أقدم إلى القارئ العربي هذه الصفحات الثمينة والقيّمة لإلقاء الضوء على مرحلة مشرقة من تاريخ الثورة الفلسطينية المعاصر، كما عاشها الحكيم إلى جانب شعبه بإرادة حديدية وصمود أسطوري في مواجهة جميع التحديات. وفي زمن انقلبت فيه المقاييس والمفاهيم وأصبح النضال الوطني التحرري عمـــــلاً إرهابياً، تعرض الحكيم لعدد من محاولات الاختطاف والاغتيال والاعتقالات والملاحقات الأمنية من قبل القوى المعادية للثورة الفلسطينية.
شاء القدر أن يقترن اسمي باسم هذا القائد الكبير ويرتبط مصيري بمصيره كرفيقة درب عايشت الأحداث التاريخية إلى جانبه من كثب في مسيرة نضالية طويلة، شاقة وشائكة.
وجدت نفسي أمام عظمة هذا الثائر الكبير الذي كرّس حياته وقدم عمره لرفع الظلم والقهر والمعاناة عن شعبه وعمل جاهداً لإعادة حقوقه الوطنية في الحرية والاستقلال والعودة إلى دياره التي هُجر منها قسراً. لقد اندفعت بكل قوة وإيمان لأكون عوناً له في رحلته الصعبة والمعقدة؛ أشاركه قسوة الحياة وشظف العيش وحياة المنافي والشتات والملاحقات الأمنية من قبل العدو الصهيوني وجميع القوى العاتية المعادية لشعبنا. رافقته في حله وترحاله، فانصهرنا معاً في أتون النضال الدؤوب والصراع المرير في مواجهة عدو عنصري استيطاني بغيض صادر حقنا في حياة حرة كريمة فوق تراب وطننا الغالي.
كيف لا، وأنا ابنة القدس، عشت تداعيات النكبة بكل مرارتها وكآبتها وانعكاس ذلك على النفوس؛ فأزيز الرصاص والانفجارات ما زال يطن في أذني، ومشهد الجنود المدججين بالسلاح وهم يعتلون أسوار القدس لا يغيب عن مخيلتي، وذلك الشريط الشائك الذي كان يقسّم مدينتنا بين قدس شرقية وقدس غربية، والاشتباكات عند باب العمود وسقوط الشهداء من المناضلين ومن المواطنين الأبرياء الذين كانوا يحاولون التسلل للعودة إلى ديارهم وبيوتهم التي هجروا منها.
مشاهد مؤلمة ستظل محفورة في الذاكرة وفي الوجدان. لقد وطأت أقدامنا الأرض المقدسة منذ الطفولة قبل أن تدنسها أقدام الغزاة الصهاينة. إن القدس كانت وستبقى عربية بتاريخها المجيد وحضارتها وشعبها العريق وأسوارها ومبانيها وشوارعها وأزقتها، كل ذلك يشهد على عراقة هذه المدينة المقدسة بأماكنها الدينية التاريخية؛ وستبقى القدس عاصمة أبدية لفلسطين التاريخية مهد الديانات السماوية ومنبع الحضارات.
أستعيد شريط الذكريات لأستذكر رفاق درب أعزاء غادرونا باكراً وهم في مقتبل العمر، وضحّوا بالغالي والنفيس في سبيل الدفاع عن أرضنا ومقدساتنا وعن مبادئهم وقناعاتهم ومعتقداتهم. أستذكر الشهداء الأحباء الذين ترك رحيلهم في الحلق غصة، ومنهم وديع حداد، وغسان كنفاني، وباسل الكبيسي، وخالد أبو عيشة، ومحمد اليماني، ورفيق عساف، ومحمد الأسود (غيفارا غزة)… والقائمة تطول وتضم آلاف الشهداء الشرفاء الذين سقطوا على درب الكفاح، لكنهم ما زالوا يحتلون مكانة خاصة في قلوبنا ووجداننا. كان الحكيم يودع الشهداء بدموع ممزوجة بالإصرار والتصميم على مواصلة المسيرة مهما كانت الصعوبات وغلت التضحيات، وكان يؤمن بأن المقاومة هي الطريق الوحيد لاستعادة كرامتنا ورفع الظلم عن شعبنا وأمتنا العربية.
كل هذه السنوات الطويلة من النضال المرير والمضني، وهذه المسيرة النضالية المشتركة كما عشتها إلى جانب الحكيم الدكتور جورج حبش، شريك العمر ورفيق الدرب، بصمود كبير وبمعنويات عالية وإرادة حديدية، التي كانت رحلة كفاح عاصفة بالمخاطر والصعوبات والتحديات عشناها معاً كما عاشها شعبنا على مدى أكثر من نصف قرن من الصراع العربي – الإسرائيلي، الذي استمر من جيل إلى جيل، وهذه التجربة الغنية بالأحداث التاريخية المهمة بكل انتصاراتها وانكساراتها، أنقلها لكم بكل أمانة ومصداقية وضمير حيّ كرفيقة درب شاهدة على مرحلة مهمة من تاريخ الثورة الفلسطينية. لقد وضع الحكيم ثقته بي وكنت مؤتمنة على حياته وأسراره وأمنه، ومؤمنة بمبادئه ومعتقداته وخطه السياسي وأفكاره التحررية.
لذلك أجد نفسي اليوم أمام مسؤولية تاريخية تقع على عاتقي كزوجة وكرفيقة درب لهذا الإنسان الاستثنائي. من هذا المنطلق أود أن أعلن على الملأ أن الحكيم قد ترك أمانة بين أيدينا وهي عبارة عن مشروع مذكرات بدأنا بكتابتها معاً بعد خروجنا من بيروت ببضع سنوات، وقبل أن يقدم استقالته من الأمانة العامة للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. أوراق وصفحات مهمة لم تنشر من قبل ولم تكتمل بسبب ظروفه السياسية وانشغاله في هموم العمل اليومي المنهك وقضايا الثورة الشائكة بكل تعقيداتها وأعبائها. من هنا، واحتراماً لرغبته، وتكريماً له في الذكرى الحادية عشرة لرحيله، قررت نشرها لتبقى وثيقة تاريخية تستنير بها الأجيال وتنهل من عصارة التجارب التي خاض غمارها الحكيم بكل شموخ وكبرياء وتفان وإنكار للذات.
لقد نجحت في إقناعه بالكتابة ليدوّن بنفسه تجربته الفريدة في نوعها والغنية بقيّمها ومعانيها، واستطعت بشق الأنفس أن أنتزع الوقت منه انتزاعاً في غمرة الأحداث الساخنة لأسجلها له بخط اليد بعد إلحاح مني ليكتب بنفسه أبرز محطات مسيرته النضالية التي امتدت لستة عقود من الزمن كمؤسس لحركة القوميين العرب وكأمين عام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وأحد القادة المؤسسين لمنظمة التحرير الفلسطينية. لقد وضعنا برنامجاً أسبوعياً مدته ساعة تقريباً وكان جهداً منظماً على مدى بضع سنوات. كنت أدون مباشرة ما يمليه علي حرفياً، واستطعنا أن ننجز أكثر من مئتي صفحة على الرغم من ظروفه الصعبة وضغط العمل والأوضاع السياسية المعقدة. كان ذلك في تسعينيات القرن الماضي، أي قبل صدور كتاب الثوريون لا يموتون أبداً بسنوات متعددة، ذلك الكتاب الصادر عن دار فايار الفرنسية، الذي تمت ترجمته إلى العربية كما أوصى الحكيم وصدر عن دار الساقي في بيروت. إن كتاب الثوريون لا يموتون أبداً عبارة عن حوار طويل ومتشعب حيث أجرى الحكيم أكثر من مئة ساعة من الحوار مع الصحافي الفرنسي جورج مالبرونو في العام الذي سبق رحيله. أما هذه المذكرات التي بين أيديكم فهي استعادة لشريط الذكريات حيث استرسل الحكيم في سرد الأحداث التاريخية التي خاض غمارها وأبحر وسط أمواجها المتلاطمة، فكتبها بكل تفاصيلها بأسلوب مشوِّق وبشغف بالغ. إلا أنه لا بد من أن نجد جوانب مشتركة بين الكتابين، كونها تتعلق بالأحداث التاريخية نفسها التي عاشها الحكيم بكل تفاصيلها ومحطاتها التاريخية المهمة.
تحدث الحكيم في هذه المذكرات بكل وضوح وشفافية ومصداقية وصراحة وجرأة متناهية عن مسيرة نضال وكفاح طويلة ومضنية. بدأت من تاريخ النكبة الفلسطينية التي كانت نقطة التحول في حياته، وتحدث بإسهاب عن مرحلة تأسيس حركة القوميين العرب، والإعداد للكفاح المسلح والعمل الفدائي وتشكيل خلايا سرية للقيام بعمليات استطلاعية داخل الوطن المحتل في خمسينيات القرن الماضي، تحدث الحكيم أيضاً عن علاقته الخاصة والاستثنائية بالرئيس عبد الناصر وعن دعمه ومساندته للحركة، وعن دور الحركة في تحرير اليمن الجنوبي من الاستعمار البريطاني، كما استرسل في الحديث عن التناقضات المثيرة للجدل في المواقف المصيرية بين التنظيمات الفلسطينية والخلافات مع الرئيس أبو عمار على قاعدة وحدة – صراع – وحدة. ثم تحدث عن مرحلة وجود الثورة في الأردن، وخطف الطائرات، والمعارك مع الجيش الأردني، وخروج المقاومة إلى لبنان. تحدث مطولاً عن الاجتياح الإسرائيلي للبنان وحصار بيروت وصمود المقاومة والتحالف مع الحركة الوطنية اللبنانية وعن التلاحم اللبناني – الفلسطيني كما لم يتحدث من قبل. سجل مواقف سياسية مبدئية ومصيرية مهمة لا تحتمل المهادنة ولا الترهل ولا الحلول الوسطية على حساب المبادئ والقضايا التي تمس المصالح والثوابت الوطنية. واعتبر التنازلات المجانية التي قدمتها القيادة الفلسطينية في اتفاقيات أوسلو المذلة مع العدو الإسرائيلي وإلغاء الميثاق الوطني خطاً أحمر لا يمكن تجاوزه وجريمة بحق الشعب الفلسطيني، إذ إنها لا تلبي الحد الأدنى من طموحات شعبنا.
تحدث الحكيم بإسهاب عن قضايا خاصة وداخلية للجبهة، ووضع النقاط على الحروف، ووثّق للتاريخ كل ما كتبه من نتاجه الفكري والوثائق والتقارير السياسية المهمة للمؤتمرات الوطنية للجبهة الشعبية التي تمثّل معظم أدبيات الجبهة الشعبية. كتبها بعصارة فكره وعرق جبينه وبجهد مضنٍ في ظل ظروف سياسية وعسكرية قاسية ومعقدة، فأثرى بها تاريخ الجبهة وإرثها النضالي، كان أهمها «الاستراتيجية السياسية والتنظيمية» التي كتبها في أغوار الأردن من داخل القواعد العسكرية وقدمها إلى المؤتمر الوطني الثاني للجبهة الذي انعقد في الأردن عام 1969، وكتاب مهمات المرحلة من وثائق المؤتمر الثالث للجبهة الذي انعقد في لبنان عام 1972، والنظام الداخلي الذي كتبه الحكيم وكان بمنزلة دستور يتقيد به جميع القيادات والأعضاء في الجبهة. كتب الحكيم كذلك وثائق المؤتمر الرابع عام 1981 والمؤتمر الخامس عام 1993، وكان آخرها وثائق المؤتمر السادس للجبهة الشعبية الذي قدم به استقالته التي أحدثت دوياً هائلاً من ردود الفعل في أوساط الساحتين الفلسطينية والعربية عام 2000. فترك فراغاً كبيراً ما زال تأثيره واضحاً في الساحة الفلسطينية وفي الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين.
أما نحن، فعلينا تقع مسؤولية تجميع هذا الإرث الثري وتوثيقه لنحافظ عليه وعلى الملكية الفكرية للحكيم وكل ما كتبه من مواضيع علمية ونظرية بما فيها وثائق حركة القوميين العرب(*)، فهذا الإرث ليس ملكاً لتنظيم أو عائلة بل هو ملكٌ لشعبنا وللأجيال من بعدنا. هكذا يكون الوفاء لجميع شهداء حركة القوميين العرب والجبهة الشعبية وللأمين العام والقائد المؤسس جورج حبش لنحميه من خطر القرصنة وتزوير التاريخ وتشويه الحقائق في مثل هذا الزمن الرديء الذي يكثر فيه المتسلقون الذين يتطاولون على تاريخ الحكيم وعلى إرثه النضالي بنَــفَس انتهازي وصولي لم نشهد له مثيـــــلاً من قبل.
لقد استمتعت بإعادة قراءة هذه الصفحات بعد كل هذه السنوات الطويلة من تدوينها. وأشير هنا إلى أنني أنشر أول مرة بعض الصفحات النادرة، وهي يوميات كتبها الحكيم بخط يده من داخل سجن الشيخ حسن في سورية عام 1968. حقائق مؤلمة لكنها تاريخية ومهمة جداً، ولعل أهمية هذه الأوراق تكمن في أنها نجت من الإتلاف الذي تعرضت له الكثير من الصفحات الشبيهة، لاضطراره إلى ذلك، عند مداهمة عناصر الأمن زنزانته بين الحين والآخر. ستبقى تلك التجارب القاسية نبراساً للأجيال وصفحة مجد في مسيرته النضالية المضيئة.
وقبل أن أنهي هذه الكلمات أدعو كل مواطن عربي حر إلى قراءة هذا الكتاب، لأنه يعبر تعبيراً صادقاً وأميناً عن صاحب التجربة الذي تحدث بكل شجاعة وموضوعية وقال الحقيقة مهما كانت جارحة وقاسية. فقد آمن الحكيم بأن قول الحقيقة كل الحقيقة هي حق للجماهير وواجب عليه. لذلك قال ما له وما عليه من موقع المسؤولية كمؤسس لحركة القوميين العرب وكأمين عام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وكقائد تاريخي للشعب الفلسطيني، وترك لنا وللأجيال وثيقة تاريخية مهمة لا تقدّر بثمن.
سيبقى هذا الثائر الكبير حاضراً بفكره وتعاليمه وأخلاقه الثورية ومبادئه الثابتة وكل ما تركه من إرث نضالي ضخم، الضمير الحيّ للثورة الفلسطينية وللشعب الفلسطيني ورمزاً للنقاء الثوري ونقطة ضوء وسط كل هذا المشهد القاتم الذي يحيط بنا في هذه الأيام العصيبة.
أخيراً، أود أن أوجّه شكراً خاصاً إلى ابنتي الغالية لمى، التي كان لها مساهمة في إنجاز هذا الكتاب، كما أهدي هذه الصفحات المضيئة إلى شعبنا المقاوم داخل الأرض المحتلة، وإلى جميع الأسرى المعتقلين وإلى أرواح شهدائنا الأبرار.
المصادر:
(*) مقدمة كتاب صفحات من مسيرتي النضالية: مذكرات جورج حبش بقلم رفيقة دربه السيدة هيلدا حبش.
وقد صدر الكتاب عن مركز دراسات الوحدة العربية في كانون الثاني/يناير 2019.
مركز دراسات الوحدة العربية
فكرة تأسيس مركز للدراسات من جانب نخبة واسعة من المثقفين العرب في سبعينيات القرن الماضي كمشروع فكري وبحثي متخصص في قضايا الوحدة العربية
بدعمكم نستمر
إدعم مركز دراسات الوحدة العربية
ينتظر المركز من أصدقائه وقرائه ومحبِّيه في هذه المرحلة الوقوف إلى جانبه من خلال طلب منشوراته وتسديد ثمنها بالعملة الصعبة نقداً، أو حتى تقديم بعض التبرعات النقدية لتعزيز قدرته على الصمود والاستمرار في مسيرته العلمية والبحثية المستقلة والموضوعية والملتزمة بقضايا الأرض والإنسان في مختلف أرجاء الوطن العربي.