بلدان شمال أفريقيا هي اليوم دولٌ مسلمةٌ، تعلن انتماءها المزدوج: إلى المجتمع الإسلامي، والوطن العربي، وهي محقّةٌ في ذلك. غير أن تلك الدول ورثت بعد تقلباتٍ متعددة أفريقية ((l’Afrique التي كانت في أواخر العصر القديم تابعة بكل تأكيد للعالم المسيحي، والمجموعة اللاتينية، ومن الغريب أنَّ هذا التحول الثقافي الذي يمكن عدّه جذريًا لم يُرفَق بأيِّ تغييرٍ إثنيٍ مهم: إنّهم الرجال أنفسهم، هؤلاء البربر الذين كانوا يعدون أنفسهم رومانًا، وصاروا اليوم يشعرون أنهم عرب.

كيف يفسّر هذا التحول الذي يظهر عميقًا وبنسبٍ مختلفةٍ في دولٍ من دون غيرها؟ لأنّ هناك في بعض الدول مجموعات بشرية كبيرة لا تعدّ نفسها عربيةً بالمرّة، وتعلن ثقافتها البربرية رغم أنها مسلمة إسلامًا تامًا[1].

يجب التمييز في المقام الأول بين مفهومَين متقاربَين جدًا، وهما الإسلام والعروبة، أحدهما ديني  والآخر إثني-اجتماعي، فالإسلام ظهر عند العرب، الذين نشروه في البداية، رغم وجود سكان عرب أو مُعرَّبين حافظوا على مسيحيتهم في الشرق الأدنى، وإلى جانبهم عشرات الملايين من المسلمين ليسوا عربًا ولم يتعرّبوا (أفارقة، أتراك، إيرانيين، أفغان، باكستانيين، إندونيسيين…).

كان يمكن أن يُسْلم البربر مثل الفرس أو الأتراك، وأن يحافظوا على لغتهم وتنظيمهم الاجتماعي وثقافتهم؛ ويبدو أن ذلك سيكون أسهل، وبخاصة أنهم أكثر عددًا من الشعوب التي احتفظت بهويتها داخل المجموعة المسلمة، كما كانت بلادهم أكثر بعدًا من مهد الإسلام من بلاد تلك الشعوب.

من جهة أخرى، كيف نفسر أن المقاطعات الرومانية في أفريقيا، التي مُسِّحَت (Évangélisées) بذات الوتيرة التي مُسِّحَتْ بها مقاطعات الإمبراطورية الأخرى، والتي كانت تملك كنائس قوية، تحوَّلت كلياً إلى الإسلام في حين بقي سكانٌ مسيحيون على أبواب شبه الجزيرة العربية، مثل الأقباط في بلاد النيل، والموارنة في لبنان، والنساطرة واليعاقبة في سورية والعراق؟

للإجابة عن هذه الأسئلة، على المؤرخ أن يعود إلى ما قبل حدوث الغزو العربي في القرن السابع ميلادي، هذا الغزو الذي سمح بنشر الإسلام في المنطقة، لكنه لم يكن السبب الفاصل في تعريبها، فالتعريب الذي لم يتحقق إلّا بعد عدة قرونٍ من ذلك وما زال لم ينته بعد؛ له أسبابٌ أعمق من ذلك كثيرًا؛ في الواقع نحن نشهد منذ نهاية الإمبراطورية الرُّومانية سيناريو شبيهًا لما في الصورة التنبُّئية.

أولًا: نهاية العالم

سيطرت روما على أفريقيا وأنشأت فيها مقاطعات متمثلة بأفريقية التي قُسِّمَت إلى مقاطعات: المُـزاق (Byzacene)، وزغوان (Zeugitane)، ونوميديا التي اقتطعت منها طرابلس والموريطانيات السطايفية والقيصرية والطنجية. لقد «رُومنت» (Romanisées) هذه المقاطعات بدرجاتٍ متفاوتةٍ، في الحقيقة كان هناك أفريقيتان رومانيتان؛ في الشرق مقاطعة أفريقية وامتدادها العسكري نوميديا، وكانتا كثيرتي السكان، مزدهرتين ومتحضرتين بشكل واسعٍ، أمّا في الغرب فكانت الموريطانيات، مقاطعاتٍ من الدَّرجة الثانية، متحضرةً في الأراضي الزراعية التّلّية، وقد امتدَّ وجودها في نوميديا، وبخاصةٍ في طرابلس حتى قلب الصحراء، تمركزت فيها، بعد القرن الأول (الميلادي)، ثورات البربر التي هزّت أفريقيا. رغم ذلك نجحت روما، ولمدة أربعة قرونٍ، في مراقبة بدو الاستبس الصغار، حيث كانت تراقب وتنظم تحركاتهم في اتجاه التل والجهات المستصلحة بفضل نظام اللِّيمس المعقد، الذي كان يضمُّ خنادقَ وأسوارًا تغلِق المعابر المرتفعة، وأبراج ترصُّدٍ، وضيعاتٍ محصّنة، وحامياتٍ مقيمةً في حصونٍ، وقد وجد رونيه روبيفا  (R. Rebuffat) (المؤرخ والأثري الفرنسي) الذي نقّب في أحد معسكرات هذا النظام في «نجم» (Ngem) (قرب طرابلس) أرشيفًا متواضعًا لهذا المركز، تمثّل بقطعٍ فخاريةٍ بسيطةٍ (Ostraca) سجُّل عليها في بعض الكلمات أحداثٌ منها: «أُرسل فيلقي (Légionnaire) في مهمة لدى الغرامنتيين»، ومنها أيضًا: «عبور بعض الغرامنتيين يقودون أربع أحمرة» .(Garamantes ducentesasinos IV…)

ابتداءً من القرن الثاني، كان الغرامنتيون يستوردون منتجات رومانية مثل: الجِرار، والأواني الزجاجية، والمجوهرات، وقد وصلت هذه المنتجات حتى قصورهم (Ksour)  البعيدة بـفزان، كما كان المهندسون الرومان يبنون أضرحةً للأسر الأميرية بغرامة،(Garama/Djerma)  وكان جنود الفرق العسكرية والوحدات المساعدة يقومون بدورياتٍ على طول المسارات المجهزة بخزانات ومراكز عسكرية، تنتظم حولها مراكز فلاحيةٌ صغيرةٌ .

انهارت السيطرة الرومانية بعد ثلاثة قرونٍ، وتحولت هذه الصحراء الهادئة إلى فوهة جحيم، يندفع منها؛ في اتجاه المقاطعات القديمة؛ محاربون شرسون، وهم لفاتاي (Levathae). هؤلاء هم أنفسهم الذين يسميهم الكتّاب العرب «لواتة» الذين ينتمون إلى مجموعة البتر. جاء هؤلاء البدو الجمّالون من الشرق، ودخلوا إلى الأراضي الجنوبية للمُزاق (البيزاسيوم/Byzacene ) ونوميديا، التي استُصلِحَت بمجهودٍ مضنٍ استمر لقرونٍ، وتسبَّبُوا في تراجع الزراعة الدائمة ثم اختفائها، وبخاصةٍ مزارع الزيتون التي أفلست مَعَاصِرُها، تلك المعاصر المنتشرة آثارها اليوم في مناطق الاستبس المُقفرة[2]. وكان لظهور حياة البداوة والترحال في أفريقيا «المفيدة» (L’Afrique utile) عواقب غير محسوبةٍ، فقد غيَّر نمط الحياة في هذه المنطقة بصفةٍ دائمةٍ، ومهَّد لحركة التعريب التي ستأتي فيما بعد.

أمَّـا الحدث الثاني الذي غيّر البنية الاجتماعية للعالم الأفريقي (مجتمع شمال أفريقيا) فهو الغزو العربي الذي سهّله ضعف البيزنطيين الذين دمّروا المملكة الوندالية، واستعادوا جزءًا من أفريقيا (سنة 533م)، لكن أفريقيا البيزنطية لم تعد أفريقيا الرومانية، فقد كان هذا البلد التعيس فريسةً للفوضى منذ قرنين، وكانت كلُّ عوامل الاختلال والدّمار الاقتصادي مجتمعةً، فمنذ نزول الوندال (سنة 429م) أفلت أكبر جزءٍ من المقاطعات القديمة من إدارة الدولة التي ورثت روما، حيث لم تكن مملكة الوندال في أفريقيا تمتد إلا على تونس الحالية وجزءٍ صغير من الجزائر الشرقية، التي يحدها من الجنوب الأوراس، ومن الشرق خط طول قسنطينة .

دخل البدو الجمّالون الزناتيون بقيادة كباون (Cabaon)[3] إلى بيزاسيوم (المُزاق) منذ نهاية حكم ترساموند (Thrasamond)  نحو 520م، وابتداء من هذا التاريخ اضطر الوندال ثم البيزنطيون إلى التصدي لتسرب الغزاة باستمرارٍ.

وتروي ملحمة آخر الكتَّاب الأفارقة اللاتين «كوربوس» (Corripus) «جوهانيد» (La Johannide)، المعارك التي اضطر قائد القوات البيزنطية جون تروغليتا (Jean Troglita) لخوضها ضد هؤلاء الأعداء الشرسين حلفاء موريي الداخل، هؤلاء البربر «لواتة» (Levathae /Laguantan)، الذين بقوا وثنيين، كانوا يعبدون إلهًا ممثلًا بثورٍ يدعى غورزيل (Gurzil)، وإلهًا محاربًا يدعى سنيفر (Snifere)،[4]، وكانت إبلهم تخيف الفرسان البيزنطيين، وهي منظمةٌ في شكل دائرةٍ لتحمي نساءهم وأطفالهم الذين يتبعونهم في تنقلاتهم.

أمَّا ما بقي من أراضي أفريقية، أو تلك التي أطلق عليها كريستيان كورتوا (Ch. Courtois) اسم «أفريقيا المنسية»، التي يقابلها بصفة عامة المقاطعات الموريتانية، فإننا لا نعرف عنها خلال هذه الفترة التي تمتد لمدة قرنين إلا أسماء زعماءٍ وعددًا قليلًا من المعالم الجنائزية (جدّار قرب سعيدة، غور، مكناس)، والنقوش المشهورة لماستيس (Masties) الذي أعلن نفسه إمبراطورًا في أريس (الأوراس)، وماسونة (Masuna) ملك القبائل المورية والرومان في ألتافا (Altava/ أولاد ميمون) بالقطاع الوهراني، والمستنتج من المعلومات المحدودة التي وصلتنا من طريق بعض المؤرخين أمثال بروكوب  (Procope)، ومن محتوى النقوش نفسها، أن الخوف وانعدام الأمن كان الغالب في هذه الجهات «المحررة»[5] .

كما تعد الخلافات الدينية من العوامل الأخرى للاضطرابات في المنطقة، التي لم تكن أقل عنفًا عند مسيحيي أفريقيا منها عند مسيحيي الشرق، فقد ضعُفت الكنيسة التي واجهت صعوبةً في مقاومة الانشقاق الدوناتي في مملكة الوندال، بسبب الاضطهاد، لأنَّ الأريوسية (l’arianisme) أصبحت دين الدولة، مع أنَّ الأرثوذكسية انتصرت من جديد في عهد الملك الوندالي هيلدريك (Hilderic). وتُبرز قوائم الأسقفيات لمجمع سنة 525م، مدى معاناة الكنيسة الأفريقية خلال القرن الذي تلا وفاة القديس أوغسطين، ليس فقط باختفاء العديد من الأسقفيات كما يظهر، حيث أضيف إلى الأحداث الإقليمية والانغلاق، تصدع الدولة الرومانية.

إن الاستعادة (La Reconquête) البيزنطية للمنطقة، كانت أكثر كارثيةً في المجال الديني[6]، حيث أعادت إدخال صراعاتٍ جديدةٍ إلى أفريقية حول طبيعة المسيح: فقد دشّن الخلاف حول الطبيعة الواحدة للمسيح (Monophysisme)، وخلاف الفصول الثلاثة في ظل حكم الإمبراطور جوستينيان المرحلة البيزنطية في أفريقية، كما انتهت هذه المرحلة بفشل محاولة الإمبراطور هرقل (Heraclius)  التوفيق بين المذاهب، باقتراحه المونوثيلية (Monothélisme) (المشيئة الواحدة للمسيح أو القوة الفاعلة الواحدة للمسيح)، التي اعتبرت بدورها هرطقةً جديدة.

في الوقت الذي بدأ الغزو العربي كانت أفريقيا المسيحية تُمَزّق مرةً أخرى، نتيجة مبادرة الإمبراطور قسطنطين الثاني (Constant II /648م( المتعلقة بطبيعة المسيح.

تزامن كل هذا مع تضاعف التعقيدات الاجتماعية، وحتى الإثنية للبلد، فإضافة إلى الرومان الأفارقة سكان المدن والأرياف، التي تقع أحيانًا في أقصى الجنوب مثل المجتمعات الفلاحية التي عرّفتنا بها «ألواح ألبرتيني»، الأرشيف التوثيقي المسجل على خشب الأرز، والذي عثر عليه على بعد مسافة 100 كلم جنوب تبسة[7]، والموريين غير المُرَوْمَنين (non romanisés)، والمنحدرين من البربر الأوائل، نجد البدو الرحّل «الزناتيين» والأغوانتان (Laguantan) ومنافسيهم، وبقايا شعب الوندال وجنود الحملات العسكرية، والإداريين البيزنطيين الشرقيين. فأصبح هذا المجتمع يزداد يومًا بعد يومٍ انقسامًا وانفصالًا عن بعضه، في بلدٍ تختفي فيه حتى فكرة الدولة، وبالتالي ظهر الغزاة العرب في منتصف القرن السابع ميلادي في بلدٍ مفككٍ، مقفرٍ وممزقٍ.

ثانيًا: الغزو العربي

إن الغزو العربي لم يكن محاولة استعمارٍ بمعنى عملية استيطان (Peuplement)، فهو يظهر كسلسلةٍ من العمليات العسكرية البحتة، التي يمتزج فيها حب الكسب مع روح التبشير، كما تُبرزه الصورة المنتشرة بكثرةٍ في الكتب المدرسية، كما أن هذا الغزو لم يكن نتيجة أعمالٍ بطوليٍة تُزيل كلَّ معارضةٍ بحدّ السيف.

توفي الرسول في سنة 632م، (11هـ) وبعد ذلك بعشر سنوات، استولت قوات الخليفة على مصر وقوريناية (Cyrénaïque)، (أنتابولوس/Antâbulus) وهي تحريف لكلمة بنتابوليس (Pentapolis) أو المدن الخمس، وفي سنة 643م. دخلت إلى طرابلس بقيادة عمرو بن العاص.

وتحت إمرة عبد الله بن سعد بن أبي سرح العامري حاكم مصر، وُجّهت حملة نحو أطراف أفريقية (l’Ifriqîya) وهي تحريف عربي للاسم القديم لأفريقيا (Africa)، التي كانت ضحية علاقة متشنجة بين البيزنطيين والبربر الثائرين، وبين البيزنطيين أنفسهم، وقد كشفت هذه العملية عن ثراء البلد وفي الوقت نفسه عن ضُعفه، وهو ما أشعل شهيّة مُتّقدَةً لدى العرب، فالمؤرخ النُّويري وصف السُّهولة التي جنّد بها جيشٌ صغيٌر مكونٌ من عناصر وفّرتها أغلب القبائل العربية، انطلقت من المدينة في تشرين الأول/ أكتوبر سنة 647م. هذه الوحدة العسكرية التي لا يمكن أن يتجاوز عدد رجالها 5000، لكن أضاف إليها ابن أبي سرح في مصر عددًا من المحاربين الذين جندهم هناك، فارتفع عدد المقاتلين المسلمين إلى 20000 رجل.

حدث الصدام الحاسم مع الروم (البيزنطيين) الذين كان يقودهم البطريق جرجير (Grégoire) قرب سوفيتولا (Suffetula/ سبيطلة) بتونس، وقد قُتِل جرجير، لكن العرب انسحبوا راضين سنة 648م، بعد أن نهبوا البلد السهلي، وحصلوا على غنيمةٍ ماليةٍ مرتفعةٍ من مدن المُزاق، حيث لم يكن لهذه الحملة التي دامت أربعة عشر شهرًا هدفٌ آخرٌ.

لم تُباشَر عملية الفتح الحقيقية إلا تحت حكم الخليفة معاوية، الذي عهد لمعاوية بن حديج قيادة جيشٍ جديدٍ سنة 666م. ويظهر أن عقبة [بن نافع] أسس بعد ثلاث سنوات من ذلك مدينة القيروان[8]، أول مدينةٍ إسلاميةٍ بالمغرب بحسب الروايات التي وصلتنا بصيغٍ متعددةٍ من طرف الكُتَّاب العرب. وقد ضاعف عقبة خلال عهدته الثانية الهجمات على المناطق الغربية، فاستولى على مدنٍ مهمةٍ مثل لمباز  (Lambèse) التي كانت مقرًا للفرقة الأغسطية الثالثة، وعاصمة نوميديا الرومانية، وتوجه بعدها نحو تيهرت قرب تيارت المعاصرة، ثم وصل إلى طنجة، حيث وصف له المدعو يوليان (جوليانوس) بربر السوس (جنوب المغرب الأقصى) وصفًا سيئًا جدًا بقوله: «إنهم شعب لا دين لهم، يأكلون الميتة، ويشربون دم حيواناتهم، يعيشون كالحيوانات، لأنهم لا يؤمنون بالله ولا يعرفونه تمامًا»، فارتكب عقبة في حقهم مجزرةً استثنائيةً واستولى على نسائهم اللَّواتي كنَّ ذوات جمالٍ لا يُضاهى، ثم دخل المحيط على ظهر حصانه وأشهد الله على «أنه لم يعد هناك البتة أعداءٌ للدين ليحاربهم ولا كفارٌ ليَقتُلهم»[9].

تبقى هذه الرواية أسطوريةً في جزءٍ منها، بينما تذهب أخرى إلى القول إنَّ عقبة وصل حتى أطراف فزان قبل أن ينتقل إلى الحرب في أقصى الغرب، وهي تُقَلِّل من المقاومة التي واجهتها حملاته، المهم أنَّ حملة عقبة هذه انتهت بكارثةٍ هدَّدت الهيمنة العربية على أفريقية لمدّة خمس سنوات، فقد أعطى إشارة الثورة القائد البربري كسيلة الذي أسلم قبل ذلك؛ وهو من قبيلة «أَوْرَبَة» التابعة لفرع البرانس؛ واستطاع أن يسحق كتيبة عقبة في طريق عودته من هذه الحملة في جنوب الأوراس[10]، فقتله بتهودة قرب المدينة التي تحمل اسمه، وتحوي ضريحه: «سيدي عقبة»، بعدها سار كسيلة نحو القيروان واستولى عليها، وانسحب ما بقي من جيش المسلمين حتى مدينة قوريناية(Cyrénaïque) ، منذ ذلك الوقت تتابعت الغزوات والحملات العسكرية على أفريقية كلّ سنةٍ تقريبًا.

مات كسيلة سنة 686م، ولم تُنتَزع قرطاجة من طرف المسلمين إلا سنة 693م، وتأسست مدينة تونس سنة 698م، بينما قادت المقاومة لمدة بضع سنوات امرأة من قبيلة جراوة، وهي إحدى قبائل زناتة، سيدة الأوراس، تدعى دهية (Dihya) وتعرف بالكنية التي أعطاها إياها العرب وهي الكاهنة (العرّافة)، ويمكن عدّ تاريخ وفاتها سنة 700م[11]، نهايةً للمقاومة البربرية المسلحة ضد للعرب.

عندما عبر طارق بن زياد سنة 711م، المضيق الذي يحمل اسمه (جبل طارق) لغزو إسبانيا، كان جيشه متكونًا أساسًا من وحداتٍ بربريةٍ وموريةٍ (Maures). باختصار كان الغزاة العرب قليلين، لكن بواسل، كما أنَّهم لم يجدوا أمامهم دولة مستعدة للتصدي لغزوتهم، وكلُّ ما واجهوه هو معارضون متتابعون: البطريق البيزنطي ثم الزعماء البربر[12]، إماراتٌ بعد ممالك، وقبائلٌ بعد اتحادات، أمَّا السكان الرومان الأفارقة(Les Afariq) ، المحبوسون داخل أسوار تلك المدن، فهم رغم كثرتهم لم يكن لديهم الإمكانية ولا الرغبة في مقاومة هؤلاء الأسياد الجدد الذين أرسلهم الله لمدة طويلة. فالجزية التي فرضها عليهم العرب لم تكن أبدًا بالنسبة إليهم أثقل ممّـا كانت تطلبه إدارة الضرائب البيزنطية، وقد عُدّ تحصيلها – في البداية على الأقل – مساهمةً استثنائيةً في مآسي الحرب أكثر منها ضريبةً دائمةً، أما بالنسبة إلى النهب وأخذ الغنائم من طرف فرسان الله، فإنهما لم يكونا أكثر ولا أقل إرهاقًا عمّا كان ممارسًا من طرف قبائل المور منذ قرنين. احتُلت أفريقيا إذًا؛ لكن كيف أسلمت ثم عُرّبت؟

ثالثًا: طريق الهداية

ذكرنا سابقًا أنه يجب التمييز بين الأسْلمة (l’islamisation) والتعريب (l’arabisation) ، في الواقع تمت الأولى بوتيرةٍ أكثر سرعةً من الثانية، حيث أصبحت بلاد البربر مسلمةً في أقلّ من قرنين (القرنين 7-8م) في الوقت الذي لا تزال فيه حتى اليوم وبعد 13 قرنًا من الغزوة الأولى غير معربةٍ كليًا.

كانت الأسْلمة (l’islamisation) وأُولى عمليات التعريب حضرية[13]، فقد ترسّخت ديانة الغزاة في المدن القديمة التي زارها الدعاة (Missionnaires) المحاربون، ثم علماء الدين الرَّحالة الُمتمَرِّسون على المناقشات الدينية، كما ساهم تأسيس مدنٍ جديدةٍ التي كانت مراكز دينيةً حقيقيةً، مثل مدينة القيروان أول مدينة إسلامية شيدت (سنة 670م) ومدينة فاس التي أسَّسها إدريس الثاني (سنة 809م)، في ترسيخ الإسلام في طرفي البلاد بشكلٍ متينٍ.

كان اعتناق بربر الريف من صنهاجة أو زناتة للإسلام أكثر غموضًا، فقد كانوا في الحقيقة جاهزين لعقيدة التوحيد (Monothéisme) المطلق في الإسلام بسبب التطور الحديث للمسيحية، والتبشير اليهودي في وسط القبائل الرحل بالجنوب، إضافة إلى ذلك بدا الإسلام للأفارقة كما كان الشأن بالنسبة إلى مسيحي الشرق كبدعةٍ مسيحيةٍ (كانت البدع كثيرةً) أكثر منه ديانةً جديدةً، وهذا ما قد يفسر حركات الرّدة المتكررة، التي كانت مرتبطةً أيضًا بالتقلبات السياسية[14] .

وقد ساهم اعتناق الزعماء المحليين (les chefs de fédérations) للإسلام، الذي كان في كثيرٍ من الأحيان بدوافع سياسيةٍ أكثر منها إيمانيةً، في نشر الإسلام في أوساط الشعب، كما جلبت مشاركة الوحدات العسكرية البربرية بقيادة هؤلاء الزعماء في غزوات مربحةٍ باسم الإسلام، وبشكلٍ طبيعي الجنود البربر، إلى اعتناق الإسلام.

كما يمكن أن يكون أخذ الرّهائن من بين أبناء الأمراء أو زعماء القبائل قد ساهم في تقدم الإسلام، حيث يعود الأطفال وقد أسلموا وتعربوا (islamisés et arabisés)  إلى قبائلهم ليصبحوا قدوةً لغيرهم، لأنَّهم عادوا مكللين بالهيبة التي تمنحها ثقافة راقية.

وكان للدّعاة الخوارج الذين جاءوا من الشرق، فاعليةٌ حاسمةٌ في نشر الإسلام، رغم خطورة حركتهم على استقامة المعتقد الإسلامي في القرون الأولى لهذا الدين، إذ في الوقت الذي كانوا ينشرون فيه الإسلام بين القبائل، وبخاصة الزناتية منها، فَصلوا جزءًا من البربر عن بقية المسلمين، وإذا كان انشقاق الخوارج قد تسبَّب مراتٍ متعددة في أحداثٍ دمويةٍ ببلاد المغرب، فهو له الفضل في محافظة أقليةٍ دينيةٍ لكن مثالية على إيمانها وزهدها وعاداتها؛ في كل المراحل؛ بما فيها المرحلة التي نتحدث عنها.

ظهر فيما بعد دعاةٌ آخرون ورحالةٌ كبارٌ؛ ومنهم الدعاة المكلفون بنشر المذهب الشيعي. ويجب القول إنَّ هؤلاء كانوا يتنقلون في مرحلةٍ يظهر لنا فيها الوضع في أوروبا، كما هو الشأن في أفريقيا، محكومًا بحياة المحتشدات بسبب انعدام الأمن، وكان رجال الدين يُسافرون كثيرًا وبعيدًا جدًا، ليتعلَّموا على أيدي أشهر علماء الدين، فيضعون أنفسهم؛ طواعيةً؛ في خدمتهم حتى اليوم الذي يدركون فيه معارفهم وسلطتهم، ويُصبحون بدورهم مُعلِّمين مُطورين لتعاليم جديدة أحيانًا، ومن أمثلة هؤلاء قصة محمد ابن تومرت (المهدي) مؤسس حركة الموحدين (1120م)، التي كانت وراء ميلاد إمبراطورية كبيرة.

اعتمد الدُّعاة(les missionnaires)  المسلمون على تقديم المثال الجيِّد لكسب قلوب السكان في المدن وفي الأرياف بصفةٍ خاصةٍ، حيث كان عليهم أن يُظهروا لهؤلاء المغاربة الذين كانت تقواهم دائمًا عميقةً، ما هو المجتمع الحقيقي للمدافعين عن العقيدة.

يعد الرباط (Ribat) خير مثالٍ[15]، لأنّه كان في الوقت نفسه مكان عبادةٍ، ومقرَّ الحامية ومركز عملياتٍ ضد الكفار، أو الهراطقة (les hérétiques). يمكن إقامة الرِّباط في أيّ مكانٍ على الساحل أو في الأراضي الدّاخلية مثل رباط «تازة»، وفي كل مكان يفرض الدفاع عن العقيدة.

كان رجال الدين – الجنود الذين يشغلون هذه الرباطات (Ribats) يتدرّبون على القتال، ويتعلمون أصول الدين (Orthodoxie) الأكثر صرامة. ويُعدُّ القرن التاسع العصر الذَّهبي للرباطات (Ribats) في أفريقية، حيث تضاعف عدد هذه المؤسسات الدينية للأمراء الأغالبة من طرابلس إلى بنزرت، وبخاصة على سواحل المُزاق القديمة (Byzacene)، وأشهرها، رباط المنستير (في اعتقادهم يكفي المرابطة ثلاثة أيام لكسب الجنة)، الذي بُنِي سنة 796م، ورباط سوسة الذي بُني سنة 821م، تمركزت آخر الرباطات في الطرف المقابل لبلاد المغرب على ساحل المحيط الأطلسي، لضمان الدفاع عن الإسلام في المجال العسكري، وفي المجال الديني الخالص، وفي الوقت نفسه ضد اللصوصً النورمان، وضدَّ الهراطقة البرغواطيين (Bargwarta). ومن الرباطات المتأخرة ذلك الذي أسسه السلطان الموحدي يعقوب المنصور، الذي سيصبح عاصمة المملكة الشريفية محتفظًا باسم «الرباط»، وقد أكمل مع رباطات أرصيلا (Arcila) في الشمال، وآسفي (Safi) وكوز (Qoüz)، وبخاصة رباط ماسة (Massat) في الجنوب خط الدفاع الساحلي للمغرب الأقصى.

هؤلاء المرابطون هم في الوقت نفسه زهادٌ ورجال عبادةٍ، لكنَّهم يعرفون التحول عند الضرورة إلى مُصلحين مُتحمسين وفعالين، مثل أولئك الذين ينتمون إلى قبيلتي لمتونة (Lemtouna) وجزولة (Guezoula) الصنهاجيتين من الصحراء الغربية، حيث أسَّسوا بقيادة الشيخ عبد الله بن ياسين رباطًا في جزيرة سينغالية، في بداية القرن الحادي عشر، وكانوا أصل الإمبراطورية المرابطية  (l’empire Almoravide)، التي يعود اسمها إلى تحريف إسباني لكلمة «المرابطون».

فقَدَ الرباط في المناطق غير المهددة خاصيته العسكرية، فأصبح مقرًا لرجال دين محترمين جدًا، لكن من المبالغة تشبيههم بالجماعات الدينية المسيحية، فقد تنظّمت في مراحل لاحقةٍ، بالاعتماد على مراكز دراسة العلوم الدينية، مجموعات تعرف بالزوايا، التي تُعدّ وريثةً الرباطات القديمة. اختلطت هذه الحركة الجديدة في أغلب الأحيان مع التصوف الشعبي، فكونت المرابطية (Maraboutisme)، وهو اشتقاق آخر من كلمة الرباط، وساهمت هذه الحركة الجديدة إلى حدٍ كبيرٍ في إتمام أسْلمة الأرياف المغربية، مقابل تنازلاتٍ ثانويةٍ لبعض الممارسات السابقة للإسلام، التي لا تمس بعقيدة المؤمن.

رغم كل هذه العوامل وُجدت مناطق من بلاد البربر لم يدخلها الإسلام إلا مؤخرًا، ليس وسط المجموعات المتماسكة للمستقرين الجبليين، فهؤلاء أدوا بسرعة – على عكس ما هو متوقعٌ – دورًا مهمًا في الإسلام المغربي، مثل كتامة من بلاد القبائل الصغرى، ومصمودة من جبل الأطلس المغربي، بل عند البدو الرحل الكبار في الهوقار البعيد والصحراء الجنوبية، ويبدو أنَّ الطوارق، إذا صدقت الرواية، عرفوا أسلمةً مبكرةً جدًا، قام بها الصحابة (رفقاء النبي) منذ أيام الفتح الأولى، لكن هذه الأسْلمة إذا لم تكن أسطورية، لم يكن لها أي نتائج، لأنَّ العادات الوثنية استمرت قائمةً حتى أعاد الدُّعاة إدخال الإسلام إلى الهوقار، من دون أن يُحقِّقوا نتائج كبيرةً، حيث يظهر أنَّ الأسْلمة الحقيقية لم تتم إلا في القرنين الرابع عشر والخامس عشر الميلاديين، ولا نزال نجد بلدًا ناطقًا بالبربرية لم يُسلِم أبدًا، وهو جُزر كناري التي بقي سكّانها الأوائل «الغوانش» (Guanches)[16]، وثنيين حتى غزو النورمانديين والإسبان في القرنين 14 و15 م.

لم تقضِ أسْلمة البربر مباشرةً على كل آثار المسيحية في أفريقيا، فالجغرافيون والإخباريون العرب كانوا كتومين جدًا في شأن بقاء كنائس أفريقية لبعض القرون بعد الغزو واعتناق البربر الإسلام بصورة مكثفة، حيث لم يهتم المؤرخون بهذا الموضوع إلّا حديثًا.

كانت الممالك الرومانية-الأفريقية التي تكونت خلال الحقبتين الوندالية والبيزنطية في أغلبها مسيحية، فالإمبراطور ماستيس  (Masties)أعلن مسيحيته[17]، وكان ملك الأوكتامي (Ucutamani) الذين هم كتامة عند الكتاب العرب، يحسب نفسه «خادم الرب» (Servus Dei) [18]، كما كان الحكام الذين بنوا الجدّارات  (Djedar)الضخمة، وهي معالم جنائزية بجهة فرندة[19]  مسيحيين كذلك، ومنهم على الأرجح ماسونة (Masuna)  «ملك المور والرومان» بموريطانيا في نحو 508م، وماستيناس (Mastinas) وهو أمير موري آخر، يحتمل أنه سك عملة نحو عام 533م[20]. ولم يَبقَ على الوثنية إلا بعض الزعماء الرُّحل مثل تيرْنا (Terna)  الذي كان يعبد الثور غورزيل (Gurzil) [21]، فكلُّ شيءٍ إذًا يُشير إلى أنَّ جزءًا كبيرًا من السكان البربر القدماء الموجودين في المقاطعات القديمة للإمبراطورية الرومانية تنصروا في القرن السادس.

تركت المدن الأثرية أكبر عددٍ من الشهادات على ذلك، فيجب ألّا نستغرب من وجود كنائس فسيحةٍ ومتعددة، ومقابر، ونقوشٍ جنائزية، وبخاصة المجموعة الرائعة لوليلي (فوليبليس /Volubilis) البعيدة، التي تُغطي الجزء الأول من القرن السابع (595/655م)، ونقيشة ألتافا (Altava) الأقدم قليلًا (القرن الخامس)، وكذلك نقيشات بوماريا (Pomaria/تلمسان)، وألبولاي (Albulae)، وهي مدن كانت جزءًا من مملكة ماسونا، ويجب ألّا نستنتج أن السكان الحضر فقط أصبحوا مسيحيين، لأنَّ عددًا كبيرًا من البلدات المتواضعة في نوميديا، التي لم تكن في الحقيقة إلا قرى كبيرةً، تملك كنائسها، وهو ما تبرزه نصوصٌ ثمينةٌ مثل نص بيكلار (Jean de Biclar)[22]، الذي يعلن تنصّر قبائل بقيت وثنيةً مثل الماكورتاي (Maccuritae)  في سنة 570م[23]. هل يجب أن نستغرب مِمَّا يُؤكده البكري أنَّ البربر كانوا في الحقبة البيزنطية يعتنقون الدين المسيحي؟

إنَّ الإبقاء على طوائف مسيحيةٍ في أوج المرحلة الإسلامية، قرونًا متعددة بعد الغزو، أمرٌ لا يشك فيه اليوم، حيث تُضاف إلى النقوش المكتشفة (Epigraphiques)، مثل النقوش الجنائزية المشهورة للقيروان المؤرخة في القرن الحادي عشر[24]، وتلك المتعلقة بالقبور المسيحية لعين زاره (Ain Zara) وإنجيلة  (En Ngila) بطرابلس[25]، يُضاف إليها التعاليق على نصوصٍ ظلَّت حتى اليوم مهملةً، فقد أبرز لويكي (T. Lewiki) وجود طائفةٍ مسيحيةٍ كبيرةٍ بين الإباضيين، أولًا في عهد المملكة الرستمية بتيهرت، ثم بورقلة[26]، كما نعرف أسقفية كستيلية  (Qastiliya) جنوب تونس، في حين تحتفظ دائرة الختم البابوية بمراسلاتٍ بين البابا غريغوار السابع مع أساقفةٍ أفارقة تعود إلى القرن العاشر[27]، ويعترف هادي إدريس (H. R. Idriss) بالإبقاء على الاحتفال بالأعياد المسيحية في أفريقية في العهد الزيري[28]، ويذكّرنا دي فورغ Dufourg)) بالاعتماد على نص للبكري بوجود سكانٍ مسيحيين وكنيسةٍ بتلمسان في القرن العاشر، حتى إنَّه يقترح العثور على إشارةٍ لحج مسيحيٍ إلى الأربطة في المدينة المدمرة شرشال- قيصرية[29]، وقد ربط الكاتب نفسه، بحق، بقاء اللغة اللاتينية الأفريقية (اللاتيني– الأفريق/Al Afarîq Al -latini) مع بقاء المسيحية[30].

والظاهر أن اختفاء آخر طائفةٍ مسيحيةٍ كان في القرن الثاني عشر، أو أكثر من ذلك، ويبدو أنَّ هذا الانقراض يعود سببه إلى الاضطهاد أكثر منه إلى الاختفاء الطبيعي، فالخلفاء الموحدون كانوا غير متسامحين كليةً بعد الاستيلاء على تونس، فقد منح عبد المؤمن في سنة 1159م، اليهود والمسيحيين الاختيار بين اعتناق الإسلام أو الموت بالسيف، وقد تفاخر حفيده أبو يوسف يعقوب المنصور في آخر القرن بعدم بقاء أي كنيسةٍ في دولته[31] .

رابعًا: آليات التعريب

اتبع التعريب طرائق أخرى رغم أنَّه مُهِّد له بإجبارية نُطْق بعض الجملٍ الأساسية (الشهادتان) عند اعتناق الإسلام. كانت عملية التَّعريب اللُّغوية والثقافية في المرحلة الأولى (من القرن السابع إلى القرن الحادي عشر) حضرية أساسًا. لذلك احتفظت الكثير من المدن المغربية القديمة، مثل: القيروان، وتونس، وتلمسان، وفاس، بلغةٍ كلاسيكيةٍ نوعًا ما، كذكرى لعملية التعريب الأولى، هذه العربية الحضرية التي تشبّعت بتركيباتٍ مختلفةٍ مستمدةٍ من البربر، استمرت قائمة بحسب مارسي (W. Marçais)  لدى الشيوخ من سكان الأرياف المستقرين، مثل سكان الساحل التونسي، أو المنطقة الساحلية القسنطينية، وكذلك سكان ترارة ((Traras وجبالة (Jebala) في الريف الشرقي، مع العلم أن هذه الجهات الساحلية مثّلت بوابة العواصم الجهوية القديمة الْمُعرَّبة منذ زمنٍ طويلٍ[32].

في أماكن أخرى، اكتسحت هذه اللغة القديمة – التي نجهل مدى انتشارها – لغةً أكثر شعبيةً، هي العربية البدوية التي تبرز نوعًا من الوحدة تمتد من الجنوب التونسي إلى وادي الذَّهب، مع الاتجاه نحو الشمال، بسهول الجزائر الوسطى والقطاع الوهراني والمغرب، هذه العربية البدوية أُدخِلَت في القرن الحادي عشر من طرف القبائل الهلالية، لأنَّها في الحقيقة، هي التي عرّبت جزءًا كبيرًا من البربر.

ولفهم الوصول غير المنتظر لهذه القبائل العربية البدوية، يجب أن نعود إلى القرن العاشر، في الوقت الذي كانت تجري، في المغرب الأوسط أولًا ثمَّ في أفريقية، مغامرةٌ مدهشةٌ ومعروفةٌ جيدًا، وهي وصول الفاطميين إلى الخلافة. وعندما كان البربر الزناتيون يَبسطون نفوذهم تدريجيًا على السهول العليا، احتفظ البربر المحليون الصنهاجيون بالأراضي الجبلية للجزائر الوسطى والشرقية. وفي هذا الوقت استقبلت كُتَامة إحدى القبائل الصنهاجية التي كانت تتمركز منذ العصر الروماني في بلاد القبائل الصغرى[33] أحد المبشرين الشيعة، وهو أبو عبد الله الذي كان يُبشّر بقدوم الإمام المهدي المنتظر المنحدر من عليٍ وفاطمة. استقر أبو عبد الله في البداية في تافروت (Tafrout) بمنطقة ميلة، حيث نظَّم جماعة تضمُّ مُؤيّديه الأوائل، ثمَّ حوَّل إيقجان (Ikdjan) الواقعة شرق جبال البابور، إلى مركزٍ محصنٍ. لقد ظهر كاستراتيجي بارعٍ وقائدٍ فذٍ، إذ استولى على سطيف ثم بجاية، وقسنطينة، وفي آذار/ مارس 909م، أصبح الشيعة سادة القيروان، وأعلنوا عبيد الله الفاطمي إمامًا لدولتهم، وهو لا يزال أسيرًا في الطرف الآخر من المغرب الأوسط بالتحديد في سجلماسة البعيدة، وقد حرَّرته حملة كُتامية بقيادة أبي عبد الله الذي لا يَكلُّ؛ وأدخلته منتصرًا إلى القيروان في كانون الأول/ديسمبر (909م)، مدمّرًا في طريقه إمارات الخوارج، ونجحت الأسرة الفاطمية المنحدرة من عبيد الله في وقتٍ ما في السيطرة على الجزء الأكبر من شمال أفريقيا، لكنَّ ثوراتٍ عنيفةٍ هزت البلاد، أخطرها كانت ثورة الخوارج التي قادها مخلد بن كيداد المعروف بأبي يزيد «صاحب الحمار»، لكن الفاطميين أنقِذوا مرةً أخرى بعد تدخل صنهاجيي المغرب الأوسط بقيادة زيري بن مناد، لذلك ترك الفاطميون بعدما نجحوا في غزو مصر بمساعدة صنهاجة، وبعد أن أقاموا عاصمتهم الجديدة القاهرة (973م) حكمَ المغرب لمساعدهم بلكين بن زيري؛ بهذا القرار الذي يعتبر صائبًا؛ تولَّت حكم البلاد سلالة بربرية.

حدثت في عهد هذه السلالة أسوأ كارثةٍ عرفها المغرب خلال مدة ثلاثة أجيالٍ، فقد قطع الزيريون روابط تبعيتهم للخليفة الفاطمي، وفي سنة (1045م)، تخلَّى المعز عن المذهب الشيعي الذي لم تقبله أغلبية رعيته، وأعلن ولاءه للخليفة العباسي ببغداد، ولمعاقبة هذا الانشقاق قدّم الفاطميون المغرب إلى قبائل عربيةٍ كثيرة الشغب، نزحت من سورية وشبه الجزيرة العربية، واستوطنت بسايس في صعيد مصر، حيث عاشت حياة البداوة، وقد ارتبطت بعض هذه القبائل بجدٍ مشتركٍ، هو: «هلال»، ومنه جاء اسم: «الغزوة الهلالية»، الذي صار يُطلق على هذه الهجرة الشرقية الجديدة نحو شمال أفريقيا.

دخل بنو هلال، الذين تبعهم بعد وقتٍ قصيرٍ «بنو سليم»، إلى أفريقية سنة 1051م. في الحقيقة، إنَّ إحصاء هذه القبائل وفروعها عمليةٌ طويلةٌ جدًا، ولكن معروفةٌ نسبيًا بفضل رواية ابن خلدون والتراث الشعبي القائم على الرواية الشفوية التي لا تزال حيةً حتى اليوم، وهي أغاني ملحميةٌ معروفة باسم: «تغريبة بني هلال» (مسيرة بني هلال نحو الغرب).

وجدت مجموعتان أساسيتان: الأولى متكونة من قبائل زغبة وأثبج ورياح وجشم وربيعة وعدي، وهي تتصل ببني هلال، والمجموعة الثانية تكونت من بني سليم، وقد أُضيف إلى هذه الأمواج من الغزاة، بعد بضع العشرات من السنين مجموعة من العرب اليمنيين، وهم «المعقل» الذين اتبعوا طريقًا خاصًا بهم حيث توجهوا أكثر نحو الجنوب، فوصلوا إلى جنوب المغرب والصحراء الغربية. ويبدو أنَّ قبائل يهوديةً بدويةً رافقت هؤلاء البدو، وساهمت في تقوية المجموعات اليهودية بالمغرب[34]، تلك المجموعات التي ينتمي أغلبها إلى أصل زناتي.

إنَّنَا نُخطئ إذا تصوّرنا أن تلك القبائل العربية وصلت مثل جيشٍ زاحفٍ احتل الأرض على نحوٍ دقيقٍ، وخاض حربًا لا ترحم ضد الزيريين، ثم أبناء عمومتهم الحماديين الذين أسّسوا مملكةً متميزةً في الجزائر، كما أنَّه من الخطأ الاعتقاد بحدوث صدامٍ شاملٍ أو نزاعٍ ذي طابعٍ عرقيٍ عنصريٍ أو وطني بين العرب الغزاة والبربر، فالقبائل التي دخلت المغرب احتلت الأراضي المفتوحة وكانت تجمع قواتِها للاستيلاء على المدن التي كانت تنهبها بصورةٍ منهجية، ثم تتفرق من جديدٍ ناقلة النهب والخراب بعيدًا.

لم يتردد أمراء البربر الزيريون والحماديون، وبعد ذلك الموحدون ثمَّ المرينيون، في استعمال القوة العسكرية التي كانت متوافرةً دائمًا، والمتكوَّنة من هؤلاء البدو الرُّحل، الذين كانوا يتوغلون تدريجًا في الأرياف المغربية.

فكّر الحكام البربر، منذ وصول العرب البدو، في استعمال هذه القوة الجديدة في صراعاتهم الداخلية، وهكذا بعيدًا من الانزعاج من دخول الهلاليين، بحث السلطان الزيري عن التحالف معهم لمحاربة أبناء عمومته الحماديين، وقدّم إحدى بناته زوجةً إلى شيخ قبيلة رياح، لكن هذا لم يمنع هؤلاء العرب من إلحاق الهزيمة بالجيش الزيري مرتين، في سنة 1050م في حيدرة، وفي سنة 1052م في القيروان، ولن يطول الوقت لتُحتَل أفريقية وتسقط في الفوضى.

استغل بعض الزعماء العرب الفرصة لاقتطاع ممالك صغيرة المساحة، كان زوالها السريع في مستوى مساحتها الصغيرة، مثل إمارات قابس وقرطاجة منذ أواخر القرن الحادي عشر. كما حصل الحماديون، بصورة موازية، على مساعدة الأثبج الذين حاربوا أبناء عمومتهم رياح، الذين كانوا بدورهم يحاربون الزيريين.

تجمّع بنو هلال في سنة 1152م، بعد مرور قرنٍ من وصول أولى المجموعات البدوية إلى المغرب، للتصدي لقوة الموحدين الصاعدة، التي كانت تسيطر على المغرب الأقصى والجزء الأكبر من المغرب الأوسط، لكن الأوان كان قد فات، فقد سُحقوا في معركة سطيف، من طرف جيش الموحدين، لكن المفارقة أن هذه الهزيمة لم توقف توسعهم في المغرب كما كان متوقعًا، بل غيرت السياق فقط، لأنَّ الموحدين خلفاء عبد المؤمن لم يتردَّدوا في استعمالهم ضمن وحداتهم القتالية، والحادث الأكثر خطورة بنتائجه، هو أمرهم بإبعاد عدَّة فروعٍ من قبائل رياحٍ والأثبج وجشم إلى مقاطعاتٍ عديدة بالمغرب الأقصى، مثل الحوْز والسهول الأطلسية، وكان من نتائج ذلك أن عُرِّبت هذه المناطق.

تحصّل الحفصيون، في الوقت الذي انهارت فيه الإمبراطورية الموحدية، على استقلالهم في أفريقية، وضمنوا مساعدة قبيلة الكعوب (Kooûb) أحد الفروع المهمة لبني سليم. في الحقبة نفسها أسَّس يغمراسن الزناتي، مملكة بني عبد الواد في تلمسان بدعم من عرب زغبة، وهو نفس التاريخ الذي طرد فيه بنو مرين، وهم بربر زناتيون، آخر ملوك الموحدين من فاس (1248م)، واعتمدت السلالة الجديدة على أسر عربية رُحِّلَت إلى المغرب من طرف الموحدين، ولأكثر من قرنٍ كان المخزن المريني يجند من قبيلة الخلط (Kholt).

تسببت المجموعات العربية، في الأماكن الجديدة التي أدخلت إليها، من دون إرادتها أحيانًا، أو نُصِّبت على رأس سكانٍ مزارعين لم يستطع نمط معيشتهم مقاومة نهبهم طويلًا، في تدهور الأرياف. لكن رغم أنهم نهبوا القيروان والمهدية وتونس وأهم مدن أفريقية، ورغم أنَّ ابن خلدون وصفهم بجيشٍ من الجراد المدمر لكل شيءٍ في طريقه، كان بنو هلال وبنو سليم، وفيما بعد بنو معقل، أكثر خطرًا بإدخالهم عوامل الفوضى إلى المغرب من نهبهم.

إنها حكايةٌ غريبةٌ، وفي الوقت نفسه رائعةٌ، تلك المتمثلة بالتحول العرقي والاجتماعي لملايين السكّان من البربر ببعض الآلاف من البدو، فعلًا، ومن دون مبالغةٍ في الأهمية العددية لبني هلال، ومهما كان عدد الذين يعتقدون أنَّهم ينحدرون منهم، فقد كانوا عند ظهورهم في أفريقية وفي المغرب، بعض العشرات من الآلاف على أقصى تقديرٍ، ولم ترفع المساهمات المتتالية لبني سليم ثم معقل الذين استقروا في جنوب المغرب العددَ إلى أكثر من 100 ألف فردٍ من دمٍ عربيٍ، دخلوا شمال أفريقيا في القرن الحادي عشر، بينما كان عدد الوندال 80 ألفًا عندما عبروا مضيق جبل طارق للنزول بسواحل أفريقيا في شهر أيار/مايو 429م (وربما ضعفي هذا العدد إذا كانت الأرقام المقدمة من طرف فيكتور دي فيتا Victor de Vita) لا تعني إلا الرجال والأطفال الذكور)، وهذا يعني أنَّ الأهمية العددية للغزوتين متساويةٌ تقريبًا، ولكن ماذا بقي من التأثير الوندالي في أفريقيا بعد قرنين من عبورهم؟ لا شيء؛ فقد أزالت الغزوة البيزنطية كليًا وببساطةٍ الوجود الوندالي، ومن العبث أن نبحث عن المنحدرين منهم أو الذين يدَّعون ذلك.

لنتأمل الآن في نتائج وصول العرب الهلاليين في القرن الحادي عشر؛ فقد عُرّبت معظم بلاد البربر، واعتُبِرَت الدول التي قامت في المغرب نفسها دولًا عربيةً، ولا يمكن تفسير هذا التعريب الثقافي واللغوي العميق بخصوبة بني هلال، ولا بإبادتهم البربر في السهول.

صحيح وجّهت القبائل العربية في البداية ضربةً جديدةً إلى حياة الاستقرار بالتخريب والتهديد الدائم للبلاد المفتوحة، وهكذا تدعم العمل الهدّام للبدو الرحل «البربر الجدد» الزناتيين، الذين توغّلوا في أفريقيا ونوميديا منذ القرن السادس الميلادي، وقد أدمج هؤلاء البدو الرحل الزناتيون السابقون بالوافدين الجدد بسهولةٍ من طرف الوافدين الجدد، وهكذا كانت الوحدات البدوية العربية التي تتكلم اللغة المقدّسة، وتفتخر بها كثيرًا، بعيدة من أن تذوب ثقافيًا في الكتلة البربرية البدوية، بل حدث العكس، حيث جلبتها وتبنّتها.

ساعد تشابه نمط الحياة بين العرب والبربر على الاتحاد فيما بينهم، فكان مغريًا بالنسبة إلى البدو الرحل البربر الادعاء أنَّهم عربٌ، لكسب الاحترام ونيل مكانة الغازي، وقد وصل الأمر أحيانًا حتى ادعاء نسب «شريف» بمعنى الانتساب إلى الرسول. وما سهّل عملية الاندماج بين العرب والبربر حيلةٌ قانونيةٌ: تعطي لأي شخصٍ أو مجموعةٍ تصبح تابعة لأسرة عربية، الحق في أن تحمل اسم القبيلة السيدة، وكأنَّها عملية تبني جماعية، وقد نجحت هذه العملية لوجود ممارساتٍ مشابهةٍ لدى البربر أنفسهم، وما قامت به الكاهنة معروفٌ، وهو تبني أسيرها العربي خالد، كإبن ثالثٍ هو مثال جيد على هذا النهج[35].

إن تداخل المجموعات البربرية والعربية البدوية أو نصف البدوية كان قائمًا إلى درجة أن الظاهرة العكسية، أي تبربُرَ فروع عربية أو ادعاءها ذلك سجلت أحيانًا، نذكر كمثال على ذلك؛ وهذه ليست حالةً منعزلةً؛ القبيلة العربية لبني محمد التابعة لأحد الأخماس (أونوبغي /Ounebgi) الذي ينتمي إلى كونفدرالية آيت عطّا القوية[36] .

انتشر التعريب في البداية وسط القبائل البربرية البدوية، وبخاصة الزناتيون، وكانت العملية كاملةً، حتى إنَّه لم يبق اليوم لهجاتٌ زناتيةٌ بدويةٌ، وتلك التي تتمتع بنوعٍ من الحيوية لا يزال يتكلّمها الزناتيون المستقرون سواء في الجبال (الونشريس)، أو في واحات الصحراء الشمالية (ميزاب).

عُرِّبت المجموعات البربرية البدوية القوية مثل هوارة بتونس الوسطى والشمالية كليةً قبل القرن الخامس عشر، واندمجت مع بني سليم، كما يشير إلى ذلك مارسي(Marçais) ، فاكتسبت تونس منذ تلك المرحلة خصائصها الإثنية واللغوية الحالية، إنها أكثر بلدان المغرب تعربًا[37]، أما في المغرب الأوسط فقد أزيح بربر مجموعة صنهاجة، الذين هيمنوا لمدةٍ طويلةٍ، شيئًا فشيئًا من طرف القبائل الزناتية الـمُعرَّبَة، أو على وشك أن تُـعرَّب، التي كان من بين ما قامت به، تأسيس مملكة بني عبد الواد بتلمسان، بينما أَبعد زناتيون آخرون – بنو مرين – آخر ملوك الموحدين بالمغرب.

كما يوجد عامل تعريبٍ آخر لم يؤخذ في الحسبان من طرف مؤرخي المغرب إلا نادرًا، وهو انقراض القبائل التي كانت تؤدي دورًا مهمًا، فشهدت أعدادها تراجعًا بسبب المعارك المتواصلة أو الحملات البعيدة. لقد وجّهتُ الانتباه منذ بعض السنوات إلى حالة كُتامة من القبائل الصغرى، المتمركزة جيدًا في منطقتها الجبلية، والتي ساهمت – كما أشرنا – في تأسيس الإمبراطورية الفاطمية، وقامت بحملاتٍ في كل الاتجاهات: أفريقية، سجلماسة، المغرب الأقصى ثم صقلية ومصر، كل هذا متقطع بتمرد غالي الثمن ضد الخليفة الذي نصّبوه، وبالتالي شُتت الكتاميون في الحاميات وأُبيدوا في الحروب، فاختفوا كما لو كانوا في فخ، وأصبح موطنهم الذي يمتد من جبال البابور حتى الحدود التونسية اليوم مُعرّبًا بشكلٍ عميقٍ[38] .

يُضاف إلى ذلك، التشابهُ في نمط العيش بين المجموعات البدوية الذي يُعُّد عاملًا قويًا للتعريب، فنحن نرى المناورات السياسية للحكام البربر الذين لم يترددوا في استعمال القوة العسكرية والحركية الكبيرة للوافدين الجدد (العرب) ضد إخوانهم من عرقهم، عن طريق الضغط المزدوج للهجرات الرعوية والأنشطة العسكرية المصحوبة بالنهب والحرائق أو السرقات.

إن انتشار البدو الرحل يتطابق من الآن فصاعدًا في معظم أجزاء المغرب مع التعريب البدوي، وهو يمتد باستمرار مفسدًا الدول ومزيلًا الحياة المستقرة بالسهول، بينما تنحصر المناطق الناطقة بالبربرية، وبخاصةٍ في بعض التجمعات الجبلية.

خامسًا: المفارقات المغربية

إن هذا المخطط كثير التجزئة ليكون دقيقًا في التفاصيل، حيث لا يمكن أن يحدث مثل هذا التفرع الثنائي مع الواقع البشري للمغرب، فالبدو ليسوا كلهم مُعرَّبِين، إذ لا يزال يُوجد جهاتٌ واسعةٌ يجوبها البدو الرُّحل الناطقون بالبربرية، كل الصحراء الوسطى والجنوبية في ثلاث دولٍ (الجزائر، مالي والنيجر)، تحت رقابتهم، وفي جنوب المغرب تحافظ الكونفدرالية المهمة لآيت عطا المتمركزة حول جبل «صاغرو»، على نصف بداوةٍ بربريةٍ بين المجموعات العربية لتافلالت مهد السلالة الشريفة، والرقيبات البدو الرحل للصحراء الغربية الذين يدّعون الانحدار من قبائل معقل العربية، كما يجب الأخذ في الحسبان البدو الرحل الصغار من مجموعة برابر (Braber)  في الأطلس الأوسط، والتي تضم زيان (Zaïan) وبني مغيلد (Beni Mguild) وأيت سيغوشان (Aït Seghouchen).

البربرية إذًا ليست لغةً حكرًا على المستقرين فقط، وليست كذلك لغةً جبليةً حصريةً، فجزيرة في مثل انبساط جزيرة جربة، وإقليم المدن الخمس (Pentapolis) المزابية، وواحات توات وقورارة، والسهول الفسيحة الساحلية التي يتردد عليها طوارق كال غري (Kel grès) وكال دنيك  (Kel Dinnik) وأوليمدان (Oullimiden)، كلها مناطق ناطقة بالبربرية مثلها مثل الكتل الجبلية للمغرب أو جبال القبائل.

كذلك يجب عدم تصور أن كل العرب في المغرب بدو رحّل، فقبل مدةٍ طويلةٍ من الحقبة الفرنسية التي شجعت الزراعة والحياة المستقرة ولو بإقامة الأمن، كانت هناك مجموعة ناطقةٌ بالعربية تعيش منذ قرونٍ حياةً مستقرةً حول المدن وفي الأرياف الأكثر عزلةً، ويتجلى ذلك بخاصة في سكان القبائل الصغرى، ومجموع الكتل والجبال المتوسطة الساحلية للجزائر الشرقية وشمال تونس، كل هؤلاء الجبليين وسكان الهضاب مُعرَّبُون منذ زمنٍ طويلٍ، لكن بما أنهم يعتمدون في عيشهم على الغابة وعلى زراعة قريبةٍ من البستنة والزراعة الشجرية، فهم عاشوا دائمًا حياةً مستقرةً بالاعتماد على تربية الأبقار، ويمكن ذكر حالاتٍ أخرى كثيرةً مماثلة في الريف الشرقي وفي الونشريس الغربي.

لكن هذا لا يمنع أن المناطق التي يتحدث أهلها بالبربرية اليوم، في المغرب أو على الأقل في الصحراء، تقع كلها في المناطق الجبلية، وكأنها استغلت كحصون وملاجئ للسكان الذين تخلوا تدريجيًا عن الأرض السهلية للبدو الرحل وأنصاف الرحَّل وصغار مربي الماشية؛ عربًا؛ أو معربين. لهذا السبب ظهرت أفريقيا الشمالية في القرن التاسع عشر بوضع عمراني غير عادي؛ فالجبال والهضاب ذات التربة الفقيرة التي يشغلها فلاحون هي ذات كثافةٍ سكانيةٍ أكثر ارتفاعًا من تلك التي نجدها في السهول والأحواض ذات التربة الخصبة، والتي تجوبها مجموعات صغيرةٌ من الرعاة.

كما نجد أنَّ بعض المجموعات الجبلية غير متكيّفةٍ بشكلٍ جيدٍ مع الحياة الجبلية، وهو ما يدفعنا إلى البحث عن أصلها في أماكن أخرى، فبعض تفاصيل ألبستها، وجهلها بالممارسات الزراعية الجبلية مثل الزراعة في المدرجات بالأطلس التلي، يجعلنا نفكر أن الجبال لم تكن فقط حصونًا قاومت التعريب، بل كانت أيضًا ملاجئ حقيقية اجتمع فيها المزارعون الفارون من السهول التي تُركت لنهب البدو الرحل.

وإذا كانت الزراعة في المدرجات مجهولةً لدى مزارعي الجبال التلية (رغم أنها منتشرة في الدول والجزر المتوسطية بكثرة)، فإنها على العكس مُتحكَّمٌ فيها جيدًا، من طرف بربر الأطلس الصحراوي والسلاسل الجبلية المجاورة، وهذا منذ القديم[39].

إن البربر الذين يقيمون في جبال التل، مهما كان أصلهم، اضطرهم عددهم المرتفع في أرضٍ فقيرةٍ وضيقةٍ إلى الهجرة. هذه الظاهرة ذات الأهمية في بلاد القبائل ليست حديثةً، فهم مثل سكان الصافوا (les Savoyards) في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، فقد عمل القبائل باعةً متجولين أو تخصَّصُوا في بعض المهن بالمدن، وقد أحدث النمو الديمغرافي الناتج من الاستعمار وصولًا مكثفًا للجبليين الناطقين بالبربرية إلى السهول المستصلحة وإلى المدن. كان يُمكن لهذه الحركة أن تُؤدي إلى الاستعادة اللغوية والثقافية على حساب اللغة العربية، لكن لم يحدث شيءٌ، على العكس كان البربري الذي يصل إلى بلد عربيٍ مهما كان، قبائلي، ريفي، شلحي، شاوي (أوراسي)، يتخلى عن لغته وأحيانًا عاداته ليجدها عند عودته إلى بلده.

وتكوّن هذه الكتل البربرية مجموع السكان مهما كانوا مُعرَّبين أم غير مُعرَّبين، وما هو أكثر روعة أنها تتميز بالجاهزية والاستعداد، فبقدومهم إلى البلد السهلي أو إلى المدن يبقى جبليو المناطق البربرية – الخزان الديمغرافي الكبير للمغرب – يساهمون في تنمية هذه الظاهرة المتناقضة المتمثلة في تعريب شمال أفريقيا، ولا تتوقف بلدان المغرب عن رؤية نسبة دمها العربي الذي هو ضئيل، ويزداد تقلُّصًا كلَّما عُرّبوا ثقافيًا ولغويًا.

كتب ذات صلة:

المغرب العربي: ثقل المواريث ونداء المستقبل

الحركات الوطنية والاستعمار في المغرب العربي