مقدّمة:
الحديثُ عن قائد مفكر وقائد منفذ جمع بين صفتين وقرَنَ الفكر بالتطبيق ذو شجون في إطار استحضار أهداف الأمّة المتمثّلة بمشروعها الحضاري، وهي: الوحدة العربيّة، والديمقراطيّة وحقوق الإنسان، والتنمية المستقلّة، والعدالة الاجتماعيّة، والاستقلال الوطني والقومي، والتجدّد الحضاري. يتعلّق جوهرُ حديثي بعبد الناصر وبفلسطين ذلك الوطن الكبير الفسيح الجامع الذي يعتلق بوجداننا، ونحن نستذكر تضحيات الشّهداء والأسرى اعتلاق استحصاد واستحكام، ويتبوأ ذلك الجزء العزيز والغالي من الوطن العربي الكبير في قرارة نفوسنا أكرم متبوأ وأعزّ مقام.
تحقق فهمُ التاريخ الوسيط والحاضر المعاصر بصفةٍ عامّة لعبد الناصر الشاب الطلعة في مقتبل عمره في المدارس الثانوية ثم بالكلية الحربية، مِن خلال حقائق الجغرافيا. فالوطن العربي يتمثّل في رقعة أرض مباركة تتوسّط قارات العالم القديم الثلاث؛ آسيا وأفريقيا وأوروبا. وتشمل هذه الرّقعة مجموعتين إقليميتين في غرب قارة آسيا، هما الجزيرة العربية وبلاد الشام. وفي قارة أفريقيا مجموعتان إقليميتان هما وادي النيل والمغرب العربي الكبير. ويتحقّق التّنوّع في الوطن العربي على مساحة أرض شاسعة، حتى بعد تقسيم السودان وانفصال جنوبه، مقدارها 14 مليون كم2 تُمثّل أكثر مِن 10.4 بالمئة مِن اليابسة على الكرة الأرضية. وبشهادة شيخ الجغرافيين العرب المرحوم جمال حمدان فإن عبد الناصر هو الرئيس الوحيد منذ الثورة في 23 تموز/يوليو 1952 الذي أدرك مكانة مصر في محيطها العربي ونجح في تعزيز قيامها بدورها الذي وصفه بمكانة القلب في الجسم. ومن تبعه وتبع تابعه لم يدركا هذه المكانة.
تبلور مبكراً في فكر جمال عبد الناصر حقيقة أن في الوطن العربي أقدم مركزين حضاريين عرفهما الإنسان، هما الحضارة البابلية السومرية في بلاد الرافدين شرقاً، والحضارة الفرعونية المصريّة في وادي النيل. ويُمكن أن يُقسّم تاريخ الوطن العربي في مُجمله إلى قسمين رئيسيين تفصل بينهما الانطلاقة العربيّة الكبرى بالإسلام في القرن الأوّل الهجري الموافق السابع الميلادي.
أولاً: الهجمة الاستعماريّة الغربيّة في التاريخ الحديث
أشار جمال عبد الناصر في كتابه فلسفة الثورة إلى أنه درس بالكلية الحربية هزيمة غزوة الفرنجة في العصور الوسطى وتحرير بيت المقدس في أيلول/سبتمبر عام 1187، وهزيمة غزوة المغول في عين جالوت في أيلول/سبتمبر عام 1260، ودور مصر في تقديم اللجوء والأمن للمشرق العربي ثم طلائع التحرير والنصر في الموقعتين.
ولقد تتابعت الموجات للغزوة الغربيّة الصهيونيّة في العصر الحديث منذ حملة نابليون بونابرت على مصر في قلب الوطن العربي عام 1798 ثم ارتكابه مجزرة يافا عام 1799، وهي جريمة حرب ضد الأسرى، ودعوته إلى إنشاء قاعدة استعمارية ليهود أوروبا في فلسطين، موجّهاً نداء لليهود زاعماً أنهم ورثة أرض فلسطين. وقد تمّ نشر ذلك الإعلان في الجريدة الرسميّة الفرنسية بتاريخ 20 نيسان/أبريل 1799. ولقد أشار عبد الناصر في كتابه فلسفة الثورة إلى دور الوطنية المصرية عقب تلك الحملة ممثلة بعمر مكرم الذي اختار مع أخوة له محمد علي الكبير والياً عام 1805.
لقد بدأت الموجة الأولى للاستعمار الغربي المتحالف مع الصهيونيّة عام 1830 بغزو فرنسا للجزائر، ثم قامت بريطانيا بقصف عدن عام 1838 واحتلالها في العام الذي تلاه، والامتداد إلى سواحل الخليج العربي الشرقيّة. وقد وصلت حملات صهيونيّة استكشافيّة إلى فلسطين في هذه الموجة الأولى عام 1852. ولقد تأثر جمال عبد الناصر ببطولة الأمير عبد القادر الجزائري وتمثل نضال الشعب العربي في اليمن وفلسطين والجزائر ضد موجة الاستعمار الأولى في العصر الحديث. ومن أبرز مفكري اليقظة العربية الذين أثْروا فكره في مقتبل عمره وأثناء الشباب في هذه المرحلة جمال الدين الأفغاني وتلميذه الشيخ محمد عبده اللذان أسهما في بلورة فكرة اقتران الأصالة بالمعاصرة والاستنارة بالعلم. ثم جاء بعدهما تلميذهما عبد الرحمن الكواكبي الذي ناهض الاستبداد بجميع أوجهه وصوره ومآلاته في كتابه الأم طبائع الاستبداد.
بدأت الموجة الثانية عام 1881، وكانت بالغة القسوة، حين غزت فرنسا تونس، وتبعتها بريطانيا باحتلال مصر عام 1882، ثم احتلال السودان سنة 1896. وخلال الموجة الثانية، تمكّن الصهاينة مِن بناء أول مستوطنة استعماريّة عنصريّة على أرض فلسطين عام 1882 (باسم بتاح تكفا). وقد ذكر عبد الناصر في كتابه فلسفة الثورة البطل أحمد عرابي وثورته التي لم تكتمل بالقضاء على الاستعمار، بل انتهت به منفياً في قرية بنتوته (ابن بطوطة) في سريلانكا. ويقيناً تأثر ببطولات ثورة محمد أحمد المهدي جنوب الوادي وانتصاره على غوردن باشا حاكم السودان ممثل الاحتلال الإنكليزي ثم قتله، وكذلك بنضال الشعب العربي في تونس.
بدأت الموجة الثالثة عام 1911 حين احتلت إيطاليا ليبيا، واحتلت فرنسا المغرب عام 1912. وفي هذه الموجة، الأعتى بطشاً من سابقتيها، سيطرت بريطانيا وفرنسا على بلاد الشام والعراق عقب الحرب العالمية الأولى. ثم قسّمت بريطانيا وفرنسا الوطن العربي بموجب اتفاقية سايكس – بيكو عام 1916. وبعدها جاء وعد بلفور عام 1917 مِن أجل اصطناع قوميّة لليهود، وإقامة دولة لهم في أرض فلسطين العربيّة يتجمعون فيها على أساسٍ استعماري استيطاني إحلالي عنصري. واضحٌ تأثر عبد الناصر بسيَر أبطال النضال في هذه المرحلة التاريخية المهمة؛ فمن وزير الدفاع الشهيد يوسف العظمة بطل ميسلون عام 1920؛ إلى البطل عز الدين القسام باعث الثورة العربية الكبرى عام 1936 – 1939 باستشهاده، الذي جاهد الاحتلال الفرنسي في وطنه سورية ثم جاهد الاحتلال البريطاني الصهيوني المزدوج في فلسطين، ثم كافح مع البطل عمر المختار الاحتلال الإيطالي في ليبيا مدة عامين، ثم العودة إلى فلسطين ومناصرة ثورة الريف بالمغرب بالمال والعتاد والكفاح حتى الاستشهاد في يعبد قرب جنين؛ إلى البطل عمر المختار الذي جاهد عشرين عاماً في ليبيا قبل استشهاده، إلى ثورة الأمير البطل عبد الكريم الخطابي قائد الريف شمال المغرب الذي انتصر في عدة معارك على الاحتلال الإسباني ثم كان أسره وبعدها إقامته بمصر في عهد عبد الناصر. إن المقاومين الأبطال يمثلون سلسلة مترابطة في وطن عربي متصل بحقائق اللغة والتاريخ والعقيدة، وسِيَرهم متصلة بحروف من لؤلؤ حر ومن نور. ومن متابعتي لتجربة تحرر جنوب أفريقيا من الأبارتايد أسرّ لي وللحضور رفاق نلسون مانديلا، وبخاصة جي نايرا وروني كاسليرز الوزيران في رئاسته الأولى عام 1994، وكذلك تلاميذ أحمد كاثرادا رحمه الله، أن صورة جمال عبد الناصر بعد الانتصار على العدوان الثلاثي أضحت معلقة في قاعات اجتماعاتهم وبيوتهم وبعدها في معسكرات اعتقالهم. فقد قضى على الإمبريالية البريطانية ولتتحول بعدها بريطانيا إلى تابع للولايات المتحدة الأمريكية.
لقد ظهرت علاقة ومشاعر عبد الناصر تجاه فلسطين وهو فتى في الثانوية، كما جاء في كتابه فلسفة الثورة: «وأنا أذكر شيئاً يتعلق بنفسي أن طلائع الوعي العربي بدأت تتسلل إلى تفكيري وأنا طالب في المدرسة الثانوية أخرج مع زملائي في إضراب عام في الثاني من نوفمبر كل سنة احتجاجاً على وعد بلفور الذي منحته بريطانيا لليهود، ومنحتهم به وطناً قومياً في فلسطين اغتصبته ظلماً من أصحابه الشرعيين، وحين كنت أسائل نفسي في ذلك الوقت: لماذا أخرج في حماسة ولماذا أغضب لهذه الأرض التي لم أرها؟ لم أكن أجد في نفسي سوى أصداء العاطفة». وقد تفجر هذا الشعور خلال حرب فلسطين عام 1948 حيث قال في فلسفة الثورة: «ثم بدأ نوع من الفهم يخالج تفكيري حول هذا الموضوع لما أصبحت طالباً في الكلية الحربية أدرس تاريخ حملات فلسطين خاصة: وأدرس بصفة عامة تاريخ المنطقة وظروفها التي جعلت منها في القرن الأخير فريسة سهلة تتخطفها أنياب مجموعة من الوحوش الجائعة»… «ولما بدأت أزمة فلسطين كنت مقتنعاً في أعماقي بأن القتال في فلسطين ليس قتالاً في أرض غريبة، وليس انسياقاً وراء عاطفة، وإنما هو واجب يحتمه الدفاع عن النفس». أثناء حصاره في الفالوجة تبلورت عنده والضباط الأحرار حتمية الثورة ومبادئها الستّة وأولها القضاء على الاستعمار. كما يذكر بالكتاب اتصاله بالحاج أمين الحسيني بالزيتون بالقاهرة عام 1947 وبعدها. وبرز حرصه على التأكيد دائماً «أن الشعب هو المعلم وهو القائد وهو الرائد».
بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وبعد ثورة 23 يوليو 1952، استقلّت العديد مِن الدول العربيّة، غير أن استقلالها في الغالب كان منقوصاً تشوبه تبعيّة الأنظمة الحاكمة للمراكز الاستعماريّة سياسياً واقتصادياً وثقافياً، بل أضحت التبعيّة والهيمنة ذات أبعاد واضحة من خلال محاولة جر الدول العربية حديثة الاستقلال إلى سياسة المحاور. وقد التقى عبد الناصر بنوري السعيد عام 1955، واستطاع أن يخرج مصر ثم العراق من براثن حلف بغداد سيئ الذكر. وبعدها تحقق جلاء القوات البريطانية بفعل المقاومة والمقاطعة ثم الموقف الصلب في المفاوضات للقضاء على الاستعمار.
لقد بات واضحاً لعبد الناصر المفكر والقائد، في ضوء تجربة الانقسام واصطناع الحدود بعد سايكس – بيكو: «إن دولة الوحدة في أضعف حالاتها خير مِن دولة التجزئة في أحسن حالاتها». فدولة الوحدة منيعة تُقاوم مظاهر الضعف والأفول المتسارع الذي تعانيه دولة التجزئة، مهما بلغت درجات الغنى والإحساس بالاستغناء الزائف من قبل الرجعية وقوى الفساد عن التضامن العربي والوطنية الضيقة والإقليمية.
كيف تطوّر المشروع الحضاري والانبعاث واليقظة واستقلال الدولة الوطنيّة في المشرق العربي وإقليم وادي النيل وإقليم المغرب العربي الكبير قبل وفاة القائد جمال عبد الناصر وبعدها؟ الجواب يقيناً بعد وفاته بالسلب، وهو ما يُشير إلى أن الانتكاسة على صعد أهداف الأمة الستة وهي: الوحدة العربيّة، والديمقراطيّة وحقوق الإنسان، والتنمية المستقلّة، والعدالة الاجتماعيّة، والاستقلال الوطني والقومي، والتجدّد الحضاري. وتنطبق الانتكاسة على الأقاليم العربيّة الأربعة جميعها، وعلى أقطارها كلها بدرجاتٍ متفاوتة. التفسير عندي، وليس التبرير، هو أن الوطن العربي والإسلام كعقيدة يواجهان الموجة الرابعة مِن موجات الاستعمار الغربي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكيّة والحركة الصهيونية العالميّة والتي بدأت بدخول المجرم شارون باحة المسجد الأقصى مع بضع مئات من جنود العدو الصهيوني في 28 أيلول/سبتمبر 2000. لتتفجر بعدها الانتفاضة الثانية المباركة.
ولكن يجدر الحديث عن مؤشر المشروع الحضاري العربي بمفهومه الواسع والشامل قبل الولوج بتفصيل مخاطر واستراتيجة مقاومة موجة الاستعمار الرابعة التي نشهد فصولها تباعاً، وذلك لقياس ما تحقق من إنجازات وانتكاسات إبان ثمانية عشر عاماً قاد خلالها عبد الناصر مصر العربية.
ثانياً: مؤشر المشروع الحضاري المقترح للأمة ومنحناه البياني
يمكننا في ضوء ما تقدّم اقتراح مقياس لدرجة التبعيّة والهيمنة لإصدار الحُكم في شأن درجة تحقّق المشروع الحضاري مِن عدمه، ودور مؤسسة الحُكم، وذلك باعتماد المعايير السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة والثقافيّة. لذا أجتهد باقتراح المؤشرات التالية لقياس درجة التنمية والتطور والاستقلال الوطني والقومي خلال قرنين من الزمان:
1 – المعايير السياسيّة
– التحرير وضده الاحتلال؛
– الديمقراطية وضدها الاستبداد؛
– حقوق الإنسان ويقابلها السجن السياسي والتعذيب وانتهاك الكرامة؛
– توازن القوى واستقلال السلطات القضائية والتشريعية بمواجهة تغوّل السلطة التنفيذيّة.
2 – المعايير الاقتصادية
– نسبة التجارة الخارجيّة إلى الناتج الإجمالي المحلّي، فكلّما زادت هذه النسبة زادت التبعيّة والهيمنة الاستعمارية. دول عربيّة عديدة وبخاصة المُصدِّرة للنفط، تزيد هذه النسبة فيها على ثمانين بالمئة لأنّها تُصدّر سلعة ناضبة، وتستورد كل شيء آخر. الطبيعي ألّا تزيد هذه النسبة على أربعين بالمئة؛
– نسبة الدين الخارجي للناتج الإجمالي المحلّي، كلّما زادت هذه النسبة زادت التبعيّة والهيمنة الاستعمارية؛
– انعدام عدالة توزيع الدخل، فعندما تكون مؤسسة الحُكم وكيـلاً للاستعمار تستعين بوكلاء مُحتكرين للثروة فتضحي «دولة بين الأغنياء منهم»، أي يكون قلّة مِن المُحتكرين قابضين على جلِّ ثروة المجتمع؛
– نسبة البطالة بنوعيها الصريحة والمُقنّعة، وما ينتج عنها مِن فقرٍ مدقع؛
– ضعف البنية التحتيّة والخدمات الصحيّة والتعليم والتقانة. والتقنية أو التقانة هي تطبيق النظريات العلميّة في الإنتاج والصناعة والخدمات.
3 – المعيار الاجتماعي
– «الثقة المجتمعيّة» المؤشر الرئيس لقياس الاستقلال الوطني والقومي على الصعيد الاجتماعي. فالمجتمعات ذات درجة «الثقة العالية» تحظى يقيناً بالاستقلال الوطني بمرتبة أعلى مِن المجتمعات ذات «الثقة المُتدنّية». ويمكن قياس درجة ارتفاع أو انخفاض الثقة بالتعرّف إلى نظم الدفع والسداد بالمجتمع, فأسلوب الدفع الآجل والدفع بالتقسيط تجدر مقارنتهما بالدفع والسداد العاجل الحال. وعادة ما تكون الثقة المجتمعيّة مُتدنّية عندما يكون سداد ثمن البضائع والخدمات والعقارات نقداً عاجـلاً حالاً، إذ ينتج من ذلك انخفاض مضاعف دورة رأس المال، وبالتالي انخفاض نسب النمو في الناتج الإجمالي بالمُطلق. فقضية الثقة مرتبطة بإلزامية الوعود والعهود والمواثيق وكفاءة القضاء في ما يتعلق بالمعاملات التجاريّة والماليّة. وكلّما كانت الوعود مُلزمة كانت الثقة بين الفاعلين الاقتصاديين أعلى وكانت نسب النمو أكبر.
4 – المعايير الثقافيّة
– مكانة اللغة العربيّة الفصحى وتطوّرها في المجتمع العربي؛
– حركة التأليف والنشر والإبداع والترجمة في مجالات العلوم والآداب كافة؛
– تصاعد حركة مقاومة التطبيع وحصار العدو الصهيوني أكاديمياً في الجامعات العربيّة والعالم وتجارياً وعلى كل الصعد وجميع المجالات.
لقد ارتفع المنحنى البياني للنهضة والتنمية العربية والمشروع الحضاري مع ثورة 23 يوليو 1952 ولحِقه ارتفاع آخر مع إقرار الإصلاح الزراعي والقضاء على الإقطاع في السنة نفسها. وبذا يكون قد تحقق المبدأ الثاني من مبادئ الثورة الستة، بعدها حصل ارتفاع ملحوظ بتفجر ودعم الثورة الجزائرية المباركة عام 1954، ثم مع كسر احتكار السلاح عام 1955، ثم ثورة العراق 1958 والوحدة مع سورية في السنة نفسها، لينخفض بعدها المنحنى البياني للمؤشر مع الانفصال عام 1961، وأزمة اليمن بعدها بسنة، ثم ليرتفع مع انتصار الثورة الجزائرية ومع تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية عام 1964 بتوجيه من عبد الناصر لأحمد الشقيري، ثم ليهبط المؤشر هبوطاً حاداً بسبب النكسة عام 1967، ويرتفع قليـلاً خلال سنوات حرب الاستنزاف الثلاث بين 1967 و1970. ثم ليهبط مجدداً نتيجة أحداث أيلول الأسود ووفاة القائد.
يمكننا القول، بل، ولي أن أجزم بأن انتكاسة حادّة في المنحنى البياني طرأت نتيجة الفراغ وأزمة القيادة في وطننا العربي بعد عام 1970 وحتى يومنا هذا.
ثالثاً: أهداف المُخطّطات الأمريكيّة الصّهيونيّة تجاه البلدان العربيّة منذ عهد عبد الناصر
أولاً: تقسيم المُقسّم وتجزئة المُجزّأ بأدواتٍ جديدة مثل حلّ الجيوش الوطنيّة العربيّة كما في حالتي العراق وليبيا، إضافة إلى حالةٍ مِن الحروب الداخليّة ضد تنظيمات الغلو والتوحّش، والفوضى «اللا - خلّاقة»، و«اللا - دولة» في حالتي اليمن والصومال، وهو ما يؤدي إلى الاقتتال طائفياً وقبلياً ومناطقياً، وانهيار الدولة القُطرية المأزومة أصـلاً لأنّها ناتجة من اتفاقيّة «سايكس بيكو». وقد حصل تقسيم السودان بانفصال الجنوب بعد حربٍ أهليّة امتدّت عقوداً خمسة وما زالت نارها تستعر.
ثانياً: إضعاف عدّة بلدان عربيّة بصراعاتٍ ومعارك كونيّة بالوكالة، كما في حالة كلٍّ مِن سورية وليبيا واليمن، حيث الصراع المسلّح شديد الحدّة والوطأة، وحالتي مصر ثم الجزائر وغيرهما حيث يستمرّ استنزاف مؤسسات الدولة والجيش في كلٍّ منهما في صراعٍ أقل وطأة، لكنه يبقى جرحاً نازفاً في جسد الوطن العربي الواحد.
ثالثاً: تأجيج الصراع بين مكوّنات المجتمع العربي مِن الخليج إلى المحيط ليضحي طائفياً ومذهبياً وقبلياً ومناطقياً (سُنّة ضد شيعة)، و(تكفيريون ظلاميون غلاة ضد مسلمين مستنيرين ووسطيين) و(مسلمون ضد أقباط وضد مسيحيين). بما يؤدي إلى تناسي القضية المركزيّة والمحوريّة الجامعة للعرب والمسلمين وقوى الخير في عالمنا، وهي قضية تحرير فلسطين والقدس.
رابعاً: استمرار الأزمات السياسيّة، وانعدام الحرّيّات العامّة والمجاهرة بالتعدّي على حقوق الإنسان، والمعاناة الاقتصاديّة والاجتماعيّة لأغلبية السّكّان في البلان العربيّة وبخاصّةً في الأقطار التي تمثّل ثقـلاً إقليمياً كمصر والعراق والجزائر وسورية.
خامساً: تكريس التبعيّة الاقتصاديّة للولايات المتّحدة الأمريكية من جانب ومحاولة مُحاكاة التجربة الناصريّة بأسلوب تعتوره الهزليّة والتشوّهات مؤخراً في مصر العربية من جانب آخر، ومع زيادة الفقر المدقع ومعدّلات البطالة والإحباط بين الشباب بخاصّةٍ.
سادساً: ريادة كيان العدو اقتصادياً وتكنولوجياً لتحقيق مُخطّط «إسرائيل العُظمى» توطئة لمخطّط «إسرائيل الكبرى» مِن النيل إلى الفرات. وكان تغير أولوية أهداف الصهيونية مِن «الكبرى» إلى «العظمى» نتيجة للحقائق السّكّانيّة كما يدّعي مفكّرو العدو، وأبرزهم المجرم المقبور شيمون بيريز رئيس الكيان سابقاً.
رابعاً: المخططات الصهيونية تجاه فلسطين منذ عهد جمال عبد الناصر
كانت فلسطين والقدس في «عين الإعصار» و«قلب الهجمة» الاستعماريّة الغربيّة الصهيونيّة على الوطن العربي منذ قرنين. لذا فإن جعل الانتصار في فلسطين هدفاً استراتيجياً فيها سيمثل هزيمة الموجة الرابعة من الاستعمار الصهيوني.
إن الإطار العام للمخطّط الصهيوني، كما في خطتي «آلون» عام 1967 و«ألفير» عام 1994، لكلّ فلسطين التاريخيّة هو الاستمرار في ارتكاب جرائم الحرب، والجرائم ضد الإنسانية، والمذابح، والحصار، واغتصاب الأرض، وقطع الطُّرق بوضع الحواجز لجيش الاحتلال، ونقاط التفتيش، والتهويد للقدس بخاصة، واستكمال بناء الجدار العازل، وبناء المستوطنات، واقتلاع أشجار الزيتون والمحاصيل الزراعيّة، وتدمير المصانع والمنازل الخاصّة بالفلسطينيين، بما يؤدّي إلى التهجير القسري والترانسفير للشعب الفلسطيني الصامد المُقاوم إلى خارج فلسطين، ويؤدي إلى الأبارتايد في أسوأ صُوره لِمَن يبقى مِن الفلسطينيين العرب مسلمين ومسيحيين داخل فلسطين.
على صعيد الداخل المُحتلّ (الأراضي الفلسطينية المحتلّة عام 1948)، وعلى سبيل المثال لا الحصر، لدى مجرم الحرب نتنياهو في مكتبه كرئيسٍ لوزراء كيان العدو إدارة خاصّة تعمل على وضع سياسات تحفيز، وزيادة النمو السكاني اليهودي، والهجرة اليهودية إلى فلسطين التاريخية، ووضع في الآن ذاته الآليات التي تهدف لخفض معدّلات الإنجاب للفلسطينيين بالداخل، وتهجير الفلسطينيين مِن أرضهم، بما يعكس التطبيق العملي «لعقيدة السمو العرقي» و«شعب الله المختار» في أسوأ شكلٍ لها حتى بالمقارنة مع الحقبة النازية.
على صعيد الضّفّة الغربيّة، يبقى التفسير الصهيوني لاتفاقية أوسلو وقرارات الشرعية الدوليّة بعدم السماح بإقامة دولة فلسطينيّة قابلة للحياة، حتى وإن كانت على جزءٍ يسير مِن أرض فلسطين التاريخيّة، وذلك من طريق سَنِّ قوانين عُنصريّة، وتهويد القدس، وضمّها تماماً لكيان العدو، وفصلها عن الضفة الغربيّة بالجدار العازل، وبناء المستوطنات المدنيّة والزراعيّة، والثكنات العسكريّة، والطرق السريعة لليهود فقط على أراضي الضفة الغربيّة، لتضحي المدن والقرى بالضفة، بموجب مخططات العدو، جيوباً سكنيّة فلسطينيّة محاصرة أمل جُلِّ مَن فيها الهجرة خارج الوطن بعد أن يجعل المُحتلُّ الحياةَ مستحيلة على كلّ المستويات الاقتصادية والاجتماعية والسياسيّة.
على صعيد قطاع غزة، المخطّط الصهيوني يتلخّص في استمرار الحصار والمذابح، وإنهاء الصّمود والمقاومة. وذلك من طريق فصل القطاع عن الضفة كلياً، والاستمرار بسياسة تدمير الميناء والمطار وإغلاقهما للإمعان في جعل غزة أكبر سجن مفتوح في العالم.
على صعيد مُخيّمات اللجوء الفلسطيني في دول الجوار العربيّة، المعاناة على أشدّها في مخيّمات سورية ولبنان ومصر والأردن، وبهذه التراتبية المأسوية المحزنة. ويبقى الأمل بتحقيق عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى مُدنهم وقُراهم بفلسطين. تلك المدن والقرى التي تعتلق بأفئدتهم، وتصبو إليها نفوسهم بشدّة.
خامساً: استراتيجية الاستقلال الوطني والقومي
كما كانت دروس تجربة جمال عبد الناصر وريادته للأمة، فإن المقاومة العربيّة لغة واصطلاحاً مِن أجل تحقيق مشروع النهضة العربية بمعناه الشامل والواسع تنطوي على إعمال الفكر، وشحذ الهمم لإبداع أساليب الكفاح المُسلّح، والنضال السياسي والاقتصادي، والثقافي، والحضاري، والإعلامي، والفكري، والتقني، والعلمي وغيرها. إن استراتيجيّة الاستقلال تقتضي إفقاد العدو أمنه، وإضعاف اقتصاده حالاً وعاجـلاً. كما تقتضي إفقاده الحلم بالأمن والأمان، والحلم باقتصاد قوي، وحرمانه منافع الاحتلال التي يمكن أن تتحقّق لقطعان المستوطنين الصهاينة مستقبـلاً.
بتوحيد الجُهود والأدوات مِن أجل تحقيق التحرير فلسطينياً واستكماله ثم تكريسه عربيّاً، لا بدّ مِن إعلاء شعار التحرير الكامل لأرض فلسطين مِن الماء إلى الماء (النّهر إلى البحر)، ومِن الأرض إلى السماء، وللجولان السوري العربي، ومزارع شبعا، وعقبة مصر (أم الرشراش)، بل ولسبتة ومليلية المحتلتين. ولا بدّ من أن يتحقّق التناغم بين آليات المقاومة السلميّة والمقاومة المسلّحة في الأجل القريب والمتوسّط والطويل، لتطهير الأرض الفلسطينيّة والعربيّة مِن رجس العدو بعد فشل اتفاقية أوسلو لعام 1993 الكارثيّة، ووادي عربة ومبادرة السلام العربيّة الرسميّة عام 2002 المفرّطة في مبناها ومعناها. ولا بد مِن الإشارة إلى أن اتفاقية أوسلو قد تكون أكبر انتكاسة واجهت – ولا تزال – الشعب الفلسطيني منذ مئة عام، أي منذ وعد بلفور عام 1917.
إن العصيان المدني والانتفاضة الشعبية في كلّ فلسطين التاريخيّة سوف يتصاعدان، يراهما الحكماء والمناضلون رأي العين، وسوف تكون نتائجهما مزلزلة للكيان وحكّامه الصهاينة المجرمين، وسوف يتحقّق للثورة الشعبيّة القادمة عوامل النجاح بحول الله وتأييده، وأهمّها إسهام الكتلة الحرجة الشعبيّة فيها فلسطينياً وعربيّاً وإسلاميّاً ومسيحيّاً ومناصرين دوليين مِن بينهم يهود ينبذون الصهيونيّة، ويدعمون تفكيك كيان الاحتلال الصهيوني. ومع انهيار حاجز الخوف مِن بطش العدو، وإجرامه في أوساط الشعوب أولاً، ثم حكومات أقطار الجوار العربيّة بخاصّة، سوف يتحقق التحرير والاستقلال الوطني والقومي لكل مكوّنات المجتمع العربي. وسوف تتحرّك قوافل العودة المليونية للداخل الفلسطيني براً وبحراً.
إن ارتباط الكفاح مِن أجل الاستقلال بأسس التجدّد الحضاري للانتقال بالوطن العربي لمرحلة تحرير كامل ترابه، والحريّة والكرامة والتنمية المستقلّة، وإنهاء التبعية والهيمنة للاستعمار الصهيوأمريكي، هو ارتباط عضوي مضطرد. فكلّما ارتفعت وتيرة الكفاح بهدف الاستقلال تحقّقت التنمية المجتمعيّة عربيّاً بمفهومها الواسع والشامل.
إن النزعة للتطهر مجتمعيّاً حقيقية ومؤثرة، ظهرت بوادرها في الثورات الشعبيّة عربيّاً وتضحيات الشهداء والأسرى. وتتعزّز هذه النزعة للخير، والعمل الصالح بتصاعد كفاح الشعب العربي، ﴿وَتِلْكَ الأَيّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاس﴾ [آل عمران: 140].
ننصحكم بقراءة لماذا لا يزال طيف عبد الناصر حاضراً؟
15 كانون الثاني/يناير هو ذكرى ميلاد الزعيم جمال عبد الناصر… إحصلوا على العدد 479 من مجلة المستقبل العربي الخاص به عند الضغط على الرابط التالي
مجلة”المستقبل العربي” العدد 479 كانون الثاني/ يناير 2019
#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #ناصر #جمال_عبد_الناصر #عبد_الناصر_وفلسطين #فلسطين_المحتلة #الثورة_الفلسطينية #إستعمار_البلدان_العربية #الوحدة_العربية #مقاومة_الاحتلال #الاستقلال #وجهة_نظر
المصادر:
(*) في الأصل محاضرة قدمت في الذكرى المئوية لجمال عبد الناصر. وقد نُشرت هذه المقالة في مجلة المستقبل العربي العدد 468 في شباط/فبراير 2018.
(**) الطيب الدجاني: عضو الأمانة العامة للمؤتمر القومي العربي، وعضو مجلس الأمناء واللجنة التنفيذية في مركز دراسات الوحدة العربية.
البريد الإلكتروني: tayeb@atlasi.com
مركز دراسات الوحدة العربية
فكرة تأسيس مركز للدراسات من جانب نخبة واسعة من المثقفين العرب في سبعينيات القرن الماضي كمشروع فكري وبحثي متخصص في قضايا الوحدة العربية
بدعمكم نستمر
إدعم مركز دراسات الوحدة العربية
ينتظر المركز من أصدقائه وقرائه ومحبِّيه في هذه المرحلة الوقوف إلى جانبه من خلال طلب منشوراته وتسديد ثمنها بالعملة الصعبة نقداً، أو حتى تقديم بعض التبرعات النقدية لتعزيز قدرته على الصمود والاستمرار في مسيرته العلمية والبحثية المستقلة والموضوعية والملتزمة بقضايا الأرض والإنسان في مختلف أرجاء الوطن العربي.