عندما أُعلن في الثلاثين من آذار/مارس 2018 انطلاق «مسيرات العودة الكبرى في قطاع غزة»، لم يتوقع أحد أن تستديم أسبوعياً لسنة كاملة. وها هي ذي الآن تستعد كي تستمر لسنة ثانية. هذا وكانت انطلاقتها مفاجأة للكثيرين (من المتشائمين)، ولا سيَّما شعارها الأول والأساسي «العودة الكبرى» متجاوزاً مرحلة التشديد على التمسك بحق العودة. وذلك من خلال التوجه إلى الحدود، وهز الشريط الشائك «مانع العودة» بزخم شبابي وتصميم معززين بتقديم عشرات الشهداء ومئات الجرحى. إنه الانتقال من الاستمساك بالحق إلى الفعل الذي يحمل رسالة للعدو وللعالم، وأيّ رسالة.

جاء انطلاق مسيرات العودة رداً على قرارين اتخذتهما إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب: أولهما الاعتراف بالقدس عاصمة لدولة «إسرائيل»، والوعد بنقل السفارة إليها؛ وثانيهما قرار وقف المساعدة الأمريكية لتمويل وكالة الغوث (الأونروا). وقد اعتُبر القرار الأول المتعلق بالقدس، الخطوة الأولى التي تتخذها إدارة الرئيس الأمريكي في مشروعها لتصفية القضية الفلسطينية الذي سمي «صفقة القرن». واعتُبر القرار الثاني الخطوة اللاحقة في مشروع «صفقة القرن» لإنهاء قضية اللاجئين. ولهذا جاءت مسيرات العودة بكل هذا الحزم والتصميم الممهورَين بالاستشهاد والجرحى.

هذا من جهة، أما من جهة أخرى، فقد انطلقت مسيرات العودة الكبرى لتؤكد الاستمساك بالثوابت المبدئية للقضية الفلسطينية وجوهرها التحرير والعودة. وقد تناسى البعض هذا الجوهر في ظل اتفاقية أوسلو و«المشروع الوطني» الذي لُخص بإقامة الدولة الفلسطينية في حدود 1967 وعاصمتها «القدس الشرقية» عبر المفاوضات والتسوية، وتعديل ميثاق م.ت.ف.

على أن أهم ما اتسمت به مسيرات العودة الكبرى، إضافة إلى ما تقدم، كان تأليف الهيئة العليا التي أعلنت عن إطلاقها، ومثلت وحدة وطنية شبه شاملة ضمت حماس والجهاد والشعبية والديمقراطية وبعض فتح والفصائل الأخرى جميعاً إلى جانب الهيئات والاتحادات والجمعيات الشعبية والشخصيات الاجتماعية المعروفة.

هذا وأُقيمت غرفة مشتركة تضم فصائل المقاومة المسلحة إلى جانب كتائب عز الدين القسام وسرايا الجهاد الإسلامي. وبهذا انوجدت قيادتان تمثلان الوحدة الوطنية المؤلفة من وحدة شعبية، ووحدة عسكرية فصائلية. وكرست هذه الوحدة قيادة جماعية، وشراكة، بعيداً من استفراد تنظيم واحد بالقيادة. وذلك بغض النظر عن التفاوت في الحجوم والأدوار ودرجة الفاعلية. ولعل هذا واحد من التفسيرات التي يُعزى لها الفضل في الاستمرارية طوال العام المنصرم، كما الزخم والقوة، والصمود، وبداية كسر الحصار عن قطاع غزة.

ثمة إنجازان كبيران حققتهما مسيرات العودة الكبرى ميدانياً: الأول، التوازي والتكامل بين استراتيجية الانتفاضة الشعبية السلمية، واستراتيجية المقاومة المسلحة. وكانت هذه الأخيرة قد وصلت إلى مستوى بناء قاعدة عسكرية من مئات الكيلومترات من الأنفاق وعشرات الألوف من الصواريخ، ومئات الألوف من المقاتلين الأشدّاء، والقيادات العسكرية التي أثبتت رباطة جأش في الحروب وذكاءً عسكرياً مقدَّراً.

أما الإنجاز الثاني فإطلاقها لمبادرة شبابية ميدانية تمثلت بما سمِّي إبداع البالونات والطائرات الورقية حاملات اللهب، وراحت تحرق آلاف الدونمات في المستوطنات المحيطة. وقد عجز العدو طوال أشهر عن إيقافها بالتصدي لها، أو بالضغوط السياسية، أو بالعملية العسكرية التي أُريد لها أن تفرض معادلة جديدة غير التي فرضت على العدو الصهيوني بعد حرب 2014. أو بعد انطلاق المسيرات، وإذا بمعادلة اشتباك جديدة من نوع آخر تفرضها الغرفة المشتركة، تجسدت في الرد على كل غارة بعشرات قذائف الهاون والصواريخ. ولم تعد الضربة الأخيرة في الاشتباك قبل وقف إطلاق النار بيد الطيران الصهيوني وإنما بيد المقاومة.

وبهذا أثبت العام الممتد من 30 آذار/مارس 2018 إلى 30 آذار/مارس 2019 أن المواجهة في قطاع غزة انتقلت إلى الهجوم؛ شعبياً من خلال مسيرات العودة الكبرى أسبوعياً، وبالمواجهة الشبابية اليومية بطائرات وبالونات اللهب، إلى جانب المقاومة العسكرية التي فرضت قواعد اشتباك في غير مصلحة جيش العدو. الأمر الذي أودى تدريجاً بالحصار إلى التزعزع وبداية الانكسار.

وختاماً تبقى قضية القضايا التي تواجه الفلسطينيين كافة في السنة الثانية من سِنِيِّ مسيرات العودة الكبرى، والمقاومة في قطاع غزة، هي قيام وحدة وطنية من نمط الهيئة العليا لمسيرات العودة: من أجل إطلاق انتفاضة شعبية سلمية شاملة لتحرير القدس والضفة الغربية من الاحتلال والاستيطان والتهويد، وبلا قيدٍ أوشرط.

وهذا هو الطريق الذي يُفشل السياسات الأمريكية المسماة «صفقة القرن» ويسمح بفتح ملف تحرير فلسطين كل فلسطين من النهر إلى البحر ومن رأس الناقورة إلى أم الرشراش.

أما بالنسبة إلى الأمة العربية، فإلى جانب الخروج من الأزمات، والسعي إلى لملمة الجراح، واستعادة التضامن العربي، بعد وقف التطبيع، ينبغي أن يصار إلى مضاعفة الجهود لمناصرة الشعب الفلسطيني في مواجهة الاحتلال والاستيطان والتهويد وإفشال «صفقة القرن».