من بديهيات الأمور ومنطق الأشياء أن «الاستقلال» بمفهومه الاصطلاحي العام يعتبر من الشروط الأساسية التي تساعد الأمم على تحقيق نهضتها وتطورها وتقدمها لأنه هو الذي يحمي الأمة ويحافظ على مقوماتها وشخصيتها القومية والحضارية. وبالتالي يساعدها على تحقيق نهضتها المنشودة في جميع المستويات ومختلف القطاعات.

وقد أجمع جمهور المؤرخين على أن أي شعب من الشعوب لا يمكنه أن ينهض ويتقدم بالفعل نحو الأحسن والأفضل إذا كان استقلاله القومي مسلوباً (حالة الاحتلال الأجنبي) أو ناقصاً (حالة التبعية).

وهذه حقيقة تاريخية مؤكده فمعظم الأمم التي نهضت وتقدمت خلال القرنين الماضيين في أوروبا وأمريكا وآسيا، ولم تبلغ شوطاً معتبراً في التقدم والتطور إلا وكان لعنصر الاستقلال القومي دور في هذه النهضة وهذا التقدم.

لكن هذا الاستقلال القومي لا يكون له أي معنى إذا كانت الأمة أصلاً غائبة عن الفعل السياسي، أي غير مجسدة في الكيان السياسي الذي هو الدولة القومية.

وبما أن الموضوع يتعلق بالأمة العربية، يمكن القول إن هذه الأمة موجودة حقيقة، لكنها غير مجسدة على أرض الواقع السياسي؟

كيف ذلك؟

إن الأمة العربية موجودة تاريخاً وثقافة ولغة ومقومات…، لكن هذا الوجود غير محقق وغير مجسد في الواقع السياسي، والقانون الدولي والعلاقات الدولية لأنها ببساطة لا تملك كياناً سياسيا تعبر من خلاله عن وجودها القومي بين الأمم والدول القائمة في عالم اليوم.

وبمعنى آخر، الأمة العربية اليوم تعيش بدون دولة.

لذا فإن الحديث عن الاستقلال القومي للأمة العربية لا معنى له إطلاقاً في غياب دولة هذه الأمة.

إن الوحدة القومية (الوحدة السياسية للأمة) هي التي حققت لكل أمة استقلالها القومي الحقيقي، والاستقلال القومي أدى بالنتيجة إلى تحقيق أمنها القومي الشامل الذي ساعد الأمة على إنجاز نهضتها المطلوبة والمنشودة كما ذكرنا.

وهذه الشروط الثلاثة: الوحدة والاستقلال والأمن، هي بحق شروط لا غنى عنها لأيِّ أمة تنشد النهضة والتقدم والتحرر. لكن هذه الشروط الثلاثة غير متوافرة للأمة العربية اليوم.

إن الوحدة القومية للأمة العربية غير منجزة وغير محققة، والاستقلال القومي لا وجود له (في ظل غياب الوحدة القومية للأمة).

أما الأمن القومي فهو مستباح إلى أبعد الحدود، وهو نتيجة منطقية لانعدام الوحدة السياسية وغياب الاستقلال، والمنطق يقول بأنه لا أمن قومياً  من دون استقلال حقيقي، ولا استقلال حقيقياً  من دون وحدة قومية (أي  من دون دولة تحمي هذا الاستقلال وتصونه).

إذاً، إن فشل الأمة العربية في تحقيق وحدتها القومية (وحدتها السياسية) جعل استقلالها القومي – ومعه أمنها القومي – مرتهناً بأيدي القوى الاستعمارية الكبرى التي احتلت أرضها واستباحتها. ومنذ أكثر من قرنين (البداية كانت سنة 1830 والنهاية كانت سنة 1920)، لا تزال إلى يومنا هذا تتحكم فيها بشكل أو بآخر رغم ما يبدو في الظاهر بأنها تتمتع بالاستقلال والسيادة.

لكن أيُّ استقلال. وأيُّ سيادة؟

أولاً: الاستقلال الوطني

ما دام الاستقلال القومي (استقلال الأمة) غير قائم وغير محقق فما مصير الاستقلال الوطني (استقلال الأقطار)؟

جواباً، إن ما ينطبق على «الكل» ينطبق بالضرورة على «الجزء». لأن العلاقة بين الكل والجزء علاقة تكاملية متفاعلة، ويصعب الفصل بينها.

لكن ماذا نقصد بالجزء؟

إن المقصود به هو «القطر» أو ما يصطلح عليه في أدبيات الخطاب القومي العربي بـ (الدولة القطرية)، وفي أدبيات الخطاب الإقليمي بـ (الدولة الوطنية)، وهما في المعنى العام اسمان لشيء واحد.

ومن مفارقات التاريخ العربي المعاصر أن «الاستقلال السياسي» الذي حصلت عليه الكيانات العربية في مراحل تاريخية متباعدة (من 1922 إلى 1971) حمل في أحشائه عقبات في طريق تدعيم هذا الاستقلال نفسه.

وقد أكدت مسيرة العقود السابقة هذا الأمر حيث بينت بوضوح فشل الدولة الوطنية القطرية «المستقلة» وإخفاقها التام ليس في تدعيم استقلالها «الوطني» فحسب، بل فشلها الذريع في المحافظة على هذا الاستقلال نفسه، وبالتالي فشلها أيضاً في تحقيق أمنها الذي هو عنصر أساسي ورئيسي في استقلالها الوطني.

إن قراءة موضوعية لمقولة «الاستقلال الوطني» ستوضح للعام والخاص دون عناء يذكر أن هذا «الاستقلال الوطني» (وجمعه استقلالات وطنية) كان استقلالاً ناقصاً. وهذا ما جعله يعجز عن مجابهة تحديات مرحلة ما بعد الاستقلال، ولاحقاً فشله وإخفاقه في حماية هذا الاستقلال نفسه كما ذكرنا آنفاً.

ومما يؤكد هذا العجز بوضوح هو ما نلاحظه اليوم من كون معظم الدول الوطنية القطرية القائمة في الوطن العربي ونتيجة ذلك الاستقلال الناقص، دولاً تابعة – بشكل أو بآخر – إلى دولة أجنبية أو أكثر، تدور في فلكها وتتلقى منها العون والمساعدة، وبالنتيجة تتلقى منها التوجيه السياسي.

ومن الغريب أن هذه الدول لم تتمكن حتى من استثمار واستغلال هذه «المساعدات» في بناء نفسها داخلياً، وفي تحصين نفسها خارجياً. وهذا مما جعلها تكون تابعة بشكل فاضح إلى الخارج، وأصبحت هذه التبعية هي السمة الأساسية التي تتصف بها اليوم الدولة الوطنية القطرية من المحيط إلى الخليج.

ثانياً: بمَ يتجلى الاستقلال الناقص؟

دون عناء، إن الاستقلال الوطني الناقص يتجلى بشكل واضح في مظاهر «التبعية» التي تتجسد في اعتماد الدولة الوطنية القطرية العربية بشكل كامل تقريباً وبصفة شبه دائمة على قوة أجنبية خارجية لتسيير شؤونها وأمورها، كـ «القروض» و«الهبات» المالية و«المساعدات» الغذائية… وغيرها، والتي بدونها تصبح هذه الدولة العربية أو تلك إما مهددة بالإفلاس والجوع والفقر أو بالانقسام والتفتت والتشظي…الخ، ناهيك بضياع سيادتها وفقدان قرارها الوطني المستقل.

حقاً لقد سلب الاعتماد الكلي – أو شبه الكلي – على الخارج الدولة الوطنية القطرية أهم مقومات وجودها السياسي المتمثل باستقلالية قرارها الوطني، وحد من حريتها في الحركة والمناورة، وأدى بها في نهاية المطاف إلى «عجز بنيوي بات يهدد مصير الجماهير العربية، بمآس كبرى كالجوع والتصحر والأمية والبطالة والهجرة وغيرها. بالإضافة إلى عجزها عن تحرير فلسطين وباقي الأراضي العربية المغتصبة ومخاطر ضياع أراضٍ عربية جديدة…».

ونتيجة لما سبق، وفي المحصلة، يمكن القول إن الاستقلال الوطني القطري بعد أكثر من تسعة عقود من بدايته على الأرض العربية قد فشل فشلاً ذريعاً في إنجاز مهماته الكبرى، وأخفق في كل المجالات، وخاصة في مجالي «التنمية» و«الأمن» وهل هناك ما هو أهم من التنمية والأمن في عالم اليوم؟

وهذا ما جعل المواطن العربي اليوم يتساءل ببراءة عن الفرق بين «الاحتلال الأجنبي» و«الاستقلال الوطني».!!

لكن ما السبيل إلى تصحيح هذا الخلل؟

في المرحلة التاريخية التي تمر بها الأمة العربية وأقطارها على حد سواء (قومياً وقطرياً) وهي مرحلة صعبة وخطيرة من  دون شك؟

وفي ظل غياب أيِّ استراتيجية عربية مشتركة لمواجهة التحديات والأخطار التي تواجهها الأمة العربية اليوم (وما هو قادم أسوأ مما قائم)؟

وفي غياب أيِّ استراتيجيا قومية لتحقيق الوحدة القومية للأمة في المدى المنظور حيث العكس هو الصحيح؛ وفي انكفاء الكفاح المشروع القومي العربي وتراجعه لصالح القوى المعادية والمشاريع البديلة (بعضها قائم وبعضها قادم).

نقول: لا مناص ولا مفر للقوميين والوحدويين العرب في مشرق الوطن ومغربه إلا أن يقوموا اليوم – وليس غداً – بالإبقاء على الحد الأدنى المطلوب من نضالهم القومي، أو مما بقي متاحاً لهم على الأقل في هذه المرحلة المفصلية من التاريخ.

ولعل الدعوة إلى إحياء مبدأ العمل العربي المشترك – وفي القلب منه التكامل الاقتصادي العربي – وإعادة الاعتبار له وأخذه مأخذ الجد، ووضعه في برامجهم المستقبلية، يمثل في نظرنا هذا الحد الأدنى المطلوب والمتاح لأي عمل قومي جاد وصادق (فردياً كان أو جماعياً).

إن إعادة الاعتبار للعمل العربي المشترك والتكامل الإقليمي العربي هما السبيل المضمون والمتاح في هذه المرحلة لحماية الاستقلال الوطني والقومي، وتحقيق التنمية الاقتصادية المستقلة، والعدالة الاجتماعية والتجديد الحضاري والثقافي للأمة العربية.

وبهذا يمكن إنقاذ المشروع القومي العربي النهضوي من خطر الزوال والاندثار وإعادته إلى ساحة الفعل السياسي لمواصلة مسيرته التاريخية المستقبلية.

وإذا لم نفعل ونسرع فإن الكارثة قادمة لا محالة وسيصبح المشروع القومي العربي في خبر كان، وما يجري الآن في الظاهر ما هو إلا غيض من فيض. لكن ما خفي أعظم. الخطر قائم والكارثة قادمة فلننتبه.

 

قد يهمكم أيضاً  لماذا التحامل المستمر على «القوميين العرب»!!

#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #القوميين_العرب #الدولة_الوطنية #الدولة_القومية #الأمة_العربية #القومية_العربية #وجهة_نظر