قد يتساءل القارئ عما يربط بين ما تريده أمريكا من سورية وبين كراهيتها القومية العربية، وقد يبدو للبعض أن لا رابط بين الاثنين، لكني أراه رابطاً وثيقاً، لا بل إن تمسك سورية بالقومية العربية «وما تعنيه من أبعاد تحررية وتطلعات استقلالية» ربما يكون من أولويات أسباب الموقف الأمريكي المعادي لسورية. ولا شك – طبعاً – في أن هناك أسباباً أخرى «تتعلق بأهدافها الجيواستراتيجية وبمشروعها للهيمنة على العالم»، ولكني هنا أركز على هذا السبب بالذات، لأهميته الفائقة، ولارتباطه أكثر من الأسباب الأخرى، بهوية سورية ومستقبلها وتطلعات شعبها.

في كتابي الذي صدر عام 2008‏[1]، حاولت أن أحذر من التمادي في تطبيق توصيات ونصائح صندوق النقد الدولي والبنك الدولي والاتحاد الأوروبي في تحويل الاقتصاد السوري نحو اقتصاد السوق واللبرلة، وأوضحت أن ذلك يعني «فضـلاً عن الأسباب الاقتصادية والاجتماعية» إضعاف الدولة، وأن إضعاف الدولة مطلب أمريكي وغربي بهدف الانقضاض على سورية كدولة ودور، وإزاحتها بالتالي عن طريق إقامة وتنفيذ مشروع الشرق الأوسط الجديد، الذي تريده الولايات المتحدة، من أجل إحكام قبضتها على منطقتنا العربية، وتحقيق الأهداف الصهيونية – الأمريكية.

وفي عنوان فرعي في الكتاب، طرحت سؤالاً حول: لماذا التركيز على سورية؟‏[2] والآن، وبعد أن أصبحنا على أعتاب السنة السابعة للحرب على سورية، أصبح من الضروري أن نعيد طرح هذا السؤال، بعد أن توضحت أبعاد هذه الحرب القذرة، التي أحالت سورية إلى ساحة حرب وتدمير وقتل لم يسبق لها مثيل، بحكم تعدد القوى الفعّالة – محلية وإقليمية ودولية – وبحكم تعقُّد المشكلات وتشابكها وتعدد الأهداف والوسائل والآليات، وتداخل المصالح وتعارضها. وهذه الحرب وإن أعادت إلى الأذهان ما دعاه باتريك سيل الصراع على سورية إلا أنها أضافت أبعاداً أخرى تتعلق بالنظام الإقليمي والنظام الدولي، ومستقبل العلاقات الإقليمية والدولية.

فالمعضلة الشريرة، التي تحدثت عنها كلينتون في مذكراتها التي صدرت أخيراً، إنما هي كذلك لأنها من صنع وتدبير الولايات المتحدة؛ فمنذ بداية الأحداث في سورية «آذار/مارس 2011» وجدنا السفير الأمريكي «فورد» يتجول بين المتظاهرين من حماة إلى درعا وأريافها، كما وجدناه يتنقل بين ما أطلق عليه أطياف المعارضة، الذين حولتهم الولايات المتحدة إلى «ثوار» ومن ثم وبعد أن دججتهم بالسلاح «بمختلف تسمياته» معارضة معتدلة، في محاولة لإضفاء الشرعية «الثورية» على الفصائل الإرهابية التي تم تصنيفها وتمويلها وتزويدها بالسلاح، من أطراف متعددة في الغرب بزعامة الولايات المتحدة وتركيا وقطر والسعودية والأردن وغيرها، بهدف القضاء على سورية كدولة وتمزيق شعبها وتقطيع أوصال جغرافيتها.

ويلاحظ أن إسهام الولايات المتحدة في الحرب على سورية تحت شعار محاربة الإرهاب اقتصر على الطيران وزرع قواعد ثابتة «في الجزيرة السورية» وفي عين العرب، وكذلك القيام بعمليات تدريب وتسليح لما دعته «المعارضة المعتدلة». ومن خلال استراتيجيتها الجديدة، استخدمت الولايات المتحدة أدواتها الجديدة من القوات الخاصة ومن وسائل استخبارية فضـلاً عن الطائرات من دون طيار، والوسائل الحديثة في الاتصالات والمعلوماتية التي وضعتها بتصرف عملائها المحليين، هذا عدا عن استخدامها الصحافة والإعلام كوسيلة مركزية لبث سمومها وخلق المناخات المناسبة لمخططاتها. وتقوم الاستراتيجية الأمريكية الجديدة، على عدم زج قواتها العسكرية البرية على نحو مباشر في الصراعات الخارجية، بعد ما تعرضت له هذه القوات في أفغانستان والعراق، وها هي الآن تقوم باختبار استراتيجيتها الجديدة في سورية، بعد أن حولت الأزمة السورية إلى معضلة شريرة لجعل الحرب على سورية حالة مستدامة، تعالج في سياقها مشكلاتها المتعددة الأبعاد، سواء في المنطقة العربية أم في علاقتها مع إيران وروسيا وحالياً مع الصين بهدف استنزاف قدرات هذه الدول، من دون أن ننسى أن في استدامة الحرب في سورية حـلاً لمشكلاتها الاقتصادية وتشغيل معامل السلاح وتدمر عائدات النفط، وإغراق العالم في أزمات اقتصادية واجتماعية متجددة.

إن الأزمة التي افتعلتها الولايات المتحدة، أخيراً من خلال الهدنة التي تم الاتفاق عليها، وانقلابها على الاتفاق الموقَّع بينها وبين روسيا، إنما يأتي في سياق هدفها الاستراتيجي العام بإبقاء الأزمة السورية مفتوحة، واستمرار الضغط على سورية من أجل إضعافها، وإغراق روسيا وإيران والمقاومة، في مستنقع لا قعر له.

في هذا الإطار، يجري التلاعب في الشمال السوري، ما بين الأوهام التركية وأحلام بعض الفصائل الكردية، في لعبة مفضوحة، لا تقل في أهميتها مع ما يجري في جنوب سورية لمصلحة المخطط الصهيوني في إيجاد منطقة عازلة بين الجولان المحتل والجولان المحرر، تحكمه فصائل مسلحة إرهابية ترعاها إسرائيل وتحميها الولايات المتحدة.

من هنا، تتوضح أبعاد الأهداف الأمريكية في ما تريده من إشعال الحرب في سورية وعليها، فهي إلى جانب إمعانها في دعم الفصائل الإرهابية، قامت مؤخراً بعدوان صارخ على القوات العربية السورية في دير الزور (وهو العدوان الثاني في نوعه) بهدف تسهيل ودعم «داعش» في احتلال دير الزور كاملة، وتهجير ما تبقى من أهاليها والإعداد لفصل غرب الفرات عن شرقه، ما يعني تهيئة الظروف لانسحاب «داعش» من الموصل إلى الرقة، والولايات المتحدة إلى جانب هذا الهدف، تنظر إلى دير الزور نظرة خاصة تتعلق بأطماعها النفطية، فبعد أن أقامت قاعدة لها في «رميلان» النفطية بتواطؤ مع بعض الأكراد الواقعين في وهم إقامة كيان مستقل لهم في الجزيرة السورية جعلت من دير الزور هدفاً «نفطياً وسياسياً» بعد أن تأكد لها وجود مخزون نفطي هام تحت المدينة، و«المعضلة» التي صنعتها الولايات المتحدة لسورية وفي سورية لها تاريخ طويل، وربما يكون من المفيد أن نعيد إلى الذاكرة بعض محطاتها، علَّنا في ذلك نستطيع أن ننعش ذاكرة من نسيَ من السوريين «المآثر» الأمريكية في تاريخ سورية ولعلّنا نستطيع أيضاً أن نتلمس ما يعزز الموقف المناهض للمشروع الأمريكي:

المحطة الأولى: كانت نقطة التّماس الأولى للسياسة الأمريكية تجاه سورية، عندما عقد مؤتمر الصلح «1919»؛ فقد كان الرئيس الأمريكي مؤيداً لحق تقرير المصير وفق المبادئ التي أعلنها عام 1918، لذا فقد وقف إلى جانب المطلب السوري الذي عبّر عنه الأمير فيصل في ذلك الوقت وهو إرسال لجنة التحقيق، بقصد كشف المطامع الإنكليزية والفرنسية من جهة، «في طرحها الانتداب وتوزيع المنطقة ما بين الإنكليز والفرنسيين» والوقوف على رأي الشعب في سورية. من جهة ثانية فقد رفض الأوروبيون هذا المطلب، في حين وافقت عليه الولايات المتحدة، وعندما التقت اللجنة بأغلبية السوريين وممثليهم أبدوا رغبتهم بأنه إذا كان لا بد من وجود مساعدة دولية، فلتكن هذه المساعدة من الولايات المتحدة، على أن تقتصر مساعدتها على الأمور الفنية والاقتصادية. لكن تقرير اللجنة أخفي في دهاليز البيت الأبيض، ولم يعلن عنه، فانكشفت سياسة الولايات المتحدة أمام الرأي العام العربي والسوري بوجه خاص في ذلك الوقت، وأصيب العرب والسوريون الذين راهنوا على الولايات المتحدة بخبيبة أمل في موقعين:

الأول: عندما أيدت وعد بلفور بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، بقرار صدر عن الكونغرس الأمريكي عام 1922.

الثاني: عندما أيدت فرنسا في انتدابها على سورية، وفقاً للاتفاق الفرنسي – الأمريكي المعقود في 4/4/1924.

من هنا يمكن أن نفهم أسباب إخفاء تقرير «كينغ – كرين» والتكتم عليه. والولايات المتحدة وفقاً لذلك، وضعت نفسها إلى جانب أوروبا الاستعمارية وإن تناقضت مصالحها مع مصالح أوروبا، ما سيتوضح على نحو أوسع خلال وما بعد الحرب العالمية الثانية.

لقد تبين زيف المبادئ التي نادى بها الرئيس الأمريكي، وأصبحت الولايات المتحدة شريكة أساسية في ما آلت إليه حال الأمة العربية بوجه عام أو الحال السورية بوجه خاص. فقد وقفت إلى جانب الاستعمار التقليدي في مواجهة الشعوب عندما وضعت نفسها في صف الدول الاستعمارية المعتدية على حرية الشعوب وحقوقها.

وبالعودة إلى الاتفاق الفرنسي – الأمريكي (1924) نجد أن هذا الاتفاق قد كفل للولايات المتحدة «احترام الحقوق الملكية التي هي للفرنسيين في الأراضي المشمولة بالانتداب» وجعل رعاياها مساوين لرعاية الدولة المنتدبة في الامتيازات، وبذلك تكون الولايات المتحدة قد أشركت فعـلاً في الاعتداء على استقلال وحرية الشعب السوري الذي كان ينظر إليها على أنها نصيرة للشعوب ومتنزهة عن المطامع الاستعمارية، فاذا بها، بدعمها الصهيونية، والاستعمار الفرنسي، تخسر احترام الشعب السوري وثقته، وأصبح ينظر إليها كأي دولة معتدية أخرى، رغم تبجحها بمبادئ «ولسون» والديمقراطية وحقوق الإنسان. وجاءت بعد ذلك ممارساتها السياسية لتثبت بالدليل القاطع أنها لا تعمل إلا بوحي مصالحها ضاربة عرض الحائط بمصالح وحقوق الشعوب.

المحطة الثانية: كانت بعد الحرب العالمية الثانية، وتميزت تلك المرحلة بتصاعد نفوذ الولايات المتحدة، وكذا نفوذ ودور كل من بريطانيا وفرنسا. وبعد الانتصار الذي أحرزه الاتحاد السوفياتي في الحرب، بدأ يتصاعد دور وأهمية الاتحاد السوفياتي على الساحة الدولية، خاصة عندما وقف إلى جانب الشعوب المتطلعة إلى الاستقلال والحرية في المحافل الدولية، وفي دعم استقلالها وتحررها من الاستعمار، ومع تركيزه على إعادة بناء اقتصاده ومع نجاحه في تصنيع القنبلة النووية، أصبح قطباً عالمياً يحسب حسابه في مواجهة الإمبريالية الأمريكية.

وقد حصلت سورية على استقلالها بعد نضال طويل ضد الاستعمار الفرنسي، وبدأت ببناء نظامها السياسي الديمقراطي، والتأسيس لإقامة اقتصاد مستقل، لكن الولايات المتحدة لم يرُقها ذلك، ومن خلال مطامعها بتأمين خطوط نقل النفط عبر سورية، وعدم موافقتها على سياسة سورية الخارجية (خاصة معاداتها للصهيونية) قامت بأول انقلاب عسكري (1949) ومنه تتالت الانقلابات العسكرية والاضطرابات السياسية، خاصة بعد أن التقت الإرادة السياسية السورية بالثورة المصرية بقيادة جمال عبد الناصر، ووقوف سورية ضد العدوان الثلاثي (1956) وانضمامها مع مصر إلى دول عدم الانحياز، وتنامي دور الشارع السوري في دعم توجهات سورية القومية العربية.

وقد بدا واضحاً «الانزعاج» الأمريكي من سياسة سورية العربية، وفي معاداتها الأحلاف الغربية، وفي تصاعد دور الشارع السوري، في تركيزه ضد «إسرائيل» وضد الأحلاف الغربية، وضد سياسة الولايات المتحدة المعبَّر عنها في ذلك الوقت بما يدعى «فراغ إيزنهاور» وتمسكها بسياسية الحياد الإيجابي وتوجهاتها الوحدوية.

وفي حقبة الخمسينيات من القرن العشرين التي تميزت بتصاعد توجهات السياسة السورية ضد الإمبرالية الأمريكية وضد الصهيونية ومع الوحدة العربية، وتمسكها بالقومية العربية في هذه الحقبة برزت معاداة الولايات المتحدة للقومية العربية على السطح ولم يعد خافياً كراهيتها القومية العربية ولسياسة عدم الانحياز وموالاتها للرجعية العربية.

وفي دراستها للعلاقات السورية – الأمريكية في فترة الخمسينيات، اعتماداً على وثائق الخارجية الأمريكية توصلت بوني ف. ساوندرز الأستاذة في أكثر من جامعة أمريكية بكتابها الولايات المتحدة والقومية العربية – الحالة السورية، 1953 – 1960؛ إلى استخلاص نتائج هامة من خلال محاولات الولايات المتحدة «خلال الحرب الباردة» ضم سورية إلى دائرة نفوذها، ومنع الاتحاد السوفياتي من التوسع والوصول إلى منابع النفط والمياه الدافئة‏[3].

تقول ساوندرز في مقدمتها: «إن موقع سورية الاستراتيجي على حدود كل من إسرائيل وتركيا، حليفة الناتو، ومرور أنابيب النفط القادمة من حقول العراق الغنية في أراضيها إلى البحر الأبيض المتوسط، أبرز أهمية سورية بالنسبة إلى الولايات المتحدة، كما أن العون السوفياتي لحكومة دمشق، المترافق مع تصريحات القادة السوريين القاطعة المعارضة للغرب ولإسرائيل أخاف المسؤولين الأمريكيين وأغضبهم».

وتقول ساندروز إن الإدارة الأمريكية صرفت معظم طاقاتها الدبلوماسية في محاولة تغيير الحكومة السورية «المتطرفة» وبدأت أجهزة إعلامها ومخابراتها والدول الموالية لها بترويج أن الحكومة السورية منحازة إلى الاتحاد السوفياتي، وأن القومية العربية موالية للشيوعية. وتقول ساوندرز إن الأمريكيين كانوا يأملون في نهاية المطاف أن يقدموا للسوريين عوناً اقتصادياً في محاولة لإنهاء «السيطرة السوفياتية» على سورية، وعندما فشلوا في ذلك وأصرت سورية على نهجها المستقل والاحتفاظ بسيادتها انتقلوا إلى «الأساليب الخشنة» والخطابات القاسية المعادية لسورية والمعادية للقومية العربية، إضافة إلى العمليات السرية للسي أي ايه في عامي 1956 و1957 ضد الحكم السوري.

وأوردت ساوندرز من وثائق الخارجية الأمريكية، تقريراً للقائم بأعمال السفارة الأمريكية بدمشق، يخشى فيه من قيام دولة سورية متطرفة موالية للسوفيات، مؤكداً أن قادة «البعث الاشتراكي» عازمون على تأسيس دولة قومية اشتراكية، متوقعاً بأن سورية ما إن تحظى بالقوة الكافية حتى تقوم بإطاحة الملك سعود لإقامة نظام شبيه بالنظام السوري، ومن ثم تكرر الجهد نفسه في العراق ولبنان.

وتورد ساوندرز بهذا الصدد نفي المسؤولين السوريين تكراراً بأن سورية لن تصبح خاضعة للسيطرة الشيوعية أو السوفياتية، وأنها لن تلجأ إلى مهاجمة جيرانها العرب، وتورد تصريحاً هاماً للرئيس السوري شكري القوتلي في القاهرة «موبخاً» فيه المسؤولين الأمريكيين بسبب عدم تمييزهم بين الشيوعية والقومية العربية، ولأنهم يعتبرون بأن أي دولة لا تتفق كلياً مع السياسات الأمريكية تكون بنظرهم قد انضمت إلى صفوف الاتحاد السوفياتي. وكذلك تورد تصريح وزير خارجية سورية في ذلك الوقت صلاح البيطار الذي هاجم الولايات المتحدة بسبب استهزائها بالقومية العربية وبالحياد وتصويرها على أن ذلك يعني انحيازاً إلى الشيوعية. وأدان البيطار بعض الحكومات لضلوعها بمؤامرة دعائية عالمية من أجل ضرب سياسة سورية المستقلة «ما أشبه اليوم بالبارحة». وتقول ساندروز إن عبد الناصر حاول أيضاً تبديد المخاوف الأمريكية فقال للسفير الأمريكي إن سورية لم تأخذ العون العسكري والاقتصادي السوفياتي، إلا لأنها لم تستطع الحصول على معونات أو قروض بشروط معقولة من أي دولة غربية، لا من البنك الدولي ولا من أي مؤسسة دولية أخرى يسيطر عليها الغرب. واقترح عبد الناصر على الولايات المتحدة إذا كانت تريد تخفيف التوتر مع سورية ألّا تحاول تهديدها أو عزلها بالتلويح بالأسطول السادس، وقال بأنه يتوجب حتماً على تركيا ألّا تهدد سورية على الإطلاق.

إلا أن المسؤولين الأمريكيين لم يقبلوا بذلك، وقد أوردت ساوندرز تقريراً لمجلس تنسيق العمليات (7/8/1957) عن تطور السياسة الأمريكية في سورية، انتهى إلى إعلان خيبة أمل الولايات المتحدة وتشاؤمها، مشيراً إلى أن سورية «هي أكثر الدول ميـلاً لقبول التأثير السوفياتي» في الشرق الأوسط. وتقول ساوندرز نقـلاً عن ذلك التقرير «يبدو أن مبدأ أيزنهاور لم يتقبل انجراف سورية نحو الشيوعية، فالعناصر الأكثر تطرفاً في الساحة السياسية السورية تسيطر الآن على مجلس النواب والحكومة والجيش، وهذا ما دعى الـ سي أي إيه، إلى العمل على إطاحة أولئك المتطرفين، لتثبيت حكومة وجيش سوريين «معتدلَين» وذلك من خلال عملية «واين» في 14/8/1957 وهي عملية انقلابية خطط لها ثلاثة موظفين في السفارة الأمريكية بدمشق استطاعت الحكومة السورية كشفها وإعلانها، وقد اعتبرت الولايات المتحدة أن كشف هذه العملية بدا للمسؤولين الأمريكيين وكأنه أزمة حادة وربما ضربة قاضية لمركز الولايات المتحدة في سورية.

يمكن القول إن هذه الحقبة من تاريخ سورية انتهت إلى بزوغ شمس القومية العربية، وإسقاط المشروع الأمريكي، حيث تعافى دور جماهير الشعب بإيصال ممثليها إلى المجلس النيابي وتشكيل حكومة وطنية قومية تقدمية. وقد برز التلاحم بين الشعب والجيش والحكومة برفض مشاريع الأحلاف الاستعمارية، ومناهضة الحركة الصهيونية وإعلاء شأن القضية الفلسطينية، والوقوف بوجه الحشود التركية، والتمسك بسياسة الحياد الإيجابي، ثم بالإعلان عن رغبة شعبية عربية بتحقيق الوحدة السورية – المصرية، فكانت أول وحدة بين بلدين عربيين في العصر الحديث.

وأدى ذلك كله مع وجود أخطاء في ممارسات نظام الوحدة إلى نجاح قوى الإمبريالية والرجعية العربية والقوى المعادية للوحدة إلى توقيع العقوبة الأعظم في التاريخ العربي الحديث وذلك بتحقيق الانفصال بين سورية ومصر. ولم تكتف قوى العدوان بذلك، بل قامت بتوقيع العقوبة الثانية بعدوان 1967 حيث برز على العلن ذلك التلاحم بين الإمبريالية الأمريكية والحركة الصهيونية والرجعية العربية.

المحطة الثالثة: هي مرحلة محاولة النهوض التي بدأتها مصر وسورية من أجل استرداد الكرامة العربية، التي أهانتها هزيمة 1967، في الشعار الذي رفعه عبد الناصر «ما أُخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة»، وبالفعل فقد تميز أداء القوات السورية والقوات المصرية في حرب 1973 وبين عن استعداد وإرادة وحرفية عسكرية متميزة، وحقق هذا الأداء منذ الساعات الأولى تقدماً باتجاه استعادة الجولان وسيناء، إلا أن انحراف السادات وألاعيب كيسنجر الذي يمكن اعتباره عراب تلك المرحلة، أجهضا الانتصار الذي كان يؤمل تحقيقه؛ فقد تركز الجهد الأمريكي على سحب إمكان استخدام سلاح النفط في المعركة ضد الكيان الصهيوني «والغرب والولايات المتحدة» ووضع إسفين عميق بين الدول العربية بسحب مصر للتصالح منفردة مع ذلك الكيان، وبالتالي الإجهاز على فكرة التوحد القومي العربي، والعمل على إضعاف دمشق «قلب العروبة النابض كما دعاها عبد الناصر» والعمل الحثيث من أجل إسقاط العراق وتفتيته والحيلولة دون قيام دولة قومية «قوية» فيه وهكذا انصب عمل الغرب والصهيونية والولايات المتحدة في هذه الحقبة (السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات من القرن العشرين) على:

– دفع مصر إلى توقيع الصلح المنفرد مع الكيان الصهيوني «معاهدة كامب ديفيد» وعزلها ومنعها من القيام بدورها التاريخي في وطن عربي موحد.

– استنزاف العراق وجيشه في الحرب مع إيران وتهيئة الأجواء، لتحويل الاتجاه من محاربة الصهيونية إلى محاربة إيران.

– إضعاف الدولة السورية، وفرض عقوبات جائرة عليها، بعد اتهامها بدعم الإرهاب.

– الإعلان عن بدائل، يمكن تحقيقها، تلغي فكرة العروبة وتخلق مشاريع أو كيانات أخرى.

وقد تمثلت تلك البدائل بمشروعين يهدفان إلى إلغاء هوية المنطقة العربية، وصياغة هويات أخرى تلغي الارتباطات التاريخية والثقافية، وتنسج ارتباطات من نوع آخر تسمح بوجود الكيان الصهيوني في نسيج وهوية جديدة فضـلاً عن تصفية القضية الفلسطينية، وهذان المشروعان هما:

أ – مشروع الشرق الأوسط الجديد الذي طرحه شمعون بيريز في أواسط التسعينيات من القرن الماضي برعاية ودعم أمريكي.

ب – مشروع الشراكة الأوروبية الذي طرحه الاتحاد الأوروبي. ويهدف كلا المشروعين إلى إلغاء الهوية العربية، وتقبُّل وجود الكيان الصهيوني من خلال علاقات اقتصادية وسياسية وثقافية جديدة، يكون فيها لهذا الكيان دور رئيسي وكبديل للتكامل الاقتصادي العربي، جرى الترويج من خلال مؤتمرات اقتصادية «للشرق الأوسط وشمال أفريقيا» لمشاريع وبرامج اقتصادية تلحق الاقتصادات العربية «فرادى» بالاقتصاد العالمي في ظل مقولات العولمة والقرية العالمية الواحدة.

ورغم الإخفاقات التي واجهت مسيرة هذين المشروعين، إلا أن ما استطاعت تحقيقه هو الكثير من الأهداف، فقد كانت مؤتمرات الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، واجتماعات الشراكة الأوروبية وما نجم عنها من اتفاقيات، وسيلة هامة لزرع بذور «التطبيع» مع الكيان الصهيوني، ما خفي عنها وما هو معلن، من جهة، وإدارة فعالة من أجل إضعاف توجهات التكامل العربي من جهة ثانية.

إضافة إلى هذا فإن المشروعين «الشرق الأوسط الجديد والشراكة الأوروبية» كانا يعملان على الترويج لعمليات التحول إلى اقتصاد السوق، ويدفعان إلى انتهاج السياسات الاقتصادية الليبرالية الجديدة، وذلك ليس من أجل تحقيق أهداف اقتصادية بحتة، وإنما أيضاً من أجل إضعاف الدولة، وربطها بعجلة الاقتصاد الرأسمالي الحر، وتوجيه عملية التنمية بأهداف لا تتماشى مع الرغبة بتحقيق تنمية حقيقية شاملة ومستقلة بالاعتماد على الذات، وإنما تهدف إلى ربط الاقتصادات العربية بالاقتصاد العالمي، وجعله تابعاً لهذا الاقتصاد، يعمل من خلال آلياته والتوجه نحو الخارج، وليس من أجل تحقيق عملية نهوض اجتماعي واقتصادي وثقافي من خلال مشروع تنموي متكامل بتوجهات عربية تفاعلية.

إن اقتصاد السوق والسياسات الليبرالية الاقتصادية الجديدة، التي انتُهجت على نحو واسع وممنهج، منذ التسعينيات من القرن الماضي في ضوء ارتباطات وتوجهات وتوصيات ونصائح المنظمات الدولية، والاتحاد الأوروبي، والتي فتحت الباب واسعاً للاتصالات والعلاقات مع الشركات متعدية الجنسية «بحجة الاستثمارات الخارجية» كانت تهدف إلى جانب ما – تهدف إليه اقتصادياً – إضعاف سيطرة الدولة على الاقتصاد، وحرف عملية التنمية عن أهدافها الاجتماعية، ما أدى إلى اتساع دائرة الفقر، واتساع الفجوة بين الأغنياء والفقراء، واتساع أجواء الفساد والبطالة والثقافة الاستهلاكية، وزيادة حجم اقتصاد الظل، وانتشار العشوائيات وترييف المدينة، وهذه الأجواء جميعاً، كانت «مساعدة» على زرع بذور ما دعي فيما بعد بـ «الربيع العربي».

يأتي ذلك كله من خلال العمل على تفعيل «مشروع القرن الأمريكي»؛ ذلك المشروع الذي تم تأسيسه عام 1997 لوضع تصورات السياسة الخارجية الأمريكية في القرن الجديد.

وهنا نجد من المفيد أن نستذكر أهم توجهات هذا المشروع التي تتحمور حول توصياته الثلاثة:

1 – الحاجة إلى زيادة الإنفاق العسكري الأمريكي إلى حد كبير من أجل تحمّل المسؤولية الكونية التي تقع على عاتق الولايات المتحدة.

2 – الحاجة إلى تقوية العلاقات مع الحلفاء الديمقراطيين للولايات المتحدة، ومواجهة «النظم المعادية» لمصالح و«قيم» الولايات المتحدة.

3 – الحاجة إلى قبول المسؤولية، والدور الفريد للولايات المتحدة في الحفاظ على نظام دولي يحمي «مصالح ورفاهية ومبادئ» الولايات المتحدة.

تعكس هذه التوجهات ممارسات الولايات المتحدة وسياساتها الخارجية وخاصة في ما يتعلق بمواجهة النظم المعادية لمصالحها وقيمها، وهذا يعني مواجهة جميع ما يخالف المشروع الأمريكي في تطلعاته للهيمنة على العالم والمساس بالنظام الدولي الذي تريده من أجل حماية مصالحها ورفاهيتها ومبادئها «الديمقراطية».

جدير بالذكر أن المحافظين‏[4] الجدد هم من صاغ هذا المشروع ومن عمل من أجل تنفيذه. وقد مثلت أحداث أيلول/سبتمبر 2001 نقطة تحول في نفوذ حركة المحافظين الجدد الذي تصاعد كثيراً وأصبح رافداً أساسياً للسياسة الخارجية الأمريكية، حيث نجح هؤلاء في استبدال «الخطر الشيوعي» بـ «خطر الإرهاب» الذي أصبح الشعار الرئيسي للسياسة الخارجية الأمريكية في ظل إدارة بوش بعد 11 أيلول/سبتمبر 2001، واستخدام المحافظين الجدد ذلك لخدمة مصالحهم وتدعيم نفوذهم وتنفيذ أجندتهم الخاصة. مما يذكر أيضاً أن هذا التيار على علاقة وثيقة بشركات السلاح وشركات النفط وقطاع الأعمال، وقد نجح في زيادة نفقات الدفاع وبالتالي مشتريات الأسلحة، كما نجح في خفض الضرائب على الشركات والأغنياء، وقد كشفت مواقفه السياسية عن تلاحم قوي مع الأهداف الصهيونية.

المحطة الرابعة: وهي مرحلة إعداد مسرح التحولات الكبرى في المنطقة العربية، بوجه عام ومسرح «الجريمة» المرتكبة بحق الشعب السوري، بوجه خاص بالاستناد إلى الاستراتيجية الأمريكية، الهادفة إلى تغيير «الأنظمة المعادية» وخلق الفوضى ونشر مبادئ وقيم الولايات المتحدة، بتعميم نهجها «الديمقراطي» وحماية الوجود الصهيوني.

وإذا كانت الولايات المتحدة، قد استطاعت تدمير العراق، وتفكيك مجتمعه وجيشه، فإن هاجسها السوري يظل قائماً طالما بقيت سورية، وبقي شعبها موحداً، وبقي جيشها متماسكاً.

وقد وضعت «استراتيجية الزمن القومي الأمريكي»‏[5] بعد عام من أحداث أيلول/سبتمبر 2001، وبخلفية هذه الاستراتيجية جرى استقطاب حاد على الصعيد الدولي، اختزله الرئيس الأمريكي بوش الابن بما معناه «إما أن تكون مع أمريكا أو ضدها» وتعرفت الإدارة الأمريكية إلى هذا الأساس منصِّبة نفسها كشرطي عالمي يقوم بفرز دول العالم وشعوبه بين إرهابي «أو مناصر للإرهاب» ومعادٍ للإرهاب: الخير والشر – التقدم والتخلف، من خلال المنظور الأمريكي الغربي الصهيوني. وبدأت الأنظمة العربية المتهافتة تسعى لاسترضاء الأمريكي، حيث أرضاها بإعطائها الضوء الأخضر لاستمرار تمسكها بكرسي الحكم، ومنحت اسم «الدولة المعتدلة» بمقدار اقترابها من الاستراتيجية الأمريكية ودخولها التطبيع مع الكيان الصهيونية – بصرف النظر عن ممارستها تجاه شعوبها.

وبقيت سورية، شامخة، معتزة بتمسكها بعروبتها، ومعاداتها الصهونية، وممانعتها المشروع الأمريكي، ولهذا فقد انطلقت الاستراتيجية الأمريكية تجاه سورية من الأسس والمبادئ التالية:

– استمرار العمل على عزل سورية دولياً.

– تطويق سورية عربياً بدول الاعتدال وضغوطهم.

– إضعاف سورية داخلياً.

– تغذية «المعارضات» الهشة والضعيفة بالوعود والدعم.

– إشهار سلاح الديمقراطية وحقوق الإنسان والمجتمع المدني.

– إسقاط الاقتصاد السوري في براثن الليبرالية الاقتصادية الجديدة.

– دعم توجهات اقتصاد السوق وفتح الأسواق.

– إلحاق الاقتصاد السوري بالاقتصاد العالمي.

– دعم دعاة ونخب العولمة، ودعم توليهم المسؤوليات الحكومية واستخدم من أجل تحقيق ذلك.

– الضغوط السياسية والعقوبات الاقتصادية.

– برامج التحول نحو اقتصاد السوق المقدمة من المؤسسات الدولية والاتحاد الأوروبي.

– «تصنيع نخبة» معولمة من الأكاديميين ورجال الأعمال، الداعين إلى الانخراط بالاقتصاد العالمي.

يأتي ذلك كله من خلال استراتيجية الأمن القومي الأمريكي وبخاصة الفقرة الخامسة، التي تعتبر بمثابة دليل عمل للإدارة الأمريكية في المجال الاقتصادي، وتتضمن هذه الفقرة: «العمل من أجل حقبة جديدة من النمو الاقتصادي على المستوى العالمي، من خلال إقامة الأسواق الحرة والتجارة الحرة».

وحددت الاستراتيجية الأمريكية المبادئ الاقتصادية للولايات المتحدة ودورها الاقتصادي في تعزيز النمو الاقتصادي والحرية والاقتصادية خارج حدود أمريكا. وستستخدم تعاونها الاقتصادي مع دول أخرى من أجل فوائد السياسات الاقتصادية باتخاذ الإجراءات التالية:

– انتهاج سياسات تنظيمية وقانونية تدفع النمو وتشجع الاستثمار والاختراع والنشاط المقاولاتي.

– تبنّي أنظمة مالية قوية تسمح بالاستخدام الأكثر فعالية لرأس المال.

– التجارة الحرة التي تفتح آفاقاً جديدة للنمو وتعزز نشر التكنولوجيا والأفكار.

ويأتي ذلك انطلاقاً من أن «اقتصادات السوق، وليس اقتصادات الرقابة والتحكم الحكومي، هي السبيل الأفضل للازدهار وتقليص معدلات الفقر» كما تؤكد استراتيجية الأمن القومي الأمريكي.

وقد تضمن مشروع بوش «الشرق الأوسط الكبير والواسع» نفس هذه التوجهات، وإن جاءت أكثر تفصيـلاً، وخاصة ما يتعلق بتحقيق الإصلاح الديمقراطي والاقتصادي. كما يتضمن مشروع الشراكة الأوروبية، نصوصاً صريحة حول التحول نحو اقتصاد السوق، ويعتبر «وفاق واشنطن»‏[6] برنامجاً تفصيلياً لمساعدة الدول الاشتراكية السابقة والبلدان النامية للتحول نحو اقتصاد السوق.

وبعد احتلال العراق (2003) قررت الولايات المتحدة أنه آن الأوان لنسف أسس السياسة السورية وأن الوقت أصبح مناسباً للضغط على سورية من أجل تغيير سلوكها، والانخراط بالمشروع الأمريكي؛ فقد كانت تريد من احتلال العراق إقامة نموذج ديمقراطي يمكن تعميمه على دول المنطقة، وكانت تريد أن تبدأ من سورية، فاعتمدت سياسة التهديد والوعيد والضغط كي تتخلى سورية عن دعم المقاومة الفلسطينية وإغلاق مكاتبها وكذلك التخلي عن المقاومة اللبنانية. كما تريد قطع علاقاتها مع إيران، والتحول إلى الانضمام إلى ما كان يدعى بالدول المعتدلة، أي دولة تسير في ركاب السياسية الأمريكية وتقبل بالسلام مع «إسرائيل» بلا قيد أو شرط.

في المقابل وجدت سورية، أنه من الضروري والواجب دعم المقاومة العراقية، والعمل على إفشال احتلال العراق، والاستمرار في دعم ومساندة المقاومة الفلسطينية واللبنانية.

وأصبح من الواضح أن احتلال العراق، كان يجري في سياق تنفيذ مشروع الشرق الأوسط الجديد «أو الكبير كما دعاه بوش الابن».

وفي 3/5/2003 توضحت «مطالب» الولايات المتحدة رسمياً من سورية عندما حضر كولن باول وزير خارجيتها لمقابلة الرئيس الأسد، وقدّم هذه المطالب كما وردت في محضر الجلسة التي نشرها سامي كليب في كتابه‏[7]. وقد أكد باول أنه مبعوث رسمي من قبل رئيس الولايات المتحدة، وأن الرئيس الأمريكي أراد منه «نقل المشاكل التي تعاني منها ولنتبادل وإياكم وجهات النظر وأن نسمع ردكم حول ما قلته»..

وهو يرى (أي الرئيس الأمريكي) أن هناك عنصرين مهمين يأتيان وفقاً للوضع الاستراتيجي الجديد في المنطقة، الأول هو هزيمة نظام صدام حسين بطريقة حاسمة تجبر الجميع على الانتباه إلى نتائج ذلك النوع من السلوك.. والعنصر الآخر الذي يعبر عن الوضع هنا هو حقيقة وجود الحكومة الإسرائيلية الجديدة (حكومة نتنياهو) وانتقال السلطة الفلسطينية إلى أبي مازن ووجود الحكومة الجديدة وتسلم محمد دحلان وزارة الدولة لشؤون الأمن.

ومن الواضح أن في حديث باول تهديداً لسورية متضمناً التحرك نحو «خريطة الطريق ومن أجل السلام» مع «تفهم» للمتطلبات السورية «والمخاوف حول قضية الجولان» مركزاً على الرغبة الأمريكية بإنهاء العنف والقضاء على الإرهاب، ومن هنا يأتي المطلب الأمريكي الملح في وضع نهاية لأعمال الجماعات الفلسطينية «الرافضة والموجودة لديكم في سورية، في دمشق، سواء كانت حركة حماس أم غيرها من الموجودين هنا.. وأعلم أنه يجب إغلاق هذه المكاتب».

ويمضي باول قائلاً «أعتقد أن وجود هذه المكاتب في سورية يعني أنه ضوء أحمر ليس بالنسبة إلى إسرائيل بل بالنسبة إلى بقية أرجاء العالم، أي أن هذه المكاتب لا تعكس شيئاً محبباً عن سورية وتؤثر في سمعة سورية بشكل سلبي.

لهذا أطلب منكم سيادة الرئيس إغلاق هذه المكاتب وإخبار قادتها أن يجدوا مكاناً آخر ليمارسوا نشاطهم فيه، وهذا سيُرى على أنه إشارة إيجابية جداً من قبلكم ليس في المنطقة فقط، بل في الولايات المتحدة أيضاً».

«والنقطة الأخرى التي أرغب في التحدث بشأنها» يقول باول «هذه النقطة تتعلق بحزب الله.. وإن دعم حزب الله مستمر من خلال شحن بعض المواد إلى حزب الله عبر سورية، ونريد أن نطلب منكم مجدداً وقف هذا النوع من النشاطات».

وبالطبع فقد رفض الرئيس بشار الأسد مطالب الولايات المتحدة التي نقلها وزير الخارجية الأمريكي الجنرال باول.

من خلال هذه المحطات الأربع تدحرج الموقف الأمريكي تجاه سورية، فهي تدرك الموقع الاستراتيجي لسورية، وأهميتها التاريخية، ومركزها في صلب الدعوة للقومية العربية بمحتواها الإنساني، وبتطلعاتها التقدمية الطامحة إلى إقامة مجتمع العدالة والتنمية ابتداء من «قلب العروبة» النابض لذا أصبح مفهوماً لماذا تركز الولايات المتحدة على سورية، وما تريد منها؟ فهي تريدها «دولة معتدلة» كباقي الدول التابعة للولايات المتحدة وأن تبعتد عن مناصرة قضايا التحرر في العالم، ومن أجل ذلك تريد إضعافها كدولة والقضاء على توجهاتها القومية، وأن تكف عن المناداة بقضية فلسطين ودعم المقاومة وأن تقبل «الاستسلام» لإسرائيل وقيادتها وهيمنتها على المنطقة العربية، ضمن توجهات الهيمنة الأمريكية، وفي السياق تريد الولايات المتحدة من سورية التحول نحو اقتصاد السوق والانخراط بالاقتصاد العالمي والالتحاق بالعولمة؛ ففي هذا التوجه إضعاف لقوة الاقتصاد السوري، وبالتالي إضعاف للدولة، ومن ثم يكون من السهل أن تقبل بتقديم التنازلات تجاه متطلبات الاستراتيجية الأمريكية، وتجاه الكيان الصهيوني بالتالي.

هذا ولا نستطيع في هذا الإطار أن نفصل ما بين ما يجري على الصعيد الداخلي «وخاصة إضعاف الاقتصاد السوري وإشاعة أجواء الفساد» وما بين متطلبات الانخراط في المشروع الإسرائيلي والصهيوني، وكان العمل من أجل إشعال الفتنه الداخلية جزءاً أساسياً من السياسة الأمريكية، وأول الخطوات بهذا الشأن، خلق التناقضات داخل المجتمع السورية وإشعال فتيل النزعات ما قبل الوطنية «الطائفية – المذهبية – الإثنية» وعلى أن يغلف ذلك بمطالب سياسية تتعلق بالديمقراطية وحقوق الإنسان.

وقد ساعد على هذا المخطط أن السياسات الاقتصادية الليبرالية الموصى بها من قبل المؤسسات الدولية والاتحاد الأوروبي، والتي أصبحت تلقى آذاناً صاغية داخل الجهاز الإداري والبيروقراطي، وفي الأجواء الأكاديمية وأجواء رجال الأعمال، هذه السياسات بدأت تحصد نتائجها المجتمعة بتوسيع دائرة الفقرة واتساع الفجوة في المداخيل والبطالة، حيث يغلف ذلك كله بصعود الطبقة الجديدة من رجال الأعمال والفاسدين والمفسدين على حساب الطبقة الوسطى وأصحاب الدخل المحدود والفقراء، وهذا هو المناخ المناسب لاتساع دائرة الساخطين والمحبطين، والذين أصبحوا يشكلون الوعاء الذي تنمو فيه بذور الفتنة والتطرف، الذي بدأت الدعوات التكفيرية باستغلاله وتحويل ذلك كله إرهاباً بدأ يكتسح الجغرافيا السورية، مع انحسار المطالب السياسية وتراجع دور المعارضة الوطنية، بعد أن انخرط بعضها تحت لواء التوجهات الخارجية والمشاريع الإقليمية والدولية وتحول إلى «أجير» للمخططات المرسومة بالخارج في حين انكفأ بعضها الآخر وغاب في عالم النسيان بعد أن تجاوزته الأحداث.

في هذه الأجواء تم تصاعد دور المنظمات الإرهابية التي سعت إلى التمادي في إضعاف الدولة ومن ممارساتها الإجرامية نلمس ذلك الالتقاء بينها وبين المطالب الصهيونية، وعلى سبيل المثال يطرح التساؤل حول توجه بعض الفصائل المسلحة إلى تدمير قواعد الصواريخ السورية والمدفعية المضادة للطائرات؛ فهذا العمل الإجرامي بالتأكيد يتم لمصلحة إسرائيل، ويتوضح ذلك على نحو أوسع في تشتيت جهود القوات المسلحة السورية على امتداد الجغرافيا السورية وضرب بنيتها الأساسية، فضـلاً عن التوسع في عمليات التخريب الاقتصادي وتدمير مؤسسات الدولة التي هي ملك الشعب السوري بكامله، وجاء بعد ذلك تخريب السكك الحديد ومؤسسات الطاقة والبنية التحتية وتهديم بيوت السكن وتشريد المواطنين ليؤكد رغبة إسرائيلية محمومة في معاقبة الشعب السوري على جرأته في مواجهة المشروع الأمريكي – الصهيوني – الغربي وموالاته القضايا العربية وفي مقدمتها القضية الفلسطينية.

القومية العربية «وهي المشروع العربي القومي»، يتناهض المشروع الأمريكي الغربي الصهيوني؛ ذلك أن مضمونها التحرري التقدمي الإنساني يتعارض مع مشروع الهيمنة الأمريكية والفاشية الصهيونية والمطامح الغربية ذات التاريخ الأسود في سردية التحرر العربي في القرن العشرين – وهنا تلتقي أحداث هذا المشروع الأمريكي مع مشروع الإسلام السياسي في نسخته الوهابية التكفيرية، فهذا المشروع الظلامي الفاشي يتوجه إلى عمق المجتمعات العربية من أجل تدميرها وتفتيتها وإعادتها إلى عصور الجهالة والظلام، وهذا ما يريده المشروع الأمريكي والصهيوني الغربي فيتحالفان معاً ضد القومية العربية وضد سورية وما تعنيه من تحرر وتوجه قومي عربي ودور إقليمي وموقف دولي مناصر لقوى التحرر في العالم.

 

قد يهمكم أيضاً  إدارة ترامب للسياسة الخارجية الأمريكية في الشرق الأوسط

#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #السياسة_الخارجية_الأمريكية_في_الشرق_الأوسط #الولايات_المتحدة #سورية #السياسة_الأمريكية_في_سورية #دور_الولايات_المتحدة_في_الأزمة_السورية #الولايات_المتحدة_وسورية #القومية_العربية #قوى_التحرر