مدخل:

إنّ الحرب الدائرة الآن في أوكرانيا غير معزولة عن مدخلات الحرب ذات الصلة المباشرة بالأمن القومي الروسي. وفي الوقت عينه، هي حرب تُتوج حالة الصراع الدولي حول النفوذ والتأثير في القرار الدولي ومجريات الأمور على وجه الأرض، وهي حرب تهدف إلى إعادة رسم خرائط النفوذ وإعادة التموضع الدولي بعد ثلاثة عقود انفردت فيها الولايات المتحدة الأمريكية بقيادة العالم، وفرضت خلالها رؤاها الثقافية والاقتصادية والسياسية عليه بمساندة غربية.

خلال هذه الحقبة، تعرضت دول عظمى، مثل روسيا والصين، لمحاولات الإضعاف والإخضاع والتهميش، فعكفت على ذاتها، وأعادت بناء قدراتها الاقتصادية والعسكرية والسياسية، بالقدر الذي يؤهّلها لاستشراف مستقبلها الحر وتحقيق رؤاها الاستراتيجية وتطلعاتها المستقبلية، التي تفرض عليها إعادة بناء النظام الدولي وإخراج العالم من الهيمنة والقطبية الواحدة إلى طلاقة التعددية القطبية التي تفتح آفاق التوازن الدولي الذي غاب بغياب الاتحاد السوفياتي.

وحين أدرك الغرب ممثلًا بحلف الأطلسي ما بلغته روسيا والصين من قدرات مكَّنتهما من التغلّب على محاولات التطويق والهيمنة الغربية، سعى إلى إحكام حصاره عليهما، وإلى المحافظة على المكاسب الاستراتيجية التي تحقّقت له خلال العقود الثلاثة الماضية، في غياب المنافس الذي يهدد الآن تلك المكاسب.

لقد بُذلت جهود كثيرة في متابعة الحرب في أوكرانيا، وتركزت في معظمها على تناول معطياتها اليومية، والتوقف عند وقائع العمل العسكري على أرض المعركة. وفي مقابل ذلك، يسعى هذا المقال إلى تقديم قراءة استشرافية لمستقبل الحرب في أوكرانيا، مستخدمًا منهج دراسة المستقبلات ومنهج بناء المشاهد المستقبلية.

ما الذي حمل روسيا على العمل العسكري؟

في الخطاب الذي ألقاه رئيس الاتحاد الروسي فلاديمير بوتين في التاسع من شهر أيار/مايو 2022 بمناسبة احتفال بلاده بيوم انتصار الاتحاد السوفياتي على النازية في عام 1945، اتهم الدول الغربية بأنها كانت تستعد لغزو الأراضي الروسية، واصفًا العملية العسكرية في أوكرانيا بضربة استباقية للعدوان الغربي على بلاده، وقال مخاطبًا شعبه: «أنتم اليوم تدافعون عن ما حارب من أجله أجدادكم، وأجداد أجدادكم»، وأضاف «واجبنا أن نفعل كل شيء حتى لا يتكرر رعب الحرب العالمية مرة أخرى».

وفي كلمته التي ألقاها عشية العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، قدم رئيس الاتحاد الروسي بوتين سردًا تاريخيًا لعلاقة بلاده بأوروبا (الغربية) وأمريكا، وتوقَّف عند عِبر تلك العلاقة التي أكدت عنده طبيعة التوجهات الأطلسية بصفة عامة، وتوجهات ما سمَّاه إمبراطورية الكذب الأمريكية بوجه خاصّ، لكونها توجهات تعمل على تحقيق مصالح طرف واحد على حساب مصالح بلاده. وقد عرض المواقف التي خذلت فيها دول حلف الأطلسي بلاده خلال ثلاثينيات وأربعينيات وثمانينيات القرن الماضي، وأثناء انهيار الاتحاد السوفياتي وما تبع تلك الحقبة.

وأسهب بوتين في الحديث عن العلاقات الروسية – الغربية خلال ثلاثين عامًا تمثل عمر الاتحاد الروسي الذي نشأ عقب تفكك الاتحاد السوفياتي، وقال: «من المعروف أنّنا على مدى ثلاثين عامًا حاولنا بإصرار وصبر التوصّل إلى اتفاق مع دول الناتو حول مبادئ الأمن المتكافئ وغير القابل للتجزئة في أوروبا. وفي مقابل مقترحاتنا، واجهنا باستمرار الخداع والأكاذيب الساخرة أو محاولات الضغط والابتزاز، في حين أنَّ حلف شمال الأطلسي في هذه الأثناء، ورغم كل احتجاجاتنا ومخاوفنا، توسع باطّراد. إنّ آلة الحرب تتحرك، وأكرر أنها تقترب من حدودنا، رغم وعودهم لبلدنا بعدم توسيع الناتو، ولو لشبر واحد، إلى الشرق. أكرّر، لقد خدعونا. إنهم يعملون على تدمير قيمنا التقليدية وفرض قيمهم الزائفة علينا، التي من شأنها أن تفسدنا من الداخل».

وقال بوتين: «في أراضينا التاريخية، يتمّ إنشاء كيان مناهض لروسيا، ويتم وضعه تحت السيطرة الخارجية الكاملة وتعزيزه بشكل مكثف من قبل القوات المسلحة في دول الناتو، ويتم منحه أحدث الأسلحة، وهم يزعمون أيضًا أنهم سيطوّرون أسلحة نووية. هذه سياسة احتواء لروسيا، وهي تمنح الناتو مكاسب جيوسياسية واضحة. بالنسبة إلى بلدنا، إنها مسألة حياة أو موت في النهاية، ومسألة تمس مستقبلنا التاريخي كشعب، وهي ليست مبالغة. هذا صحيح. هذا تهديد حقيقي، ليس لمصالحنا فحسب، ولكن لوجود دولتنا وسيادتها أيضًا. هذا هو الخط الأحمر الذي تم الحديث عنه عدة مرات».

وبهذا، حدّد بوتين مخاطر سياسة احتواء روسيا التي تنتهجها دول حلف الأطلسي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، وحدّد طبيعتها، لكونها تمثل تهديدًا وجوديًا لبلاده التي شنّت عملية عسكرية واسعة على دول المنظومة الغربية التي تقودها أمريكا على الأرض الأوكرانية، دفاعًا عن وجودها وحاضرها ومستقبلها، كما يقول الخطاب الإعلامي الروسي.

حذّر الرئيس الروسي في خطاب شهير له في عام 2007، ألقاه في مؤتمر الأمن الذي عُقد في مدينة ميونيخ، من الأحادية القطبية، وأكد رفضه لها، كما أكَّد أن الأمن في أوروبا مشترك لا يمكن تجزئته.

تجاهل الأطلسي هذا التحذير، وقام بالثورات الملوّنة التي أطاحت حكومات قريبة من موسكو. وفي مؤتمر بوخارست في عام 2008، كان قرار دول الأطلسي بفتح باب انتساب جورجيا وأوكرانيا إلى الحلف. في هذا القرار، تمّ زرع جذور الأزمة الحالية، وتمّ تعزيزها عبر الانقلاب الذي دفعت به في أوكرانيا في عام 2014، والإتيان بحكومة شديدة العداء لروسيا، تسيطر عليها أقلّية من «النازيين الجدد».

وفي أواخر عام 2021، حاول الأطلسي تغيير النظام في بيلاروسيا. وفي عام 2022، تكرّر السيناريو في كازاخستان لاستكمال محاصرة روسيا، فنجحت الأخيرة في وأد التمرّد والقضاء عليه في البلدين بسرعة فائقة.

في مقابلة أجرتها صحيفة فاينانشيال تايمز، في السابع من أيار/مايو 2022، مع مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية (سي آي إيه)، بيل بيرنز، حول الحرب في أوكرانيا، قال: «ما رأيته، وبخاصة على مدى العقد الماضي، هو أنه بطريقة ما يتمايل في مزيج قابل للاشتعال من المظالم والطموح وانعدام الأمن، كل نوع ملفوف معًا». وفي هذا التصريح تأكيد أمريكي لحالة التهديد التي شعرت بها روسيا وحملتها إلى العملية العسكرية في أوكرانيا.

يتّصل كلّ ما سبق بالوقائع والحيثيات التي حملت الاتحاد الروسي ورئيسه فلاديمير بوتين على اتخاذ قرار كبير دخلت عبره روسيا في مواجهة استراتيجية مع أمريكا وحلفائها في حلف الناتو على التراب الأوكراني، لحماية أمنها القومي وكيانها السياسي ومصالحها الاستراتيجية التي لن يحققها سوى انتصار سياسي بأداة عسكرية وأخرى اقتصادية، ينتج خرائط نفوذ استراتيجي جديدة وواقعًا جيوسياسيًا جديدًا.

أولًا: مكاسب وخسائر تكتيكية واستراتيجية

لقد بدأت أطراف الحرب في تحقيق مكاسب تكتيكية واستراتيجية خلال هذه المرحلة القصيرة من عمر الحرب، فروسيا التي استخدمت النفط والغاز سلاحًا في هذه الحرب، بدأت تجني مكاسب معتبرة ترقى إلى حد المكاسب الاستراتيجية، إذ تمكنت من رفع قيمة عملتها الوطنية ومضاعفة تلك القيمة، وفرضتها كعملة وحيدة لشراء منتوجاتها من النفط والغاز، وفرضت ذلك على دول الاتحاد الأوروبي التي اضطرت إلى الرضوخ للقرار الروسي، وتزامن مع ذلك موقف خليجي فيه مقدار من التجاوب مع الموقف الروسي في ما يتصل بالتعامل في مجالَي النفط والغاز من حيث الإنتاج وكمياته، وربما من حيث كسر حصرية بيع النفط والغاز بعملة واحدة هي الدولار، وكل ذلك ينبئ بإمكان فقدان الدولار مكانته التي تربّع عليها وحيدًا منذ عقود من دون أن تتوافر له تغطية حقيقية من الذهب الذي راكمت منه روسيا احتياطيًا ضخمًا سيعززه قرارها الخاص باعتماد الروبل عملة وحيدة في تعاملاتها مع الغرب، ومن جانب آخر تمكنت روسيا من عمل اختراق مقدَّر على المستوى الدولي من خلال حيْد دول كانت تقف باستمرار إلى جانب الغرب على المسرح الدولي، وكسبت دولًا أخرى حتى كادت تتقاسم رصيد دول العالم بينها وبين الغرب في الأمم المتحدة، ولعل نتيجة التصويت الذي أُجري لتعليق عضوية روسيا في مجلس حقوق الإنسان في السابع من شهر نيسان/أبريل الماضي دليلٌ على المتغيرات التي حصلت خلال مرحلة الحرب القصيرة على مستوى الولاء للغرب وما تحمله من مؤشرات استراتيجية على المسرح الدولي ومستقبل هذا المسرح.

على صعيد الأمن القومي الروسي، تمكنت روسيا حتى الآن من الصمود في مواجهة التهديدات المحدقة بأمنها، فتمكنت من تجميد التهديدات العسكرية الغربية الاستراتيجية التي تستهدفها، وصمدت في مواجهة العقوبات التي فرضها عليها خصمها في حلف الأطلسي، ونجحت في تحويل بعض المهددات إلى فرص ولا سيَّما في المجالات الاقتصادية والسياسية وحتى على مسرح العمليات العسكرية.

وفي مقاربة لنتائج العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، رأى زياد الحافظ في مقاله «الغرب بين الربح التكتيكي والخسارة الاستراتيجية»، الصادر يوم 4 آذار/مارس 2022، أن حلف الأطلسي حقّق أربعة مكاسب من خلال الحرب في أوكرانيا، هي:

جرّ روسيا إلى مواجهة عسكرية في أوكرانيا مع القوّات المسلّحة الأوكرانية والكتائب «النيونازية» التي تسيطر على مقدّرات البلاد، وهو نجاح تكتيكي الطابع لأمريكا وحلفائها، ستكون له تداعيات استراتيجية سلبية.

ضرب التقارب الأوروبي – الروسي بوجه عام، ومنع التقارب الروسي- الألماني، عبر تجميد تشغيل خط سيل الغاز الشمالي الثاني (نورد ستريم 2). والمعلوم أن روسيا تزوّد ألمانيا وأوروبا بأكثر من 40 بالمئة من حاجاتها إلى الغاز، لكن مع تعثّر خط الغاز الذي يمرّ بأوكرانيا، أصبحت ألمانيا وأوروبا مكشوفة بوجه كبير تجاه الغاز.

هنا، ينبغي التذكير بأن خط «نورد ستريم 2» بُني بناءً على طلب ألمانيا، بعد الانقلاب الذي حصل في أوكرانيا عام 2014. لذلك، يصبح إقفال هذا الخط نجاحًا تكتيكيًا آخر، لكن مردوده الاستراتيجي سيكون كارثيًا على ألمانيا وأوروبا التابعة للولايات المتحدة.

فرض حصار مالي واقتصادي على روسيا لعزلها عن العالم وإخضاعها، بغية قلب النظام القائم واستيلاد حكومة تابعة للغرب، تمهيدًا لسلب الثروات الاقتصادية الضخمة الموجودة في روسيا، لكن هذا النجاح التكتيكي في الحصار سيكون كارثيًا على الولايات المتحدة، وهو ينذر بتسريع نهاية هيمنة الدولار في التداول العالمي.

السيطرة على السردية الإعلامية بصورة مطلقة في الدول الغربية، لكن الحلف في المقابل كرّس سقوط الإعلام المهيمن الذي لم ينقل وقائع العملية العسكرية على نحو صحيح، بل اكتفى بسرد الأكاذيب والتضليل والتلفيق، ما أنهى صدقيته في الولايات المتحدة، حيث اكتسب الإعلام الموازي شرعية متنامية في معركة «الصدقية».

ثانيًا: مشاهد مستقبل الحرب في أوكرانيا

لقد مثّل ما سبق معطيات تأسس عليها قرار روسيا الذي قضى بدخول قواتها إلى أوكرانيا، ومثَّل كذلك ملمحًا إلى المكاسب التكتيكية التي حققتها أمريكا وحلفاؤها حتى تاريخ هذا المقال، وأبرز في المقابل بعض النتائج الاستراتيجية لهذه المكاسب التي تحسب لمصلحة روسيا، ومن خلاصات كل ما سبق، يستشرف المقال مستقبل الحرب في أوكرانيا عبر ثلاثة مشاهد مستقبلية، هي:

المشهد الأول: مشهد الانتصار الروسي

يمنح هذا المشهد روسيا القدرة على تحقيق أهدافها الاستراتيجية، ومن بينها صون أمنها القومي، وإعادة رسم الجغرافيا السياسية لأوكرانيا، بالقدر الذي يؤمن انفصال القرم ودونيتسك ولوغانسك وغيرها من المناطق المتاخمة للحدود الروسية، ويؤمن نزع سلاح أوكرانيا، ويمنع امتلاكها الأسلحة الاستراتيجية بوجه عام، والسلاح النووي بوجه خاص، ويضمن كذلك إعادة الهندسة السياسية في أوكرانيا، لتصبح دولة محايدة، ما لم تكن موالية لروسيا، ولتصبح محررة من وجود النازية الجديدة وتأثيرها.

ويتّصل بهذا المشهد توسع نفوذ روسيا والصين في المسرح الدولي، من خلال وضع حد للأحادية القطبية على المستوى الكوني، وفتح الأفق على تعددية قطبية تقوم على أنقاض الهيمنة الأمريكية الغربية على القرار الدولي في أبعاده السياسية والاقتصادية والثقافية.

إن مؤشرات الحرب ومعطيات الأداء السياسي والدبلوماسي والاقتصادي والعسكري تؤشر جميعها إلى أنَّ روسيا تحقق في مساراتها المختلفة تقدمًا معتبرًا؛ فعلاقاتها مع الصين بلغت مرحلة التعاون الاستراتيجي، بحسب التعبير الصيني في أعلى مستوياته، وعلاقاتها تعززت مع كوريا الشمالية والهند وإيران وجنوب أفريقيا وعدد آخر مقدر من دول العالم. وفي داخل روسيا، هناك حالة من التماسك الوطني الشامل في أوساط الأطراف السياسية الروسية، مثلت سندًا ونصيرًا للدولة في حربها الجارية في أوكرانيا.

في الجانب الاقتصاديّ، إنّ زيادة أسعار الغاز والنفط التي حدثت بسبب الحرب غذّت الخزينة الروسية بعائدات مالية ضخمة انعكست على قيمة الروبل الروسي، التي زادت نحو 100 بالمئة في الحقبة التي سبقت بداية الحرب وحتى الآن، ولم يستطع الغرب تحقيق هدف استنزاف روسيا اقتصاديًا وعزلها دوليًا.

ومن النتائج الأولية لهذه الحرب، تحقيق تقدم في المسار الروسي- الصيني الهادف إلى كسر الهيمنة الغربية على نظام ومنظومة المدفوعات المالية الدولية. ولعل تراجع التعامل بالدولار في اقتصادات وازنة كالاقتصاد الصيني والهندي والروسي يُعَدّ مؤشرًا على تقدم المسار الروسي- الصيني المشترك. ويعزز هذا المؤشر المؤشرات التي صدرت من السعودية والإمارات بشأن تعاملهما بالروبل الروسي واليوان الصيني والروبية الهندية، الأمر الذي يشي ببداية نهاية حقبة البترودولار.

في المقابل، تدخل روسيا هذه الحرب بخيار واحد، هو خيار الانتصار العسكري الذي يحقق أهدافها من خلال الوقائع على الأرض أو عبر تسوية تنتجها وقائع كسبتها على أرض أوكرانيا. وإذا اتخذ حلف الأطلسي قرار المشاركة المباشرة في هذه الحرب عبر آلته العسكرية، ستدخل روسيا الحرب بكل ثقلها، لأنها معركة مصير ومستقبل وبقاء بالنسبة إليها.

هنا، لن تقبل روسيا بالهزيمة والانكسار والتراجع، وقد تضطر إلى استخدام قدراتها النووية، حتى لا تكون الخاسر الوحيد في هذه الحرب، وهو ما يدركه الأطلسي ويعمل على تفاديه. لهذا، ركز جهده على عزل روسيا دوليًا، واستنزافها اقتصاديًا، وقتالها عبر الآلة العسكرية الأوكرانية.

لقد حدثت متغيِّرات كبيرة في مؤشرات القوة بين الدول العظمى في العقدين الأخيرين من هذه الألفية، إذ تبدلت مواقع الدول العظمى في ما يتصل بالقدرات الاقتصادية والعسكرية والسياسية. وقد خاضت الولايات المتحدة الأمريكية خلال هذه الحقبة حروبًا عسكرية واقتصادية في الصومال وأفغانستان والعراق وسورية وإيران وغيرها من الدول، أثرت في قدراتها كافة، كما أثرت نتائج جولات الحروب الإسرائيلية في فلسطين ولبنان سلبًا في هذه القدرات، الأمر الذي أدخل الولايات المتحدة الأمريكية التي حكمت العالم منفردة لثلاثة عقود في حالة تراجع استراتيجي يشي بأُفول قدراتها وتضعضع مكانتها الدولية.

يضاف إلى ذلك هشاشة الموقف الأوروبي وانقسامه بين تابع للسياسة الأمريكية ورافض للتبعية، وهو ما يضعف احتمال مضيّ الغرب متحدًا في خيار الحرب الكونية الثالثة بكل ما تمثله من مخاطر على الجميع.

المشهد الثاني: مشهد التراجع الروسي 

هو المشهد الذي يتحقق حين تعجز روسيا عن بلوغ الغايات التي دخلت الحرب من أجلها. وقد يتصل هذا العجز بأدائها العسكري أو السياسي أو بتداعيات الحرب الاقتصادية عليها. حينها، تحقق أمريكا وحلفاؤها انتصارًا على روسيا، وهو الذي لم يتحقق منه شيء حتى الآن.

وفي مقابلته مع صحيفة الفاينانشيال تايمز، حذّر مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية (سي آي ايه)، بيل بيرنز، من أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يراهن كثيرًا على المرحلة الثانية من حربه في أوكرانيا، ويعتقد أن «مضاعفة» الصراع العسكري لا يزال أفضل طريق للمضي قدمًا، وقال بيرنز إن هذه عقلية الرئيس بوتين التي تجعل المرحلة الثانية من العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا محفوفة بالمخاطر على الأقل، وربما أكثر خطورة من المرحلة الأولى من الصراع، وأشار إلى أن بوتين في حالة ذهنية لا يعتقد أنه قادر على تحمل الخسارة. وقال: «أعتقد أنه مقتنع الآن أن مضاعفة عدد مراتبها ستمكنه من إحراز تقدم».

إزاء ذلك، إن مشهد التراجع الروسي مرهون بدخول الأطراف في حرب عسكرية شاملة ومباشرة، يُغير من خلالها حلف الأطلسي موقفه الرافض حتى الآن مشاركة الجيش الأوكراني في الحرب، وينزل إلى ساحة المعركة برجاله وعدته وعتاده.

إذا حدث ذلك، ستكون المعمورة أمام حرب كونية ثالثة قد تستدعي استخدام طرف من أطراف الحرب أو طرفيها القدرات النووية التي ستضع نهاية للمعمورة ونهاية للحياة فيها. وفي إفادة لها أمام جلسة استماع في مجلس الشيوخ الأمريكي منتصف شهر أيار/ مايو الماضي، قالت مديرة الاستخبارات الوطنية الأمريكية أفريل هينز، إن الأشهر القليلة المقبلة ربما تشهد تصعيد الأفعال الروسية التي سيكون من الصعب التنبؤ بها، لكنها عبَّرت عن اعتقادها بأن الكرملين لن يأذن باستخدام الأسلحة النووية إلا إذا أدرك بوتين حدوث «تهديد وجودي» لروسيا، وأضافت أفريل: «الاتجاه الحالي يزيد احتمالية أن يلجأ الرئيس بوتين إلى وسائل (عسكرية) أكثر تشددًا».

إن التطور الأكبر في هذه الحرب يستدعي تدخلًا عسكريًا مباشرًا من الغرب فيها، ليخوضها جنبًا إلى جنب مع الجيش الأوكراني لا أن يقف عند حد الدعم السياسي والعسكري، وهذا الذي لم يحدث حتى الآن، ولا يتوقع حدوثه، فالأطلسي لن يشارك الجيش الأوكراني ساحات القتال والخسائر المباشرة أو حتى المكاسب، لأنه يدرك المخاطر الكارثية لمثل هذا القرار، ولأنه يريد أن يقاتل روسيا بالجيش الأوكراني لا بقواته.

إنَّ مشهد التراجع الروسي ينتج أسئلة كبيرة في حال دخول الأطلسي في الحرب بصورة مباشرة، لإدراكه أن ذلك يمثل الخيار الصفري الذي يمكن أن يضع حدًا للحياة في الجغرافيا السياسية والاستراتيجية للمعركة، بل يضع حدًا للحياة على وجه الكرة الأرضية.

ومن الأسئلة التي ينتجها هذا المشهد: هل ستمضي أمريكا وحلفاؤها في توسيع أوار هذه الحرب، بجعلها حربًا مباشرة بينهما وبين روسيا؟ وهل ستتوحد إرادة الأطراف الغربية خلف هذا الخيار؟ وإلى أي مدى ستكون صلابة إرادة الأطراف الغربية خلف هذا الخيار؟ وماذا سيكون موقف الصين من ذلك؟

المشهد الثالث: مشهد التسوية بين الأطراف المتصارعة

يقوم هذا المشهد على قاعدة رابح – رابح. وبموجبه، تنهي روسيا عملياتها العسكرية في أوكرانيا، وتضمن لها مقدارًا من السيادة على أرضها، مقابل تحقيق أهداف روسيا المتصلة بضمان أمنها الاستراتيجي، وإرساء قاعدة الأمن الواحد بينها وبين أوروبا بصفة خاصّة، وبينها وبين حلف الأطلسي بصفة عامة، وتضمن لها الأمن في مجالها الحيوي مع مقدار ما من التوازن الدولي بين الأطراف الدولية، في إطار تفاهم دولي جديد يمنح روسيا والصين امتيازات جديدة على صعيد القرار الدولي في بعده السياسي والدبلوماسي، وعلى الصعيد الاقتصادي والمالي، بما ينتج واقعًا جديدًا في التعاطي الدولي مع قضايا المال والاقتصاد، يضع لبنات معتبرة في بناء التعددية دولية في المجالات كافة.

ختامًا، إنَّ المشهد الأكثر احتمالًا هو المشهد الثالث؛ مشهد التسوية الاستراتيجية بين الأطراف المتصارعة، لأنّ حلف الأطلسي لن يدع المشروع الروسي يبلغ نهايته، ليحصد خسائر استراتيجية فادحة، ولأنّ الطرفين لن يمضيا إلى الحرب الشاملة، وسيحرصان على عدم تصاعدها، لئلا تبلغ حد استخدام الأسلحة النووية المدمرة للكون، لأن اللجوء إلى هذا الخيار هو لجوء إلى معادلة خاسر – خاسر، ولجوء إلى الفناء.

إنّ التسوية تؤمن للأطراف المتصارعة مكاسب لا تتحقق لروسيا في حال انتصارها إلا بثمن غالٍ، ولا تتحقّق لحلف الأطلسي في حالة المشهد الثاني، ما دام تراجع روسيا وانكسارها يعني فناءها ونهاية مستقبلها. إنّ تجربة الصراعات بين الدول النووية تشير إلى أنها تنتهي بالتسوية حين تتيقَّن أن الصدام المباشر هو الخيار الأكثر احتمالًا، وخير شاهد على هذا أزمة الصواريخ السوفياتية في كوبا في عام 1962.

لهذا، يرجّح المقال حدوث تسوية بين الأطراف الدولية المتصارعة، بما يجعل مشهد التسوية في مقدمة المشاهد، وهو المشهد الذي سيتحقق في مدى زمني ليس أقصر من زمن الحرب الكونية الثانية، وهي حقب زمنية ستكون مفصلية في تاريخ العلاقات الدولية، يضع خلالها بوتين الكون على حافة الحرب الكونية الجديدة، ليستشرف مستقبل علاقات دولية جديدة، ونظام دولي جديد، ونظام مدفوعات مالي دولي جديد.

 

قد يهمكم أيضاً  الحرب الروسية الأوكرانية: خطأ بوتين الاستراتيجي

اقرؤوا أيضاً  غاز شرق المتوسط في حرب أمريكا على الاقتصاد الروسي

#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #الحرب_في_أوكرانيا #الحرب_الروسية_الأوكرانية #الحرب_الروسية_الأطلسية #حلف_شمال_الأطلسي #الحرب_على_روسيا #الأزمة_الأوكرانية #تداعيات_الحرب_الأوكرانية