هذه نسخة مطولة ومحدثة من مقابلة مع فرانسوا بورغا (François Burgat) كانت أجريت معه في 2017، حيث نشرت النسخة المختصرة في نشرة الحوار الكوني للجمعية الدولية لعلم الاجتماع. بورغا هو من أهم المفكرين الفرنسيين المتخصصين بالعالم العربي وحركاته الإسلامية‏، ومدير أبحاث في المركز الوطني للأبحاث CNRS، ومدير برنامج «متى ينتهي التسلُّط في العالم العربي» WAFAW.

«ترسّخ عندي الانطباع بأني أدنى درجةً من الآخرين كوْني مُسلمة… فقلت في نفسي إنه لا مكان لي في هذا المجتمع، وإن عائلتي كانت مُسْتَعْبَدَةَ من المجتمعِ الفرنسي. كنت أرفض أن أكون مثلهم. أنا، بأصلي الجزائري، كان لي جدّ تُوفّي أثناء الحرب (حرب الجزائر). لا أرغب في أن أسمّيَها حرباً لأنها لم تكن بأسلحة متكافئة، فأنا أعتبرها «الإبادة الفرنسية». الجهاد قتالٌ من أجل أن نستعيد كرامتنا التي افتقدنا، تلك التي أرادوا طمسها. هكذا هو الأمر، لِنَقُلْ إنّ هذا هو ما اسْتَهْوَانِي»‏[1].

«لو كانت القوات المسلحة الهولندية أرسلت وحدةً أو مقاتلين لمساعدة الشعب السوري، لكنت أوّل المُنخرطين، ولكن لا أحد يفعل شيئاً. لم آتِ إلى سوريا إلّا من أجل سوريا. لم آتِ كي أتعلم صُنع القنابل أو أشياء شبيهةً، لكي أعود إلى بلدي بعد ذلك. ليست هذه هي العقلية التي لدى أغلب المقاتلين الموجودين ههنا. على العموم، وحتى لو علمت أنّ قولي هذا سيّئ الوَقْع في أُذُنَيْ سَامِعه، أغلب الإخوة الموجودين هنا، بمن فيهم أنا نفسي، أتينا من أجل أن نموت. وعليه، فإنّ العودة ليست من ضمن آفاقنا»‏[2] .

«في فرنسا، حيث لم يعد بإمكان المرء أن يكون إنساناً حرّاً (البلد واقعٌ تحت حالة طوارئ لا أَجَلَ مسمّى لها منذ تشرين الثاني/نوفمبر 2015)، وعلى العكس مما غنّى جوني ميتشل (Joni Mitchell) في غير اكتراث منذ زمن طويل مَضَى». ومع ذلك الأمر، بِمُسْتَطَاعِكَ أَنْ…› يتلخّص إضفاء الصّبغة العابرة للقوميات على العنف السياسي، على ما تقول الوسائط الإعلامية المحلّية، في مجرد تناقض بين مدرستيْن ثقافيّتين محلّيتين في التفكير: … ففي هذا الجانب، مُحَاجَجَةٌ حول ‹أَسْلَمَةِ الراديكالية›، وفي الجانب الآخر، نظرة بديلة تقول بإضفاء الصّبغة الراديكالية على الإسلام›. محمّد محمود ولد مُحمَدو‏[3] .

هل نحن إزاء إضفاءٍ للصّبغة الراديكالية على الإسلام أم أسلمةٍ للراديكالية؟ عندما وجدتُ نفسي، على ميدان القراءة الأكاديمية لاندفاعات العُنف المُسَمَّاةِ «جهاديّةً»، في مواجهة هذه الثنائية الفرنسية فائقة الاختزالية التي يستنكرها محمد ولد محمدو وآخرون، انتابني أنا الآخر شعورٌ بالحاجة إلى تخطيها. وعليه، يسعى الاقتراح المنهجي الوَسَطِيّ الذي أحاول بناءه إلى النَّأْيِ بنفسه عن أَقَاصِي مُقَارَبَتَي «الدّراسات في الجهادية» هاتين، المُهيمنتيْن إعلامياً، والتي يتبنّى إحداهما جيل كيبل (Gilles Kepel)، ويعتنق الأخرى أوليفيي روا (Olivier Roy)‏[4] .

النقطة المشتركة بين هاتين المقاربتين تتمثل في الإلحاح على السيرورات الفردية التي تحدد الالتزام الجهادي. بالنسبة إلى جيل كيبل (Kepel: 2015; 2016)‏[5]، يمثل انخراط الأفراد في شبكات السلفية الجهادية العابرة للقوميات أساساً تفسيريّاً لظاهرةٍ شبه مُستقلة، حيث يُقدّم الأفراد كما تُقَدّم الأفكار على أنّهم وإياها يجولون في عالم الفعل والفكر هذا، ضمن حدود مغلقة، من دون تفاعل مؤثر مع الدّيناميات الاجتماعيّة والسّياسيّة الجارية في المجتمعات التي يُجَاوِرُونها أو ينحدرون منها. وفي المقابل، يلحّ أوليفيي روا على المحدّدات النفسيّة – الاجتماعيّة للالتزام الجهادي. وهو لا يرى في محتوى هذا الالتزام إلا طارئاً على سوق الراديكالية، وهي بالضرورة «عَدَمِيّةٌ» وعَلِيلَةٌ، وفيها يكون تَعَاوُضُ الأيديولوجيات يَسيرَ الإمْكَان. واضحٌ تناقضُ كيبل وروا حيال الأهمّية الواجب إيلاؤها إلى المتغير الديني الذي يرفض روا اعتباره مركزياً. ولكنهما يلتقيان عند نقطة أساسٍ، حيث يعزلان الظاهرة الجهادية عزلاً تاماً عن السيرورات الاجتماعية السّياسية التي تُولّدها. فإذا ما ضخّمنا السِّمَات الكُبْرى بعض الشيء، تبدو مقاربتا كيبيل وروا (Roy, 2016)، في ناظريَّ، مشتركتي الخطأ بما يدفعني إلى جمعهما، على الرغم من تبايناتهما، تحت ذات الاستنكار حيث تقلّلان، وتهوّنان، إن لم تكونا تنكران أصـلاً، مفاعيل استمرار أثر علاقات الهيمنة شمال – جنوب القديمة في سلوك الفاعلين المعنِيّين. تعترفان كلاهما بالمسارات والعوامل المساعدة وأنماط التعبير عن المعاداة التي تتصاعد صادرةً عن العالم الإسلامي تجاه الغربيّين، ولكنهما تَغُضّان الطّرف عن الجوهري في الأمر، عنيتُ جذوره التاريخية العميقة ودوافعه السياسية المتجددة أبداً.

ليس من الحصيف بطبيعة الحال كتابة إشكالية علمية تعالج مسألةً بمثل تعقيد مسارات الجهاديين الأوروبيين أو «المشارقة» «سواداً على بياض»، بنبرة قطعيّةٍ ومن خلال رسم حدود صمّاء بين المقاربات المتضافرة. وليس من المعقول التّغاضي كُلِيّةً عن الأطروحة التي عنها يدافع كيبل الذي يُسْنِدُ دوْراً حاسم الأثر في الجسم الاجتماعي لفعل الأيديولوجيا الدينية، وهي في حالتنا هذه، تَأْوِيلَها المُسمّى سَلَفِيّاً. كما أنّ أطروحة «أسلمة الراديكالية» التي يقترحها أوليفييه روا، تساهم هي الأخرى في إنارة بعض من وجوه الواقع. وعليه لا يعني رفض الإقرار بوظيفية باراديغم «الأقدام الناصعة»‏[6]، إذا ما استعدنا التوصيف الاستعاري الذي وضعه روا للجهاديين الفرنسيين، إنكاراً مُطلقاً للمتغير الذي تسمح أطروحة «نزع الصّفة الاجتماعية» هذه بمقاربته، حيث تمتاز على الأخص بفاعلية وظيفية في تفهم ملمح المُتَحَوّلِين الذين مرّوا بتجارب، جعلت منهم راديكاليين.

على أن هذه النزعة الثنائية، وهذه المناقشة المغلوطة بين إضفاء الصّبغة الراديكالية على الإسلام أو أسلمة الراديكالية، وهنا جوهر الأمر، لا تسمح بفهم الظاهرة الجهادية في تفاعلها مع المحيط الذي يُولّدها. والحال أنه يبدو لي من المهم، والملحّ، أن نطوّر مثل هذه المقاربة. وإنني لأرى فيها مسألة نزاهة علميّة بالطبع، ولكن مسألة نزاهة سياسية وإيتيقية سواء بسواءٍ.

من برنار لويس إلى جيل كيبل، الأُحادية المحافظة الجديدة
في ظل الافتقار إلى الأسباب، ظواهر ناقلة وملحقات

بُغْيَة تحديد جذور العنف الجهادي تؤكّد أكثر المقاربتين رَوَاجاً إعلاميّاً، تلك التي يدافع عنها جيل كيبل، مركزيةَ المتغيّر الدّيني أو الأيديولوجي. بالكثير من التدقيق يُقِيمُ كيبل، ما بين المحافظة الإسلامية والعنف الجهادي، جينيالوجيا فكرية، وعند الاقتضاء مُدَقَّقَةَ التّحديد المَنَاطِقِيِّ، بحيث يكون إضفاء الصبغة الراديكالية، الآتي من بلدٍ معيّن ما، مرّ عبر فَرْدٍ مُحدّدٍ ما، صانعِ أيديولوجيا أو ناشطٍ حركيٍّ، ومنه إلى آخر، كما يكون قد انتقل من ذلك الحيّ في تلك المدينة (بفعل انعدام العزل الصوتي) من الطّابق الرّابع في ذات سجن فرنسي إلى طابقه الثالث! ويكون قد انتقل عبر ذلك الناقل التكنولوجي المحدد (الإنترنت، والشبكات الاجتماعية، …إلخ). وسواءٌ أكانت بشرية أم تكنولوجية، تنزع ناقلات الجَوَلاَن بِذَا إلى أن تتّخذَ لدى كيبل أهمّية يصل مداها إلى استبعاد دراسة المُسبّبات، وبخاصّة السّياسية منها.

تنتهي هذه النزعة إلى شخصنة الديناميات الجماعية، بحيث يكون قد تمّ، بدءاً بسيّد قطب ووصولاً إلى الظواهري، ومن عبد السلام فرج إلى أبي مصعب السوري، تصوّر الثورة الجهادية، والتفكير فيها وإطلاقها بل توليدها من قبل بعض الأفراد ولا أكثر. وتتّخذ هذه الجينيالوجيا الأيديولوجية موقعاً مركزياً في تفسير الظاهرة بِرُمَّتِهَا…‏[7] . وفي مثل هذا المنظور، تنزع ناقلات التعبئة الاحتجاجية وملحقاتها ووسائطها بوضوحٍ إلى أن تصير بِمَثَابَةِ… أسبابٍ لها! وبذا يتقدّم سؤالُ «كَيْفَ» على سؤال «لِمَاذا».

إنّ هذا التوظيف المنهجي المبالغ فيه لناقلات التعبئة الاحتجاجية على حساب أخذ مسبباتها بنظر الاعتبار ليس جديداً. فقد تمّ، وعلى النحو ذاته، الرفع من الشرائط السمعية المسجلة، بوصفها أداة توزيع نضالية إلى مرتبة تقرب من مَصَفّ تفسير الاندفاعة الإسلامية خلال الثمانينيات. لاحقاً، وإزاء ظهور القاعدة، كانت الإنترنت موضوعاً للتركيز ذاته. وبالنسبة إلى الشبكات الاجتماعية، في سياق «الرّبيع العربي»، وَجَدَ هذا الخطأ مجال تعبير جديد من خلال ردّ سقوط بن عليّ أو مبارك إلى فايسبوك، بحيث كثيراً ما تمّ الانتقال من اعتبار الشبكات الاجتماعية و«أتباعها الشباب» مجرد عوامل مُساعدة على الثورة، إلى اعتبارها محركات حركية احتجاجية كانت في جوهرها قد نَبَعت، وذاك ما بينته الأحداث الموالية، من نَبْذِ المجتمع كافّة للعُقُود السّابقة من الدكتاتورية.

ولكن، وبقدر ما كان التفسير بالاستناد إلى فايسبوك ينتهي إلى اعتبار الفاعلين المركزيين في الثورات العربية متجسدين في شبابٍ لُطَفَاءَ يتوجّب التّمَاهِي مَعَهُمْ لأنّهم شبيهون بشباب الطّبقات الوُسْطَى الغربيّة، يُساهم التركيز على شبكات الاتصال الجهادية المخفية، على العكس مما سبق، في جعل المتحولين نحو الراديكالية كائناتٍ، مُحَدّدَاتُ فِعْلِهِمْ غَامضةٌ ومقطوعة عن المجتمع. وفي ظل غياب التساؤل عن «لماذا» التحوّل نحو الراديكالية، يجد قارئ كيبل نفسه إذاً، ومن دون أن يحسّ، مدفوعاً نحو استنتاج وجود «جينة» إسلامية تصنع متبني القراءة «السلفية» لدينهم هؤلاء، فيكون، وبطبيعة الحال، «مجانين الله» هؤلاء منقادين إلى التّهَاوِي إلى الإرهاب.

بهذا المعنى، وفي الحقيقة، تنخرط مقاربة كيبل التي تستند إلى هذا الحدّ أو ذاك، إلى الحسّ المشترك، في سياق متصل مع «بساطة» أطروحة المحافظين الجدد الأمريكيين والتي تزكّيها على الأخص، أعمال برنار لويس، بحيث لا يمكن أن يكون المسؤولون عن أعمال العنف المناهضة للغرب إلا من يرتكبونها. دوافع هؤلاء أيديولوجية خالصة، وعليه، فإن مُسْتَهْدَفِي العنف بعيدون تماماً من إنتاجه بما أن منبعه أُحادي الاتجاه.

إصلاح الآخر

بالنسبة إلى كيبل إذاً، يتوجب البحث عن المشكل في داخل الإسلام، والحال أن الاقتصار على التفكير في ثقافة الآخر من أجل «فهم» عنفه يعني، مرة أخرى، تركيز التساؤل على الشكل على حساب المضمون، على «الطلاء» السطحي للعنف، عوضاً من أسبابه الحقيقية العميقة. وبالفعل، يمكن للاعتقادات الدينية، المعدّلة على صيغة سياسة، أن تشرّع لمختلف أنواع العوامل وأن تنتجها. يمكن للاعتقاد المسيحي أن يكون أساساً لفعل المورمون المُراعين الحرفيين لتأويلهم ذلك الاعتقاد. ويمكنه أن يولّد قساوسة متأملين أو قساوسةً محاربين، وصوفيين مسالمين، مثل القديس فرانسوا داسيز (Saint François d’Assise)، أو أتباعاً للاهوت التحرير، أو قضاةً متعصبين، مثل الذين جلسوا في محاكم التفتيش. في عالم الإسلام، يمكن لتملّك الإسلام سياسياً، أن يولّد سواء بسواء، عبّاداً صوفيين تأمليين، وسلفيين من النمط المتزهد، الرافضين أيّ تورّط في الحقل السياسي، أو على العكس من ذلك، جهاديين مناصرين للفعل المسلح، مبررين معركتهم بضرورة فرض تعبيراتِ اعتقادهم الاجتماعية، وبمن في ذلك، على من يقع خارج جماعتهم.

ما يهم أكثر من مجرد تعداد الإمكانات المتعددة في تأويل الاعتقاد الإسلامي هو، وقبل كل شيء، فهم الأسباب التي تدفع بقسمٍ من الفاعلين إلى أن يختاروا لانتمائهم الديني التأويل الثنائي، المحدث للانشطار، والنزاعي بالقوة على حساب كل الانتماءات الأخرى. والحال، أن هذه الأسباب ليست من طبيعة أيديولوجية أو مذهبية، على العكس، مما تُخَمِّنُه هذه الأطروحة المحافظة الجديدة.

في ما يتجاوز الأخطاء المنهجية التي تحملها، تُعِيدُ المقاربة المركّزة على الإسلام إقرار التحيّز الثقافي الذي يُزكّي «الحرب ضد الإرهاب» التي تقدّم منذ خمس عشرة سنة، على أنّها إجابة غربية عن الهجومات الإرهابية. كانت تلك هي أيضاً ميزة الردّ الأمريكي على اعتداءات الحادي عشر من أيلول/سبتمبر 2001. وضمن ما وُضع موضع التنفيذ من قبل الإدارة الأمريكية حينذاك، كان الإطار الوحيد غير المندرج في «القوة الصّلبة» الأمنية والقمعية («سجّاد القصف» على أفغانستان وقانون Patriot-Act على التراب الأمريكي) التي خاضت «الحرب ضد الإرهاب»، هو «حوار الثقافات» الذي أُطلق بالتوازي معها. وسرعان ما انكشف ذلك «الحوار» على خطاب أُحادي، يتشكل من أوامر ثقافية لا تهدف إلى الإصلاح، إلا في ما يتصل بواحدة من الثقافات المعنية، ثقافة المُخَاطَب العربي المسلمِ! وبالفعل، يتسم إصلاح «الآخر» بقدرٍ من الإغراء واليسر، يفوق ما يسم منهما التفكير بتبّصر في قسم المسؤولية الذي يعود إلى كل امرئ. ومعلومةٌ هي نتائج هذه السياسة، فعلى بعد خمس عشرة سنة من 11 أيلول/سبتمبر، صار بضعة الآلاف الذين كانت تعدّهم صفوف الجهاديين سنة 2002 منزرعين بأعداد أكبر كثيراً في العالم كلّه، فيما كان الطالبان سنة 2016، وهم من كانوا أول أهداف «الحرب ضد الإرهاب» المديدة، يقرعون أبواب السلطة في كابول.

أوليفييه روا: من الدّيني إلى النفسي – الاجتماعي

لبالغ حسن الحظ، تعمل الأطروحة المسماة «أسلمة الراديكالية»، تلك التي يدافع عنها أوليفيي روا، وإن كانت صيغت بدايةً من طرف آلان بيرتو (Alain Bertho) وبطريقة أقل فظاظةً على كل حال (Bertho, 2016) ‏[8]، أولاً، وقبل أيّ شيء آخر، على وضع مركزية المتغير الديني موضع تشكيك، وهي ترفض المقاربة الأيديولوجية والثقافوية، وتستعيض عنها ببديل نفسي اجتماعي، مفاده أن الجهاديين ليسوا «مجانين الله» بل، هم نوع من المجانين وكفى.

بفعل كونهم مجرّدين من الصّفة الاجتماعية، ومعزولين عن محيطهم الاجتماعي الثقافي، هم لن يكونوا، على ما يسخر به روا، إلا أصحاب «أقدام ناصعة»، ليس من المناسب «وضعهم على درجة السّواء مع الأمة الفرنسية».

تجريد الفاعلين التعبويين من الصفة السياسية:
عملية فائقة… التسيّس

ليس ما يبدو لي حقيقياً بالدحض، في أطروحة روا، إبرازه متغير التجرد من الصفة الاجتماعية، بقدر ما هو تصويره تصويراً كاريكاتورياً، وبخاصة تعميم ذلك التصوير على هيئة تجريد من الصفة السياسية، يُلحقها بالشباب الجهاديين. ففي نظري بالفعل، وفي نطاق تأويل التعبئة الاحتجاجية، يبدو لي التحديد المتراكب لأفرادٍ يعيشون الفشل الاجتماعي أو النفسي، وهو في المركز من تلك التعبئة أو على أطرافها مندرجاً في خطاب سياسوي يستهدف التشويه أكثر من اندراجه في عملية تفكيك حَرِيّةٍ بالعلوم الاجتماعية. ههنا، تحيّز تحليلي لا أصالة فيه. تلك هي بخاصة الحال في ما يهمّ الاتهام، بالغ الغموض الذي يطلقه روا «بالعدمية» تجاه جهاديي اليوم. تعود واحدةٌ من أول استخدامات هذا الاتهام بـ «العدمية»، هادفاً إلى التجريد من الصفة السياسية إلى ردّ القيصر ألكسندر الثاني على «شعبوييه» الذين بادروا منذ عام 1860 إلى مهاجمة استبداده، ولم يكونوا في الحقيقة إلا أسلاف الثوريين البلاشفة‏[9]. ومما يعود إلى مرحلة أكثر قرباً منّا، يمكن الاستدلال على هذا الميل ذاته إلى تجريد المعارضين العرب من الصفة السياسية. في 27 – 12 – 1991، كتب جاك دوباران (Jacques de Barrin) مبعوث يومية لومند (Le Monde) الخاص «في الجزائر كان القسم الأهمّ من المقاتلين لمنظم من قبل الجبهة الإسلامية للإنقاذ من داخل عالم المهمّشين، عالم مَن لم يكن لديهم ما يخسرونه من مثل هذا الانتماء، عالم مَن كانوا على استعداد للمخاطرة بكلّ شيء» معتقداً أنه بذلك كان يقدم تفسيراً لقرّائه. ليس بمستطاع الآخر إلا أن يكون هامشياً!

من التفسير «الاجتماعي» باعتماد الهامشية، يتيسر الانزياح في ما بعد نحو المقاربات التي تضفي الصبغة النفسية على الأمور، بحيث يكون العمل على تحجيم السلوكات الاحتجاجية داخل حدود مرض شبه نفساني. في المجال الجزائري ذاته، والذي كانت فيه الحرب الأهلية ناتجة من القمع العسكري العنيف لاندفاعة الجبهة الإسلامية للإنقاذ، وعلى امتداد زمن طويل، فسّر بعض «محللي الدولة النفسانيين»، بارزي الحضور في الوسائط الإعلامية، مثل فتحي بن سلامة (Benslama, 2016)‏[10]، منبع العنف من خلال جرد الأعراض المَرَضيّة المفترض تأثيرها في جنسانية أعضاء المعارضة الإسلامية على مسامع جمهور من المتلقين مضموني المصادقة على ما يتلقون. فهل من حاجة إلى تأكيد أن التجريد من الصفة السياسية الذي يلحق بدوافع الفاعلين المعارضين، يمثل نوعاً من التحليل الذي برّر بانتهازية بالغة الانقلاب العسكري الذي طال سنة 1992 من أهدتهم صناديقُ الاقتراعِ الفوزَ، وهو الانقلاب الذي شهد استنساخه المصري سنة 2013؟

مثال آخر، هو ذاك الذي ورد في كتابٍ صدر سنة 2007 بعنوان تواعد الحضارات (Courbage, et Todd, 2007). من تأليف يوسف كورباج (Youssef Courbage) وإيمانويل تود (Emmanuel Todd). فمن خلال ما فيه من غَضٍّ كاملٍ تامٍّ للطرف عن آثار الاحتلال العسكري الإسرائيلي، تتوهم أحقية ربط الصلة بين «عنف الفلسطينيين» وبنية مجتمعهم البطريركية التي تؤخر ارتباطهم الزيجي إلى ما بعد انقضاء المراهقة، وبما يغذي لدى الشباب الأحدث سناً من بينهم، توترات جنسية تؤدي لا محالة إلى العنف. أمن المعقول أن يكون إخفاق التحليل بمثل هذه الفداحة؟

العدمية عوضاً من الخطاب العالم – ثالثي العتيق المكرور

يستند باراديغم «الأقدام الناصعة»، الذي يطرحه روا، أساساً إلى مصادرةٍ، مفادها قطيعة الجهاديين المطلقة، لا الجيلية فحسب، عن محيطهم، أي عن كل سائر المسلمين الآخرين، في فرنسا وفي غيرها. هو ينطلق في تحليله من كون هؤلاء الجهاديين قلة قليلة للغاية، وهذا صحيح، ولكنهم على الأخص، على ما يؤكد أثرُ ذلك، هدموا الجسور الرابطة بينهم وبين محيطهم العائلي، وهو المحيط الذي زاد على ذلك بأن لفظهم لفظاً كامـلاً. وعلى هذا، هم يبدون وكأنهم في عذرية تامّة من أي اعتقاد، ومن أي التزام، ومن أي قناعة، يمكن أن تحيل بربط الصلة بينهم وبين معتنقي ديانتهم ذاتها. وتقدم هذه العزلة على أن بيانها يتمثل بخاصة، في أن والدي الجهاديين، وكلّما سافر واحد من أبنائهم متجهاً إلى سورية، وعوضاً من أن يلتحقوا به، يظهرون الامتعاض أكثر مما يظهرون من التعاطف‏[11]. وباعتبار لفظ المحيط العائلي والجماعاتي للجهاديين من أبنائه، ليس من الممكن بالنسبة إلى روا، وبأيّ حال من الأحوال، أن نستند لدى تفسير سلوكهم إلى الانتهاكات المتنوعة التي كان ذلك المحيط ضحيةً لها.

في كتابه الجهاد والموت (Roy, 2016)، الذي نشر سنة 2016، يطور روا الحجّة القائلة إن الجهاديين ليسوا ضحايا مباشرين لأعمال العنف التي طالت المسلمين‏[12]، وبذا هم ليسوا في حالة اشتباك مع السياسات الغربية، لا ضمن المجتمعات الأوروبية التي شهدت ولادة تمردهم، ولا على الساحة السياسية الشرقية، سواء كانت السورية أو العراقية أو الأفغانية أو الفلسطينية. وعلى هذا الأساس إذاً، مَا مِنْ مَجَالٍ لربط الظاهرة الجهادية، وبالعودة إلى ألفاظه هو ذاتها، «بالمعاناة ما بعد الاستعمارية، وتماهي الشباب مع القضية الفلسطينية، ورفضهم التدخلات الغربية في الشرق الأوسط وإقصائهم من فرنسا عنصريةٍ مصابةٍ بِرُهَابِ الإسلام». وكذا، وعلى ما أتى به تحليل روا، ليس لشباب الجهاديين هؤلاء اشتباك مع الاستعمار الذي «لم يَشْهَدُوه». وهذا سجل تفسيري يذكر بالنسبة إلى روا بـ «الخطاب العالم – ثالثي العتيق المكرور» الذي يستنكره باحتقار.

تبدو لي هذه الأفكار هشّة إلى حَدٍّ بَالِغٍ. هل يعبّر وَالِدُو الجهاديين عن امتعاضهم إزاء المسارات التي اتّخذتها حَيَاة أبنائهم؟ بالتأكيد، ولكن، وفي ما عدا أنه يعسر ألا يكون الأمر إلا على ما هو عليه، هل الرفض الذي يبديه الوالدون تجاه الأدوات التي يستخدمها أبناؤهم للتعبير عن ثورتهم، ومهما كان وضوح إعلانه، وما لم يَعْنِ استعدادهم لتحمّل كلّ ما ينزل بهم من القمع البوليسي والقضائي، يسمح بالاستنتاج القائل إن هؤلاء الأبناء لا يكابدون أيّاً من الانتهاكات التي أصبحوا هم ذواتهم ضحايا لها؟ أخصّ ما يميّز هذا الموقف هو أنه ينتهي، في آخر المطاف، إلى إنكاره على المسلمين حقهم في الثورة ضد المعاملة الجائرة التي لم يكونوا هدفاً لها بصفة فردية وشخصية. وليس من مجالٍ لاعتبار مصداقية الدّافع لدى فردٍ يخوض في الفعل السياسي إلا لِمَا يثور عليه من المكابدة الشخصية. وبذا، بمجرد جرّة قلم، يُنكر روا الفكرة القائلة إنّ بمستطاع الفرد أن يثور ضد عنف يطال المجموعة التي إليها ينتمي أو معها يتماهى. يا لغرابة عدم الاتساق التحليلي! أليس من الممكن، بالنسبة إلى هؤلاء الذاهبين نحو خوض أعمال العنف، وفي ظل انعدام إمكانية الرد «على معاناتهم بوصفهم مسلمين»، أن يفعلوا ما يفعلونه على قاعدة التضامن المتعاطف مع «معاناة المسلمين»؟

يدعونا روا مثـلاً إلى أن نعتبر أن أحمدي كوليبالي، الذي هاجم متجر هيبر كاشير (Hyper Casher) (متجر المنتوجات الحلال في المعتقد الديني اليهودي – المترجم) كان «غريباً تماماً» عن مشاكل مسلمي فرنسا، والذي لم تكن محدودية فهمه للعالم تسمح له بأن ينفذ إليهم. في هذا الاعتبار، هو لم يهتمّ كذلك «بالنضالات الملموسة التي يخوضها العالم المسلم (فلسطين)». والحال أنه بالإمكان أن نذكر على الأخص بأن أحمدي كوليبالي، احتضن آخر حشرجات موت أحد أصدقائه المقتولين أثناء تجاوز بوليسي‏[13]، بحيث يكون من العسير اتخاذه مثالاً على أولئك الذي ظلّوا بِمَبْعَدٍ عن مظاهر العنف السياسي الموجّهة على التراب الفرنسي ضد مواطنيه الأكثر عُرْضَةً للكره. على العموم، الشخصيات المتشابهة التي كان عليها مرتكبو الهجومات الباريسية (صحيفة شارلي هبدو (Charlie Hebdo) ومتجر هيبر كاشير التي كان شهر كانون الثاني/يناير 2015 مسرحاً لها أو البروكسيلية (مطار زافنتام (Zaventem))‏[14] التي جدّت في آذار/مارس 2016، والذين كانوا كلهم بَائِنِي التَّسَيُّسِ، تكفي، وبوثوق مؤكد، لإبطال الأطروحة التي تتمثل في إبراز التجرد من الصفة الاجتماعية لبعض الجهاديين مبدأً تفسيرياً للظاهرة برمتها.

وأخيراً، تستوجب المقاربة المستندة إلى العدمية التغاضي عن مقول الفاعلين ذواتهم. لقد سجل أحمدي كولبالي مُطَالَبَةً تَعْرِضُ بشكل صريح مَطَالِبَه ودوافعه السياسية، كما عرض بعضُ «العائدين» إلى أوروبا دوافعهم، وفيها تحتل الثورة ضد العنف الاستعماري والعنصرية موقعاً مركزياً‏[15]. فما زاوية النظر التي نتخذ عندما ننكر بتمام البساطة، مثلما يفعل روا، هذه المطالب والعروض التي يحملها الفاعلون الممارسون للعنف الجهادي ذواتهم؟

المزيد فالمزيد من الإمعان في إخفاء السياسي

يعود قسم معتبر من رواج أطروحة «أسلمة الراديكالية» وبوضوح، إلى أن الجهر بخارجية الجهاديين بالنسبة إلى الجماعة المسلمة يسمح بإعفائها من أيّة مسؤولية. ومن الأكيد أننا نحسب للمباعدة المعلنة بين ثورة أقلية بالغة الصغر من مسلمي فرنسا، ومجموع معتنقي ديانتهم، بل وللقول بوجود شرخ مطلق بين هؤلاء وأولئك، مزية إبطال الأطروحة التي ينزع الكثير من الفاعلين، وهم ليسوا من اليمين المتطرف فحسب، إلى تبني قولها بإدانة المسلمين كافة. ولكن مثل هذه المقاربة تصطحبُ «كُلفةً تحليلية» باهظة إلى حدّ بالغ.

بديهة، تتوجب معاودة تأكيد رفض أيّ خلط بين الجهاديين وسائر الجماعة المسلمة، وكذا رفض هذا الإلزام بالمسؤولية الجماعية الذي يثوي في الكثير من المطالبات ب»المزيد من الإدانات من قِبَل المسلمين». على أنّه يتوجب، مِثْلاً بِمِثْلٍ، التَّحَوُّطُ من آثارٍ غير محسوبة موجودة بالقوة في التمشي المتمثل في إعفاء «الإسلام» و«المسلمين» من أيّة علاقة بالثورة الجهادية، بحيث يجب ألّا يَقْتَضِيَ هذا التّسليم الامتناعَ عن النّظر إلى الالتزام الجهادي الغربي في مسار نمائه في تُرْبَةٍ من السُّخط العميق الذي لم يعد ينتاب اليوم نَزْراً يسيراً من الناس، بل مجموع الجماعات المسلمة في فرنسا، وفي غيرها من بلدان أوروبا. فهل يسمح تعبير الوالدين بطريقة أو بأخرى عن امتعاضهم إزاء طرائق فعل أبنائهم بالاستنتاج بألّا علاقة لثورة هؤلاء الأبناء بالانتهاكات الخرقاء الحادثة في تمثيلهم، وفي الاعتراف الاجتماعي السياسي والإعلامي بهم تلك التي تستهدفهم هم أنفسهم؟ وهل يسمح ذلك بأن نستنتج أنهم فخورون بالمداخلات التليفزيونية على قنوات المرفق العمومي التي يقوم بها الإمام الجاهل حيسان شلغومي المفترض فيه تمثيلهم؟ وأنهم يتبنّون من دون تحفّظ الرُّهاب الفرنسي المُعَمّم تجاه الحجاب الإسلامي، مهما كانت شاكلته؟ وأنّهم مبتهجون بعَمْدِ الطبقة السياسية كلّها إلى التجريم المهووس لطارق رمضان؟ وأنهم يتبنّون من دون قيْد أو شرط محاباة فرنسوا هولاند لعبد الفتاح السيسي، وصبر لوران فابيوس (Laurent Fabius) اللامتناهي إزاء مجازر غزة؟ وهل توافق الأغلبية الساحقة من مسلمي فرنسا الذين يرفضون فعل الجهاديين، على تحركات نيكولا ساركوزي العسكرية المتواترة في أفغانستان، أو على مساندة فرنسوا ميتران العمياء للطغمة الجزائرية الاستئصالية، أسلاف السيسي في مصر؟ وهل يعني ذلك، أخيراً وعلى الأخص، أنهم غير مبالين بالسقف الزجاجي وأسلاك الكره الشائكة التي تحبسهم، في مجال التشغيل، في الغيتو الاجتماعي المخصص لهذه «الجماعة»، من دون أن يمنع حشرهم فيها تكرار دعوتهم إلى الخروج منها‏[16]؟

تلك هي مجمل المسببات الواقعية التي ترفضها أطروحة «الأقدام الناصعة» التي يقترحها روا بتعالٍ وعدم اكتراث.

محاربة الجهاديين أم الكف عن صنعهم؟

في نظري، الجهادية علامة في السطح على شيء دفين هو الرفض الذي يواجهنا به قسم كبير من ساكنة العالم (أقلّ راديكاليةً وطائفيةً من فصيلها الجهادي، ولكنها أكثر تعداداً بكثير) بها حَنَقٌ بالغٌ ضدّ تَصَرُّفِ «نا». يبدو لي المسار الاجتماعي، كما سياق الالتزام الذي من خلاله يردُّ فصيل هذه الثورة الراديكالي ثانويين إلى حدّ ما. ولذلك يبدو لي من الأساسي تأكيد عكس ما يقول روا وكيبل، أو عكسه تقريباً، والتذكير بصرامة، مراراً وتكراراً، بالأهمية الجوهرية للأساس السياسي للظاهرة الجهادية والقسم المركزي من المسؤولية التي نتحمل فيها. تسعى أطروحتي للتوصّل إلى الإمساك بجذور الجهادية حيث هي، منغرسة عميقاً في قلب العيش القلق الذي يلف وجود ضحايا سياساتنا الخارجية أو آليات إقصائنا لقسم كامل من أمتنا.

تيه سياسة فرنسا الخارجية؟

أول نتيجة «عرضية» (collatéral) من كبرى الخسائر المنجرَّة عن أطروحتَيْ كيبل وروا، وهي كذلك مصدر نجاحيهما الإعلامي والسياسي واسع المدى، هو تغذيتهما تياراً من الخبرة القريبة من دوائر السلطة يضع العنف الذي يضرب شوارع باريس في حالة من انتفاء الجاذبية بالنسبة إلى السياسات الأكثر عرضة للنقد مما تتّبعه فرنسا في العالم المسلم‏[17]، وهما تتقاسمان تحيّزاً بالغ الضرر بالتقدير العقلاني للمسؤوليات، حيث تعفيان السياسات الغربية من أية مسؤولية تقريباً. وكأننا نقرأ ما بين سطور شيء من قبيل «ألقوا ما تريدون من القنابل، فليس لمتفجراتهم أية علاقة بمتفجراتنا».

يتوجب التذكير قبل أي شيء، وعلى امتداد تراكم النزاعات التي غذّت التعبيراتِ الأخيرةَ عن الشّرخ الجهادي، مقتصرين على الأكثر وضوحاً منها، أي على القسم العائم من جبل الجليد السياسي، أن فرنسا، ومنذ أيلول/سبتمبر 2014 تلقي بأطنان من القنابل على العراق وسورية. والحال، أنه يبدو أن الطبقة السياسية الفرنسية برمتها تناست، وما بالعهد من قِدَمٍ، أن الزمن الذي كان فيه من الممكن استخدام «دبلوماسية الدبابات» هذه من دون أن يجر ذلك على المواطنين مخاطر العقوبات، ولّى وانقضى إلى غير رجعة. لقد بادرت فرنسا إلى قصف «الدولة الإسلامية» فكانت في المقابل هدفاً، وقد كان جانب رد الفعل المجرد في دوافع المهاجمين هذا، محلّ ذكرٍ واضح في بيانات مطالبهم، وبخاصة في بيانات مرتكبي الهجوم على مسرح الباتاكلون (Bataclan). على أن فرنسا، وفي الرد على تلك العقوبات، قررت أن ترسل المزيد من القنابل. ذلك هو العمود الفِقَريّ في تفسير حالة فرنسا الراهنة بوصفها «هدفاً للإرهاب».

دخول «نا» في الحرب الأهلية السورية – العراقية بالغ الانتقائية «أفاض كأس» ضغينة قسم من العالم، حيث إن باريس لم تتحرك إلا ضد «آثار» الأزمة السورية، عنيتُ انبثاق داعش، نتيجة اليأس السياسي، تلك التي ساهم الغربيون إلى حدّ بالغ في إفساح المجال لشمولها، ولم تتحرك ضد أسباب تلك الأزمة البنيوية، عنيتُ إدامة عمر جهاز النظام السوري.

ولكن هذا البُعْدَ من أبعاد الواقعِ، السّياسي المُجرّد، لا يبلغ مسامع قادتنا المتجندين تماماً لأجنداتهم الانتخابية. هم يخيّرون حث ناخبيهم على الاعتقاد، كما فعل بوش من قبلهم، وقبله كلينتون، بأنهم يتعرضون لهجوم جراء «تعلقهم بالحريات» وضداً عن اعتيادهم احتساء كوب من النبيذ الجيّد على ناصيات مطاعمهم.

والواقع، أن عنف الجهاديين يندرج ضمن مواجهة يردّ فيها سلاح الإرهاب على القصف الذي يقوم به تحالف دولي واسع. نحن حقيقة ضمن منطق حربٍ، تماماً مثلما لا يكفّ الخطاب الرّسمي للدولة الفرنسية عن ترديده. في هذا المعنى، ومهما كانت درجة قابلية المجازر المقترفة ضد المدنيين للإدانة، هي سلاح يستخدم من هذا الجانب ومن ذاك. تحتفظ ذاكرتنا بالصيغة القديمة المعروفة لدى الوطنيين الجزائريين: أعطونا طائراتكم ولسوف نعطيكم قفافنا (أوعية الخُوص المعدّة لحمل البضائع التي استعملها الثوار الجزائريون في مناسبات لدس المتفجرات). فإذا كان ثمة فارق حقيقي، فهو موجود في الاستخدام المتمايز تمايزاً حاداً للتصوير الإعلامي (للعنف) الذي يُحجم عنه الغربيون، فيما تستخدمه الدولة الإسلامية استخداماً «إرهابياً» على نقيض خصومها.

إن روا، ولدى إنكاره، ليس على الجهاديين الأوروبيين فحسب، بل وكذلك، وعلى الأخص، على ضباط جيش صدام حسين السابقين الذين انضموا إلى داعش، مكانة الفاعلين السياسيين، مقتصراً على رؤيتهم «مجانين» (كذا)، يتناسى تماما أن الإرهاب ظهر في شوارعنا رداً على هذه الحرب التي بادرنا إلى إعلانها. وهو من خلال اختزالات نظرته المجردة من الاعتبار السياسي، يوازي بين «طلب» الجهاد الأوروبي و«العرض» العراقي، في حين أن الأمر أكثر تعقيداً كثيراً مما يوحي به قوله.

إن عمليات القصف على سورية والعراق هي في الحقيقة آخر حلقات عسكرة الدبلوماسية الفرنسية من أفغانستان إلى مالي. بطريقتها الخاصة، تشارك فرنسا في «الحرب ضد الإرهاب» المديدة التي قتلت منذ عام 2001 ما بين مليون ومليونين من المسلمين في أفغانستان وباكستان والعراق. ذلك، فضـلاً عن الدعم الذي بذلته الحكومة الفرنسية على امتداد السنوات 1990 لسياسة استئصال المعارضة الإسلامية الجزائرية، المنتخبة قانونياً من طرف الجنرالات الانقلابيين وكتائب الموت التابعة لهم. وأخيراً وليس آخراً، يتوجب ذكر الدّعم غير المشروط الذي بذلته باريس للسياسة الإسرائيلية أو لحلفائها الإقليميين، مثل مصر السيسي، على الرغم من أبعادها غير المقبولة (الحصار على غزة، المستوطنات في الضفة الغربية وفي القدس الشرقية). أيستسيغ العقل أن نعتبر أن مواقف الدبلوماسية الفرنسية لا تُنتِجُ أي حَنَقٍ في صفوف المسلمين في فرنسا وفي العالم، وأَلّا علاقة لها بسيرورات إنتاج الراديكالية؟

ماذا لو أنكروا عليَّ أن أكون «فرنسياً بالكامل»؟

فضـلاً عن ذلك، ثمة ذلك القسم المغمور من جبل جليد، أي القطيعة السياسية ذات الاتصال بسياسة فرنسا الداخلية إزاء المسلمين. غداة «قضية طارق رمضان» الأولى، كان بطبيعة الحال إصدار قانون 2004 المُتمَيّز الذي يُقْصِي الحجاب، وهو إحدى علامات التديُّن الإسلامي، من الفضاء المدرسي الفرنسي. ثم كانت ردة الفعل التي تسبب فيها النشر المتكرر حد التّخمة، مستظـلاً بحرية التعبير المنفلتة، لرسوم الكاريكاتور الشاتمة لرمز المسلمين النبوي، والتي كانت في قلب المطالبات باغتيال أعضاء فريق تحرير مجلة شارلي هيبدو.

غذّت هذه النزاعات، التي تبلغ من التعدّد المُتَكَثِّر ما لا يسمح بالإتيان عليها كلّها ههنا، هستيريا سياسية إعلامية تركّزت على النقاش المُغالِط حول قدرة الإسلام على الاندماج في النظام الجمهوري. وفي المقابل، طعّمت شعوراً بالوصم قابـلاً للتفهم، وبخاصة أنّه ينمو في تُرْبَةٍ تاريخيّة استعمارية يجب ألّا نقلل من تقدير ديْمُومَتَها في مخيال آلاف المُواطنين من معتنقي الإسلام المتحدرين من بلدان شمال أفريقيا. إن استمرار تلك الصدمة الاستعمارية التي لم تعالج مطلقاً من قبل طبقة سياسية لا تزال أغلبيتها تصرّ على إنكارها، يسمح بإيجاد جسر مُرُورٍ من السّببية المرتبطة بسياسات فرنسا الخارجية، وتلك التي تندرج ضمن الثُّقُوبِ المُهَلْهِلَةِ «للعيش معاً» ضمن المجال الترابي سداسي الأضلع (المقصود فرنسا التي تمتاز خريطتها بهندسة سداسية الجوانب – المترجم) على حساب الفرنسيين المعتنقين للإسلام. إن هذه الخروق التي تتخلّل النسيج الوطني، هي في منتهى المطاف، نتيجة عطب عميق في اشتغال آليات التمثيل السياسي وإسناد الموارد؛ ذلك أن هؤلاء الفرنسيين المتحدرين من مستعمرات الجمهورية القديمة لا يزالون ضحايا التمييز لدى نَفَاذِهِم إلى الحقوق المادية والرمزية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية.

في حين يرى كيبل أن السلفية هي من تخرق الميثاق الجمهوري، أعتقد، ومن دون أن أنفي البعد المحدث للانقسام الذي يَحْوِيهِ مثل هذا التأويل للمعتقد الإسلامي، جَازِمَ الاعتقاد، أنّ السّبَبِيّةَ معكوسة، بحيث كانت الطريقة بالغة الأنانية والأُحادية في وضع هذا الميثاق الجمهوري موضع التنفيذ، مقرونة إلى السقف الزجاجي الذي يصطدم به مصعد المسلمين الاجتماعي، وإلى التلاعب الأخرق بتمثيل المسلمين، هي المتسببة في صنع السلفيين.

بغية إبطال ذكر هذه الرهانات التي تبدو لي ذات موقع مركزي، بنى كيبل على الأخص، ولكن روا بطريقته الخاصة كذلك (بقوله «الاستعمار؟ هم لم يشهدوه») جهازاً بلاغياً بالغ الخبث، يتمثل في اتهامهم بـ «المظلومية»؛ فقد وسموا المستهدفين من عنفنا السياسي وكذا من يدينونها على الدوام «بنزعة (مُدانة) لاتخاذ موقع الضحية». لا يكتفي كيبل باستبعاد السببيات الاجتماعية السياسية للالتزام الجهادي، بل هو يصل مدىً أبعد من ذلك، بحيث يعمل على أن يضع على أَظْهُرِ المندّدين بنقائص الميثاق الجمهوري وِزْرَها. بشكل مفارق، هو يعمل على أن يحمّل مسؤولية الكسر الجمهوري لمن يعملون، من الجامعة أو التحركات الجمعياتية (في مثال الائتلاف الجماعي ضد رهاب الإسلام في فرنسا (Collectif Contre l’Islamophobie en France) الذي ينشطه مروان محمود)‏[18]، على التنديد بانحرافات رُهاب الإسلام التي تقترفها النخب السياسية، بهدف إصلاحها.

ينتهي مثل هذا السجلّ إلى أن يتوازى مع النبوءات ذاتية التصديق شديدة القرب من الممارسات المنسوبة إلى «رجال المطافئ مشعلي الحرائق». من الطبيعي أن يكون ما يجنيه الاعتناء بـ «الكسر» (Kepel, 2016) موضوعاً للبحث باليد اليمنى ومجالاً لتعميقه باليد اليسرى! وفي ذلك، كثيراً ما يبدو الفاعل متلذذاً بِقِطَافِهِ المرابيح الأكاديمية المتأتية من عمليةِ وَصْمٍ، سُرْعَان ما يتضح من الملاحظة، أنّه في الحقيقة من تُرُوسِهَا الفاعلة.

ذلك أن محاربة الجهادية من جذورها، تقتضي حقاً وبالفعل، مساءلة الضّيق (malaise) الذي به يشعر مسلمو فرنسا في محدداته الاجتماعية والسياسية، لا (مثلما يفعل كيبل) وَصْمَ من يندّدون به، أو إنكار وجوده (مثلما يفعل روا الذي يرفض بالكامل أخذه بنظر الاعتبار). ذلك أن الجهادية، ومهما ضؤلت في أقليتها، هي حقاً واحد من أشكال التعبير عن هذا الضيق ذي الجذور التي لا مزيد على وضوح بداهتها. بإنكار أسباب هذا الضيق أو بتسليط الوصم عليها، تنتهي المقاربات المهيمنة التي أتباين معها ههنا، إلى إبطال كل شكل تعبيري عنه بل حتى تجريمه. في هذا المعنى، هي تغذي السيرورة التي تنوي محاربتها. ذاك هو ما يجعلني أرى أنه من الأساسي، وفي نطاق الاحترام الودي الذي أجهد نفسي لمراعاته تجاه زملائي، التذكير بأن التباينات التي تفصل بين الأطاريح التي تتواجه في موضوعٍ بمثل هذه الجوهرية تمثل رهاناً أكثر أهمية كثيراً مما يبديها عليه مَن لا يزيدون بنوع من الكسل، عن أن يروا فيها، مجرد صراع أَنَوَاتٍ تافه.

 

 

قد يهمكم هذا الحوار أيضاً  في نقد الأيديولوجيا: حوار فكري مع عبد الله العروي

#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #حوار #مقابلة #فرانسوا_بورغا #بورغا #الجهاديين #الجهاد #الراديكالية #محاربة_الجهاديين #الجهاد #التعصب #التطرف_الديني