مدخل

انطوت عملية التسوية السياسية، التي تبعت مؤتمر مدريد عام 1991 وتوقيع اتفاق أوسلو عام 1993، على تركيبة تناقضية؛ فهي من جهة قد تضمنت مسارات تفاوضية ثنائية بين إسرائيل وبين كل من سورية ولبنان ومنظمة التحرير الفلسطينية وفق صيغة «الأرض مقابل السلام»، وتضمنت من جهة أخرى مسار المحادثات المتعددة الأطراف التطبيعي لمناقشة قضايا التنمية الاقتصادية الإقليمية، والبيئة، والمياه وضبط التسلح والأمن الإقليمي، واللاجئين، وفتح مكاتب تمثيل عربية في تل أبيب[1]. انعقد المسار الثاني ضمن مقاربة ليبرالية فرضتها أمريكا وأوروبا وانطلقت من الادعاء بأن تطوير المشاريع المشتركة اقتصاديًا وبيئيًا وأمنيًا كفيل بتخفيف النزاعات وحصرها كمدخل لحلها على طاولة التفاوض[2]. من هذه الزاوية فقد هدفت مشاريع ربط شبكات الكهرباء والمياه والطرق والمواصلات والاتصالات بين عموم دول المنطقة وإنشاء بنك إقليمي وغيرها من المشاريع التي طرحت في حينه إلى تسهيل التوصل إلى مقايضة في شأن صيغة «الأرض مقابل السلام» التي تضمنها المسار الأول.

خلال التطبيق الذي تلا إطلاق هذه التركيبة التناقضية في مؤتمر مدريد، وجد العرب أن إسرائيل تركز على التطبيع من خلال المسار المتعدد الأطراف، وتتعنت في المقابل في شأن الوصول إلى حل لمسألة الأرض مقابل السلام، لذا قاموا بتجميد مسار المحادثات المتعددة الأطراف عام 1996 بعد أربع سنوات على انطلاقها في موسكو عام 1992. وأوقفوا هذا المسار رسميًا بصورة كلية عام 2002 وذلك عبر قرار قمة بيروت العربية أن أي تطبيع عربي شامل مع إسرائيل لن يكون ممكنًا إلا بعد انسحاب إسرائيل من كل الأراضي العربية المحتلة عام 1967 وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة والتوصل إلى حل عادل لقضية اللاجئين الفلسطينيين. وكلفت المبادرة الأردن ومصر حصريًا بالتواصل مع إسرائيل في شأن استحصال الحقوق الفلسطينية وبالتنسيق مع فلسطين كونهما الدولتين اللتين وقعتا اتفاقات سلام مع إسرائيل وفق صيغة «الأرض مقابل السلام».

مر الوطن العربي إذًا بمرحلتين خلال مسيرة التسوية السياسية مع إسرائيل، تمثلت المرحلة الأولى باشتراط تحقيق السلام مع إسرائيل بقيام هذه الأخيرة بالانسحاب من الأراضي العربية المحتلة عام 1967 وقبولها إقامة دولة فلسطينية مستقلة على حدود عام 1967 وعودة اللاجئين طبقًا للقرار الأممي 1994، وهي مرحلة استمرت مع بعض الخروق حتى عام 2014 حيث تم الإعلان عن فشل آخر جولة مفاوضات أشرف عليها وزير الخارجية الأمريكي جون كيري، لتحل محلها صيغة السلام مقابل السلام، التي عنت عدم اشتراط السلام مع إسرائيل بتلبيتها للحقوق الفلسطينية وانسحابها من الأراضي العربية المحتلة عام 1967. فكيف تم هذا التحول؟ وما مغزاه؟ وما التبعات المترتبة عنه؟ وكيف يمكن الشعب الفلسطيني أن يتعامل مع هذه التبعات؟

في المرحلة الأولى عقدت جلسات المحادثات المتعددة الأطراف والمؤتمرات الاقتصادية الإقليمية في كل من عمان والقاهرة والدوحة والرباط والمنامة وطرحت مشاريع المتوسطية وعملية برشلونة من أوروبا، من أجل تسهيل المفاوضات لاستعادة الأرض[3]، كما قام قسم من البلدان العربية بفتح ممثليات تجارية لقطر والإمارات العربية المتحدة وعمان، ومكتب مصالح لتونس، ومكتب اتصال للمغرب في تل أبيب، ولكنها كلها قد اشترطت التطبيع الكامل للعلاقات مع إسرائيل بانسحابها من الأراضي العربية المحتلة وتلبية الحقوق الفلسطينية. وقد قامت هذه الدول بوقف علاقاتها مع إسرائيل عام 2000 وذلك مع اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثانية.

شذّت عن القاعدة في حينه دولة موريتانيا التي عقدت اتفاقية تطبيع كامل مع إسرائيل عام 1999، ودامت العلاقة بين البلدين حتى عام 2009 حيث قطعت موريتانيا العلاقات بسبب الحرب الإسرائيلية على غزة حينذاك. أما قطر وعُمان فقد استمرت علاقاتهما بإسرائيل بين مد وجزر بين عامي 2000 و2009، وانقطعت، ولا سيّما من جانب قطر، بين 2009 و2014 بسبب الحروب الإسرائيلية الثلاث على غزة. ومع عام 2014 كان سياق جديد للعلاقة مع إسرائيل قد اكتمل نضجه لدى بعض دول الخليج العربية، وتدحرج ليشمل مشاركة اليمن أيضًا في مؤتمر وارسو عام 2018 الذي نظمته إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب من أجل بدء الترتيب لتحالف عربي- إسرائيلي ضد إيران، وطرحت في ذلك الحين أيضًا فكرة إنشاء حلف ناتو عربي، وفي عام 2018 زار رئيس الوزراء الإسرائيلي عمان، وزار وزراء إسرائيليون عدد من دول الخليج خلال العقد الفائت، كما عُقد مؤتمر البحرين للتخطيط للجانب الاقتصادي من خطة القرن في حزيران/يونيو عام 2019، والتقى نتنياهو بعبد الفتاح البرهان رئيس المجلس الانتقالي في السودان، في حين استمرت قطر في ترتيب أمور الحياة اليومية في غزة بتنسيق مع إسرائيل، وحضر سفراء خليجيون المؤتمر في البيت الأبيض لإطلاق الجانب السياسي من صفقة القرن في كانون الثاني/يناير 2020، وأخيرًا أعلنت دولة الإمارات عن البدء بتطبيع علاقاتها مع إسرائيل يوم 13 آب/أغسطس 2020 من خلال خطوات متدرجة متسارعة تبدأ من التعاون في مجالات شتى وتنتهي بتبادل السفراء. ويبدو أن هنالك دولًا أخرى يتم العمل على إقناعها بتطبيع العلاقات مع إسرائيل كما جاء في نص البيان الثلاثي الأمريكي – الإماراتي – الإسرائيلي الذي قرأه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في ذلك اليوم.

تعالج هذه الورقة في أقسامها التالية رؤية إسرائيل لصيغة «السلام مقابل السلام» والرؤية العربية لها غير المتطابقة مع الرؤية الإسرائيلية، إذ يشي منذ الآن بالتناقضات التي قد تنشأ بين الرؤيتين. بعد ذلك تناقش الورقة خطوة آب/أغسطس 2020 الإماراتية نحو إسرائيل، ليلي ذلك بعض الأفكار حول برنامج العمل الفلسطيني ببعديه القصير المدى والاستراتيجي تجاه هذه الحالة الناشئة.

تحاول هذه الورقة في إطارها الكلي فهم دور البعد الإقليمي العربي وإذا كان ينحو عبر ما يقوم به إلى تطبيع الدولة الاستيطانية الاستعمارية (تحويلها إلى دولة عادية وإيقاف نزعتها التوسعية وحصرها في حدود محددة)، أو أن ما يقوم به يعزز على العكس النزعة التوسعية لتلك الدولة وهيمنتها على المنطقة ككل انطلاقًا من «بؤرة» فلسطين. تتساءل الورقة عن ماهية برنامج العمل العربي والفلسطيني في كلتا الحالتين.

أولًا: أطروحة السلام مقابل السلام
بين الصيغتين الإسرائيلية والعربية
تطابق أم تناقض؟

انتهت مرحلة المفاوضات حول مشروع الأرض مقابل السلام إلى اتفاقيتين مصرية وأردنية مع الكيان الإسرائيلي استعادت مصر من خلالها أراضيها المحتلة عام 1967، بينما استعادت الأردن أراضي الباقورة والغمر عام 2020 فقط، وبقيت هنالك مسائل مفتوحة من دون حل بين الأردن وإسرائيل تتعلق بالقدس واللاجئين والنازحين الفلسطينيين وحدود الأردن مع دولة فلسطين بعد إقامتها. بمعنى آخر، تحققت معاهدة سلام عربية واحدة فقط مع إسرائيل في حالة مصر (مع إبقاء هذه المعاهدة مسألة حدود مصر مع فلسطين غير مرسمة إلى حين التوصل إلى اتفاق فلسطيني إسرائيلي حولها)، بينما لا تزال المعاهدة الإسرائيلية مع الأردن لعام 1994 غير مكتملة التنفيذ في شأن مسائل متعددة. أما في حالة فلسطين فقد انتهت مراحل المفاوضات التي بنيت على اتفاق إعلان المبادئ (المسمى باسم اتفاق أوسلو) إلى الفشل في إنجاز اتفاق سلام فلسطيني- إسرائيلي على أساس حل الدولتين القائمتين على حدود الرابع من حزيران/يونيو من 1967.

أفضت حصيلة مقاربة الأرض مقابل السلام إلى نتيجتين: الأولى أن فلسطين لم تستطع وقف تمدد المشروع الاستيطاني الاستعماري خارج حدوده لعام 1948، بل على العكس فقد تمدد هذا المشروع ليضم القدس وفق القانون الإسرائيلي عام 1967، وليضم فعليًا ثلثي الضفة الغربية إلى إسرائيل ممثلة بالمناطق المسماة (ج)، وصولًا إلى أطروحة «تحقيق النصر الكامل على الفلسطينيين» الرائجة في أطروحات أمريكية – إسرائيلية منذ عام  2016 [4]. أما النتيجة الثانية فهي أن ملف التوسع الإسرائيلي نحو الأردن لا يزال ملفًا مفتوحًا تؤكده النيات الإسرائيلية لطرد الفلسطينيين علنًا، ومن خلال الطرد التدريجي الصامت للأردن، كما يؤكده إبقاء قضايا القدس والحدود واللاجئين مفتوحة بين إسرائيل والأردن، مع ما لحق هذه القضايا من توتير إسرائيلي متعمد مع الأردن في السنوات الاخيرة ولا سيّما في شأن الأماكن المقدسة في القدس وقتل قاض أردني على جسر الملك حسين وقتل مواطنين أردنيين داخل السفارة الإسرائيلية في عمان، وصلاة يهود زائرين للأردن في مقام النبي هارون، وإنشاء مطار في إيلات يشوِّش على مطار العقبة الأردني وغير ذلك.

ترتب عن مقاربة الأرض مقابل السلام نتيجة أخرى هي أنه في عهدها قد تم فتح الطريق أمام التطبيع العربي، ولا سيّما للدول العربية من خارج دول الطوق مع إسرائيل، وهي دول لا تحتل إسرائيل أيًا من أراضيها، وبالتالي فهي لم تكن ملزمة أصلًا بإقامة أي علاقات مع إسرائيل، وخلال هذا التطبيع الذي تم من خلال المسار المتعدد الأطراف والمتوسطية وعملية برشلونة نشأت لغة المصالح المشتركة بدءًا من طرح شمعون بيريز مشروعه للشرق الأوسط الجديد القائم على المزج بين التكنولوجيا الإسرائيلية والأيدي العاملة العربية كما طرح[5].

جاء مشروع بيريز المذكور مترافقًا مع تغطيته بورقة توت إسرائيلية سميت «الحل الوسط الإقليمي» الذي تضمن التنازل عن أراض احتلت عام 1967 مقابل السلام، مع ضم جزء آخر منها إلى إسرائيل يشمل القدس الشرقية ومناطق الغور وما أطلق عليه اسم «الكتل الاستيطانية الكبرى» إلى إسرائيل. والمفارقة أن بيريز ومعه تيار العمل الإسرائيلي قد افترض أن تقاسمًا للأراضي المحتلة عام 1967 بهذه الطريقة مقرونًا برفض عودة اللاجئين سيكون مقبولًا على الجانب الفلسطيني، كما سيفتح الباب أمام هيمنة إسرائيل على الشرق الأوسط تكنولوجيًا وتوظيفها للأيدي العاملة العربية الرخيصة في هذا الإطار. لهذا فقد رفض الفلسطينيون مشروع تيار العمل الإسرائيلي هذا في قمة كامب دايفيد عام 2000 لأنه لا يلبي الحد الادنى من المطالب الفلسطينية ولا سيّما في شأن القدس واللاجئين.

مقابل الرفض الفلسطيني بدأ مسار التطبيع مع العالم العربي الذي طرحه بيريز يأخذ مسارًا منفصلًا عن التقدم في صيغة الأرض مقابل السلام مع الجانب الفلسطيني، وأدى ذلك بدوره إلى تعزز التيار الجابوتنسكي داخل إسرائيل[6]، الذي يرى أن تحقيق تقدم على المسار الفلسطيني- الإسرائيلي ليس شرطًا مسبقًا للتطبيع مع العالم العربي، بل على العكس من ذلك فإن قوة الردع الإسرائيلية كفيلة بأن تجعل العرب يطبعون معها من دون انتظار التقدم على الجبهة الفلسطينية، لا بل زاد هذا التيار بالقول بأن التطبيع مع العالم العربي هو المدخل للحل مع الفلسطينيين وليس العكس. وعنى هذا بالنسبة إليهم أن التطبيع مع العرب سيجعل الفلسطينيين ينصاعون ويقبلون بالاستسلام والتنازل عن كل مطالبهم والقبول الكامل بضم أراضيهم إلى إسرائيل ما دام العرب لم يعودوا يقفون معهم بل يقفون مع إسرائيل[7]. هذا كله يمثل جانبًا من الصيغة الإسرائيلية لما أطلق عليه اسم «السلام مقابل السلام» بدلًا من صيغة «السلام مقابل الأرض» السابقة.

على أن الجانب الآخر لهذه الصيغة الذي تطور بوجه خاص خلال حقبة حكومات نتنياهو المستمرة منذ عام 2009، فهو يتعلق بالجانب العربي الإقليمي، حيث لم يعد المطروح هو شرق أوسط جديد تسيطر عليه التكنولوجيا الإسرائيلية وحسب، بل تجاوز ذلك ليشمل تقديم إسرائيل كقوة حماية لمصلحة الأنظمة العربية الخليجية ضد إيران وتمددها في المنطقة ولا سيّما من خلال الهجمات الإسرائيلية العسكرية على أهداف إيرانية في سورية ولبنان والعراق، والهجمات الإلكترونية داخل إيران ذاتها من أجل تدمير برامجها النووية نسبيًا أو تشويشها على الأقل. وكذلك ضد تمدد داعش على غرار الهجمات الإسرائيلية عليها في سيناء. هذا أولًا[8].

أما المتغير الثاني فيتعلق بالسعي لتوظيف ونهب الأموال العربية الخليجية لتطوير الاقتصاد الإسرائيلي كما طرح نتنياهو في مؤتمره الصحافي يوم إعلان الاتفاق مع الإمارات العربية المتحدة[9]، وتحويل إسرائيل إلى ممر للنقل بين ثلاث قارات عبر ميناء حيفا[10] هذا إضافة إلى العنصر الثالث المتمثل بالسيطرة على الاقتصادات العربية الخليجية بالتعاون مع الولايات المتحدة الأمريكية، وإخضاع أنظمة أمن هذه الدول ودفاعاتها العسكرية لتكنولوجيا مستوردة من إسرائيل مما يمكن الأخيرة من التعرف التفصيلي والسيطرة إلى جيوش وأجهزة أمن تلك الدول.

وإذ كانت الصيغة الواردة أعلاه تمثل النسخة الإسرائيلية لمشروع السلام مقابل السلام، فإن التوافق العربي ولا سيّما الخليجي معها سيكون في الموضوع الأمني أساسًا، أي العمل ضد إيران وداعش وكذلك ضد تمددات تركيا في بلدان الوطن العربي، ولكن ما عدا ذلك ستعاني دول الخليج الكثير من جانب إسرائيل، وفي مقدمة ذلك أن إسرائيل لن تحمي تلك الدول من إيران بل ستكتفي بتنفيذ المصالح الإسرائيلية البحتة القاضية بتقليم أظافر إيران فقط لمنعها من أن تكون قادرة على منافسة النفوذ الإقليمي الإسرائيلي في المنطقة العربية، وفي الوقت نفسه ستستمر إسرائيل في تسمية الخليج العربي «الخليج الفارسي» كما ورد آخر مرة على لسان نتنياهو في مؤتمره الصحافي يوم إعلان الاتفاق مع الإمارات يوم 13 آب/أغسطس 2020، كما ستمتنع عن القيام بأي إجراء فعلي يساعد الإمارات على استعادة جزر طنب الصغرى وطنب الكبرى وأبو موسى التي تحتلها إيران. بإيجاز أجندة إسرائيل هنا هي: السعي لأن تكون هي السائدة الأولى في المنطقة العربية وإقصاء إيران (وكذلك تركيا) عن منافستها في هذا المجال، هذا مع إبقاء الصراع الايراني – الخليجي مستعرًا بل وتغذيته من أجل الاستمرار في تقديم إسرائيل بصورة الحامية لدول الخليج ضد منافستها إيران وربما تركيا أيضًا. بهذا الاتجاه ستعترض إسرائيل كما فعلت في الماضي على تقديم أسلحة وطائرات أمريكية مقدمة إلى دول الخليج وذلك للحفاظ على سيطرتها الحصرية في هذا المجال.

على الجبهة الاقتصادية ستسعى إسرائيل لنهب ثروات دول الخليج، وكذلك للهيمنة على اقتصادات تلك الدول، وهو الأمر الذي ستترتب عنه توترات أيضًا.

وأخيرًا لن تكون الأمور يسيرة على الجبهة السياسية، إذ إن بقاء قضية فلسطين والجولان ومزارع شبعا وتلال كفرشوبا من دون حل سيتولد عنه أولًا انفجارات قد تحرج أنظمة الخليج، كما أن عدم رضى الشعوب العربية عن التطبيع مع إسرائيل ثانيًا سيكون عاملًا مقلقلًا آخر. زد على ذلك إجراءات الضم (سواء الفعلي أو القانوني) والتوسع الاستيطاني الإسرائيلي ستمثل في محطات معينة عاملًا مقلقلًا ثالثًا، ورابعًا هنالك توترات قد تنشأ على خلفية أي إجراء إسرائيلي دراماتيكي قد يتم في المسجد الاقصى في القدس، وخامسًا التوترات التي قد تنشأ إقليميًا من جراء دعم إسرائيل لمشروع سد النهضة الإثيوبي ضد مصر إضافة إلى المزيد من الانقسامات التي سنشأ في الصف العربي وداخل الجامعة العربية وبين دول الخليج ذاتها من جراء الموقف من إسرائيل، وغير ذلك من التوترات التي قد تنشأ في هذه المنطقة ذات الرمال المتحركة والتي لا تستقر على أي حال قط.

يعني ما تقدم، أن التناقضات مع فلسطين والأردن التي نشأت في إطار صيغة الأرض مقابل السلام لن تنتهي مع الانتقال إلى صيغة «السلام مقابل السلام» ولربما كان جديرًا بدول الخليج أن تتشاور مع فلسطين والأردن لاستلهام التجربة المريرة لصيغة الأرض مقابل السلام قبل إقدامها على تجربة جديدة قد تكون أكثر مرارة تحت مطلة صيغة «السلام مقابل السلام».

ثانيًا: حالة الإمارات مع إسرائيل

حتى مؤتمر مدريد للسلام في الشرق الأوسط عام 1991، اتخذت الإمارات العربية المتحدة بقيادة الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان موقفًا عدّ إسرائيل دولة عدوة للعرب ورفض التطبيع معها، كما رفض في عام 1991 تصويت بلاده لمصلحة إلغاء قرار سابق للجمعية العامة صدر في سبعينيات القرن الماضي يصف الصهيونية كحركة عنصرية. وبعد توقيع اتفاق أوسلو عام 1993، بدأت الإمارات مسيرة التطبيع السرية مع إسرائيل حيث التقى الشيخ محمد بن زايد شمعون شيبس، مدير مكتب إسحق رابين رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك في جنيف عام 1994 كما تم لقاء بين رئيس الموساد شابتاي شابيط والأجهزة الاستخبارية الإماراتية[11]، كما قام الرئيس الأمريكي بيل كلينتون آنذاك بتزويد الإمارات بموافقة من رئيس الوزراء الإسرائيلي إسحق رابين بطائرات إف – 16 مقابل نصف تطبيع مع إسرائيل[12]. مع اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثانية عام 2000 جمد الشيخ زايد العلاقات مع إسرائيل، واستمر الشيخ زايد على سياسته هذه حتى وفاته عام 2004. أما بعد وفاة الشيخ زايد فإن سياسة ابنه محمد بن زايد للتقارب مع إسرائيل بعد عام 2004 لم تعد تقع في إطار الدعم الجزئي لصيغة الأرض مقابل السلام السابقة، بل هي نبت جديد منقطع عن تلك السياسة ولا يمثل استمرارًا لها، ويعني ذلك أن الاتفاق الإماراتي- الإسرائيلي لعام 2020 هو الأول الذي تقرر فيه دولة عربية رسميًا مغادرة ساحة الصراع مع إسرائيل والتعامل معها وفق المصالح الأمنية والاقتصادية البحتة. ويعود هذا النبت إلى القرن الحادي والعشرين وعولمته النيوليبرالية التي حولت الإمارات إلى مركز تجاري استثماري عالمي يشارك فيه مستثمرون إماراتيون وأجانب، بما طور ثروتها بحيث أصبحت هذه الدولة الصغيرة الحجم تتصرف كقوة إقليمية كبرى، من هنا جاءت تدخلاتها ضد الإخوان المسلمين في مصر وسورية وليبيا، وتدخلاتها في اليمن، وكذلك محاولتها لإنشاء مجموعة فلسطينية موالية لها عبر القائد الفتحاوي المفصول محمد دحلان.

إذًا، نشأت سياسة إماراتية مركز اهتمامها هو المصالح المتبادلة وليس القيم والأطر المعيارية كمقررة في حقل العلاقات الدولية. وفي إطار ذلك يصبح الالتزام لفلسطين التزامًا لفظيًا لا يتم التقيد به في كل الأوقات، أما الأفعال فتحكمها المصالح والمنافع.

في ضوء ما تقدم أعلنت الإمارات دعمها لخطة صفقة القرن وحضرت احتفال الإعلان عنها في كانون الثاني/يناير 2020، كما أن اتفاقها مع إسرائيل لم يشتمل على مطالبة بحق تقرير المصير والعودة والدولة المستقلة للشعب الفلسطيني، واكتفى بقبول تعليق إعلان الضم القانوني الإسرائيلي المشمول في صفقة القرن بدل إلغائه، وبرر ذلك أنور قرقاش وزير الدولة الإماراتي للشؤون الخارجية بالرغبة الإماراتية في «شراء الوقت للفلسطينيين حتى يستفيدوا منه للتفاوض مع تل أبيب على وقف الضم»[13]. معنى ذلك أن الإمارات لن تتراجع عن علاقاتها بإسرائيل لو تم إعلان الضم القانوني. كما قبلت الإمارات بوصول المسلمين «القادمين بسلام» كما ورد في نص الإعلان عن الاتفاق الذي قرأه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى المسجد الأقصى للصلاة من خلال البوابة الإسرائيلية، والتزمت بالتعاون الأمني والاقتصادي والصحي والتكنولوجي مع إسرائيل، كما قبلت بالعمل مع إسرائيل والولايات المتحدة لتطبيق خطة صفقة القرن ولجلب دول عربية أخرى للتطبيع مع إسرائيل (نص إعلان تطبيع العلاقات الإسرائيلي -  الإماراتي).

لا تعمل إسرائيل وفق هذه الصيغة الإماراتية المتعولمة، فلا تزال إسرائيل دولة أيديولوجية تسعى للتوسع في كل فلسطين وإحكام السيطرة على العالم العربي بما في ذلك أن تصبح هي منظمة «سياحة» العرب والمسلمين للمسجد الأقصى. وفي هذا الإطار قال نتنياهو بعد ساعات قليلة من إعلان الرئيس ترامب للاتفاق الثلاثي مع الإمارات إنه التزم للولايات المتحدة وليس للإمارات بتعليق ترسيم الضم قانونيًا، وأن هذا الالتزام هو التزام مؤقت لن يثنيه عن الإقدام على ترسيم الضم بعد موافقة أمريكية مرتقبة. وعدا عن ذلك ستبدأ مشاكل أخرى في الظهور، فبينما أقر الاتفاق الثلاثي أن المسيرة نحو التطبيع الكامل وتبادل السفراء ستكون متدرجة وتبدأ بسلسلة من الاتفاقات الاقتصادية والصحية وغيرها، تتوج لاحقًا بالعلاقات الكاملة، فقد يبدأ قريبًا الجدل حول مدة التدرج وموعد التطبيع الكامل، كما قد يحصل جدل حول مدة تعليق إعلان الضم القانوني، وجدل ثالث حول طبيعة المشاريع المشتركة ومضمونها وإذا ما كانت متساوية أم في إطار هيمنة إسرائيلية، ورابع حول حجم الاستثمارات الإماراتية في إسرائيل مقارنة بحجم الاستثمارات المشتركة و/أو الإسرائيلية في الإمارات، وخامس بدأ للتو حول تزويد الإمارات بطائرات إف-35 الأمريكية المتطورة من عدمه. أي أن المرحلة القادمة ستشهد صراعًا وتوترات ستدور لا في إطار القيم، ولكن في إطار مدى التوازن والتضارب في المصالح مع دولة استيطانية استعمارية تعرف جيدًا ماذا تريد من فلسطين ومن المنطقة. مع توقيع الاتفاق الثلاثي مع الإمارات نجحت أمريكا وإسرائيل في تحقيق المزيد من الشروخ في المواقف العربية وزادت من تفكيك جامعة الدول العربية كما جعلت من اتفاقية الدفاع العربي المشترك أثرًا بعد عين، بما تمهد هذه الإنجازات من فرصة للإطباق الإسرائيلي على المنطقة وتهيئتها لطرد الفلسطينيين إليها وتحقيق المزيد من التوسع على أراضيها بعد الإجهاز على فلسطين كما تتوهم.

خلاصة وبدائل

عود على العنوان، لم ينجح العرب خلال مرحلة صيغة الأرض مقابل السلام في تطبيع إسرائيل، أي تحويلها إلى دولة عادية منحصرة جغرافيًا في منطقة محددة لا تخرج عنها ومعرَّفة دستوريًا. وعلى العكس من ذلك فقد انتقل بعضهم في السنوات الأخيرة إلى مرحلة قبول التوسع الإسرائيلي الفعلي على الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967، وباتوا يكتفون بأن تعلق إسرائيل ترسيم هذا الضم الفعلي قانونيًا، مقابل القبول بتغلغل إسرائيل في المنطقة وقبول اعتداءاتها على سورية والعراق ولبنان وغزة تحت تبرير أن هذه الاعتداءات موجَّهة ضد الوجود الإيراني في الدول الثلاث الأولى وضد حماس في الأخيرة، هذا ناهيك بقبول ممارساتها لاستبدال القيادة الفلسطينية، وتوقيع اتفاقيات التعاون الأمني والتكنولوجي وغيرها مع إسرائيل واهمين أن اتفاقيات من هذا النوع قد تدفع إسرائيل لإعلاء المصلحة فوق أيديولوجيا التوسع الإقليمي والقبول بالتالي بالاندماج في المنطقة.

تعاني هذه المقاربة في أحسن الأحوال قصورًا معرفيًا بالمشروع الاستيطاني الاستعماري بما هو مشروع استئصالي اقتلاعي إحلالي بحكم التعريف، ولكنها في الواقع تعاني إحلال المصالح الضيقة القصيرة المدى لحكام مستبدّين ضد مصالح شعوبهم وضد مستقبل المنطقة العربية كمنطقة يفترض أن تتحرر من أغلال الاستعمار الجديد، وأن تأخذ شعوبها مصيرها بيدها من أجل تحقيق الحرية والعدالة والتقدم في إطار تشاركي يحترم التنوع القائم في المنطقة ويصرف النزاعات عندما تقوم بين شعوبها وقومياتها التي تشترك مع العرب في الأرض والمصير (كشركائنا الأكراد والأمازيغ) بصورة سلمية.

لربما يجب أن تنهمك فلسطين والبلدان العربية الداعمة في بعض المسائل التكتيكية العاجلة التي دعت إليها مقالات متعددة لمنع مزيد من الانهيار عبر التوجه إلى الإمارات من جانب فلسطين ومن دول أخرى عربية وغير عربية مساندة لكي لا تمضي قدمًا في توقيع الاتفاق مع إسرائيل والترسيم الكامل للعلاقات، والتوجه أيضًا إلى الدول المرشحة لتطبيع العلاقات مع إسرائيل لثنيها عن ذلك، ومخاطبة الملك سلمان ملك السعودية لثني ابنه محمد عن دعم خطوة الإمارات.

لكن هذه الخطوات على أهميتها لا تنفي مواكبتها مع إحياء الكفاح الفلسطيني الشعبي الموحد داخل فلسطين وخارجها وبالتعاون مع القوى الشعبية الحية في العالم العربي مترافقًا مع استخدام الوسائل القانونية والسياسية الدبلوماسية والاقتصادية التنموية والمعرفية والإعلامية من أجل إعادة قضية فلسطين إلى رأس أولويات الأجندة العالمية وإخراجها من دائرة التهميش.

في الجامعة العربية تنتظرنا مهمة العمل لإعادة التوافق العربي في شأن فلسطين وعلاقتها بالقضايا الأخرى الأساسية التي تواجه الأمة، وذلك من خلال جهد صبور يشمل إعادة فتح الحوار الدؤوب حول مسائل أساسية كمفهوم الأمن القومي العربي وعلاقته بفلسطين، والموقف العربي المعياري تجاه قضية فلسطين، ومعاهدة الدفاع العربي المشترك، وتقييم تجربة الأرض مقابل السلام مع إسرائيل ونتائجها المُرة لفلسطين والأردن، وبيان خلل صيغة السلام من أجل السلام ونقاش طبيعة الخطر الإسرائيلي على المنطقة واتجاهاته، وإعادة النظر في المبادرة العربية للسلام لكونها مثلت جسرًا لمن قاموا بتخطيها نحو التطبيع قبل التوقيع، وطرح مبادرات لحماية فلسطين والأردن من التوسع الإسرائيلي وللتضامن مع مصر في شأن مشكلة سد النهضة مع إثيوبيا، ومع العراق وسورية وليبيا ضد التدخلات الأجنبية، وإعادة طرح قضايا جذرية مثل التعاون في الجمعية العامة للأمم المتحدة من أجل إعادة تعريف الحركة الصهيونية كحركة عنصرية، ومطالبة الأمم المتحدة بإعادة النظر في مشروعية صك الانتداب، والنظر في عضوية إسرائيل في الأمم المتحدة في ضوء إخلالها بتنفيذ القرارين 181 و194 الواردين كشرطين في قرار الجمعية العامة الرقم 273 لعام 1949 القاضي بقبول إسرائيل عضوًا في الأمم المتحدة.

في إطار حوار من هذا النوع سيكون مطلوبًا أن تقف فلسطين في صف العالم العربي في مواجهة التهديدات التي تمثلها إيران وتركيا، ولكن مع إقناع العرب بأن الأولوية هي التهديد الإسرائيلي الذي يتطلب أيضًا فتح الحوار المديد والمضني مع كل من تركيا وإيران من أجل مواجهته معًا.

خارج الجامعة العربية من الملائم أن نلتزم بقواعد معيارية تضعنا مع الشعوب في مواجهة الاستبداد والقمع ومن أجل إعادة الاعتبار لمشروع نهضوي عربي يستند إلى الحرية والعدالة واحترام التنوع وحقوق الإنسان. من ردودنا على الضم الإسرائيلي ربما يلزم توقيع اتفاقيتي ترسيم حدود بين فلسطين وكل من الأردن ومصر، والتعاون الوثيق مع الأردن في مسائل القدس واللاجئين وغيرهما، وتعزيز العلاقة والتعاون مع الدول الداعمة لفلسطين عربيًا كالجزائر وتونس والكويت ولبنان.

في ما يتعلق بإسرائيل والمنطقة هنالك خياران: الأول هو السعي لدمجها في المنطقة من خلال مشاريع مشتركة وهو الخيار الذي أثبت المسار المتعدد الأطراف في تسعينيات القرن الماضي فشله حيث أرادت إسرائيل الأمرين معًا: أي الاحتفاظ بالأرض والتوسع جنبًا إلى جنب مع المشاريع المشتركة وفتح أبواب الوطن العربي أمامها. وعليه فإن الطريق الآخر هو طريق استعادة القوة العربية وتقديم عرض إلى الإسرائيليين بعد ذلك للاندماج كأفراد في الوطن العربي الموحد. قد يبدو هذا الطرح الذي قدمه الكاتب اللبناني جوزيف سماحة في التسعينيات من القرن الماضي[14] خياليًا وربما حتى مثيرًا للسخرية عند بعض من يقرأونه، ولكنه الطريق الوحيد الممكن وإن طال أمد الوصول إليه.

ختامًا حاولت هذه الورقة تطوير منهجية لدراسة دور العامل الإقليمي العربي في تعزيز أو إضعاف المشروع الاستيطاني الاستعماري، وهو أمر قلّما تطرقت إليه الدراسات السابقة حول الاستيطان الاستعماري في دول مختلفة من العالم. ولعل هذه المنهجية تكون فاتحة لإغناء الحوار الذي ساهم فيه مركز دراسات الوحدة العربية بنتاجات عميقة وغنية منها مجلد ضخم صدر عام 2000 حول ماذا نفعل كعرب مع إسرائيل[15]، كما أن تكون فاتحة للتطوير في دراسات أخرى لاحقة.

كتب ذات صلة: