عندما كنت أسير مع عائلتي في شوارع بودابست على ضفاف نهر الدانوب في يوم صيفي جميل في آب/أغسطس 2014، قررت أن أسمي كتابي «سوريا، قوة الفكرة» وأن أحتفظ بالعنوان الذي كنت أتخيله للنشر بالفرنسية كعنوان مكمل «الهندسات الدستورية للأنظمة السياسية». كنت أحاول منذ أسابيع أن أجد عنوانًا أكثر جاذبية لجمهور واسع يتعدى المختصين بالشأن الدستوري. لقد وجدت هذا العنوان الجديد أقل أكاديمية وأكثر جرأة. كنت مدركًا أنه كان على عكس التيار في ذلك الوقت، وأنه سيبدو عجيبًا للبعض[1]. كانت سورية غارقة في حرب أهلية ذات تداعيات إقليمية ودولية بدت لا نهاية لها. لم يعرف أحد، بما في ذلك أمهر السياسيين والخبراء، ما إذا كانت تلك الحرب أزمة نمو أم أزمة وجودية. قلة قليلة كانت ستراهن على أن هذا البلد سيبقى موحدًا. كنت على دراية بالمخاطر التي أتحملها كمؤلف باختياري مثل هذا العنوان في حال لم تعد سورية موجودة على الخارطة في الأشهر المقبلة. كان هذا السيناريو معقولًا جدًا قبل تدخل الجيش الروسي في تشرين الأول/أكتوبر 2015. وعندها، سيكون هذا الكتاب هو الأول وقد يكون الأخير وستصبح صدقيتي كمؤلف عن سورية موضع تساؤل. ولكني بعد قليل من التفكير قررت المجازفة. كان تفكيري بسيطًا جدًا، وعاطفيًا أكثر منه عقلانيًا. قلت لنفسي: أفضل أن أفقد كل صدقيتي كمؤلف في حال اختفاء سورية على أن أحتفظ بسمعة جيدة في حال زوالها.

هنالك علاقة أكيدة بين العنوان وكوني مؤلفًا سوريًا أراد تحليل التاريخ المضطرب لبلده من زاوية دساتير أنظمتها السياسية المختلفة على مدى قرن من الزمن. فهذا كتاب عن سورية كتبه أحد أبنائها يعبر عن نظرة سورية للأحداث التي يتناولها. المجتمع السوري منقسم اليوم على بعضه وممزق منذ أزمة 2011 التي تحولت إلى حرب أهلية مركبة ومعقدة. حاولت أن أتناول الفترات التاريخية المختلفة بما فيها الأزمة الراهنة بطريقة محايدة وموضوعية. لذلك تحتوي صفحات هذا الكتاب على وجهات النظر المختلفة بما في ذلك تلك المؤيدة للنظام وأخرى المعارضة.

أولًا: المشروع الوطني السوري

يعبّر عنوان الكتاب عن محتواه جيدًا وبخاصةٍ بعد إضافة «المشروع الوطني» إلى العنوان الفرعي في النسخة العربية. لأن سورية، ليست فقط مساحة جغرافية منقوصة تحولت إلى دولة، بل كانت منذ البداية فكرة نشأت وتشكلت بعد الانفصال عن الدولة العثمانية عام 1918 على يد الآباء المؤسسين من جميع أنحاء المشرق أو بلاد الشام، أي المناطق التي تمثل اليوم سورية ولبنان والأردن وفلسطين المحتلة (بما فيها أراضي الـ 84) وبعض الأراضي التركية، الذين جاءوا إلى دمشق ممثلين لمناطقهم في المؤتمر السوري العام الذي أعلن الاستقلال وقيام المملكة العربية السورية في 8 آذار/ مارس 1920. في هذا السياق صاغ الآباء المؤسسون، ربما من دون أن يدركوا ذلك الوقت، الخصائص الرئيسية للدولة الوطنية السورية في وثيقة مهمة وأساسية دخلت التاريخ تحت عنوان «برنامج دمشق»، التي قُدمت إلى لجنة كينغ _ كرين في تموز/ يوليو 1919. يحتوي هذا النص التأسيسي على قواعد مشروع وطني استمر السوريون في تحديثه وتطويره، عن قصد أو من دون قصد، لأكثر من قرن. ويمكن تلخيص هذا المشروع الذي سيناقش في صفحات الكتاب على النحو التالي: العيش المشترك في إطار دولة مدنية أي غير دينية أو طائفية وهذا ما سيؤدي إلى العلمانية بشكلها السوري؛ رفض مبدئيً لأي تقسيم إقليمي؛ رفض أي هيمنة خارجية؛ رفض الهجرة اليهودية إلى فلسطين والمشروع الصهيوني.

انعكست تلك المبادئ بشكل أو بآخر في دساتير سورية وسياساتها الإقليمية والداخلية. فلم تتخلّ سورية عن فلسطين ولم تسمح بتقسيم لبنان واضطهاد المسيحيين ولم ترضَ باحتلال العراق،  وهو ما جعل البعض ينظر إلى هذا البلد، على أنه في حالة تمرُّد شبه دائم على واقع ومشاريع إقليمية لا يمكن أن يتكيف معها بسهولة. ولم تخفِ النخب الحاكمة الوطنية المتتالية في دمشق منذ الاستقلال، رغم اختلاف اتجاهاتها السياسية سواء كانت يمينية أو يسارية، مدنية أو عسكرية، أنها تعارض هذه المشاريع وأنها لن ترضخ لها. وترجم هذا الموقف المبدئي باللجوء إلى الحرب تارة والكفاح والصمود والمقاومة في وجه الأعداء دفاعًا عن الثوابت الوطنية تارة أخرى.

المناطق الأخرى المنفصلة عن المملكة السورية، التي لم تتمكن من الانضمام إليها خلال مدَّة قيامها الوجيزة بسبب احتلال أراضيها من جانب القوات الفرنسية في المنطقة الغربية والقوات البريطانية في المنطقة الجنوبية، طورت مشاريع وطنية مختلفة فرضتها إلى حد كبير سلطات الانتداب في لبنان وشرق الأردن وفلسطين. سورية وحدها بقيت وفية لمشروع الآباء المؤسسين. المشروعان الوطنيان اللبناني والأردني لا يتعارضان مع المشروع الوطني السوري ويمكنهما أن تتعايشا معه في ظل وجود الخلافات. أما المشروع الإسرائيلي فلا يمكنه التعايش بسهولة مع المشروع السوري. وهذا ما جعل هذين المشروعين في حالة مواجهة وصراع مباشر أو غير مباشر منذ إنشاء دولة إسرائيل.

أرادت فرنسا أن تنشئ دولة ذات أغلبية مسيحية في لبنان. كما أرادت بريطانيا أن تنشئ دولة يهودية في فلسطين. أدى الانتداب الإنكليزي إلى قيام دولة «إسرائيل»، لكن المشروع الصهيوني الأصلي الطامع في إنشاء دولة يهودية على كامل تراب «فلسطين الانتداب» لم يتحقق رغم أنها تحت سيطرة الجيش الإسرائيلي منذ عام 1967. التوازن الديمغرافي بين اليهود والعرب وهو بنحو 50 بالمئة لكل مجموعة، إن لم يكن بالحقيقة يميل لمصلحة الفلسطينيين، يجعل من المستحيل اليوم إنشاء دولة يهودية صافية على هذه المنطقة برمّتها. وبدلًا من السعي لتطبيق حل الدولتين أو دولة ثنائية القومية، فضلت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة الهروب إلى الأمام والاستمرار باحتلال الضفة الغربية وحصار غزة وضم القدس وتطوير ممارسات قمعية مبنية على إقصاء الفلسطينيين وعدم الاعتراف بحقوقهم. إن النظام السياسي الإسرائيلي متهالك بسبب قانون انتخابي قائم على النسبية الكاملة اثبت أنه عائق أمام السلام لأنه يقوي نفوذ الأحزاب الصغيرة المتطرَّفة. لكن هنالك أصوات شجاعة داخل المجتمع الإسرائيلي لم تعد تتردد في التنديد علنًا بما تعدّه نظام فصل عنصري يمتد من نهر الأردن إلى البحر الأبيض المتوسط[2]. كما أن المؤسسة العسكرية لا تخلو من بعض الضباط ذوي نظرة واقعية للأحداث[3]. أما الأردن، فقد طوَّر مشروعه الوطني تدريجًا ليعكس من ناحية موقعه الجغرافي الفريد كحلقة وصل أو فصل بين المشرق وشبه الجزيرة العربية، وكذلك فاصل بين فلسطين والكيان الصهيوني والعراق. يأخذ هذا المشروع الوطني في الحسبان التوازن الديمغرافي الحساس بين العشائر الأردنية والمواطنين من أصل فلسطيني. ويظل الأردن تحت رحمة اليمين الإسرائيلي المتطرف الذي ينظر إلى هذا البلد كوطن بديل للفلسطينيين ويثير بصورة متكررة إمكان نقل السكان من الضفة الغربية وحتى من الأراضي المحتلة عام 1948 إلى الأردن على الرغم من اتفاقية السلام الموقعة بين البلدين في عام 1995. أما لبنان فقد استطاع أن يثبت أنه وطن جامع لكل أبنائه رغم التحديات المهولة التي واجهها، وبخاصة أثناء الحرب الأهلية التي تغلب عليها لكنه يبقى منهكًا بالطائفية السياسية.

ثانيًا: القضايا السورية الخمس الكبرى

ظلت سورية وفية للمشروع المبدئي لآبائها المؤسسين عبر دساتيرها وسياساتها. وخلال الأعوام المئة الماضية شعرت دمشق بالوحدة الشديدة في بعض الأحيان وكان عليها البحث عن تحالفات خارج المشرق حتى تتمكن من مواجهة التحديات الإقليمية المتصلة بالقضية الفلسطينية. كما واجه السوريون أربع قضايا داخلية كبرى لا تزال مطروحة حتى اليوم: الجيش؛ العدالة الاجتماعية؛ الديمقراطية؛ والهوية الوطنية. ستتم مناقشة هذه الأمور في صفحات الكتاب، لكني أود أن أبدي مسبقًا بعض الملاحظات في هذه المقدمة.

1 ـ القضية الفلسطينية

كما ورد سابقًا، القضية الفلسطينية جزء لا يتجزأ من المشروع الوطني السوري. هذا لا يعني أن السوريين يطالبون بفلسطين كأرض لهم، فلسطين لأهلها، وإنما يعني أن سورية متضامنة مع القضية الفلسطينية إلى أقصى درجة ولن تتخلى عنها. لقد انعكست القضية الفلسطينية على تحالفات سورية الإقليمية وعلاقاتها الدولية منذ النكبة عام 1948. تجاهل هذا العنصر الثابت يعني عدم فهم السياسة السورية. سيتم تطوير هذا الجانب في الكتاب. لذلك لن أسهب في الحديث عنه وأود أن أكتفي الآن بالتذكير بتأثير القضية الفلسطينية على نظرة سورية إلى الولايات المتحدة الأمريكية. في «برنامج دمشق» الذي سلمه الآباء المؤسسون إلى لجنة كينغ  ـ كراين عام 1919 وافقوا على انتداب أمريكي لسورية إذا فرض مؤتمر السلام انتدابًا على سورية، على أن يقتصر على الأمور الفنية والاقتصادية من دون المسّ بالاستقلال السياسي، وإلا فانتداب بريطاني؛ ورفضوا أي مساعدة أو ادعاء من جانب فرنسا. كان هذا موقف السوريين تجاه الولايات المتحدة غداة الانفصال عن الدولة العثمانية بسبب فهمهم لمبادئ الرئيس ويلسون. وبعد قرن من الزمن، يُنظر اليوم إلى الولايات المتحدة على أنها قوة معادية ومحتلة لجزء من الأراضي السورية التي دخلتها من دون موافقة الحكومة في دمشق. إن الدعم الأمريكي لإقامه كيان يهودي في فلسطين ودعم إسرائيل بعد قيام الدولة العبرية دفعا دمشق نحو شركاء آخرين. وهذا انعكس على التحالفات الإقليمية والدولية لسورية وعلى سياستها الداخلية أيضًا.

2 ـ قضية الجيش

ترتبط هذه القضية جزئيًا بالمسألة السابقة. سرعان ما رسَّخ الجيش نفسه بعد الاستقلال كلاعب رئيسي في الساحة السياسية. استغرق الأمر أقل من ثلاث سنوات لتنفيذ أول انقلاب عسكري في عام 1949، تلاه انقلابان آخران في السنة نفسها. منذ ذلك الحين، لم يفارق الجيش السلطة باستثناء ربما أعوام 1954 ـ 1956 عندما ظل لبعض الوقت في ثكناته. لكن بعد ذلك عاد الجيش إلى الواجهة واستخدم نفوذه لفرض الوحدة مع مصر في عام 1958، ثم قام بإلغائها بانقلاب آخر بعد ثلاث سنوات.

اهتم الكثير من المراقبين بالدور السياسي للجيش ومكانته في المجتمع السوري. سيتم تناول هذه الموضوعات في صفحات الكتاب. لكن في هذه المقدمة أود أن أركز على نقطة مهمة، وهي ادعاء بعض الضباط تمثيل الإرادة الشعبية وحتى السيادة الوطنية. بهذا المنطلق تولى بعض كبار الضباط السلطة في عامَي 1949 و1951 ثم أسسوا جمهورية عسكرية في 1952 ـ 1953 تلاها نظام رئاسي في 1953 ـ 1954. لقد اعتقدوا بصدق أنهم يمثلون تطلعات الشعب السوري بأمانة أكبر من البرلمان المنتخب والمؤسسات الوطنية الشرعية. كان هؤلاء الضباط قد تم تأهيلهم من جانب سلطة الانتداب الفرنسي وجاءوا من صفوف جيش المشرق سلف الجيش الوطني. لقد رأوا كيف كان يتعامل ممثلو فرنسا مع السلطات السورية المنتخبة والمؤسسات الوطنية الناشئة؛ حيث عطلت فرنسا المجلس التأسيسي المنتخب ديمقراطياً عام 1928، كما علقت في عام 1933 أعمال البرلمان الأول المنتخب في 1931 ـ 1932، وحلت في عام 1939 البرلمان الثاني المنتخب في 1936، وفي عام 1945 خلال حقبة البرلمان الثالث المنتخب في 1943 اعتدى الجيش الفرنسي على مبنى مجلس النواب بالمدفعية واقتحم حرمته وأوقع 27 شهيدًا من حاميته من الدرك والشرطة. هذا المصير المؤسف للمجالس الأربعة المنتخبة ديمقراطيًا في ظل الانتداب ربما ولَّد لدى بعض الضباط أفكارًا دفعتهم إلى عدم احترام التمثيل الوطني المنتخب من جانب الشعب.

مثّل وصول البعث إلى السلطة في عام 1963 مرحلة جديدة في تاريخ البلد والجيش. ومعه وصل إلى هرم السلطة جيل جديد من الضباط المتخرجين من الكليات العسكرية الوطنية بعد الاستقلال. كانوا شهودًا على فشل الضباط السابقين على حكم البلاد لمدة طويلة من الزمن وكانوا مصممين على النجاح حيث فشل أسلافهم. تغلب الضباط البعثيون على منافسيهم ضمن الجيش من ناصريين ومستقلين، وانفرد البعث بالحكم بمفرده. لكن التعايش بين المدنيين والعسكريين حتى داخل الحزب نفسه كان صعبًا جدًا، إلى أن سيطر الرئيس حافظ الأسد على الجيش ومن ثم على الحزب. استمرت السلطة السياسية بتطبيق مبدأ «الجيش العقائدي» الذي أقره المؤتمر القومي الثامن للبعث في عام 1965، وهذا ما منح الجيش لأول مرة انسجامًا داخليًا وانضباطًا كان يفتقدهما، ومنح سورية الاستقرار السياسي الذي لم تعرفه منذ الاستقلال. كما رسخت وظيفة جديدة للجيش والقوات المسلحة في دساتير 1969 و1971 و1973 وهي حماية أهداف الثورة.

الجيش مسألة خلافية. المعارضة تنتقد مبدأ «الجيش العقائدي» بينما يرى الموالون أن من دون هذا الجيش ربما لم تعد سورية موجودة. عدل دستور عام 2012 البند الخاص بوظائف الجيش شكليًا لا جوهريًا. ومن حين إلى آخر ينادي البعض بدمج ميليشيا «قسد» ذات الأغلبية الكردية ضمن الجيش، وربما بعض المجموعات المسلحة للمعارضة. كما طرحت آراء لإنشاء مجلس عسكري كصيغة بديلة لهيئة الحكم الانتقالي للخروج من الأزمة[4]. هذه مجرد أفكار. الأمور متروكة لترتيبات نهاية الأزمة. ستكون السلطة السياسية في دمشق على الأغلب حذرة إزاء المسّ بالجيش، وتغيير بنيته التحتية، وهيكليته، وعقيدته العسكرية،  وذلك حفاظًا على تجانس الجيش وتماسكه. كذلك من الأرجح أن تتمسك السلطة المركزية بضرورة حصر السلاح واستعمال القوة بيد مؤسسات الدولة. لقد أثبت الجيش خلال الحرب أنه العمود الفقري للبلد. وعلى السوريين أن يتفقوا على جيشهم، في إطار مصالحة وطنية لإنهاء الأزمة، وأن يلتفوا حوله وأن يجدوا إطارًا يعكس أهمية وتأثير هذه المؤسسة الحيوية في الدولة والمجتمع مع إخضاعها للسلطة المدنية المنتخبة[5].

3 ـ القضية الاجتماعية

مطلب العدالة الاجتماعية متجذر بعمق في أذهان السوريين. تشهد على ذلك عدة أمثلة في تاريخ سورية الدستوري والسياسي. من الجانب الدستوري نذكِّر بما ورد بدستور عام 1950 الذي أعطى للشؤون الاجتماعية، مثل التعليم والصحة والعمل والضمان الاجتماعي وضرورة وضع حد أعلى لحيازة الأراضي الزراعية بحسب المناطق من دون تأثير رجعي، بُعدًا لم يكن متوافرًا في الدستور السابق الذي تطرق إلى التعليم فقط. هذا البرنامج الاجتماعي الطموح لدستور 1950 جدير بالذكر بالرغم أن حكومات الجمهورية الثانية لم تطبقه بالكامل. وجاءت من بعده دساتير أنظمة البعث (1964، 1969، 1971، 1973) التي أولت أهمية كبرى للمسائل الاجتماعية. من الناحية السياسية يمكن أن نذكِّر بشعبية الأحزاب اليسارية خلال الخمسينيات وبخاصة البعث، نذير «الاشتراكية العربية» التي جمعت بين العدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص، والأصوات التي نالها هذا الحزب في الانتخابات التشريعية لعام 1954 عندما أصبح الثاني في البلاد من حيث عدد النواب. ويمكن الإشارة أيضًا إلى الانقلاب الثاني للعقيد عبد الكريم النحلاوي في آذار/ مارس 1962 الذي، على الرغم من أنه ضابط ذو ميول يمينية، قام بحل البرلمان ذي الأكثرية اليمينية الذي ألغى الإجراءات الاشتراكية التي أصدرها عبد الناصر أثناء الوحدة مع مصر بدلًا من تعديلها كما كان متفقًا عليه بين الجيش ورئيس الجمهورية والحكومة في إطار «مجلس الأمن القومي» الذي أنشأه نظام الانفصال. ويمكن الإشارة أيضًا إلى تقسيم الناخبين ومقاعد المجالس المنتخبة منذ دستور عام 1973 في سورية إلى فئتين: أ ـ العمال والفلاحين، ب ـ الآخرين، الموروث من الميثاق الثلاثي للاتحاد مع مصر والعراق عام 1963 الذي ولد ميتًا.

هذه الأمثلة تدل على اهتمام السوريين عبر الأجيال والأنظمة السياسية المتعاقبة، سواء كانت يمينية أو يسارية، بالمسألة الاجتماعية. وفي الحصيلة، إن إعطاء القضية الاجتماعية طابعًا دستوريًا ومؤسساتيًا يعبّر بلا شك عن أولويات معظم السوريين، لكن الصيغة الدستورية الحالية المتمثلة بتقسيم الناخبين ومقاعد المجالس المنتخبة إلى فئتين أثبتت محدوديتها وعدم فاعليتها. فلم تستطع تلك الصيغة مثلًا أن تحدّ من الانعكاسات الاجتماعية السلبية لسياسة الانفتاح الاقتصادي التي تم إقرارها في المؤتمر القطري العاشر لحزب البعث عام 2005 والتي كانت على حساب مصالح أكثر الناس تواضعًا من عمال وفلاحين ومهنيين وآخرين من ذوي الدخل المحدود، الذين تُركوا من دون شبكة أمان اجتماعي، وهو ما أدى إلى نفور بعض الفئات الشعبية الموالية تقليديًا لحزب البعث، وبخاصة في المناطق الريفية وضواحي المدن الكبرى، التي ضخمت صفوف المتظاهرين عندما اندلعت الأزمة في عام 2011. من الضروري أن تنعكس أولًا أهمية القضية الاجتماعية في إطار أعمال الحكومة وسياستها الاقتصادية والاجتماعية. إضافة إلى ذلك، يمكن الاستلهام من تجارب بعض الدول الأخرى التي أنشأت مؤسسة دستورية متخصصة بالقضايا الاقتصادية والاجتماعية[6].

4 ـ مسألة الديمقراطية

نادرًا ما تناول الآباء المؤسسون هذه المسألة، لا لأنهم قللوا من أهميتها بل لأنهم ربما أخذوها على أنها أمر مسلَّم به. لقد أثبت المستقبل أن الديمقراطية والحرية السياسية والحريات العامة الفردية والجماعية في سورية، كما في أي مكان آخر، ليست معطى ولا يمكن عدّها من المسلمات الدائمة. الحرية السياسية بناء هش يتطلب اليقظة والتصميم للحفاظ عليها. نجحت سورية في الحصول على حريتها واستقلالها بعد ستة وعشرين عامًا من النضال ضد الانتداب الفرنسي، وتمكنت من الحفاظ عليهما. لكن كان على السوريين أن يتنازلوا إلى حد كبير عن حريتهم السياسية الفردية والجماعية بسبب الآثار المتراكمة للانقلابات العسكرية وتطبيق مفهوم «الديمقراطية الشعبية» في الحياة العامة وترسيخه في أربعة دساتير متتالية وسريان قانون الطوارئ لما يقارب نصف قرن من الزمن. إن التمثيل الشفاف للمجتمع داخل المؤسسات الدستورية على المستويات كافة المحلية والوطنية، يجب أن يدخل ضمن ترتيبات الخروج من الأزمة الراهنة. ويجب أن تشمل تلك الإجراءات احترام التعددية السياسية والتنوع المجتمعي، بما في ذلك الحقوق الثقافية للأقليات العرقية. لا يحتاج السوريون إلى نسخ تجارب مستوردة من الخارج رغم أنهم يمكنهم الاستلهام منها. الأمر متروك للسوريين لإنشاء نموذجهم الخاص لممارسة الديمقراطية والحرية في إطار مواطنة حديثة جامعة لا تقصي أحدًا على مبدأ أن الوطن للجميع[7].

5 ـ الهوية السورية

للسوريين انتماءات متعددة: عربي، كردي، تركماني، شركسي، أرمني، مسلم، مسيحي، يهودي، سني، علوي، درزي، إسماعيلي، شيعي، كاثوليكي، أرثوذكسي، روم كاثوليك، بروتستانتي، سرياني، سرياني كاثوليك، ماروني، آشوري، يزيدي… إلخ. ويمكن أن تتحول أيٌّ من هذه الانتماءات في ظروف معينة إلى الهوية الأساسية لأصحابها. وهذا ما حصل لبعض الانتماءات خلال تاريخ المشرق الطويل. لكن من أكثر الأمور إثارة للدهشة في خضم الخراب والدمار الذي خلقته الحرب أن أغلبية السوريين أعطوا الأولوية للانتماء الوطني وللهوية السورية. هذا جدير بالذكر، كون الانتماء السوري لا يكاد يكون عمره مئة عام، مقارنةً بالانتماءات الأخرى التي تعود إلى مئات أو آلاف السنين. كان من الممكن أن تؤدي الأزمة إلى نتيجة مختلفًة لمصلحة الانتماء الديني أو المذهبي أو العرقي على حساب الهوية الوطنية، وبخاصة أن كثيرًا من المحرضين والمستشرقين كان يزعم في بداية الأزمة أن نظام الحكم في سورية ذو طابع طائفي وأن الحراك مذهبي. لكن لم تكن هذه هي النظرة السائدة لدى معظم السوريين الذين لم ينقسموا دينيًا أو طائفيًا أو عرقيًا حيث أخذ الانقسام بمعظم الأحيان طابعًا سياسيًا: مع أو ضد النظام. وتفوّقت الهوية السورية الجامعة على الانتماءات الأخرى بما فيها العروبة والإسلام. وهذا ما ساعد على الحفاظ على وحدة البلاد. ومن المؤشرات التي رافقت تراجع مكانة القومية العربية لمصلحة الهوية الوطنية يمكن أن نذكر على سبيل المثال ما ورد في دستور عام 2012 حول التعليم، حيث نصت المادة 28 على أن «يقوم نظام التربية والتعليم على إنشاء جيل متمسك بهويته وتراثه وانتمائه ووحدته الوطنية»، من دون أي إشارة إلى القومية العربية، في حين كانت المادة 21 من الدستور السابق قد نصت على أنْ «يهدف نظام التعليم والثقافة إلى إنشاء جيل عربي قومي اشتراكي…». حتى الناشطون الأكراد المطالبون بحكم ذاتي لم يتخلوا عن هويتهم السورية. لقد رأى معظم السوريين أن الهوية الوطنية هي المرجع والأمل للخلاص من ويلات الحرب. هذا التسلسل الهرمي للانتماءات ليس نهائيًا ولا يزال من الممكن أن يتطور مع الأحداث رغم أنه أصبح مستبعدًا بعد الآن. كما يمكن أن تتطور الهوية الوطنية من الداخل مع فسح مكان أكبر للعلمانية في المجتمع السوري. ويمكن أن نذكر في هذا الصدد الجدل الذي دار عام 2018 حول توسيع صلاحيات وزارة الأوقاف[8].

إذا اعتبارنا الانتماء السوري هو الشكل الأساسي للهوية الوطنية، هل علينا أن نستمر في كتابة كلمة «سورية» بالتاء المربوطة أم نكتبها بالألف؟ من جهتي أصبحت أميل إلى كتابتها بالألف بدلًا من التاء المربوطة مثل ما ورد اسمها في دستوري 1928 و1953. في رأيي أنه بعد عشر سنوات من الحرب التي أرادها البعض وجودية وبعد أكثر من مئة عام من التاريخ الوطني، لم تعد سورية مجرد مساحة جغرافية منقوصة أقيم عليها كيان سياسي بظروف تاريخية معينة. لقد أثبتت هذه الأزمة أن سورية بالرغم من انقسامها العمودي وتباين وجهات النظر بين أبنائها فهي دولة وطنية ووحدة سياسية متينة وقوية. إن تحديث وتطوير اسم البلد سيعكس هذه النظرة الجديدة لتلك المساحة.

ستفرز بلا شك الأزمات المتعددة التي عرفها المشرق والتي يبدو أنه لا نهاية لها منذ انفصال الولايات العربية عن الدولة العثمانية، جيلًا جديدًا من المثقفين السوريين، مدركين الأخطاء التي ارتكبت، يعلمون أنه يجب وضع الحرية ببعدها السياسي الفردي والجماعي في قلب المشروع الوطني إضافة إلى المكونات التاريخية الأخرى لهذا المشروع، مثل بناء دولة مدنية واحترام التنوع الديني والطائفي والعرقي أيضًا، ورفض الهيمنة الأجنبية والتقسيم، والسعي لتحرير الجولان المحتل والتضامن الكامل مع فلسطين، والسعي لتحقيق العدالة الاجتماعية. إن التفاف السوريين حول هذا المشروع الجامع هو الذي سيحصِّن الدولة الوطنية من التدخل الأجنبي ومحاولة زعزعة الاستقرار والتفكيك المبني على غرائز بدائية تشجع الإقصاء والانتماءات الجزئية على حساب مفهوم المواطنة السورية الحديثة. هذا ما سيبقي سورية فكرة قوية ومثالية.

في الختام، ربما يكون من المفيد أن أوضح للقارئ الكريم أن هذا الكتاب يمكن قراءته بطرائق مختلفة. يتضمن كل فصل نظامًا سياسيًا بسياقه التاريخي بما في ذلك المشروع الوطني  ودستوره وهندساته الدستورية (قانون الانتخابات وقانون الأحزاب). بعض الأنظمة لديها عدة دساتير. يمكن للقراء المهتمين بالجانب التاريخي فقط أو السياسي تخطي أو تصفح سريع للصفحات التي تتناول الدساتير. في المقابل، سيجد القارئ المهتم بالدساتير في هذا الكتاب مدخلًا جيدًا لدراسة الدساتير السورية المختلفة والتعمق بها. أما القراء الأكثر شجاعة واهتمامًا بالشأن السوري فيمكنهم قراءة هذا الكتاب بأكمله. أتمنى للجميع قراءة ممتعة.

 

المؤلف

5 حزيران/يونيو 2021