدد من الأدوار المتصلة بالكوارث الطبيعية، وإزالة المخلفات الناجمة عن البرد بعد العواصف والإخلاء أثناء الفيضانات، ومكافحة حرائق الغابات. وفي المكسيك، شارك الجيش في برامج التطعيم ومحو الأمية وإعادة تشجير الغابات، وتوزيع المياه، وبناء الجسور والمباني العامة[17].

كما سمح دستور 1979 في الإكوادور للجيش أن يساهم في التطور الاقتصادي عبر الاندماج مع هيئات الشركات الصناعية وتأسيس شركات جديدة – ويقال إن هذا كان شرطاً لانسحاب الجيش من الحكومة. وقد قام الجيش بالفعل بإدارة الشركات المخصصة لإنتاج الذخيرة والملابس والأحذية المخصصة للاستخدام العسكري، ولكنه أدار أيضاً شركة خطوط جوية (TAME) وشركات تُصدِّر القريدس والموز وأخرى تنتج الإسمنت وقطع السيارات، ومؤسسات مالية (بنك رومينهاوي العام)، ومتاجر للألبسة ومجمعات تجارية[18].

وفي البرازيل، ولكون الجيش المؤسسة الأكثر تغلغلاً داخل البلاد، بدأ هذا الجيش مهمات العمل الاجتماعي في نهاية القرن التاسع عشر. وشهدت خمسينيات وستينيات القرن الماضي تجدد الاهتمام بالتدخل العسكري في مثل هذه الأنشطة عندما حاول صناع السياسة الأمريكيون حشد جيوش أمريكا اللاتينية للاضطلاع بأدوار التنمية من أجل التقليل من جاذبية الحركات اليسارية بين الفقراء في القارة. وحتى بعد التحول الديمقراطي في البرازيل، ظل الدور الداخلي للجيش فعّالاً، حيث استعاد نشاطه في ظل إدارة الرئيس فرانكو 1992 – 1994. ومنذ ذلك الحين، صعَّد الجيش من جهوده في المناطق الفقيرة لتوزيع المواد الغذائية، وتشييد الطرق، والإسكان الشعبي، وأنظمة الصرف الصحي، وتوفير الرعاية الصحية والخدمات التعليمية. في الأشهر الأربعة الأولى من أحد البرامج، وزَّع الجيش المواد الغذائية الأساسية على أكثر من 1100 بلدية. كما شاركت ثماني كتائب من سلاح المهندسين قوامها أكثر من ألف رجل في إصلاح 1800 من الكيلومترات من الطرق في عدة ولايات نائية[19].

مع ذلك، هناك حقيقتان في منتهى الأهمية بخصوص استمرار القوات المسلحة في بعض دول أمريكا اللاتينية في القيام بأدوار داخلية، وهما:

– إن استمرار قيام القوات المسلحة بتلك الأدوار منذ بدايات التحول الديمقراطي في أمريكا اللاتينية وحتى الآن، بالتزامن مع الحياة الديمقراطية في تلك الدول، يرجح الآراء التي ترى أن السيطرة المدنية على القوات المسلحة لم تتأثر بتلك الأدوار الداخلية[20].

– إن قيام القوات المسلحة بأدوار داخلية في أمريكا اللاتينية لا يؤثر سلباً في سيطرة المؤسسات المدنية عليها، إذ إنها حين تقوم بتلك المهمات الداخلية تكون تحت رقابة وتبعية المؤسسات المدنية[21].

نتائج الدراسة وخاتمة

بعد محاولة الإجابة عن تساؤلات الدراسة بخصوص طرق انتهاء الحكم العسكري المباشر، وطبيعة العلاقات المدنية – العسكرية الجديدة، وطبيعة الدور الحالي الذي تقوم به القوات المسلحة في أمريكا اللاتينية، يمكننا أن نلخص النتائج التي توصلت إليها الدراسة على شكل دروس مستفادة تقدمها التجارب اللاتينية لدول الوطن العربي المتطلعة شعوبها نحو الديمقراطية. وذلك على النحو الآتي:

– أمريكا اللاتينية أكثر منطقة في العالم عانت أنظمة الحكم العسكرية طوال عقود طويلة، لكن دولها الآن تتمتع بدرجات متقدمة من الديمقراطية. وبالتالي فإن تجذر الظاهرة العسكرية في دولة ما، ورغبة العسكريين في الاستمرار في السلطة، وإن كان ذلك يعيق عملية التحول الديمقراطي فيها ويطيل من فترتها الزمنية، إلا أن ذلك لا يمكن أن يمنع عملية التحول الديمقراطي بشكل كامل.

– عملية التحول عن الحكم العسكري هي في غاية التعقيد، والمسؤولية الرئيسية فيها تقع على قدرة التيارات السياسية المدنية على الاتفاق حول الترتيبات المناسبة لإقرار نظام ديمقراطي، وبالتالي يكون فشل المدنيين – وليس قوة العسكريين – هو السبب الرئيسي لاستمرار التدخل العسكري في العملية السياسية. وبالتالي، على النخب المدنية العربية أن تدرك أن عدم توصلها إلى اتفاق فيما بينها على ملامح النظام السياسي الذي يمكن أن يقود عملية التحول الديمقراطي، هو السبب الأول في تعطيل مسيرة الديمقراطية في الوطن العربي.

- الوصول إلى السيطرة الديمقراطية الكاملة على القوات المسلحة صعب التحقق بالنسبة إلى الديمقراطيات الناشئة، ولا بد للنخب المدنية في الدول التي تمر بمرحلة التحول الديمقراطي أن تضع الاستراتيجية المناسبة لإدارة علاقاتها مع النخبة العسكرية وفقاً للظروف الخاصة بدولها، بما لا يقضي على العملية الديمقراطية، لكن قد لا يتحقق التحول الديمقراطي دفعة واحدة(***).

- تتعدد نماذج العلاقات المدنية – العسكرية في الدول الديمقراطية، فالتصور النمطي السائد لدى بعض التيارات السياسية في الوطن العربي الذي يرى أن مكان الجيش الوحيد هو الثكن العسكرية وعلى حدود الدولة، وأن وظيفته الوحيدة هي الدفاع عن الدولة ضد التهديدات الخارجية فقط، هو تصور قاصر، لأن القوات المسلحة تؤدي العديد من الأدوار الداخلية في ديمقراطيات أمريكا اللاتينية وحتى في الديمقراطيات الغربية.

- تفرض المشكلات الأمنية والاقتصادية المتزايدة على الأنظمة السياسية – في ظل ضعف بنية الدولة – القبول بتدخل الجيش في الحياة المدنية، إما للمساهمة في فرض النظام والقانون وإما لدعم عملية التنمية، وهو الأمر الذي لا يتعارض مع جوهر النظام الديمقراطي في حال ما كان الجيش يقوم بتلك الأدوار تحت سيطرة السلطات المدنية ووفق فترة زمنية محددة، وشريطة ألا تتوسع تلك الأدوار بدرجة أكبر لتصل إلى مرحلة التدخل في الحياة السياسية.

ختاماً، تقدم إلينا خبرة أمريكا اللاتينية في العلاقات المدنية – العسكرية والتحول الديمقراطي مادة خصبة لدراسة الظاهرة العسكرية في المنطقة العربية بما يمكن الباحثين في العلوم الاجتماعية والسياسية من امتلاك الأدوات المناسبة لتحليل وفهم تلك الظاهرة، بعيداً من التجاذبات السياسية، ولتقديم دراسات وتوصيات تساهم في إعادة ترتيب الأفكار والتصورات السائدة، وتخدم العملية السياسية المشوهة، وتساهم في دفع عملية التحول الديمقراطي المعطلة في الوطن العربي.