أثارت موجة كورونا، التي اجتاحت العالم منذ بداية عام 2020، حالة ارتباك وقلق عالميين ربما لم يعرفهما العالم بهذا الاتساع منذ الحرب العالمية الثانية. وإذا كانت رائحة الموت ومشاعر الخوف والقلق في تلك الحرب قد ملأت قارتي أوروبا وآسيا وجزءًا من أفريقيا، على الأقل، فإن هذه الرائحة أو تلك المشاعر في أثناء جائحة كورونا كادت تدخل كل شارع وكل بيت في العالم بأسره. ولم تقِل مشاهد المستوعبات الملأى بجثث ضحايا كورونا، المركونة في أحد شوارع نيويورك، قسوةً واشمئزازًا، بسبب انتهاكها حرمة الإنسان، من مشاهد الأشلاء التي كانت قنابل معارك الحرب العالمية الثانية تتركها خلفها، وبخاصة إذا كانت مشاهد المستوعبات هذه تحصل في بلد ما فتئ يخوض حروبًا ويحاصر بلدانًا وشعوبًا ويدمر مجتمعات وثقافات تحت ذريعة الدفاع عن الإنسان وحريته. كما لم يقتصر الحظر في هذه الجائحة على مناطق محددة كمناطق القتال والاحتلال في تلك الحرب، بل بات كل إنسان عرضة للحظر في ظل الجائحة، حتى تجاه أفراد أسرته، إذا ما أصيب بفيروس كورونا. وامتدت مظاهر العزلة إلى كل المجتمعات، فأُقفلت المؤسسات، وحظرت التجمعات، وصار التواصل من بُعد سيّد الموقف، فتراجع الأداء على مختلف الصعد، التعليمية والإنتاجية والصحية والخدمية… والسياسية، فانكشفت النماذج السائدة عالميًا في الحكم والإدارة والإنتاج والسياسات الاجتماعية والأمن الصحي والتعاون الدولي والتكامل العولمي. وراحت تُطرح الأسئلة حول الدولة الوطنية والحوكمة والليبرالية والرأسمالية والعولمة والثقافة، وحول مستقبل العالم ما بعد جائحة كورونا.

كثيرةٌ الأزمات التي برزت في العالم في ظل كورونا، الاجتماعية منها والسياسية والاقتصادية والغذائية والصحية والتعليمية… لكن هذه الأزمات تباينت في حجمها وتأثيرها بين مجتمع وآخر وبين دولة وأخرى، كما تباينت ردود الفعل عليها من جانب حكومات ونخب سياسية وشعوب وقطاعات إنتاجية وأهلية وثقافية عكست اختلافًا لدى الأنظمة والنماذج السياسية والاقتصادية والمصالح والثقافات المختلفة في ردود فعلها وطرائق تعاملها مع أزمات كهذه ومع التهديدات الكبرى التي يتعرض لها العالم. وقد راوحت ردود الفعل هذه بين الخيارات الداروينية الاجتماعية لدول فضَّلت التضحية بحياة الناس (مناعة القطيع) لمصلحة الحفاظ على وتيرة النشاط الاقتصادي، وهو الخيار الذي اعتُمد مثلًا في بلد يعاني تطورًا سلبياً في النمو السكاني كبريطانيا؛ وبين الدور الصارم للدولة في الحفاظ على سلامة الناس والحد من الإصابة بالفيروس بكل السبل، بما فيها عزل المدن والإقفال والتلقيح الشامل، حتى على حساب النشاط الاقتصادي، وهو ما حصل مثلًا في بلد يبلغ عدد سكانه أكثر من سدس سكان العالم كالصين.

وبوجه عام كشفت الجائحة مأزق الحضارة الغربية في عصرها الرأسمالي النيوليبرالي، الذي اتخذت اتجاهاتها التحديثية فيه منحىً مخلًّا بالتوازن بهدف تحقيق المزيد من السيطرة؛ بدءًا من السيطرة على الفرد، بكل مكوناته العقلية والنفسية والسلوكية والجسدية والمجتمعية، تحت غطاء حرية الفرد، مرورًا بالسيطرة على المجتمع والدولة والنظام العالمي، وصولًا إلى السيطرة على الطبيعة ببعدها الكوكبي، أو ما وراء الكوكبي، لتعزيز عناصر القوة وللبحث عن طاقة أو ثروة إضافية خارج كوكب الأرض لمصلحة نخبة اقتصادية وسياسية تتحكّم في هذا النظام. وهذه النزعة إلى السيطرة، بزعم أن الرأسمالية، بنسختها الغربية الأنغلوسكسونية الأمريكية تحديدًا، هي السبيل الصحيح الوحيد للحرية والتنمية والتحديث والتقدم والرفاهية والحكم، قلنا هذه النزعة، قد أدخلت الحضارة الإنسانية في منحى تدميري موازٍ لمسار التقدم الذي حققته تلك الحضارة استنسابيًا في القرنين الأخيرين، وهو أسفر حتى الآن عن تدمير حضارات واستعباد شعوب، ونهب ثروات، واستعمار بلدان، وتدمير جزء من التنوع الحيوي والثقافي في النظام الطبيعي/ الحضاري على الأرض.

وبغض النظر عن دور النشاط الإنساني العلمي أو الأمني في انتشار جائحة كورونا وعن الفرضيات والاتهامات التي أُطلقت حول مصدر الفيروس وأسباب انتشاره والبلد المسؤول عن هذه الجائحة، فإن كورونا لا يمكن فصلها عن مسار يعتمده الإنسان في نشاطه العلمي والبحثي، أو في نشاطه الأمني، أو حتى في نشاطه الإنتاجي والسوقي، التي لم تكن محصَّنة في معظمها في وجه الاستخدام المخل بالنظام الطبيعي الذي يحمل تهديدًا محتملًا لحياة الإنسان والنظام الحيوي الحاضن له. وما يُحكي عن مخاطر المختبرات الجرثومية والبيولوجية ينطبق بصورة أو بأخرى على كثير من الأنشطة العلمية والتقانية والإنتاجية؛ فالبحث العلمي والتطوير التقاني، مهما كانت أهميتهما لتوفير حياة أفضل للبشرية وللارتقاء بحضاراتها، سيظلان مصدر تهديد لهذا الإنسان والنظام الطبيعي الكوكبي وربما الكوني المحيط، إذا ما ظلت نزعات التفوُّق والسيطرة والربح هي التي تحكم جزءًا مهمًّا من هذه الأنشطة، من دون أي ضوابط إدراكية وأخلاقية وتشريعية لاتجاهات استخدام البحث العلمي والتطوير التقاني وزيادة الإنتاج، أو بتجاهل متعمّد لهذه الضوابط وبتهرُّب منها. لكن تجربة العالم، في القرنين الأخيرين على الأقل، في الثورات الصناعية وعمليات التحديث الرأسمالي لأنماط الإنتاج ومختلف أنماط الحياة ومظاهر الاستهلاك، لا تقل خطورة عن تجربة كورونا في قضايا وتحديات عالمية أخرى، كالاحتباس الحراري وما أحدثه من تغيرات مناخية كوكبية كارثية بدأت تتخذ منحًى أكثر تسارعًا وحدَّة في السنوات الأخيرة، إلى الحد الذي يؤدي إلى موت ملايين البشر وعشرات ملايين الحيوانات البرية واحتراق أضعاف هذا العدد من الأشجار والنباتات وتدمير الغابات في السنوات الأخيرة.

كل ذلك يشي بأن قوى النظام الرأسمالي المتحكِّمة عالميًا، وذات الرؤى المصلحية القصيرة النظر، غير مستعدة للتنازل عن مصالحها لإنقاذ النظام الطبيعي الكوكبي من المخاطر الوجودية التي تهدده، بل على العكس، لا تزال نزعة السيطرة على الطبيعة التي حكمت توجهات الثورات الصناعية والفكر الحداثي الرأسمالي الغربي، تتعمّق وتتخذ مناحيَ أكثر غلوًّا وتطرُّفًا مع تقدم الإنسان الحداثي الرأسمالي في اكتشافاته العلمية والتقانية المحكومة بتوجهاته وخياراته المغالية بدورها في نزعته إلى التفوُّق والسيطرة وزيادة الإنتاج، وبخاصة على مستوى الذكاء الاصطناعي والعلوم الجينية، التي تتلاعب بالأنظمة التكوينية للمخلوقات، بمن فيها الإنسان نفسه، الذي بدأ يتلاعب ويعبث بالمكوِّنات الثلاثة الرئيسية التي تحدِّد صفته كإنسان: الإنسان بوصفه كائنًا حيًّا عاقلًا؛ والإنسان بوصفه كائنًا ثنائيًا؛ والإنسان بوصفه كائناً مخلوقًا. وهي صفاتٌ كينونية ثلاث يسعى الإنسان الحداثي لتغييرها فيه لأسباب غير مبررة علميًا ولا فكريًا ولا فلسفيًا ولا أخلاقيًا، إلا لتلك الأسباب والدوافع الآنية والذاتية والفردية المتعلقة بنزعات التفوُّق والسيطرة وزيادة الإنتاج والأرباح.

1 – فعلى مستوى الإنسان بوصفه كائنًا حيًّا عاقلًا يتميز عن بقية الكائنات الحية في النظام الطبيعي لكوكب الأرض، منحته ملكةُ العقل القدرةَ على التفكير والحفظ والتخيُّل والابتكار والإبداع واللغة، التي مثّلت العامل الأهم في نشوء الحضارة الإنسانية. لكن تلك الحضارة لم تكن لتنشأ لولا العامل الأخلاقي الذي ابتكره الإنسان ليتحّول إلى كائن اجتماعي ومن ثم إلى كائن حضاري. غير أن الإنسان في عصره الحداثي الرأسمالي النيوليبرالي، بلغت قدراته الابتكارية حدًّا جعلته يتنازل عن صفته كإنسان عاقل، فصنع التقانة التي حمّلها بعضَ صفاته، فجعلها تتفوّق عليه ببعض صفاته أيضًا، إلى الحد الذي بتنا اليوم أمام إنسان يشكك في قدراته العقلية، التفكيرية والإبداعية والابتكارية والحفظية… وبات يقر بتفوق الذكاء الاصطناعي عليه، وبتنا أمام جيل من النخب والخبراء والإداريين والباحثين والطلاب ورجال الأعمال وصناع القرار ممن يعتمدون، اليوم أو غدًا، في مهماتهم الإدارية والتخطيطية والتصميمية والدراسية والبحثية – والأدبية والفنية والثقافية – على أبسط أدوات الذكاء الاصطناعي المتمثلة بتطبيقات ال AI Chat.

فإذا كان الإنسان الحداثي الرأسمالي المحدود والمتفاوت في قدراته العقلية، قد حقق ما حقق من إنجازات حضارية، ودمّر ما دمّر من نظامه الطبيعي، ومارس ما مارس من دهاء سياسي وتضليل وتلاعب على القانون واستغلال وسيطرة وتفوق على الإنسان نفسه بفعل تغييب العامل الأخلاقي في علاقته بالإنسان وبالطبيعة، فهل أن الذكاء الاصطناعي الذي يعتمد عليه هذا الإنسان سيكون أكثر أخلاقية منه في خياراته السياسية والاقتصادية والاجتماعية والبيئية تجاه الإنسان نفسه وتجاه النظام الطبيعي؟ وماذا لو وُظِّف الذكاء الاصطناعي أكثر فأكثر في الحروب والصناعات العسكرية، والأبحاث الجينية، وفي الحملات الانتخابية، وسياسات التضليل والتسويق السياسي والتجاري، وفي الفساد، وفي الثورات اللونية… هل سيكون مستقبل العالم أفضل مما هو عليه اليوم؟ وفي النهاية، هل بدأ الإنسان يتخلى فعلًا عن صفاته كإنسان عاقل لمصلحة مخلوقه الاصطناعي؟

2 – وعلى مستوى الإنسان بوصفه كائنًا ثنائيًا، كغيره من كائنات النظام الطبيعي الحية، فقد بلغ عبث الإنسان الحداثي الغربي بهذا النظام الطبيعي وبقانون الثنائية القائمة فيه، أي ثنائية الذكر والأنثى، حد العمل على ضرب هذه الثنائية كقاعدة طبيعية في هذا النظام تقوم على جماليتها وتعاشقها عمليةُ تجدُّدِ الحياة واستمراريتها في هذا النظام، وإدخال عناصر أخرى شاذة عن هذه القاعدة ـ بسبب خلل تكويني فيها ـ ضمن هذا النظام وفرضه كقاعدة تكوينية فيه. هذا التوجّه الذي بات يطغى على الثقافة الغربية «الليبرالية» وعلى السياسات العامة في الغرب، يدعو بوضوح إلى العبث في قانون التجدُّد في النظام الحيوي، وهي دعوة لا تخلو من نزعة عدمية تنتهي بانقراض الإنسان. المواجهة المقبلة إذًا ستكون على هذا الصعيد هي بين ثقافتين: ثقافة عدمية تدعو إلى تدمير قانون التجدُّد في النظام الطبيعي وهي أقرب إلى ثقافة الموت؛ وثقافة كونية تدعو إلى وضع حد لعبث الإنسان في النظام الطبيعي والنظام الحيوي بما فيه قانون التجدد الحيوي، وإلى الحد من مغالاة الإنسان في إعطاء نفسه موقعًا محوريًا في هذا النظام، وهي ثقافة أقرب إلى ثقافة الحياة التي تحترم النظام الطبيعي وتحافظ على التجدد الحيوي فيه وفق التعاشقية التكاملية لثنائية هذا النظام، وهو ما يمنح الإنسان وبقية الكائنات الحية حياة أفضل فيه.

3 – وعلى مستوى الإنسان بوصفه كائناً مخلوقًا فقد بلغ غلو الإنسان الحداثي الرأسمالي النيوليبرالي أيضًا ـ سواء بنسخته الأصلية، الغربية، أو بنسخته التقليدية، العالمثالثية ـ في السيطرة على الطبيعة والعبث بقوانينها حدَّ انقلاب هذا الإنسان على طبيعته، من كونه كائنٍا مخلوقًا جزءًا من كائن مخلوق (بذاته أو بغيره) كوني، إلى كونه كائنًا خالقًا جزءًا من الكل المخلوق بقوة الخالق الكوني. وهنا يقف الكون أمام صراع بين خالقين: خالق كوني يتحكَّم في نظامه الكلي وفق قانون عام، هو قانون الطبيعة، وخالق جزئي يتحكّم في أجزاء من نظامه الجزئي لكنه يتطلع إلى توسيع تحكّمه في هذا النظام الجزئي وفق فعل تجريبي منحاز لجزء من ذاته الجزئية، وهو كثيرًا ما يعبث بالقانون العام لنظامه الجزئي الذي هو جزء منه، وهو ما يضع هذا الكائن الجزئي، الإنسان، الذي ينظر إلى نفسه بوصفه محور الكون، في حالة صدام مع الخالق الكوني ونظامه الكلي وقانونه العام، قانون الطبيعة. وهو صدام لن يكون الإنسان، الذي اختار أن يتقمص صفة الكائن الخالق، منتصرًا فيه. وهذا ما تشي به على نحوٍ متزايد التحوُّلات الكوارثية التي يشهدها النظام الطبيعي الجزئي، الخاص بكوكب الأرض، كرد فعل على عبث الإنسان المتزايد بهذا النظام.

لذا تبدو الحضارة الإنسانية في مأزق وجودي حقيقي وضعها الإنسانُ نفسُه فيه، ولا بد للخروج من هذا المأزق من إعادة التوازن إلى علاقة الإنسان بالنظام الطبيعي الجزئي، من خلال إعادة تعريف العلاقة بين الإنسان وهذا النظام لا بوصف الإنسان مالكًا هذا النظام بل بوصفه عنصرًا واعيًا فاعلًا فيه تقع عليه مسؤولية الحفاظ عليه في حدود قدرته على التأثير فيه. وهذا التوازن في العلاقة يمكن ضبطه بوصول القوى الحية في مختلف شعوب العالم إلى قناعة بضرورة وضع عقد فوق اجتماعي يتجاوز حدود العقد الاجتماعي الثنائي الذي يحكم ويضبط العلاقة السيادية بين الإنسان والإنسان من جهة وبين الإنسان والدولة من جهة أخرى على قاعدة المصلحة العامة والحقوق والواجبات، إلى عقد عالمي ثلاثي الأركان يكون النظام الطبيعي طرفًا رئيسيًا ثالثًا فيه، وفق علاقة سيادية بين الإنسان والنظام الطبيعي و«دولة عالمية» تمثّل نسخة أكثر عدالة وسيادية من منظمة الأمم المتحدة المحكومة بإرادة القوى الكبرى المتحكمة في النظام العالمي. هذا كلام يبقى طبعًا في حدود التصور النظري ما لم تتجاوز الحضارة الإنسانية هيمنة النموذج الحداثي الرأسمالي النيوليبرالي المنفلت من أي ضوابط أخلاقية أو حتى تشريعية أحيانًا في إدارة شؤون العالم الذي ينحو أكثر فأكثر باتجاه غلبة النزعة الانتهازية على القوانين والتشريعات والشرائع والقيم الإنسانية.

كتب ذات صلة:

كورونا في عالم قلق: آثاره الاقتصادية والسياسية والاجتماعية ودروسه الفلسفية