ما تزال الحروب والنزاعات تطغى على المشهد العام في العالم، بالتزامن مع المخاطر الطبيعية، المناخية والجرثومية، التي تتخذ منحىً تصاعديًا في الآونة الأخيرة يوقع الملايين من الضحايا، ويسبب كوارث اقتصادية واجتماعية، تتطلب مواجهة أسبابها وعواقبها تعاونًا أمميًا تتحمل المسؤولية فيه مختلف الدول والمناطق والأطر الدولية والإقليمية، ولو بنسب متفاوتة طبعًا.

في هذا السياق يستمر مركز دراسات الوحدة العربية، بالتعاون مع معهد ستوكهولم لأبحاث السلام الدولي (سيبري) منذ عام 2003، في إصدار النسخة العربية من كتاب التسلّح ونزع السلاح والأمن الدولي الذي يصدره سيبري سنويًا منذ عام 1966. يتناول هذا الكتاب السنوي الثالث والخمسون أبرز الأحداث المتعلقة بالنزاعات المسلحة والتسلّح حول العالم، كما يعرض عمليات نزع السلاح واتفاقيات السلام والهدنة التي تحدث في المناطق التي تشهد حروبًا أهلية أو نزاعات بين الدول، فضلًا تغطيته قضايا جائحة كورونا والتغير المناخي وما يسفر عنهما من عواقب اجتماعية واقتصادية وطبيعية.

تتناول فصول الكتاب التطورات في مختلف قارات العالم وبلدانه، وهو يشير إلى عمليات السلام التي حصلت بين الدول والأقطاب المتنازعة في بعض المناطق، معرِّفًا مفاهيم النزاعات المسلحة وأنواعها ومقدمًا جداول تحتوي على أرقام عن عدد النزاعات واتفاقيات السلام التي حدثت في السنوات العشر الأخيرة. وفي هذا السياق يقدم الكتاب تحليلات عن التطورات في القارة الأمريكية وكذلك في كل من آسيا وأوروبا والشرق الأوسط وشمال أفريقيا إضافة إلى بلدان جنوب الصحراء الأفريقية.

يغطي كتاب هذا العام قضايا التسلح والنزاعات والمخاطر الطبيعية في عام 2021، ويطل على تطورات الأشهر الأولى من عام 2022، من دون أن تغطي فصوله الحدث الأبرز الذي عرفه العالم عام 2022 المتمثل بالحرب في أوكرانيا التي اتخذت طابع حرب هجينة تحضر فيها المواجهة الروسية – الأطلسية أكثر من المواجهة الروسية – الأوكرانية الشكلية، وبخاصة في أبعادها المعلوماتية والإعلامية والتقانية والاقتصادية والجيوستراتيجية، كما في بعدها التسليحي الذي ستكون له تداعياته الكبيرة على قضية التصنيع العسكري والإنفاق عليه في السنوات المقبلة بعدما استنزفت هذه الحرب حتى اليوم مخزونات الأسلحة والذخائر في معظم بلدان حلف الأطلسي المنخرطين في تسليح الجيش الأوكراني وقواته الرديفة. مع العلم أن الطفرة في الإنفاق على التسلّح التي يشهدها العالم ليست وليدة الحرب في أوكرانيا وحسب، فتزايد هذا الإنفاق على التسلح الذي يشهده العالم في السنوات الأخيرة لم تحل دونه جائحة كورونا وما رافقها من مخاطر على الحياة وعزل سكاني وأزمات اقتصادية. فالمسيرة الحثيثة نحو مراكمة المزيد من الأسلحة لم تسمح باستراحة مجمعات الصناعات العسكرية، التي تعيش أزهى أزمانها منذ سبعة أعوام متتالية، جاعلة من عام 2021، رغم جائحة كورونا، عام الرقم القياسي في الإنفاق على التسلح، الذي تخطى حاجز التريليوني دولار، بنحو 113 مليار دولار، أول مرة مذ ظهر التقرير السنوي لسيبيري. وقد تميّز إنتاج الأسلحة في جميع أنحاء العالم بمرونة كبيرة في مواجهة صدمة جائحة كورونا والانكماش الاقتصادي الناتج منها. ومع أنّ الاقتصاد العالمي انكمش بنسبة 3.1 بالمئة في عام 2020، فقد زادت مبيعات الشركات المئة الكبرى من الأسلحة وزاد الإنفاق العسكري في المقابل.

ولكن على الرغم من هذه المؤشرات، لا يمكن قراءة هذا التقرير وغيره ومستقبل التسلح في العالم، ووجهة استخدام الأسلحة، إلّا في ضوء مستقبل الحرب في أوكرانيا، وحالة الاستنفار التي تعيشها المجمّعات الصناعية العسكرية في الغرب الجمعي والولايات المتحدة وروسيا لإشباع حاجات الحرب المتزايدة من قذائف المدفعية الثقيلة البعيدة المدى والصواريخ التي تؤدي دورًا كبيرًا في المعارك في أوكرانيا، فضلاً عن استنفاد مخزون الدول المنخرطة في الصراع شرقاً وغربًا من قذائف المدفعية وبعض الأسلحة والصواريخ، على جبهات القتال الأوكرانية.

لا يقتصر اندفاع الأرقام فوق كل التوقعات، على ما آلت إليه الحرب التي تنغمس فيها أوروبا والولايات المتحدة والناتو، ضد روسيا، وهي قوى صناعية حربية كبيرة باتت تعمل لتلبية حاجاتها المباشرة، وترميم مخازنها التي تستنزفها الحرب في أوكرانيا، أكثر مما تعمل لتلبية حاجات زبائنها التقليديين؛ بل إن التقرير السنوي هذا، يسجل رسوخ الاتجاه صعودًا في الإنفاق على التسلح على جبهتين رئيسيتين: الولايات المتحدة والصين اللتان تتقاسمان وحدهما نصف الإنفاق العالمي على التسلح. وهو مؤشر مهم على احتفاظ القوتين العظميين بخيار السلاح في نطاق الصراع الجاري على إعادة هيكلة النظام العالمي، وعلى خلفية المواجهة العسكرية في أوكرانيا، واشتداد التوتر في مضيق تايوان والمناورات التي يقوم بها الصينيون والأمريكيون حول بحر الصين الجنوبي وفيه، في إطار الاستدارة الأمريكية شرقًا منذ عام 2012، التي عنت التوسع في الإنفاق العسكري والانتشار حول الصين، أساطيلَ وتحالفاتٍ مختلفة، لاحتوائها. فإذا كانت الصين قد أنفقت 293 مليار دولار، في تقدم مستمر لإنفاقها بموازاة انتشارها الأوسع اقتصاديًا، ومواصلة بناء قوتها العسكرية والدفاع عن مجالها الحيوي في البحر الذي يحدّها جنوباً، وعن سياسة الصين الواحدة، فقد أنفقت الولايات المتحدة وحدها عام 2021 تريليونًا ومئة مليار دولار على برامجها العسكرية، للحفاظ على تفوُّقها العسكري الكاسح، وهو ما يمثِّل أكثر قليلًا من نصف الإنفاق العالمي. ونالت لائحة الشركات المئة الكبرى، بحسب تصنيف سيبري، حصة الأسد من سوق السلاح التي حصلت منها على 531 مليار دولار، عادت 41 بالمئة منها للشركات الأمريكية التي جنت 285 مليار دولار.

وبات الربط بين التسلح والنزاعات أوضح كثيرًا في التقرير، إذ في حين يتركز كل الانتباه في ما يحدث في شرق أوروبا، يدعو السباق على التسلح والحشود العسكرية البرية والبحرية، وصفقات الأسلحة الأمريكية مع تايوان، التي بلغت 16.8 مليار دولار، إلى التساؤل عما إذا كانت هذه الحرب الباردة قابلة للتسخين في أي وقت. ويقول التقرير إن هناك دعوات أمريكية إلى الخروج من الغموض الاستراتيجي الذي يتيح للولايات المتحدة أن تعمل مع كل من الصين وتايوان من الناحية النظرية، من دون أي التزام رسمي تجاه أي منهما. وأجريت مناقشات خلال العام الماضي عما إذا كان على الولايات المتحدة التحلي بالمزيد من الوضوح الاستراتيجي، والالتزام بالدفاع عن تايوان إذا ما تعرضت لأي هجوم صيني. وعوضًا من ذلك تُظهر الولايات المتحدة موقفاً أوضح عبر المزيد من تسليح تايوان، وتدريب قواتها، وإرسال المزيد من السفن الحربية لعبور مضيق تايوان أثناء عمليات حرية الملاحة.

وجد التقرير السنوي لسيبري أن يندرج الشرق الأوسط بديهيًا، في سياق ارتفاع الإنفاق العالمي على التسلُّح. ولم تخرج أبرز البلدان العربية عن الاتجاه السائد صعودًا في الإنفاق. وقد حافظت المشتريات السعودية على مستوى عالٍ وزادت خلال أعوام 2012 – 2016   بنسبة 27 في المئة خلال حرب اليمن، 82 بالمئة منها ذهبت لمصلحة الولايات المتحدة، وهي ضمت أساسًا 97 مقاتلة أف 15، و8 منظومات باتريوت، وآلاف القنابل الموجهة، ومثّلت 11 في المئة من المشتريات العالمية واحتلت بفضلها المرتبة الثانية عالميًا، بعد الهند، في صفقات التسلح. ورغم تراجع إنفاق دولة الإمارات العربية على التسلح بنسبة 41 بالمئة، فسيظل هذا الإنفاق مرتفعاً بسبب صفقة شراء 80 مقاتلة رافال فرنسية، وُقِّعت عام 2021، وستسلم عام 2027. أما قطر فارتقت سلّم المنفقين على التسلح من المرتبة الـ22 إلى المرتبة السادسة، وهي تترقب أن تتسلم هذا العام 28 مقاتلة أف 18 و109 دبابات من الولايات المتحدة، و26 مقاتلة تايفون من إيطاليا. ولا توجد أدلة على شراء إيران أو تسلُّمها أسلحة من الخارج.

وما تجدر الإشارة إليه مواصلة مصر سياسة تنويع أسلحة الجيش المصري، ومفارقة أن يرتفع الإنفاق المصري على التسلح لتحتل مصر المرتبة الثالثة للمستوردين طوال أعوام 2017 – 2021، مقابل انخفاض حصة الأسلحة الأمريكية من 70 بالمئة خلال المدة 2012 – 2016 الى 6.5 بالمئة منذ عام 2017 حتى عام 2021. وتواصل مصر سياسة تنويع مصادر الأسلحة لتشتري 41 بالمئة من الأسلحة من روسيا، أولًا، و21 بالمئة من فرنسا ثانياً، و15 بالمئة من إيطاليا ثالثاً، و11 بالمئة من ألمانيا رابعاً، وخامسًا وأخيرًا كرست مصر 6.5 بالمئة من إنفاقها العسكري لشراء أسلحة أمريكية. وهناك توقعات بتحسن العلاقات مع الولايات المتحدة، بحسب تقرير سيبري، في ضوء المفاوضات الجارية لتزويد مصر بطائرات أف 15 آي أكس، وهذا تطور يشير إلى احتمال طلب تعليق صفقة سوخوي 35 مع روسيا أو إلغائها.

وكان لا بد في هذه المقدمة من الإشارة إلى تطور القوة النووية في العالم، والعقيدة النووية للقوتين الأمريكية والروسية، بعد تداول احتمالات لجوء روسيا إلى ضربة نووية تكتيكية في أوكرانيا، وتهديد الولايات المتحدة بالرد، وخصوصًا أن كفة المخزون التكتيكي تميل لمصلحة روسيا التي تملك 1910 رؤوس نووية، في حين لا يتعدى المخزون التكتيكي النووي الأمريكي 100 رأس. يلاحظ سيبري أن القوى النووية التسع، روسيا والولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا والهند وباكستان والهند و«إسرائيل»، ما تزال على حالها، لكن عملية خفض الرؤوس النووية قد توقفت. وأحصى خبراء سيبري وجود 12705 رؤوس نووية، تملك روسيا منها 5977 رأسًا، والولايات المتحدة 5428 رأسًا، والصين 350 رأسًا، في حين لا تزال «إسرائيل» تملك 90 رأسًا نوويًا منذ عام 1964 دونما أي تغيير. لكن الصلة بالصراع في أوكرانيا تبدو جلية اليوم حين يستعرض سيبري تطور العقيدتين النوويتين للقوتين العظميين نووياً، في تقاطع بينهما يبدأ روسيًا من إرادة حيازة الضربة الأولى ورد حتى هجماتٍ بأسلحة تقليدية، واللجوء إلى النووي للرد على أي هجوم يستهدف مواقع حكومية أو عسكرية مهمة بقذائف بالستية أو بأسلحة نووية أو بأسلحة دمار شامل أخرى، أو حين يكون وجود الدولة في خطر بذاته، وهو لا يبتعد كثيراً من المنحى الأمريكي في ربط استخدام النووي بالشروط نفسها، التي يضاف إليها الرد على هجمات استراتيجية خطيرة وغير نووية على السكان والبنى التحتية في البلدان الصديقة أو الحليفة.

أما التوقعات المستقبلية للنزاعات في الشرق الأوسط كما جاءت في سيبري، فهي تمثِّل أحد دلائل التعقيدات التي تنتاب التحليلات، وتواجه الخبراء لاستباق التطورات على المدى المتوسط، بسبب دينامية الصراعات في العراق وسورية ولبنان والخليج العربي، وهي منطقة تشهد انقلابًا كبيرًا في مساراتها بسبب الانكفاء الأمريكي المتزايد، وحلول قوى جديدة كالصين، في دور الوسيط والضامن للاتفاقات بين السعودية وإيران، وتحييد الخليج العربي أحد أهم مصادر الطاقة للاقتصاد الصيني عن أي صراع.

ولا يغيب هذا الإصدار من سيبري طبعًا موضوع التغيُّر المناخي في مصاف التهديدات الاستراتيجية للاستقرار العالمي، إذ توجد صلة بين ندرة المياه وتغيُّر المناخ، وانعدام الأمن الغذائي، والإجهاد المائي، وهي تهديدات معتدلة أو شديدة الخطورة تصيب أغلب الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.

كتب ذات صلة:

التسلح ونزع السلاح والأمن الدولي: الكتاب السنوي 2022