إن اقتصاد السوق‏[1] المحرَّر من القيود لم ينشأ بنحو عفوي وتلقائي، كما أنه لم يتبلور ويتكوّن بفعل مؤامرة حَاكَتها سِرًا الشّركات العملاقة‏[2] والمَصَارِف. إنه في المقام الأول؛ الحصيلة التي أفرزتها قرارات سياسية كثيرة؛ قرارات لم يستطع كثير من المواطنين إدراك مغزاها والإحاطة بالأبعاد التي تترتّب عليها.

فعلى مدى ما يقرب من خمسة وثلاثين عَامًا، دأبت البرلمانات والحكومات (في العالم) على تحرير الاقتصاد من القيود والإكراهات؛ فهؤلاء جميعًا تكاتفوا على فتح أبواب أسواق المال على مصاريعها وتجريد النّقابات العمالية من بأسها وإفقارها، وخفض الضرائب وخوصصة الشركات الحكومية. وهكذا وشيئًا فشيئًا، انسحبت الدولة من التدخل في الاقتصاد تاركة الساحة للسّوق وقِوَاه الذّاتية (اليد الخفية)‏[3] من أجل أن ينتشل السّوق (وهو في حالة غير مستقرة) الفقراء ويرفع الظلم.

وكان السياسيون يطبقون الإرشادات التي قدمها لهم اقتصاديون كانوا ينشرون من حولهم وعودًا برّاقة وآمالًا عريضة، ووعودًا تقول: لو حررتم السّوق فعـلًا من القيود التي تكبلها، فإنكم ستحققون مزيدًا من الرفاهية لشعوبكم. إنكم لو تركتم قوى الرأسمالية تتفتح وتعمل بأقصى طاقاتها، فستضمنون لاقتصادياتكم الوطنية أن تنمو، ليس بأسرع من الوتيرة التي تنمو بها حاليًا فقط، بل وبأسرع من كل الوتائر التي تدور في خلدكم. ولو أفلحتم فعـلًا في الحد من التدخل الحكومي، الذي شل اقتصادياتكم الوطنية في الستينيات والسبعينيات (من القرن العشرين الماضي)، فإنكم ستضمنون لأوطانكم تحقيق المزيد من النمو الاقتصادي والتّجاري.

وتولى اقتصاديان، يَتّصفان بنزعة وعقيدة مُحافظة على نحو شديد، تِبْيَان الاتجاه الذي ينبغي على الحكومات أن تَسْلكه من أجل تحقيق هذه الطّموحات والآمال المعقودة على الرأسمالية المتوحشة: الأول هو ميلتون فريدمان، وهو من مواطني الولايات المتحدة الأمريكية، تولّى التّدريس في جامعة شيكاغو، وفاز بجائزة نوبل للعلوم الاقتصادية في عام 1976. أما الثاني، فهو فريدرش أوغوست هايك النمساوي الذي فاز في عام 1974 بجائزة نوبل للعلوم الاقتصادية أيضًا، وتولى التدريس في لندن وشيكاغو وفي مدينة فرايبورغ الألمانية.

إن هذين الاقتصاديين هما المُنظّران الأوّلان لاقتصاد السّوق المحرّر من القيود، هذا النظام الاقتصادي الذي نحيا في كنفه اليوم. وبأفكارهما الجديدة أَزَاحَ الاثنان من الساحة اقتصاديًا آخر كان قد جاء بأفكار تخالف عقيدتهما، واعتنق نزعة تتناقض مع نزعتهما، فهو ليبرالي، يبتهج بالحياة(*)، والمُلاحظ أن نظريته بشأن الدولة القوية؛ القَادرة على توجيه الاقتصاد، قد عدّت حديث السّاعة. هذا الاقتصادي هو جون مينارد كينز (تمت الإشارة إليه في الفصل الأول من القسم الأول). ويلتقي كينز‏[4] وجيمس غلبرايت (James K. Galbraith) وجوزيف شمبتر (Joseph Schumpter) في الدّفاع عن فكرة العدالة الاجتماعية في إطار اقتصاد ليبرالي.

أولًا: فريدمان وهايك… سوق بلا رقابة وقيود‏[5]

طُول قامة الرجل، الذي ما كان له، في الربع الأخير من القرن العشرين نظير يضاهيه من حيث دوره المتطرف في صوغ الأفكار المؤمنة بكفاءة السّوق؛ نحو متر ونصف المتر؛ وكان فريدمان قد ترك شيكاغو، المدينة التي دَرَسَ وبحث في جامعتها، في الثمانينيات (من القرن العشرين)، وانتقل إلى هنا ليسكن في أحد الطوابق العلوية من طوابق العمارة الشاهقة، المطلة على واحد من أعلى تلال سان فرانسيسكو. وتبلغ مساحة مأواه، هذا المأوى الذي أراد فريدمان أن يقضي فيه ما تبقى له من العمر، نحو 200 متر مربع.

وعلق فريدمان على أحد جُدران صالة الاستقبال وثيقة منحه جائزة نوبل في عام 1976. وانتصب إلى جوار هذه الوثيقة تمثال نصفي يجسد ملامحه الشخصية. وكانت زوجته روز، الاقتصادية المرموقة أيضًا، تقف في المطبخ لتعدّ طعام العشاء. ولم تظهر روز للزائرين إلّا مرة واحدة وقصيرة. فهي غادرت صالة الضيوف، من دون أن تنبس بكلمة، حال انتهائها من تقديم المشروبات لهم.

وفي وادي السيليكون (Silicon Valley) كان الجميع في هذا اليوم المشرق من أيام آب/أغسطس، واثقين من استدامة الازدهار الذي نشر ظلاله، حينذاك، على الاقتصاد الجديد، على قطاع المعلومات بالاقتصاد الجديد (New Economy)‏[6]. بهذا المعنى، ما كان هناك أحد يتصور أن هذا الازدهار سيبلغ نهايته المفزعة بعد بضعة شهور لا غير.

وكانت شركات الإنترنت تعتقد أن عصرًا اقتصاديًا جديدًا قد بزغ، وأنها أمست تعيش «ازدهارًا لا نظير له في التاريخ بالقطع» وفق ما قالته مجلة وايرد (Wired). وآمن فريدمان، أيضًا، ببزوغ هذا العصر الذهبي. فهو كان قد أكد لضيوفه أن اقتصاد السوق المحرر من القيود غير معرض للفشل بأي حال من الأحوال، وأن بني البشر لن يتمردوا على الرأسمالية أبدًا. وأنهم لن يروا، أبدًا، أن قوى السّوق المحررة من القيود قد أفرطت في غلوائها. لا، لن يعتقدوا ذلك أبدًا وفق ما كان يكرره المرة تلو الأخرى.

إن السّوق بالتأكيد ليست العدو الحقيقي، كما أكد فريدمان لضيوفه أن دولة الرعاية الاجتماعية هي هذا العدو، فهي تتسبب في شل الاقتصاد وفي تثبيط وعرقلة النمو؛ إنها عائق يقف في وجه المواطنين.

ويؤكد فريدمان أن هذه النّسب الضّريبية والنّظام القضائي والجهاز الإداري المتسم بالرّشاقة؛ إن هذه فقط، هي الوظائف والمهام التي يراد من الحكومة النهوض بها وتحقيقها. أما بقية الأمور فإن السوق هي التي تتولى شأنها. ووفق تصورات فريدمان، فإن المجتمع ليس في حاجة حتى إلى مصرف مركزي، فالكمبيوتر قادر على تزويد الاقتصاد بما يحتاج إليه من سُيولة نقدية.

ومن نافلة القول، التأكيد أن إيمان فريدمان بالسّوق يكاد يكون إيمانًا ساذجًا. وحين يعترض المرء عليه برأي مفاده أن هذا الضمور المتطرف لوظائف الدولة لا يمكن أن يكون عمليًا بأي حال من الأحوال، يرد فريدمان قائـلًا: «يا صاحبي، إنك من المستسلمين لاستبدادية الوضع القائم، فعلى كل واحد منا أن يتصور، ولو مرة واحدة فقط، ما هو ممكن التّحقق في ظلّ شُروط أخرى».

ومن أجل تحقق هذه الشّروط، ناضل فريدمان دائمًا وأبدًا من أجل تحقيق هذه الشروط في أثناء زياراته لألمانيا، أيضًا، في سياق نقاشاته مع لودفينغ أرهارد.

بيد أن فريدمان استقى معلوماته عن ألمانيا الراهنة، ألمانيا عام 2000، من الصحافة اليومية فقط؛ فهو كان قد قرأ أن المستشار الاشتراكي غيرهارد شرودر (Gerhard Schröder)‏[7] قد غير كثيرًا من ملامح ألمانيا، وأنه خفض الإنفاق الحكومي، وقلص شبكة الرعاية الاجتماعية، ونفذ إصلاحًا ضريبيًا شجاعًا.

واستغرب فريدمان أن تطبق أفكاره في ألمانيا والسويد الحكومات اليسارية بالذات، وليست الحكومات المحافظة. وخمن فريدمان أن اندفاع اليساريين إلى تنفيذ هذه الإصلاحات الصعبة قد يكمن في وثوقهم بأن هذه الإصلاحات لن تتسبب في أن يتخلى عنهم مؤيدوهم الذين دأبوا، عادة، على انتخابهم.

بحث فريدمان في الأخطاء التي ارتكبها السياسيون‏[8] في الحقبة التي اندلعت فيها الأزمة الاقتصادية الكبرى (1929)، وهي حسب وجهة نظره أخطاء عظيمة حقًا وحقيقة، حيث يؤكد أن الدولة كانت قد أقحمت نفسها في كثير من الأمور، وأن السياسة النقدية كانت خطأ في خطأ، فالسياسة النقدية مفتاح النجاح الاقتصادي‏[9].

فحين ينتهج البنك المركزي سياسة خاطئة ويضخّ في الاقتصاد كمية نقدية تفوق الكمية المناسبة، فهذا يؤدي لا محالة إلى التضخم. على صعيد آخر يُؤكد فريدمان أن السياسة لا قدرة لها على التحكم في النمو الاقتصادي على نحو مباشر؛ وأن هذا الموضوع هو من اختصاص قوى السّوق في المقام الأول.

وكان فريدمان قد تمتع بصيت أكثر شيوعًا وأبعد مدى من حيث التأثير حين تحول إلى مستشار اقتصادي عندما استدعاه الجنرال أوغيستو بينوشيه (Augusto Pinochet)، وعدّ فريدمان هو المرشد الأول‏[10] للديكتاتور التشيلي بينوشيه الذي أطاح سالفادور أليندي (Salvador Allende)‏[11].

واقترح فريدمان إما إخضاع المريض لصدمة قوية لا تعرف الرحمة ولا الحل الوسط، وإما ترك المريض يقضي نحبه. ورفض الدكتاتور ترك المريض يقضي نحبه واختار العلاج بالصدمة القوية‏[12]. وكانت النتيجة‏[13] ركودًا أو تراجعًا اقتصاديًا، وزيادة الفروق بين الأثرياء والفقراء بصورة دراماتيكية.

وهكذا راح الدكتاتور يخفض الضرائب المحصلة من الأفراد والشّركات، والمفروضة على السلع والخدمات والمتاجر بها مع العالم الخارجي. كما خوصص المئات من الشركات والمؤسسات الحكومية، وألغى النقابات العمالية والمعدل الأدنى للأجر الذي يتعين أن يحصل عليه العامل الأجير، وفتح أبواب القطاع المالي على مصاريعها.

وشهدت شيلي إثر هذه الخطوات انتعاشًا اقتصاديًا قويًا فعـلًا. بيد أن البلاد تعين عليها أن تدفع ثمنًا عظيمًا لقاء هذا الانتعاش؛ فقد ازدادت رقعة التباين بين الفقر والغنى اتساعًا بنحو عظيم التسارع. ومنذ هذا الحين ما انفك أستاذ (الاقتصاد في جامعة شيكاغو) يعَدّ من أكثر ممثلي المدرسة الليبرالية المحدثة تطرفًا؛ أي تلك المدرسة الاقتصادية التي يعبر اقتصاد السّوق المحررة من القُيود عن أفكارها ومراميها بنحو حرفي.

كانت الليبرالية المحدثة وليدة تجارب تثير الشّكوك بجدوى رأسمالية «دعه يعمل دعه يمر»‏[14]، أي الرأسمالية التي تقاوم بحدة تدخل الحكومة في الشؤون الاقتصادية بمقدار يزيد على القَدر الضروري لحفظ الأمن الداخلي والخارجي ولصيانة حقوق الملكية الشخصية وصيانة حقوق المبادرة الذاتية للفرد، وقدسية العقود المبرمة بين الأفراد الخواص بعيدًا من حاجات المجتمع ككل ومتطلباته.

أما في الوقت الراهن، فإن الليبرالية المحدثة باتت، في قاموس المُناوئين للعولمة، مصطلحًا مشحونًا بالمعاني السلبية. فمصطلح ليبرالي محدث صار ينطبق على كل الذين عقدوا العزم على تقليص دور دولة الرعاية الاجتماعية، وحتى على أولئك الذين عقدوا العزم على تقليص هذا الدور بمقدار ضئيل لا غير ويُطالبون بخوصصة الشركات الحكومية التي لا أمل في إصلاح أوضاعها‏[15].

ما برح مصطلح ليبرالي مُحدث يستخدم للتّشنيع على كل المطالبين بخفض الضرائب، أي للتشنيع حتى على المطالبين بخفض الضرائب ببضع نقاط مئوية ليس إلا، بهذا المعنى، أمسى مصطلح ليبرالي مُحدث مصطلحًا يشير إلى سياسة صار يُقال عنها زعمًا بأنها أمست أداة تخدم مصالح السّوق فقط.

لكن واقع الحال يشهد على أن آباء الليبرالية المحدثة قد فكروا بشيء آخر حينما اجتمعوا في باريس من 26 إلى 30 آب/أغسطس 1938 للمرة الأولى في التاريخ‏[16] . وكان العالم، آنذاك، يقف على عتبة حرب عالمية ثانية (1939 – 1945) نتيجة تآكل وتراجع الفكر المثالي الذي اعتقد بالدور الأساسي للمؤسسات الدولية (كعُصبة الأمم مثـلًا) وفكرة التنظيم الدولي وقدرة الفرد، ولا يزال (العَالم) يُعاني ويلات الأزمة الاقتصادية العظيمة، وتسوده مشاعر اليأس والقنوط كُلما تراجع مستوى الاستثمار والبطالة والفوارق الاجتماعية. ولعل اندثار الطبقة الوُسْطى هو السّمة البارزة في تزايد الضغوط على السياسيين أصحاب ربطات العنق.

فبسياستها الزائفة كانت الحكومات قد زادت الطين بلة وتسببت في تفاقم مآسي الكساد الكبير الذي خيّم على الاقتصاد العالمي في عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين. ولا تزال التداعيات ماثلة أمام أَعين المرء حينما يتعرض النظام الرأسمالي باستمرار للتآكل والتّهاوي ولذلك حينما تنشب الأزمات تجتمع الحكومات الرأسمالية بسرعة من أجل ضخ الأموال العامة في البنوك الخاصة.

وبدلًا من التوسع في الإنفاق الحكومي كانت الحكومات قد قلصت هذا الإنفاق؛ وبدلًا من اتخاذ التدابير الضرورية لإنعاش التجارة الخارجية، كانت الحكومات قد زادت قيمة معدلات الضرائب الجمركية. وبدلًا من خفض معدلات الفائدة على نحو قوي وفعّال دأبت المصارف المركزية على زيادة معدلات الفائدة.

وعلى خلفية هذه التطورات اجتمع آنذاك، 26 خبيرًا من أساتذة الاقتصاد ومن رجالات الصناعة، وذلك للبحث في الدروس المستخلصة من الانهيار المخيم على الاقتصاد العالمي، وأطلقوا على حلقتهم الدراسية اسم «حلقة والتر ليبمان (Walter Lippmann Colloquium)‏[17]، وشارك في هذه الحلقة الدراسية مشاهير الاقتصاديين الناطقين بالألمانية: فريدرش أوغست فون هايك (Friedrich August von Hayek) ولودفيغ فون ميسيس (Ludwig von Mises) من النمسا وألكسندر روستوف (Alexander Rustow) وفلهلم روبك (Wilhelm Ropke) من ألمانيا. وحتى ذلك الحين كان المجتمعون يؤمنون إيمانًا‏[18] أكيدًا بأن لدى السوق القوى الضرورية لأن تشفي نفسها بنفسها، كان المجتمعون واثقين بكفاءة اليد الخفية (أو غير المرئية) وقُدرتها على المُواءمة والموازنة بين العرض والطّلب على نحو فيه خير الجميع‏[19].

بيد أن الامر الذي ما كان يمكن تجاهله هو أن النظرية الليبرالية التي تعلي من دور السوق قد قادت، في عقود الأزمنة المُنصرمة الفائتة، إلى كارثة عظيمة فعـلًا. فالدولة الضعيفة ما كانت لتتوافر لها الوسائل الضرورية من أجل مواجهة القوة العظيمة التي باتت الشركات والصناعات تتمتع بها (كأخطبوط يحاول هضم الجميع)، والسياسة قد تحولت إلى فريسة تتلقفها أيادي مجموعات تُدافع عن مصالحها الخاصة (من أجل امتصاص الصدمة عن الآخرين) بما تمتلك من نفوذ وجبروت عظيمين، كانت قد تحولت إلى دمية تحركها السوق على النحو الذي يروقها.

وفق هذا المنظور كانت نظرية «دعه يعمل دعه يمر أو يسير»، أي نظرية النّشاط الاقتصادي المحرر. من هنا، كان المجتمعون في باريس يعون وعيًا تامًّا أن الواجب يقتضي منهم أن يطوروا النظرية الليبرالية. ففي عام 1924‏[20] أعلن كينز (Keynes) «نهاية سياسة عدم التدخل الحكومي» (The End of Laissez Faire) وهو ما مثل، في نظرنا، محكًا حقيقيًا للرأسماليين وعنجهية السوق الحرة.

فالسوق بمفرده يعجز عن تحقيق ما هو منشود ومأمول، إنه في حاجة ماسة إلى قواعد واضحة ومتينة يمكن لقوى المنافسة الخلاّقة‏[21] أن تعمل في إطارها. فالواجب يقتضي أن تحول الدولة دون هيمنة لاعب واحد على هذه السوق أو تلك، أي أن تمنع الاحتكار ولا تسمح بتأسيس اتحادات تضمن لبعض المنتجين التخفيف من وطأة المنافسة فيما بينهم (الكارتيل). وكان روستوف قد دعا من قبل إلى ضرورة انتهاج درب وسط، وانتهاج سبيل ثالث يقع بين سياسة «دعه يعمل دعه يمر» وسياسة التدخل الحكومي التي عاشتها البلدان المختلفة في العشرينيات والثلاثينيات من القرن الماضي.

لكن الاقتصادي النّمساوي فريدرش فون هايك، يرى أن كل الصيغ القائمة على التخطيط الاقتصادي تفضي إلى الدولة الاستبدادية. وهو بذلك أصبح عدوًا لكل اليساريين حينما زعم على وجه الخصوص، أن «العدالة الاجتماعية»‏[22] موضوع لا يجوز للمرء أن يشغل نفسه به.

وقد تأسست جمعية مونت بيليرين (Gesellschaft die mont pèlerin)‏[23]، التي شاء لها القدر أن تتحول مع مرور السّنين، إلى واحدة من أهم منتديات العالم؛ شارك في أول اجتماعاتها كثير من العلماء الذين سبق لهم أن شاركوا في الحلقة الدراسية التي التأم شملها في باريس باسم «حلقة والتر ليبمان» (Colloquium Walter Lippmann) المشار إليها سابقًا.

وكانت آراء جمعية مونت بيليرين قد أثرت في حياة البشرية بعمق لا يقل عن التأثير الذي أفرزه الناقل الآلي الذي اخترعه هنري فورد الذي شاع استخدامه في إنتاج السيارات أو اختراع بيل غيتس برنامج وندوز.

بيد أن المفكرين الليبراليين المحدثين ما عادوا اليوم يشكلون كتلة واحدة متراصة الصفوف. فلم يدم الأمر طويـلًا، حتى توزعوا على ثلاث مدارس مختلفة. فهم يختلفون بشأن دور الدولة في الحياة الاقتصادية، ومدى إيمانهم بقدرات السوق على تحقيق النتائج المطلوبة منها.

مقارنة بالآخرين من الليبراليين المحدثين، تحبذ مدرسة فرايبورغ (Freiburger School) التي أسسها فالتر أويكن وزملاؤه الآخرون، قيام الدولة بممارسة أوسع دور ممكن. فوفق هذه المدرسة، على الدولة أن تمنع الاحتكار وألّا تسمح بتأسيس اتحادات تضمن لبعض المنتجين التخفيف من وطأة المنافسة السائدة فيما بينهم (الكارتيل). كما تطالب هذه المدرسة بانتهاج سياسة اجتماعية «موائمة لمتطلبات الأسواق».

وكبديل من مصطلح الليبرالية المحدثة فضلت مدرسة فرايبورغ أن تصف نفسها بالمدرسة الأوردو ليبرالية التي ترى أنه ينبغي للدولة أن تعمل من أجل خلق البيئة الضرورية قصد تحقيق أوسع مدى ممكن من المنافسة، ووضعت بذلك الأسس العامة لاقتصاد السوق المتكفلة بالرعاية الاجتماعية.

وتبنت مدرسة شيكاغو، في بادئ الأمر، عقيدة مشابهة للعقيدة التي تبنتها مدرسة فرايبورغ، حيث ناهض مؤسسها فرانك نايت (Frank Knight) الرأسمالية الصرفة، الرأسمالية بصفتها المتطرفة، بيد أن الاقتصاديين التالين عليه أمثال «فريدمان» وغيره الداعين إلى الليبرالية المحدثة كانوا يلعنون الدولة ويعلون من شأن السوق.

هذا أيضًا ما ادعت به المدرسة النمساوية المؤسسة من قبل هايك (أستاذه لودفيغ فون ميسس (Ludwig von Mises)) والتي ترى أن كل أنواع التدخلات الحكومية تؤدي إلى نتائج مضرة، فالحرية‏[24] بالنسبة إلى هايك شرط ضروري لتحقيق الرفاهية في البلدان المتخلفة. وانتشرت، ابتداءً من منتصف السبعينيات من القرن العشرين، أفكار فريدمان وهايك في كثير من بلدان العالم، وطبقت مارغريت تاتشر نظرياتهما بعدما غدت رئيسة وزراء بريطانيا في عام 1987.

فقد آمنت تاتشر بوجود الفرد وعدم وجود المجتمع كإشارة إلى الدور الحاسم لإشباع نزوات الفرد الجامح الباحث عن المصلحة الفردية بامتياز. كذلك عبّر رونالد ريغان من جهته‏[25] [في خطاب تنصيبه الشّهير لسنة 1981]، أن الحكومة ليست هي الحل للمشكلات، بل هي نفسها أصل المشكلة.

كما تبنى رونالد ريغان أفكار ما يسمى «صبيان شيكاغو» حينما أصبح رئيس الإدارة الأمريكية في عام 1981. وأقام تحالفًا استراتيجيًا مع تاتشر في بريطانيا العظمى، وكان يسعى ريغان (كما يرى) إلى إعادة هيبة الولايات المتحدة الأمريكية وانتقد إدارة جيمس كارتر‏[26] التي أسهمت (في نظره) في تراجع الولايات المتحدة الأمريكية إذ ركّز كارتر فقط على حقوق الإنسان (من دون اعتبار لرد الهيبة للولايات المتحدة الأمريكية).

وهكذا جَسّد ممثلو مدرسة شيكاغو في الثمانينيات والتسعينيات من القرن العشرين الصورة الدقيقة لليبرالي المحدث الذي لا يعرف الرحمة ولا يكن العطف للضّعفاء، فهم يطالبون بأن تصبح الدولة بلا أهمية أصـلًا، ويريدون أن تتمتع الأسواق بأكبر قدر ممكن من الحرية، فلا ضرورة تحتم وجود دولة فوق الاقتصاد وفوق المصالح الفردية. وكأن الدولة تذوب في مصلحة الفرد، والمجتمع يذوب في مصلحة الفرد.

وبذلك فهم يعودون إلى الليبرالية الكلاسيكية التي صَاغَ أسسها آدم سميث والتي ظلت تهيمن على الساحة حتى القرن التاسع عشر.

ومنذ وفاة فريدمان في تشرين الثاني/نوفمبر من عام 2006، تعالت الانتقادات الموجهة إلى نظرياته المتحيزة بخاصة من طرف بول كريغمان (Paul Krugman) الاقتصادي الأمريكي الحائز جائزة نوبل عام 2007، الذي يقول، إن فريدمان قد تسبب في خلق أخطاء سياسية عظيمة الخطر.

فانطلاقًا من أفكاره أسرع كثير من البلدان النامية في رفع العوائق من أمام حركة رؤوس المال الأجنبية، واندفعت البلدان الصناعية إلى تحرير اقتصادياتها من القيود وخوصصة المشاريع الحكومية وشبه الحكومية على حد سواء.

وبذلك يكون فريدمان قد أسهم بأفكاره الرامية إلى تطبيق ليبرالية صرفة في خلق مناخ فكري يغطي كفاءة السوق وازدراء دور الحكومات على حقائق الأمور، ومن نافلة القول التأكيد أن فريدمان وهايك قد خانا العقيدة الأساسية في الليبرالية المحدثة، أعني العقيدة التي تؤكد ضرورة وجود «دولة فوق الاقتصاد وفوق المصالح الفردية».

ثانيًا: كينز: دور الدولة التدخلي والحد من الكساد

إن من حق المرء‏[27]، فعـلًا، أن يزعم أن قلة فقط من بني البشر تستطيع مضاهاة الاقتصادي البريطاني جون ماينارد كينز من حيث تعدّد مواهبه. فهو ألف كتبًا يُعد أحدها من أهم الكتب التي ألفها عالم اقتصادي، وشيّد مسرحًا معتبرًا. ومع أنه عمل موظفًا في وزارة الخزانة البريطانية وخدم بوظيفته هذه التاج البريطاني، فإنه راح يشنع على التصورات الأخلاقية السائدة في المملكة المتحدة، ومع أنه كان يهاجم المضاربة بحجة أنها يمكن أن تلحق بالاقتصاد أفدح الأضرار، فإنه استطاع أن يجني من المضاربة في البورصة ثروة كبيرة. فوفق اعترافه الصريح أمام اللجنة الحكومية المكلفة بوضع الخطط الضرورية لإنقاذ الاقتصاد العالمي من شرور أزمة الكساد الكبير، يحلل كينز المضاربة ويصفها بأنها «موضوع له علاقة بالغرائز الوحشية في المقام الأول» ويُوَاصِل كينز حديثه فيقول: «إنني على علم أكيد بما أتحدث عنه فأنا شخصيًا، مارستُ هذه الرّغبة في السنوات العشر الماضية».

وخلافًا لفريدمان وهايك، يُؤمن كينز إيمانًا أكيدًا بأهمية الدولة‏[28] القوية القادرة على توجيه الاقتصاد الوطني، إنه من أنصار الدولة التي تتدخل لوضع حد للكَسَاد ولإنعاش النّشاط الاقتصادي.

وكان أسلوبه في التّفكير قد صاغته البطالة الواسعة التي عانت ويلاتها في الثلاثينيات من القرن العشرين، جماهير المواطنين، فكينز شَهد عن كثب كيف خسر الأوروبيون والأمريكيون فرص عملهم بعد انهيار البورصات العالمية في عام 1929، وكيف انهارت النّشاطات الاقتصادية انهيارًا فظيعًا. ولاَحَظَ كينز أن المأساة السّائدة لا يمكن تفسيرها من خلال النّظرية الاقتصادية التقليدية التي تقول إن الأسواق لا بُدّ أن تُحقق حالة التّوازن على المدى الطويل.

كان كينز لا يُعير اهتمامًا يذكر لما يراه الآخرون الصواب بعينه فهو يشكك في كل شيء، يشكك، أيضًا في مفاوضات السلام التالية على انتهاء الحرب العالمية الأولى، التي شارك فيها كممثل لوزارة الخزانة البريطانية، حيث تعرف إلى كارل ميلشيور  (Carl Melchior) المصرفي اليهودي المنحدر من مدينة هامبورغ والذي كان يترأس الوفد الألماني في هذه المفاوضات، ولم يكفّ كينز خلال هذه المفاوضات عن التحذير من مغبة التعويضات الباهظة التي كان المنتصرون يصرون على فرضها على ألمانيا، فهو يتخوف أن تتسبب هذه التعويضات الباهظة في انهيار الاقتصاد الألماني الذي قد يؤدي إلى كارثة تنشر ظلالها على أوروبا برمّتها، وهو الخطر الذي أكدت الأيام صدقيته على نحو وخيم العواقب(*).

غير أن كينز لم يستطع أن يفرض تصوراته على الأطراف المنتصرة، لذا استقال من مهمته قبل انتهاء المفاوضات، وعكف على تأليف ذلك الكتاب الذي حقق له صيتًا عالميًا: الآثار الاقتصادية للسلام (The Economic Consequences of the Peace) الذي أكد فيه أنه لا يحيد أبدًا عما يؤمن به، وأنه لا يرضى لنفسه مسايرة التّصورات التي تبدو له زائفة.

فقد كان على ثقة أكيدة بأن الكساد الكبير لا يمكن تفسيره من خلال النظريات الليبرالية التي أكل عليها الدّهر وشرب، التي كانت تزعم أن الاقتصاد يحقق مستوى التشغيل الكامل للأيدي العاملة على نحو عفوي في المنظور طويل المدى، وطالما كانت الأجور مرنة وقابلة للانخفاض بالقدر المُناسب.

بيد أن الأمور تطورت على نحو عكسي إبان الكساد الكبير، فبانخفاض معدلات الأجور في ألمانيا وفي الولايات المتحدة الأمريكية بنسبة 25 بالمئة وفي بريطانيا بنسبة بلغت 7 بالمئة، ارتفع عدد العاطلين بنحو مثير للفزع، فمعدل البطالة كان قد بلغ في ألمانيا 30 بالمئة، وفي الولايات المتحدة الأمريكية 25 بالمئة، وفي بريطانيا 22 بالمئة، ولكن، هل هناك تفسير معقول لانخفاض معدل الأجور وارتفاع معدل البطالة في آن واحد؟ لقد استخلص كينز نتيجة تؤكد إمكان «تحقُّق التوازن في ظل البطالة».

ففي حالة من هذا القبيل، تحرص المشاريع على الاحتفاظ بما لديها من سيولة نقدية، إنها لا ترغب في زيادة عدد العاملين لديها، وذلك لأنها لا تطمئن إلى ما يضمره المستقبل من أحداث وتطورات، فأصحاب المشاريع يتوسعون في تشغيل الأيدي العاملة، فقط في حالة تأكدهم من أنهم قادرون على تصريف البضائع التي سينتجونها، المهم لديهم ليس معدل الأجر الذي سيدفعونه إلى العاملين، بل الطلب السلعي الذي يتوقعونه.

وبهذا يصبح الطلب السلعي هو العامل الحاسم بالنسبة إلى كينز، فالاقتصاد يصل إلى حالة التشغيل الكامل فقط في حالة ارتفاع الطلب السّلعي إلى المستوى المناسب. أما إذا امتنع المستهلكون وأصحاب المشاريع عن إنفاق أموالهم فزعًا من تردّي الوضع الاقتصادي، فيجب أن تتدخل الدولة وتنفق أموالًا متزايدة، وذلك بغية التغلب على الروح المتشائمة الناشرة ظلالها على المجتمع‏[29] .

على خلفية هذه التصورات، يرفض كينز الدولة المثالية‏[30] المتسقة مع تصورات الليبراليين، أي يرفض فكرة أن لا تتدخل الدولة في الشأن الاقتصادي، فهي – حسب رأيه – مطالبة بأن تزيد إنفاقها في عصور الكساد وأن تقلص هذا الإنفاق في حقب الازدهار. بهذا المعنى فالحكومة مطالبة بأن تتعاون يدها مع اليد الخفية المنظمة لنشاطات الأسواق؛ مع وجوب التأكيد أن كينز اقترح سياسات الإنفاق العام على أن تُوازيها سياسات نقدية توسعية (خلق النقود بكثرة).

ورغم ما لقيته هذه النظرية من انتقادات وتهكمات سرعان ما طبقت بنجاح من طرف الرئيس الأمريكي السابق فرانكلين روزفلت في سياق تعهده بتنفيذ سياسة «الخطة الجديدة، أو الاتفاق الجديد» (New Deal)‏[31] كبرنامج قادر على تمكين الاقتصاد الأمريكي من تخطي الكساد الكبير المخيم على الاقتصاد العالمي. وتضمنت هذه السياسة شق الشوارع وبناء المساكن والجسور والسدود ودفع رواتب تقاعدية للموظفين، وتأسيس شركات للتأمين ضد البطالة، وخفض المعدلات الضّريبية المفروضة على الفُقراء، وزيادة هذه المعدلات بالنسبة إلى أصحاب الثروة والدخول العالية.

وفي الحقب التي أعقبت الحرب العالمية الثانية‏[32]، طبقت أفكار كينز في أوروبا أيضًا. فالحكومة الائتلافية، المشكّلة في ألمانيا من الحزبين الكبيرين، الحزب المسيحي والحزب الاشتراكي الديمقراطي، سارت، بدءًا من عام 1966 على هدى الأفكار الكينزية على نحو حرفي تقريبًا. فقد تكاثف وزير الاقتصاد كارل شيلر (من الحزب الاشتراكي) ووزير المالية فرانتس يوسف شتراوس (من الحزب المسيحي) وراحا ينفذان ما أسمياه برنامج «توجيه الاقتصاد انطلاقًا من المستوى الكلي» (Globalsteuerung). قاصدين بذلك: قدرة الدولة على توجيه الاقتصاد الوطني في الاتجاه الصحيح. وكان شيلر قد طبق هذه السياسة في الحقبة التي تسلم فيها الائتلاف الاشتراكي الليبرالي مقاليد الحكم في ألمانيا بدءًا من عام 1969. عمومًا يمكن القول إن الإيمان بقدرة الدولة على توجيه النشاطات الاقتصادية قد انتشر، منذ مطلع سبعينيات القرن العشرين، في مجمل العالم الغربي تقريبًا. بل إن الرئيس الأمريكي السابق ريتشارد نيكسون ذهب مذهبًا أبعد، فقد قال في عام 1971: «ما من شك في أننا، جميعًا، كينزيون لأننا لا نملك خيارات أخرى»‏[33]. وقصد نيكسون بعبارة «أننا» الأمم الصناعية الكبرى، أي الأمم ذات الشأن العظيم في الاقتصاد العالمي، أي الألمان والفرنسيين واليابانيين والأمريكيين، أيضًا، طبعًا. فكل هذه الأمم كانت قد أخذت تنعش اقتصاده الوطني من خلال البرامج الحكومية.

إن فكرة الدولة التدخلية ظلت تسيطر على كينز حتى وفاته‏[34]، وبرزت بقوة هذه الفكرة خلال المفاوضات الدائرة في بريتون وودز (Bretton Woods)‏[35] بالولايات المتحدة الأمريكية، التي شارك فيها 730 مندوبا مثلوا 44 بلدًا، وذلك بهدف تأسيس نظام مالي جديد للعالم لا يؤدي إلى النتائج المفزعة التي أدى إليها النظام الاقتصادي الحر القائم على الأفكار الليبرالية الصرفة.

وكان كينز‏[36] إلى جانب وكيل الخزانة الأمريكية هاري ديكستر وايت (Harry Dexter White) قد تألقا وتسنّما الصدارة في هذه المفاوضات. وبينما كان وايت ينادي بضرورة إنشاء صندوق لتعزيز الاستقرار (Stabilization Fund) كان كينز يطالب بتأسيس اتحاد دولي للمقاصة (Clearing Union) يُناط به توجيه تدفقات رُؤوس المال بين الدول.

ووافق المتفاوضون‏[37]على حل وَسَط في نهاية المَطَاف: فقد اتفق على أن تنتهج دول العالم نظام أسعار المصرف الثّابت أي على أن تحدد، مستقبـلًا، الحكومات والمصارف المركزية، وليس المتاجرون في البُورصات، القيم الخارجية للعملات المختلفة. وكان كينز على اقتناع تام «بضرورة وضع القيود على تدفقات رأس المال». وأعرب وايت عن رأي مشابه، فقد أكد أن تقييد حركة رأس المال يخدم «مصلحة كل الشّعوب». وعلى خلفية وجهات النظر هذه، اتفق المندوبون على إنشاء مؤسستين يناط بهما الإشراف على عمل النظام الاقتصادي: صندوق النقد الدولي بوصفه المؤسسة المكلفة بمساعدة الدول العاجزة عن تسديد ما في ذمتها من ديون. والبنك الدولي بوصفه المصرف المخصص للمشكلات التي يعانيها الفقراء والجياع.

كانت‏[38] السياسات المالية السّائدة منذ الثلاثينيات من القرن الماضي، والمعروفة بسياسة الإنفاق الكينزية السياسة المعتمدة لكبح الدّورات الاقتصادية، وتجنّب الانكماش الاقتصادي والكساد. غير أن التحول الأيديولوجي في الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا نحو النيوليبرالية أسقط أهمية السياسات الاجتماعية التي باتت تمثل عبئًا على الحكومات المتعاقبة: أصبح الخطاب السياسي يركز على النمو والقدرة التنافسية بدلًا من العدالة الاجتماعية.

إن أفكار كينز‏[39] بخصوص قيام الدولة بدور نشط في الحياة الاقتصادية كان لها دور فعّال في رسم خصائص السياسة الاقتصادية التي انتهجتها بلدان العالم في العقدين التاليين للحرب العالمية الثانية؛ ففي الزمن التالي على هذين العقدين، استرشد السياسيون بأفكار منظّري الليبرالية المحدثة، فقد أقصوا الدولة عن أداء دور نشط في الحياة الاقتصادية، وعملوا كل ما في وُسعهم من أجل تحرير السّوق من كل توجيه حكومي، كما رَاحَ السياسيون يُؤكدون، بلا كلل أو مَلل، أن الاقتصاد ينمو على نحو أسرع وأفضل، كلما كانت الدولة أقل تدخـلًا في الحياة الاقتصادية.

وقد تتغير المعادلة، إذ «سوف تلجأ الليبرالية المعاصرة على نحو متزايد إلى فرض النظام الليبرالي من خلال مرسوم سياسي – وبصفة خاصة في شكل الدولة الإدارية التي تديرها أقلية صغيرة يمقتون الديمقراطية بقدر متزايد»‏[40].

كتب ذات صلة:

تفكيك الرأسمالية: بحث في تقويض المشترك البيئي الإنساني

نمط العيش الإمبريالي: استغلال الإنسان والطبيعة في الرأسمالية العالمية

ما بعد الرأسمالية