مقدمة

بعد مرور عام على عملية طوفان الأقصى وما أعقبها من حرب إبادة جماعية شنتها إسرائيل ضد قطاع غزة، تدحرجت الأحداث على الحدود اللبنانية – الفلسطينية المحتلة إلى حرب مفتوحة وشاملة بين إسرائيل وحزب الله؛ فبعدما اقتصرت هذه الحرب على معارك ومواجهات عسكرية حدودية وقصف جوي وصاروخي ومدفعي، تحكمها قواعد اشتباك محدَّدة طوال الأشهر الماضية، منذ بدء حرب الإبادة الجماعية الإسرائيلية على غزة في 8 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، اتخذت المواجهة في الأشهر الثلاثة الأخيرة منحًى تصاعديًا بلغ العدوان الإسرائيلي على لبنان معه حد الحرب المفتوحة والشاملة، بدأت بعمليات أمنية دقيقة وقصف جوي مركَّز، مستهدفةً قادة الصف الأول من حزب الله، وآلاف العناصر العسكريين والمدنيين في الحزب، عبر عمليات تفخيخ أجهزة النداء والاتصال لديه، إضافة إلى ضرب مواقع أمامية وخلفية للمقاومة، بما فيها الأنفاق ومخازن الأسلحة؛ فضلًا عن استهداف القرى والمدن والمناطق اللبنانية التي تقطن فيها البيئة الحاضنة للمقاومة، بقصف جوي يعتمد الأسلوب التدميري الدموي نفسه الذي مارسته إسرائيل في غزة منذ الثامن من تشرين الأول/ أكتوبر 2023.

وبعد مرور نحو شهر على القصف الجوي الإسرائيلي المتمادي على لبنان، الذي شمل مناطق واسعة فيه، أبرزها الضاحية الجنوبية لبيروت، التي استهدف هذا القصف فيها أساسًا قيادة الصف الأول لحزب الله، وعلى رأسها قائد الحزب والمقاومة السيد حسن نصر الله، بدأت “إسرائيل” في الأول من تشرين الأول/أكتوبر 2024 مناورات تكتيكية رافقتها حشود عسكرية على الحدود استعدادًا لهجومها البري على لبنان. وفي اليوم التالي بدأت قوات الجيش الإسرائيلي محاولات الدخول إلى الأراضي اللبنانية، وبعد مرور نحو شهرين على هذه المحاولات نجحت “إسرائيل” خلالها في تحقيق اختراقات ميدانية لبعض الخطوط والقرى الحدودية الأمامية، في ظل مقاومة عنيفة ومركَّزة تواجهها أوقعت في صفوفها الكثير من القتلى والجرحى، وبخاصة من فرق النخبة في الجيش الإسرائيلي، ودمَّرت لها عشرات الدبابات والآليات.

في الوقت نفسه، ظلت أكثر من منطقة لبنانية تقطنها البيئة الحاضنة للمقاومة تتعرض لغارات عنيفة من الطيران الإسرائيلي توقع الكثير من الضحايا المدنيين، وتحدث دمارًا هائلًا في المباني السكنية والمنشآت التجارية والخدمية وتقطع الطرق بين المناطق اللبنانية أو بين لبنان وسورية. وفي المقابل ترد المقاومة بضرب مناطق متعددة من “إسرائيل”، بما فيها مراكز قيادية عسكرية أو أمنية واستخبارية وشركات تصنيع عسكري ومراكز وتجمعات إمداد خلفية للجبهة، من دون أن يكون هناك أي أفق واضح حتى الآن لانتهاء هذه الحرب، على الرغم من تسارع الاتصالات والمساعي الدبلوماسية للتوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار.

فما هي خلفيات هذه الحرب المفتوحة والشاملة على لبنان، وما هي أهدافها، وما هي مساراتها واحتمالات توسعها إلى حرب إقليمية؟

أولًا: خلفيات الحرب

قلّما يتخذ التطور التاريخي في المجتمعات التابعة في العالم الثالث مسارًا طبيعيًا تحدده التطورات الذاتيّة والموضوعية والتحوُّلات والتراكمات والتناقضات داخل المجتمع نفسه، بل غالباً ما تكون العوامل الخارجية هي المؤثرة والمتدخِّلة في قطع مسارها التاريخي وفي تقرير مصيرها. وما تعيشه القضية الفلسطينية والصراع العربي التحرري – الإسرائيلي من تحكُّمٍ للعامل الخارجي في هذه القضية وهذا الصراع، وضع هذين القضية والصراع بين شاقوفين: شاقوف المشروع الصهيوني الاقتلاعي العنصري المدعوم والمتداخل مع النظام الإمبريالي العالمي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية من جهة، الذي يسعى إلى القضاء على القضية الفلسطينية بالقوة العسكرية والعنف والدم، وشاقوف النظام الرسمي العربي المحكوم من النظام الإمبريالي العالمي نفسه من جهة أخرى، الذي يسعى إلى إنهاء القضية الفلسطينية بالصفقات السياسية من خلال مسار التطبيع مع “إسرائيل”. وقد جاءت عملية طوفان الأقصى ردًا على مأزق وقوع القضية الفلسطينية بين شاقوفين، بعدما بات الخناق يضيق حول عنق هذه القضية، وحتى على حياة الشعب الفلسطيني في غزة المحاصرة منذ زمن، ولم يُترك خيار أمام هذا الشعب ومقاومته إلا العمل على الخروج من المأزق. وليس هذا الوضع بعيدًا من الموقف الذي واجهته المقاومة على الساحة اللبنانية بعد السابع من أكتوبر، مع إطلاق “إسرائيل” حرب الإبادة الجماعية في غزة، التي وجدت هذه المقاومة نفسها بدورها أمام خيارين محددين لا ثالث لهما.

هكذا ارتبط تسخين الجبهة بين لبنان و”إسرائيل” بتطورات أحداث اليوم التالي لعملية طوفان الأقصى في قطاع غزة في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، فحرب القضاء على المقاومة والإبادة الجماعية التي أطلقتها “إسرائيل” على غزة في اليوم التالي للطوفان، وضعت المقاومة في لبنان أمام أحد هذين الخيارين: إما خيار فتح الجبهة في لبنان، وربما الإقليم، على وسعها دفاعًا عن قطاع غزة ومقاومته، واستخدام المقاومة كل ما راكمته من أسلحة وقوات وخبرات عبر سنوات في معركة واسعة أو كبرى لإسناد القطاع، وإما خيار حرب الاستنزاف عبر استهداف الجيش الإسرائيلي وإشغاله على الحدود الشمالية لتخفيف العبء العسكري عن غزة وفق قواعد اشتباك مضبوطة على مستويات متعدِّدة، أبرزها نوع الأهداف المنتقاة في عمليات الاشتباك، المحصورة تحديدًا بالمواقع والأهداف العسكرية، وبالمدى الجغرافي لحقل الاشتباك، الذي لم يتجاوز عمقه في البداية الخمسة كيلومترات على طول الجبهة بين لبنان والأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948. أما ما يُحكى عن خيار ثالث أمام المقاومة في لبنان فكان يُطرح من الجهة المقابلة، أي من جانب الولايات المتحدة و”إسرائيل” وبعض الأطراف والجهات السياسية اللبنانية والإقليمية والدولية، ويدعو إلى إبقاء لبنان خارج دائرة التدخل لنصرة غزة.

1 – الخيارات المتاحة

كان وضع المقاومة في لبنان محكومًا بعدة ظروف وعوامل تحدّد خياراتها الممكنة في مواجهة حرب الإبادة الجماعية التي يتعرض قطاع غزة لها، وهي ظروف وعوامل كانت تستبعد كليًّا خيار عدم التدخل لنصرة غزة، منها أن المقاومة في لبنان، التي تمثل رأس الحربة في محور المقاومة في المنطقة، وهي طالما أكدت مركزية القضية الفلسطينية وتحرير القدس في مشروعها المقاوم، وكانت سندًا لوجستيًا رئيسيًا لها على مدى عقود، وهي طالما شدَّدت على وحدة الساحات بين فصائل المقاومة في المنطقة، وهي كذلك طالما راهنت الشعوبُ العربيةُ والإسلاميةُ عليها في الدفاع عن القضية الفلسطينية؛ قد أدركت أن حرب الإبادة الجماعية على قطاع غزة هي عملية إسرائيلية للقضاء على المقاومة الفلسطينية في معقلها الرئيسي، تمهيدًا لتصفية القضية الفلسطينية واستكمال مشروع التطبيع في المنطقة، وبالتالي لا يمكن المقاومة في لبنان أن تقف مكتوفة الأيدي أمام ما يحدث في القطاع، إذ كان ذلك القرار سيساعد “إسرائيل” على الاستفراد بالمقاومة الفلسطينية، وتضييق الخناق على الشعب الفلسطيني وقضيته، وهو أمر سيغدو بمنزلة الانتحار السياسي لحزب الله في لبنان، الذي كان سيفقد مصداقيته أمام الشعب الفلسطيني والشارع العربي، وبخاصة بعد الشرخ المذهبي السنِّي – الشيعي في العالم العربي، الذي عملت الولايات المتحدة و”إسرائيل” وبعض دول الخليج العربية عليه، منذ حرب تموز/يوليو 2006، ثم بعد “الربيع العربي”، بهدف إضعاف شعبية حزب الله في الشارع العربي، وهو شرخ كان سيزداد عمقًا لو وقف حزب الله متفرجًا على إبادة غزة. فضلًا عن أن “إسرائيل” كانت ستنتقل إلى ضرب حزب الله بعد الانتهاء من غزة، بغض النظر عن الموقف الذي كان الحزب سيتخذه تجاه الحرب في القطاع.

وهذا ما حصر خيارات المقاومة في لبنان في أحد الخيارين: إما خيار الحرب الواسعة، أي الحرب الكبرى، على قاعدة وحدة الساحات التي كان محور المقاومة يجاهر بإعداد نفسه لها؛ وإما خيار الحرب المحدودة وفق قواعد الاشتباك المنضبطة والمحددة مهمتها وأبعادها بإسناد غزة والمطالبة بإيقاف حرب الإبادة الجماعية فيها.

2 – الظروف المحيطة

كان خيار الحرب الواسعة أو الكبرى، دفاعًا عن غزة والقضية الفلسطينية دونه عقبات لوجستية واستراتيجية لدى معظم أطراف محور المقاومة، تحول دون لجوء هذا المحور إلى ذاك الخيار في ذلك التوقيت؛ فالظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في معظم بلدان المحور متهالكة ومنهكة، إما بسبب تداعيات الربيع العربي وما فجّره من حروب واحتلالات خارجية وتدمير مجتمعي في غير بلد عربي، وإما بسبب سياسات الخنق الاقتصادي التي تمارسها الولايات المتحدة ضد هذا البلد أو ذاك في المنطقة، وإما بسبب السياسات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية المعتمدة في تلك البلدان التي فشلت في تحقيق التنمية ومكافحة الفقر والبطالة والفساد، وفي توفير حياة كريمة لشعبها، محرِّرة إيَّاه من الجوع والخوف والاستبداد، وإما بسبب وجود انقسامات سياسية حادة حول قضايا الهوية والخيارات الوطنية الكبرى داخل بعض المجتمعات العربية؛ وهو أمر كانت له تداعياته وتأثيراته حتى في بيئة المقاومة نفسها.

وعلى المستوى العسكري أكدت حرب غزة منذ يومها الأول أن الصراع في المنطقة له بعده الوجودي من جهة وبعده الإمبريالي العالمي من جهة أخرى، وهما في النهاية وجهان لعملة واحدة، وبالتالي فإن محور المقاومة لا يمثِّل عائقًا أمام المشروع الصهيوني فحسب بل أمام نظام الهيمنة الإمبريالي على المنطقة والعالم بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، وهكذا فإن “إسرائيل” لن تكون وحدها في مواجهة أي حرب تتعرض لها، كونها جزءًا أساسيًا ورأس حربة في المعسكر الإمبريالي العالمي الذي تقوده الولايات المتحدة، وهي تمثِّل القاعدة الأمامية الأكثر رعايةً وتسليحًا لهذا المعسكر، كما أنها تحفظ مصالح الغرب الاقتصادية، وتعبِّر عن خلفيته الثقافية العنصرية أيضًا. كل ذلك كان يستدعي لأي مواجهة مع “إسرائيل” الأخذ في الحسبان الدعم العسكري والاستخباري والمالي واللوجستي الذي ستتلقاه “إسرائيل” من حلفائها في هذه الحرب، وبخاصة أن الحرب الكبرى، المتَّسعة على مستوى المنطقة، تستدعي الدخول في مواجهات حروب كلاسيكية، التفوُّق التكنوعسكري الكمي والنوعي فيها يميل لمصلحة المعسكر الغربي – الإسرائيلي.

3 – حسابات الربح والخسارة

إذًا، كان اتخاذ قرار الدخول في مواجهة كبرى ضد “إسرائيل” في المنطقة، وبخاصةٍ على قاعدة حرب كلاسيكية، محكومًا مسبقًا بخلل في موازين القوى العسكرية والأمنية والتقانية بين أطراف الصراع. ومن الطبيعي أن تكون موازين القوى بين محور المقاومة و”إسرائيل” والمعسكر الإمبريالي غير متكافئة إلى حد بعيد، وهذا أمر له بعده التراكمي التاريخي والاقتصادي-السياسي المعروف. لذلك، وعلى الرغم مما راكمه محور المقاومة من قدرات عسكرية على مستوى الأسلحة الكلاسيكية وحرب العصابات، وبخاصةٍ على مستوى تكتيكات الحرب البرية والأسلحة المضادة للدروع، التي أفقدت الجيش الإسرائيلي ميزة التفوُّق في هذه الحرب، أو على مستوى القدرات الصاروخية والطائرات من دون طيار التي كسرت نسبيًا بعض ميزات التفوُّق المطلق لسلاح الجو الإسرائيلي، أو على مستوى البنى التحت الأرضية على المستويين السابق ذكرهما أعلاه، فإن هذه القدرات لا توفر الشروط الاستراتيجية الكافية لدخول دول هذا المحور في حرب كلاسيكية كبرى في مواجهة “إسرائيل” وضمان الانتصار فيها، قياسًا على أهداف تكون في حجم هذه الحرب، وبخاصة أن ظروف الاستعداد للمواجهة الكبرى التي طالما لـمَّحت إليها قوى المقاومة لم تكن قد اكتملت بعد، إذ لا تزال هذه القوى، بمن فيها إيران، تفتقر، على الأقل، إلى منظومة فاعلة للدفاع الجوي أمام التفوُّق الشاسع لسلاح الجو لدى “إسرائيل”، أو حتى لدى الغرب بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، الذي أظهر منذ الأسبوع الأول للحرب أنه مستعد للذهاب إلى أبعد الحدود في دعم “إسرائيل” في أي حرب كهذه.

من جهة أخرى، إذا كان محور المقاومة قد اعتمد أساسًا على تطوير القوة الصاروخية والمسيّرات لكسر معادلة التفوُّق الجوي الإسرائيلي، فإن دفع الولايات المتحدة وبعض دول الغرب بقواتها وقطعها البحرية المزوّدة بأسلحة الدفاع الجوي إلى البحر المتوسط في بداية الحرب على غزة دفاعًا عن “إسرائيل”، قد أفقد القدرات الصاروخية لمحور المقاومة حينها عنصر المفاجأة وحدَّ مسبقًا من فعالية أي مواجهة كانت ستنشأ يومها مع “إسرائيل”، وبخاصةٍ بعد إطلاق “إسرائيل” حربها الإبادية ضد غزة وبلوغ جيشها ذروة جهوزيته الدفاعية والهجومية، واحتشاد القوات البحرية الأمريكية والغربية في المنطقة دعمًا لها وتوفير ما يلزمها من ذخائر وأنظمة دفاع جوي ومعلومات في وجه صواريخ المقاومة ومسيَّراتها وقواعدها.

أضف إلى ذلك، وهذا هو الأهم، أن “إسرائيل” استطاعت بلوغ جيل جديد من التقانة العسكرية أحدث تحوُّلًا كبيرًا في مفهوم الحروب، وهو جيل لم يراكم محور المقاومة أية قدرات تُذكر فيه حتى الآن، وهو الذكاء الاصطناعي (AI) وخزانات المعلومات الهائلة المرتبطة به، الذي أول ما دشنته الولايات المتحدة والحلف الأطلسي على مستوى واسع في حرب أوكرانيا، ودشنته إسرائيل في غزة، على مستوى محدود في معركة “سيف القدس” في أيار/ مايو 2021، ثم استُخدم بكثافة في حرب غزة الحالية، وبخاصةٍ في الأشهر الأولى من الحرب. والآن تقوم إسرائيل باستخدامه في حرب لبنان، وهو مثَّل عنصر المفاجأة الرئيسي لمصلحة المعسكر الإمبريالي في هذه الحروب، وبخاصةٍ لناحية الكشف عن عناصر المقاومة، والتعرُّف إلى وجوههم وأصواتهم وأماكنهم، والتنصت عليهم من خلال هواتفهم، ومراقبة تحركاتهم وملاحقتهم، وصولًا إلى استهدافهم، ولناحية الربط الآلي التلقائي بين ساحة العمليات وبين سلاح الجو والمسيَّرات والمدفعية بناء على معلومات بصرية وصوتية وأثيرية وإحداثية متقاطعة حيّة من الميدان.

4 – القرارات الصعبة

أمام كل هذه العوامل لم يكن قرار الحرب الشاملة متوافقًا عليه أو ممكنًا اتخاذه من جانب مختلف أطراف محور المقاومة على الساحة الإقليمية، في بداية الحرب على غزة، وبخاصة من جانب إيران، الداعم الرئيسي لمحور المقاومة، كدولة إقليمية يرتبط قرار الحرب عندها بتقديرات وحسابات ومخاطر وعلاقات وموازين قوى دولية كبرى لا يبدو أن إيران كانت مستعدة لها، على الرغم من تحوُّل هذه الحرب إلى مطلب شعبي عربي وإسلامي مع تزايد حدة العنف الوحشي والإجرام والإبادة الجماعية التي تمارسها القوات الإسرائيلية في غزة، فالأطراف الرئيسية في محور المقاومة، المعنية بفتح هذه الحرب دفاعًا عن القطاع، كانت عملية طوفان الأقصى وحرب الإبادة الجماعية التي أعقبتها مفاجئتين لها، ولم يكن سهلًا على هذه الأطراف الذهاب إلى حرب كبرى لم تحدد هي توقيتها، ولم تستكمل استعداداتها العسكرية والأمنية والبشرية واللوجستية لخوضها.

كل هذه العوامل رجَّحت تدخُّل حزب الله في حرب إسناد غزة في حدود الحرب المحدودة المضبوطة وفق قواعد الاشتباك المذكورة أعلاه، التي سعى من خلالها إلى تخفيف الضغط عن جبهات قطاع غزة عبر تشتيت قوات العدو وإشغال جزء مهم من وحداته القتالية على جبهته الشمالية، على طول الحدود اللبنانية – الفلسطينية التي تحتاج إلى عدد كبير من الجنود والوحدات اللوجستية لتغطيتها.

لكن مع تحوُّل جبهة الشمال وتطورات الميدان فيها مع الوقت إلى عامل استنزاف وعبء جدي على كلا الجيش والمجتمع الإسرائيليَّين، نتيجة الخسائر البشرية واللوجستية والضغوط العسكرية والاقتصادية والسكانية، مقابل تراجع عبء ساحة غزة على “إسرائيل” بعد مرور نحو عام على حرب الإبادة الجماعية فيها، نقلت “إسرائيل” ثقلها الحربي إلى جبهة الشمال مع لبنان تحت شعار إعادة السكان الصهاينة إلى منازلهم وفصل الترابط بين جبهتي غزة ولبنان وإبعاد قوات حزب الله من الحدود إلى ما وراء نهر الليطاني، الذي يبعد نحو40 كلم من الحدود اللبنانية – الفلسطينية، استنادًا إلى قرار مجلس الأمن الرقم 1701 لعام 2006، الذي توقفت حرب لبنان في ذلك العام بموجبه. وهذا ما دفع المقاومة في لبنان إلى تصعيد المواجهة مع “إسرائيل” ردًا على التصعيد الإسرائيلي.

ثانيًا: أهداف الحرب

1 – الخطة المسبقة

على الرغم من التصريحات الإسرائيلية التي كانت تربط فتح جبهة الشمال مع لبنان بهدف تأمين عودة النازحين الصهاينة إلى مستوطناتهم وبيوتهم في شمال فلسطين المحتلة، التي اضطروا إلى النزوح عنها بفعل ضربات المقاومة في جنوب لبنان، فإن “إسرائيل” لم تتوقف، منذ ما قبل إطلاقها الحرب ضد غزة عقب عملية طوفان الأقصى، عن بعث رسائل سياسية وعسكرية وأمنية، رسمية وغير رسمية، إلى المنطقة تعبِّر فيها عن استعدادها لتوسيع دائرة المواجهة لتغيير المعالم الجيوسياسية للمنطقة من خلال ثلاثة عناوين: القضاء على محور المقاومة، وإنهاء القضية الفلسطينية، وصولًا إلى ضرب إيران، الراعي والداعم الرئيسي لمحور المقاومة، من خلال توسيع دائرة المواجهة في المنطقة بهدف استدراج الولايات المتحدة إلى الانخراط فيها لضرب إيران ومنشآت البرنامج النووي لديها، الذي تُصِرُّ “إسرائيل” على عدم قدرتها على التعايش معه حتى لو بقي هذا البرنامج في حدود الاستخدام السلمي؛ فـ”إسرائيل” هي الدولة الوحيدة في الشرق الأوسط التي تملك سلاحًا نوويًا، وهي تسعى بكل ثقلها لمنع أي محاولة لكسر احتكارها للردع النووي في المنطقة، وبخاصة من جانب دول يمكن أن تكون معادية لها.

وإذا كان البرنامج النووي الإيراني تعود بداياته إلى خمسينيات القرن الماضي، في عهد الشاه محمد رضا بهلوي، وكان يحظى برعاية ودعم أمريكا وأوروبا بوضوح، فإن انتصار الثورة الإسلامية في إيران عام 1979، التي انتقلت إيران معها من دولة حليفة للغرب و”إسرائيل” إلى دول معادية لهما، تضع قضية تحرير فلسطين في رأس قائمة أولوياتها في عقيدتها الوطنية والدينية وفي سياستها الخارجية في المنطقة، جعل الغرب يتخلى عن مشاركته في بناء هذا البرنامج وتنفيذه، وأخذت “إسرائيل”، وبعض دول الخليج العربية الدائرة في الفلك الأمريكي، تحرِّض الولايات المتحدة على ضربه وإيقافه، عبر استدراجها إلى تنفيذ عملية عسكرية ضد إيران، وهذا ما شدّد عليه المحافظون الجدد في الإدارة الأمريكية ولدى صنّاع السياسات والقرار منذ بدايات هذا القرن، وهو ما كان مطروحًا بالتالي على جدول أعمال الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن بعد غزو العراق عام 2003، ثم بعد حرب تموز/ يوليو 2006 في لبنان. وطالما عملت “إسرائيل” خلال العقود الماضية على تنفيذ عمليات أمنية داخل إيران ضد هذا البرنامج، سواء عبر اغتيال بعض العلماء ذوي الصلة به، أو عبر تنفيذ عمليات تفجير وتخريب مباشرة في بعض منشآته، أو عبر السعي لتخريبه وإعاقته بهجمات سيبرانية، كان أبرزها فيروس ستاكسنت (Stuxnet) الذي تديره الوحدة 8200 الاستخباراتية في “إسرائيل”، والذي استهدف أجهزة طرد مركزي في البرنامج.

2 – الخطوات الممهِّدة للحرب

اتخذت “إسرائيل” قرار فتح جبهة الشمال ضد لبنان على خلفية حادثة بلدة مجدل شمس في الجولان السوري المحتل في 27 تموز/يوليو 2024، التي وقع ضحيتَها عددٌ من فتيان البلدة في إثر سقوط صاروخ قربهم زعمت “إسرائيل” أن مصدره المقاومة في لبنان، في حين كانت كل الأدلة تشير إلى أن الصاروخ الذي انفجر في مجدل شمس كان صاروخًا حربيًا إسرائيليًا من بقايا نظام القبة الحديدية التابع للدفاع الجوي الإسرائيلي. لكن كل الحروب التي تخوضها إسرائيل، كما الولايات المتحدة الأمريكية، تبدأ بحجة مفبركة، ولا تلبث أن يظهر زيفها لاحقًا، تلقي اللَّوم على الطرف الآخر بارتكابه اعتداء عليها. فهل تهدف هذه الحرب فعلًا إلى تحقيق مطالب “إسرائيل” بإعادة سكان الشمال إلى بيوتهم وبفصل الجبهة الشمالية عن جبهة غزة عبر إبعاد قوات حزب الله من الحدود، كما تزعُم التصريحات الرسمية الإسرائيلية، أم أنها تهدف إلى ما هو أبعد من ذلك؟

كانت “إسرائيل” تعمد في حروبها السابقة إلى عدم الكشف عن خطتها العسكرية النهائية للحرب، إما بهدف حفاظها على مياه وجهها في حال تعذُّر تحقيقها الهدف المطلوب، فكانت تكتفي بذكر أهداف متواضعة غير بعيدة من نتائج الميدان، وإما بهدف تركها الباب مفتوحًا أمام خطتها لتوسيعها في حال تدحرج أوضاع الميدان أمامها على نحو يتيح لها توسيع مروحة الأهداف.

يُظهر تطور سير الأحداث منذ ما بعد حادثة مجدل شمس، أن أهداف العملية العسكرية الإسرائيلية في لبنان لم تكن مرتبطة بالأهداف المعلنة رسميًا وبالمطالب الإسرائيلية المتعلقة بفصل جبهة لبنان عن جبهة غزة وإبعاد عناصر حزب الله من الحدود اللبنانية – الفلسطينية لضمان عودة سكان شمال الكيان الصهيوني إلى “بيوتهم”؛ فاستهداف نحو 4000 عنصر من عناصر حزب الله العسكريين والمدنيين، الذين يستخدمون أجهزة النداء والاتصال في ضربتين متتاليتين خلال 24 ساعة، في 17 و18 أيلول/ سبتمبر 2024، ثم العمل على اغتيال معظم أركان القيادة العسكرية للحزب في غضون عشرة أيام بواسطة الغارات الجوية، وصولًا الى اغتيال السيد حسن نصر الله نفسه في 27 أيلول/ سبتمبر، والبدء بشن غارات جوية مكثفة على مختلف المناطق اللبنانية التي يوجد حضور للمقاومة فيها، لا يمكن  أن يكون محصورًا بالأهداف المذكورة أعلاه، بل هو مقدمة لحرب تهدف إلى تدمير الحزب والقضاء عليه، في سياق مشروع أوسع لضرب محور المقاومة في المنطقة بما فيه إيران، والقضاء على القضية الفلسطينية، واستكمال عملية التطبيع الإسرائيلي مع المنطقة العربية كلها، بعد تحييد أي طرف فيها يقف في وجهه.

ثالثًا: مسارات الحرب المفتوحة والشاملة

1 – بدء الحرب المفتوحة والشاملة

بدأت “إسرائيل” الحرب المفتوحة والشاملة على لبنان باستهداف القيادي البارز في حزب الله فؤاد شكر في 30 تموز/يوليو 2024، وهي عملية مثّلت، بحجمها وبمكان وقوعها، تجاوزًا مقصودًا لقواعد الاشتباك مع حزب الله، التي حكمت المعارك والاستهدافات المنضبطة التي انطلقت في جنوب لبنان ضد المواقع الإسرائيلية والردود الإسرائيلية عليها منذ 8 تشرين الأول/أكتوبر 2023، وراحت تتوسع جغرافيتها ويرتفع سقف أهدافها من وقت إلى آخر، إما بتوسيع المجال الجغرافي لعمليات القصف الجوي وإما باستهداف قادة من المقاومة الفلسطينية، كان أبرزهم القيادي في حركة حماس صالح العاروري الذي اغتيل في ضاحية بيروت الجنوبية في 2 كانون الثاني/ يناير 2024، ثم رئيس المكتب السياسي للحركة إسماعيل هنية الذي اغتيل في طهران في 31 تموز/ يوليو 2024، وهذا مسار لمقدمات الحرب كان السير فيه حتميًا نظرًا إلى ارتباطه منذ اليوم الأول بمسار الحرب وأهدافها في غزة، وبالأهداف والخطط المعَدّة مسبقًا ضد المقاومة في لبنان والمنطقة.

لم يكن أمام المقاومة في لبنان مع هذا الخرق الإسرائيلي لقواعد الاشتباك الذي مثّله اغتيال فؤاد شُكر من خيار سوى الرد على نحو يحفظ معادلة الردع التي كرستها المقاومة منذ حرب تموز/يوليو 2006، وكانت تحرص على الحفاظ عليها في كل المرحلة التي تلتها؛ فجاء الرد على عملية اغتيال شُكر بضربة جوية مسيّرة وجهها حزب الله إلى مراكز أمنية إسرائيلية بتاريخ 24 آب/أغسطس، أبرزها مركز وحدة التجسس الإلكتروني والعمليات السيبرانية والذكاء الاصطناعي الإسرائيلية 8200 في غليلوت شمال تل أبيب.

وبعد نجاح “إسرائيل” في القضاء على قيادة حزب الله في أواخر أيلول/ سبتمبر استكملت عدتها العسكرية على الحدود اللبنانية لبدء الهجوم البري على الحزب، في الوقت الذي بدا الحزب أول وهلة أنه فقد منظومة القيادة والسيطرة لديه ولن يستطيع الصمود أمام حرب برية حشدت “إسرائيل” لها نحو 70 ألف جندي على الحدود اللبنانية موزعة على خمس فرق عسكرية ولواءين تضم معظم ألوية النخبة لديها. وأخذت “إسرائيل” ترفع من سقف هذه العملية، فراحت تتحدث عن القضاء على حزب الله واحتلال جنوب لبنان وصولًا إلى نهر الليطاني، أو نهر الأولي شمال صيدا، أو حتى إلى أقصى شمال لبنان إذا اقتضى الأمر. وتأسيس نظام جديد في لبنان لمرحلة ما بعد حزب الله يكون نظامًا صديقًا لإسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية، المشارِكة بقوة في هذه الخطة.

2 – إطلاق العملية البرية

بدأت “إسرائيل” هجومها البري على لبنان في 1 تشرين الأول/ أكتوبر، بعمليات قصف جوي واسعة ومتواصلة، استهدفت بها التحصينات والمواقع الأمامية للمقاومة على الجبهة، ومعظم المناطق اللبنانية التي تقطن فيها البيئة الحاضنة لحزب الله، والتي يمكن أن تختزن مستودعات أسلحة وقواعد إطلاق صواريخ وطائرات مسيرة تابعة للحزب. وفي الوقت نفسه بدأ الجيش الإسرائيلي يحرك قواته البرية باتجاه الأراضي اللبنانية من خمسة محاور على طول الحدود اللبنانية – الفلسطينية الممتدة نحو 120 كلم، تبدأ من الناقورة غربًا على البحر المتوسط وتنتهي بمزارع شبعا شرقًا على الحدود اللبنانية – السورية. وقد توزعت فرق الجيش الإسرائيلي على هذه المحاور، وفق مصادر غرفة العمليات في المقاومة الإسلامية في لبنان، على النحو التالي: المحور الأول هو منطقة عمليّات الفرقة 146 في جيش العدو، ويمتد من الناقورة غربًا وصولًا إلى مروحين شرقًا؛ المحور الثاني هو منقطة عمليّات الفرقة 36 في جيش العدو، ويمتد من راميا غربًا وصولًا إلى رميش شرقًا (عيتا الشعب ضمنًا)، ومن رميش وصولًا إلى عيترون شرقًا؛ المحور الثالث هو منطقة عمليّات الفرقة 91 في جيش العدو، ويمتد من بليدا جنوبًا وصولًا إلى حولا شمالًا؛ المحور الرابع هو منطقة عمليّات الفرقة 98 في جيش العدو، ويمتد من مركبا جنوبًا وصولًا إلى قرية الغجر اللبنانيّة المُحتلّة شرقًا؛ المحور الخامس هو منطقة عمليّات الفرقة 210 في جيش العدو، ويمتد من قرية الغجر وحتى مزارع شبعا اللبنانيّة المحتلّة.

ترافقت العملية البرية مع مروحة واسعة من التصريحات والمواقف السياسية الإسرائيلية والأمريكية التي تحدِّد أهداف هذه العملية وترسم سيناريوهات مرحلة ما بعد الحرب. وعلى الرغم من أن معظم هذه المواقف والتصريحات كانت تنطلق مسبقًا من مسلَّمة هزيمة حزب الله في هذه الحرب، فإن هذه المواقف كانت تتفاوت من ناحية السقوف التي ترسمها للحرب، بدءًا من الكلام على إيقاف إطلاق الصواريخ من لبنان باتجاه شمال فلسطين المحتلة لتأمين عودة المستوطنين الصهاينه إلى بيوتهم، مرورًا بتطبيق القرار 1701 معدّلًا، والعودة إلى القرار1559، ونزع سلاح حزب الله، وإخضاع الحدود اللبنانية لمراقبة دولية بعد الحرب لمنع دخول أسلحة إلى حزب الله، مرورًا باحتلال جنوب لبنان وتهجير سكانه ذوي الأغلبية الشيعية منه نهائيًا وخلق منطقة جغرافية عازلة فيه، أو ضم جنوب لبنان إلى الكيان الصهيوني والمباشرة في بناء مستوطنات صهيونية فيه. وصولًا إلى الكلام على توسيع دائرة الحرب باتجاه الأراضي السورية واحتلال دمشق وإسقاط النظام السوري، تمهيدًا لتوسيع الخريطة السياسية لإسرائيل عبر ضم أراضٍ عربية إضافية إليها من الدول المجاورة لها بناءً على الأطماع الجغرافية والمائية الجاهزة دائمًا في المشروع الصهيوني التوسعي، وتغيير الخريطة السياسية للمشرق العربي على أسس طائفية ودينية وعرقية تتلاءم مع الطبيعة الدينية العنصرية لدولة إسرائيل، بعد استكمال عملية القضاء على محور المقاومة في المنطقة، وصولًا إلى تقليص نفوذ إيران في المنطقة، وبناء نظام شرق أوسطي خاضع للسيطرة الأمريكية والإسرائيلية.

3 – أبعاد الحرب المفتوحة والشاملة

انطلقت الحرب المفتوحة والشاملة ضد المقاومة في لبنان على مستويات مختلفة، على الرغم من أنها تركّزت حتى اليوم في جغرافية بيئة المقاومة ومناطق وجودها وحركتها. وكون الحرب المفتوحة والشاملة لا تقتصر على الأعمال العسكرية وحدها في مناطق محددة بل تشمل مختلف المجالات والأبعاد، فقد كان دور الولايات المتحدة في هذه الحرب واضحًا على أكثر من صعيد.

أ – الحرب المفتوحة

تتخذ الحرب المفتوحة ضد المقاومة في لبنان ثلاثة أبعاد رئيسية: أفقي وعمودي وبنيوي. يشمل البعد الأفقي، المكاني، جغرافية حزب الله ومناطق تمركزه وتحركه وانتشاره المؤسسي، العسكري والمدني، والسكاني، ومناطق إقامة بيئته الحاضنة، فضلًا عن خطوط تحرُّكه خارج هذه الجغرافية. لذلك تركَّز العدوان الإسرائيلي أساسًا في جنوب لبنان أولًا، حيث تقع الحدود اللبنانية – الفلسطينية، أي الخطوط الأمامية لجبهة القتال وخط الدفاع الأول عن المقاومة، وفي الوقت نفسه إحدى المناطق السكانية الرئيسية لبيئة المقاومة، إذ تمثل قرى جنوب لبنان ومدنه البيئة الحية التي ترفد المقاومة بالمجاهدين؛ وفي منقطة البقاع ثانيًا، وبخاصة منطقة بعلبك والهرمل، التي تمثل مركز ثقل أساسيًا أيضًا للبيئة الحاضنة للحزب وبالتالي رافدًا آخر للمجاهدين، ومناطق إسناد خلفية لجبهة الجنوب؛ ثم في الضاحية الجنوبية لبيروت ثالثًا، التي تمثل الجغرافية الرئيسية للبنية المركزية السياسية والمؤسسية للحزب، والرافد الثالث للمجاهدين فيه.

ويتعلق البعد العمودي بالمدة الزمنية للحرب، وهي تبدو حتى الآن مدة مفتوحة يرتبط تحديدها بطبيعة الأهداف وبوضع الميدان في الحرب البرية، الذي يتوقف عليه سقف الأهداف والمدى الزمني للحرب، التي دخلت حتى اليوم الأسبوعَ الأخير من شهرها الثاني، في ظل مقاومة شرسة يواجهها الهجوم البري الإسرائيلي، وهو ما أدى إلى إعادة خفض سقف الطموحات وتقليص دائرة الأهداف، والعودة إلى الكلام على وقف لإطلاق النار على قاعدة القرار 1701 أو صيغة معدلة منه لا يمكن لبنان قبولها، في الوقت الذي لا تزال جبهة الجنوب تشهد مواجهات عنيفة بين المقاومة والقوات الصهيونية، التي تحاول تجاوز القرى اللبنانية الأمامية المحاذية للحدود نحو النقاط والمرتفعات الاستراتيجية وبعض المناطق الداخلية، من دون أن تنجح في السيطرة الكاملة على أي من هذه المناطق وتثبيت مواقع جديدة لها فيها.

أما البعد البنيوي فيتعلق بخطة “إسرائيل” لاستهداف بنية حزب الله من الداخل، من خلال تنفيذها عملية تفخيخ أجهزة النداء (Pagers) ووسائل الاتصال اللاسلكية (17 و18 أيلول/ سبتمبر 2024) التي يستخدمها مجاهدو الحزب والناشطون المدنيون فيه. وقد أطلقت “إسرائيل” على هذه الخطة تسمية الزر الأحمر، التي تقضي بتدمير الحزب من الداخل بكبسة زر، والتي نجحت إسرائيل من خلالها في اختراق شبكة الاتصالات السرية لدى الحزب وبيعه، قبل عامين أو أكثر، نحو أربعة آلاف جهاز نداء، فضلًا عن أجهزة اتصال لاسلكية، زرعت فيها عبوات ناسفة نائمة، يمكن التحكُّم في توقيت إيقاظها وتفعيلها من جانب “إسرائيل” سيبرانيًا. وقد عملت “إسرائيل” نحو عقد من الزمن لإعداد هذه العملية المعقَّدة، بعدما أسست من أجلها مصانع وشركات وهمية في أوروبا وآسيا، كانت واجهة مررت “إسرائيل” من خلالها صفقة الأجهزة المفخخة إلى حزب الله. وأعقبت هذه العملية عمليات اغتيال بالقصف الجوي للقيادة العليا في المقاومة انتهت بتصفية معظم قادة الصف الأول فيها، وعلى رأسهم السيد حسن نصر الله. وهذه العملية التي استهدفت تدمير بنية الحزب تمثل أحد أبعاد الحرب المفتوحة التي مهّدت لبدء الحرب البرية.

ب – الحرب الشاملة

تستهدف الحرب الشاملة الأبعاد القطاعية المختلفة لدى المقاومة وبيئتها والمجال الذي تعمل فيه. وأهم هذه الأبعاد: العسكري – الأمني والإعلامي والاقتصادي – الاجتماعي والسياسي.

في البعد العسكري – الأمني تستخدم “إسرائيل” في هذه الحرب مختلف القطاعات العسكرية لديها، البرية والبحرية والجوية والفضائية، التقليدية والذكية. وهي تستهدف البنية العسكرية للحزب، البشرية واللوجستية، سواء في المواجهة المباشرة على الجبهة الأمامية للحرب عبر استهداف مَن تَعُدُّهم “إسرائيل” مجاهدين في المقاومة ومراكز عسكرية أو مستودعات أسلحة وذخائر ومنصات إطلاق صواريخ، وغيرها من الأهداف العسكرية. وتؤدي الطائرات المسيَّرة التي لا تفارق الأجواء اللبنانية على مدار الساعة دورًا رئيسيًا في مجال الرصد والاستطلاع وبالتالي في تحديث بنك الأهداف.

يترافق ذلك مع نشاط استخباري إسرائيلي على الساحة اللبنانية لا يقل أهمية، إذ لا تزال إسرائيل تعمل على تشغيل عدد كبير من العملاء والجواسيس بهدف التقاط الصور وجمع المعلومات حول شخصيات محددة، أو مواقع ومؤسسات حساسة لها علاقة بالمقاومة مباشرة أو غير مباشرة. ومن الواضح أن النشاط الاستخباري وجمع المعلومات لاستهداف المقاومة في لبنان لا يتوقف على الاستخبارات الإسرائيلية وحدها، بل تشارك فيه أجهزة استخبارات غربية وعربية متعددة، وعلى رأسها الاستخبارات الأمريكية، فضلًا عن الأقمار الصناعية التابعة لأكثر من دولة أو شركة خاصة غربية.

وفي البعد الإعلامي، تغطَّى حرب إسرائيل الشاملة على لبنان عبر شبكة واسعة من وسائل الإعلام والصحف ومواقع التواصل الاجتماعي، سواء داخل إسرائيل أو خارجها، بما فيها من محطات وصحف ومواقع عربية ولبنانية منحازة كليًا إلى إسرائيل في هذه الحرب وتعمل على التأثير في الرأي العام اللبناني، لناحية رفض فكرة مشاركة المقاومة في لبنان في معركة الدفاع عن غزة، كما تعمل على إحباط بيئة المقاومة وتيئيس الجمهور والترويج للسردية الإسرائيلية للحرب، ولفكرة الهزيمة والاستسلام. ومن المعروف والواضح الرعاية الأمريكية أو التمويل الخليجي لهذه المؤسسات الإعلامية اللبنانية.

وفي البعد الاقتصادي – الاجتماعي، تسعى إسرائيل لتدمير البنى التحتية الاقتصادية لحزب الله وبيئته الاجتماعية، من خلال اعتماد سياسة الأرض المحروقة عبر القصف الجوي التدميري الشامل للقرى والمدن التابعة لبيئة المقاومة، بما فيها المحال التجارية والمنشآت الزراعية والصناعية والحرفية، والأسواق الشعبية، والأبنية التراثية، والمواقع الأثرية، والمدارس والمستشفيات والمساجد والجمعيات الأهلية… كما يحصل في مدن صور والنبطية وبعلبك وغيرها. أو كما حصل في مؤسسة القرض الحسن التي دمرت إسرائيل معظم مراكزها في مختلف المناطق، بحجة أن هذه المؤسسة هي التي تمول حزب الله وتوفر رواتب المجاهدين فيه. مع العلم أن مؤسسة القرض الحسن هذه هي مؤسسة خيرية غير ربحية، تقدم قروضًا صغيرة إلى القاعدة الاجتماعية للمقاومة من دون أي فوائد.

وفي البعد السياسي، تدير الولايات المتحدة الأمريكية بنفسها، بالتنسيق مع إسرائيل، البعد السياسي للحرب الشاملة على لبنان. وهي تعمل في ذلك على أكثر من مسار: مسار المفاوضات لإنهاء الحرب، ومسار تأسيس نظام سياسي جديد في لبنان في مرحلة ما بعد حزب الله وسلاح المقاومة كما تطمح الولايات المتحدة. وهي تضغط على لبنان في مسار المفاوضات بهدف الموافقة على اتفاق جديد ينهي الحرب مقابل نزع سلاح المقاومة، وتسليم سلطة مراقبة حدود لبنان البرية والبحرية لقوات أجنبية تضمن عدم دخول أسلحة جديدة للمقاومة، ومنح “إسرائيل” حق اختراق طائراتها ومسيراتها العسكرية الأجواء اللبنانية لمراقبة ومواجهة أي نشاط عسكري يقوم به حزب الله في لبنان. بمعنى آخر تطلب الولايات المتحدة في هذه المفاوضات رأس حزب الله، وهزيمة لبنان وتخليه عن سيادته لمصلحة “إسرائيل”.

أما في مسار تأسيس نظام سياسي جديد في لبنان، فتسعى الولايات المتحدة الأمريكية إلى إحداث انقلاب ناعم أو سلس في النظام السياسي اللبناني باتجاه قيام نظام يدور في فلك السياسة الأمريكية في المنطقة ويسير في طريق التطبيع مع إسرائيل بعد القضاء على تجربة المقاومة فيه وإضعاف حزب الله وإنهاء دوره السياسي السابق في لبنان والمنطقة. وبالفعل، تعمل السفارة الأمريكية في لبنان على الإمساك بكل مفاصل الحياة السياسية اللبنانية، من خلال التدخل، عبر الضغط أو الإغراء، في مختلف الملفات السياسية والأمنية والتعيينات الإدارية والحكومية والرئاسية، والسيطرة على قرار المؤسسة العسكرية، والتدخل ببعض وسائل الإعلام أو معظمها، بهدف التأسيس لمرحلة جديدة من تاريخ لبنان المعاصر تطوي مرحلة الدور المقاوم والتحرري الذي أداه لبنان منذ خمسينيات القرن الماضي على الأقل.

وهي ليست المرة الأولى في التاريخ المعاصر التي تحاول الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل إلحاق لبنان بفلكهما فيها، فقد سبقتها محاولة ضم لبنان إلى حلف بغداد عام 1958، في عهد الرئيس اللبناني كميل شمعون، لمواجهة عبد الناصر والمد التحرري في لبنان، وانتهت المحاولة بثورة شعبية ضد عهد كميل شمعون قضت على تلك المحاولة. ومحاولة عام 1975 التي قادتها الجبهة اللبنانية، وعلى رأسها حزب الكتائب اللبنانية، التي أشعلت حربًا أهلية في لبنان لمواجهة تمدد نشاط حركة التحرر الوطني وقوى التغيير التقدمية في لبنان وتزايد حضور الثورة الفلسطينية فيه، وانتهت تلك الحرب بدورها بدخول قوات الردع العربية والجيش السوري إلى لبنان لإيقاف تلك الحرب. ثم محاولة عام 1982 التي تحالفت إسرائيل فيها مع قائد القوات اللبنانية بشير الجميل لاجتياح لبنان بهدف القضاء على المقاومة الفلسطينية والحركة الوطنية فيه وتأسيس نظام سياسي حليف لإسرائيل في لبنان برئاسة بشير الجميل، ثم أخيه أمين الجميل، الذي وقّع اتفاقية سلام مع إسرائيل في 17 أيار/ مايو 1983 وسمح لقوات بعض دول حلف الأطلسي بإنشاء قواعد عسكرية في لبنان. وانتهت هذه المحاولة بدورها بولادة المقاومة ضد الاحتلال، وبمقتل بشير الجميل، وبحرب أهلية أسفرت عن إسقاط اتفاقية 17 أيار/ مايو، وبانسحاب “إسرائيل” من لبنان على مراحل، كان آخرها انسحاب عام 2000، كما انتهت بخروج القوات المتعددة الجنسيات من لبنان بعد تعرضها لعمليات استشهادية أودت بحياة المئات من عناصرها، وبخاصة من قوات البحرية الأمريكية، والقوات الفرنسية، وبإقرار اتفاق الطائف الذي أنهى الحرب الأهلية. ثم تكررت المحاولة عام 2004، حين أصدر مجلس الأمن الدولي، تحت الفصل السادس، القرار 1559، الذي يقضي بنزع سلاح المقاومة في لبنان وبانسحاب القوات الأجنبية – التي كانت تتمثل يومها بالجيش السوري – من لبنان. كان ذلك بدفع من الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا، وبتنسيق مع بعض القوى السياسية اللبنانية، وعلى رأسها رئيس مجلس الوزراء الأسبق رفيق الحريري، ووليد جنبلاط، وميليشيا القوات اللبنانية (التي كان قائدها سمير جعجع مسجونًا بجرم اغتيال طوني فرنجية وارتكاب مجزرة إهدن عام 1978، واغتيال رئيس مجلس الوزراء الأسبق رشيد كرامي عام 1987، واغتيال زعيم حزب الوطنيين الأحرار داني شمعون عام 1990)، والتيار الوطني الحر بقيادة الجنرال ميشال عون (الذي كان منفيًا آنذاك)، وانتهت المحاولة باغتيال الرئيس رفيق الحريري وبخروج القوات السورية من لبنان، لكنها لم تنجح بنزح سلاح حزب الله، أو بإحداث انقلاب في النظام السياسي لمصلحة الولايات المتحدة؛ وهو ما أسس لحرب إسرائيل ضد لبنان عام 2006 لتنفيذ ما عجز قرار مجلس الأمن 1559 والقوى اللبنانية المطالبة بتطبيقه في تنفيذه، وانتهت تلك الحرب بدورها بفشل ذريع للهجوم الإسرائيلي وبإنهاء الحرب بناء على القرار 1701، من دون نجاح إسرائيل والولايات المتحدة في نزع سلاح المقاومة، أو في تغيير النظام السياسي فيه لمصلحتهما.

وهكذا، في كل هذه المحاولات السابقة لإلحاق لبنان بالمشاريع الأمريكية – الإسرائيلية، كان الخيار التحرري المقاوم في لبنان هو الذي ينتصر على تلك المشاريع وعلى القوى السياسية اللبنانية التابعة لها، لتغيير وجه لبنان ودوره في المنطقة.

واليوم يتكرر المشهد مجددًا في هذه الحرب المفتوحة الشاملة التي تشنها إسرائيل على لبنان، والتي تنتظر منها بعض القوى والمرجعيات السياسية والدينية اللبنانية، وعلى رأسها قائد حزب القوات اللبنانية سمير جعجع، أن تقضي على المقاومة وسلاحها.

4 – انقلاب المشهد

ما كان مفاجئًا في الحرب البرية على لبنان، وبخاصة لإسرائيل والولايات المتحدة وحلفائها، أن حزب الله استعاد منظومة القيادة والسيطرة لديه منذ الأيام الأولى لهذه الحرب، على الرغم من نجاح إسرائيل في توجيه ضربة قاصمة له بالقضاء على معظم قادة الصف الأول في المقاومة، بمن فيهم أمينها العام ورمزها الأعلى؛ فواجه عمليات التدخل البري الإسرائيلية، المدعّمة بهجمات متواصلة من سلاح الطيران الحربي والمسيَّر، بإمكانيات قتالية وتسليحية وتنظيمية حالت دون تحقيق الهجوم البري الإسرائيلي خلال الشهرين الأولين إنجازات كبرى على الجبهة، موقعة في صفوف الجيش الإسرائيلي خسائر بشرية وتسليحية عالية تجاوزت الألف إصابة بين قتيل وجريح في صفوف الجيش الإسرائيلي (وفق مصادر إسرائيلية)، وتدمير أكثر 60 دبابة ميركافا (وفق تقارير غرفة عمليات المقاومة) وعدد آخر من الجرافات والآليات المختلفة. بل حافظت المقاومة في لبنان خلال الشهرين الأولين من الحرب (أي حتى لحظة كتابة هذه الأسطر)، على القيام بعمليات دفاعية – هجومية بالصواريخ والمسيرات في أعماق الكيان الصهيوني، وبخاصة في شمال “إسرائيل”، وصولًا إلى تل أبيب، الذي يحوي المواقع الخلفية للقوات الإسرائيلية المشاركة في الحرب وبعض الصناعات العسكرية الحساسة والكثير من النقاط الحيوية والاستراتيجية لديه، وبخاصة في منطقة حيفا المكتظة بالقواعد البحرية والبرية، وبالمصانع والمنشآت العسكرية والمدنية. لذا تلجأ “إسرائيل” في هذه الحرب، على نمط حرب غزة، إلى التعويض من تعثُّر الحرب البرية في تحقيق أهدافها العسكرية باستهداف مواقع مدنية وتدمير الأحياء السكنية في القرى والمدن لممارسة المزيد من الضغط السياسي والمعنوي على المقاومة وبيئتها الحاضنة، أو لخلق شرخ بين الحزب وبيئته من جهة وبقية فئات المجتمع اللبناني، المتنوع سياسيًا وهويتيًّا، من جهة أخرى. وهذا ما يؤدي إلى إحداث دمار كبير في القرى والمدن ووقوع عدد كبير من الشهداء والجرحى في صفوف المدنيين تجاوز الـ 3700 شهيد والـ 15000 جريح قبل نهاية الشهر الثاني من الحرب، بمن فيهم عناصر من فرق الإسعاف والدفاع المدني ومن الصحافيين.

واليوم، من الواضح في عمليات المواجهة الدائرة في الحرب البرية في جبهة جنوب لبنان، تراجع فعالية ودور تقانات الذكاء الاصطناعي (AI) في الخطوط الأمامية للجبهة، بعدما نجحت تلك التقانات في مرحلة ما قبل الحرب البرية، منذ الثامن من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، في اغتيال عدد كبير من مجاهدي المقاومة. ويتحقق ذلك التراجع بفضل بسالة المقاومين الذين يلتحمون ويتداخلون مع جنود العدو من المسافة صفر في الميدان، وبفضل البنية التحت الأرضية التي أثبتت، سواء في غزة أو في لبنان، أنها الوسيلة الفضلى والأكثر أمانًا لحماية المقاومة بعناصرها البشرية وتجهيزاتها العسكرية وأسلحتها المتنوعة وغرف عملياتها، في عصر جديد من الحروب بات كل إنسان وكل عتاد يعمل فوق الأرض معها عرضة للانكشاف والاستهداف، في ظل التقانات الحديثة لجمع المعلومات بأدق تفاصيلها وخصوصياتها، وبكل أنواعها البصرية والصوتية والأثيرية والإحداثية، وتخزين هذه المعلومات ومعالجتها خوارزميًا وربطها بالأسلحة الحديثة للوصول إلى الهدف والإيقاع به.

وبفضل المواجهات البطولية التي يتعرض لها الهجوم الإسرائيلي في الجنوب يبدو التقدم البري للجيش الإسرائيلي متعثرًا وبطيئًا، لكن مع ذلك تبقى هذه الحرب البرية مفتوحة على احتمالات ومشاهد متعددة ومتفاوتة الاتساع والتأثير والنتائج. ويبقى العامل النهائي في تقرير مصير المنطقة هو الميدان في جبهة جنوب لبنان كما سبق أن ذكرنا؛ فهذه الجبهة تمثل خط الدفاع الأول عن محور المقاومة، لأسباب جيوستراتيجية واضحة، فالمقاومة الإسلامية في لبنان هي الفصيل الأقوى والأكثر تسليحًا بين فصائل المقاومة المتمركزة على الحدود المباشرة للكيان الصهيوني، وجبهة جنوب لبنان هي الجبهة الوحيدة في محور المقاومة التي تقع على حدود الكيان الصهيوني، أي فلسطين، حيث الأراضي اللبنانية تتداخل مع الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948، وفي المقابل ترتبط هذه الجبهة بعمق جغرافي يصل إلى إيران، مرورًا بسورية والعراق؛ وهذا ما تعمل القوات الأمريكية والإسرائيلية على قطعه، من خلال السيطرة على الأراضي السورية الواقعة شرق الفرات، أو من خلال تكثيف الضربات الجوية على سورية، التي  تتصل بدورها بالأراضي الفلسطينية المحتلة عبر الجولان السوري المحتل.

في هذا السياق يتزايد في الآونة الأخيرة الحديث عن مشروع لوقف إطلاق النار في لبنان بناء على القرار 1701 معدلًا وفق شروط أمريكية وإسرائيلية تقضي، كما سبق أن ذكرنا، بإبعاد المقاومة من الحدود مع الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948؛ وإخضاع الحدود اللبنانية كافة، البرية والبحرية، للمراقبة من جانب قوات أجنبية، تحول دون إدخال أسلحة إلى المقاومة في لبنان في المستقبل؛ والسماح لإسرائيل بالاستمرار في تنفيذ طلعات جوية لمراقبة الأراضي اللبنانية والتدخل عند أي تحرك أو نشاط عسكري للمقاومة فيه. وهي شروط تضغط الولايات المتحدة وإسرائيل وبعض الدول الغربية والعربية الأخرى لتمريرها. وهذا يعني عمليًا إنهاء مشروع المقاومة في لبنان وتخلي لبنان عن سيادته لمصلحة السيطرة الأمريكية والإسرائيلية على المنطقة. لذلك يبدو أن الأمور في لبنان مفتوحة على كل الاحتمالات وعلى مزيد من التصعيد العسكري في المنطقة كلها.

رابعًا: البعد الإقليمي والدولي للحرب

1 – الدور الأمريكي والغربي

توفر الولايات المتحدة الأمريكية الغطاء السياسي والاستخباراتي والتسليحي والمالي لإسرائيل في حربها ضد لبنان، وهي تسعى إلى هندسة المنطقة سياسيًا بعد الحرب وفق مصالحها ومصالح “إسرائيل”. وهي السياسة نفسها التي اعتمدتها منذ الثامن من تشرين الأول/ أكتوبر 2023 في غزة، إذ تمثل الحرب في لبنان حلقة مكملة لحرب غزة في الاستراتيجية الأمريكية في الشرق الأوسط، الهادفة إلى ضرب محور المقاومة لضمان أمن “إسرائيل” واستمرار السيطرة الأمريكية على المنطقة، للحفاظ على مصالحها فيها، وبالتالي لإضعاف نفوذ روسيا وتضييق الحصار عليها، وللحد من توسع المصالح الصينية في المنطقة عبر قطع الطريق أمام مشروع الحزام والطريق الصيني المتمدِّد في الشرق الأوسط وأفريقيا نحو أوروبا، وتأسيس ممر اقتصادي بديل، من الهند إلى الشرق الأوسط وصولًا إلى أوروبا مرورًا بإسرائيل، وتعزيز دور الهند كمركز تصنيعي وإنتاجي للشركات الغربية بديل من الصين.

وتمثل المواجهة الإسرائيلية والأمريكية مع إيران نقطة محورية في هذه الحرب، نظرًا إلى ما تمثله الجمهورية الإسلامية من مصدر للدعم الرئيسي لفصائل محور المقاومة في المنطقة، تسليحًا وتدريبًا وتمويلًا، أو حتى نقلًا لخبرة تصنيع بعض الأسلحة، وبخاصة الصواريخ والمسيَّرات. فضلًا عن أن “إسرائيل” والولايات المتحدة الأمريكية، تمثل العدو الرئيسي لإيران في العقيدة السياسية للثورة الإسلامية في إيران. من هنا يمثل البرنامج النووي وبرامج التصنيع الصاروخي والعسكري الإيرانية تهديدًا جديًا لإسرائيل والولايات المتحدة، على الرغم من اختلاف المقاربة لدى الطرفين الأمريكي والإسرائيلي في طريقة التعاطي مع التهديد الإيراني، إذ في الوقت الذي تبني “إسرائيل” مقاربتها لمواجهة البرنامج النووي وبرامج التسليح الإيرانية على الخيار العسكري والأمني، تبني الولايات المتحدة الأمريكية مقاربتها، منذ عهد أوباما على الأقل، على الرهان على استيعاب إيران وصولًا إلى إحداث تغيير سياسي فيها من الداخل، عن طريق تغذية النزعات الليبرالية والتغريبية فيها ودعم واختراق، أو تفريخ، حركات احتجاجية وشبابية ونسائية معارضة، وصولًا إلى القيام بعملية خنق اقتصادي، تمهيدًا لضرب الاستقرار الداخلي، واندلاع الثورات اللونية والفوضى الخلاقة فيها.

غير أن “إسرائيل” سعت بقوة، عقب طوفان الأقصى، إلى استدراج الولايات المتحدة إلى تبني مقاربتها العسكرية في التعامل مع الملف الإيراني، ونجحت في استدراج إيران إلى منازلة عسكرية معها طالما تجنبتها الجمهورية الإسلامية، لأسباب تتعلق بمدى جهوزيتها لتوقيت مواجهة كبرى مع “إسرائيل” لن تبقى الولايات المتحدة الأمريكية بمنأى عنها. لكنَّ ضربات الاغتيال التي تعرضت القوات الإيرانية لها في سورية، وبخاصة عملية اغتيال العميد محمد رضا زاهدي بقصف جوي استهدف مبنًى تابعًا للقنصلية الإيرانية في دمشق في 1 نيسان/ أبريل 2024، ثم عملية اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية في طهران في 31 تموز/ يوليو 2024، ثم اغتيال السيد حسن نصر الله في لبنان برفقة نائب قائد فيلق القدس العميد عباس نيلفوروشان في 27 أيلول/ سبتمبر 2024، كانت من القوة بحيث لم يكن ممكنًا لإيران معها عدم الرد عليها مهما كانت مبررات تحفظاتها على الانجرار إلى مواجهة مباشرة مع “إسرائيل” والولايات المتحدة. فكان أول عمل عسكري إيراني مباشر ضد “إسرائيل” في 13 نيسان/ أبريل ردًا على عملية اغتيال العميد زاهدي في دمشق، وكان ردًا رمزيًا واختباريًا محسوبًا أكثر منه استراتيجيًا؛ ثم تلته ضربة إيرانية بمئات الصواريخ الثقيلة والدقيقة والفرط الصوتية ضد “إسرائيل” في 1 تشرين الأول/ أكتوبر، أي بعد مرور أيام قليلة على اغتيال السيد حسن نصر الله والعميد عباس نيلفوروشان في الضاحية الجنوبية لبيروت. وقد أظهرت الضربة الإيرانية الثانية تلك والرد الإسرائيلي عليها في 26 تشرين الأول/ أكتوبر، أن كلًّا من الطرفين قادر على ضرب الطرف الآخر واستهداف مواقع استراتيجية لديه من دون أن يكون لدى أي منهما أنظمة الدفاع الجوي الكافية لحماية مواقعه الاستراتيجية من هذه الضربات. وبالتالي يبقى الحديث عن رهان كل طرف على تحقيق أهدافه من هذه الضربات وعن مدى فعالية السلاح الجوي والصاروخي الذي يمتلكه كل طرف لتحقيق الأهداف المطلوب تحقيقها؛ فـ”إسرائيل” تراهن من جهتها على تفوقها في سلاح الجو، المزوَّد صواريخ دقيقة وذكية بقدرات تدميرية أو اختراقية عالية، وبخاصة في الطيران الحربي الذي عززته منذ سنوات بطائرات الـF-35 التي تتمتع بقدرات عالية على التخفِّي والتسلل وقوة النيران الكبيرة والمدى الطويل في التحليق والحرب الإلكترونية وتعدد المهمات، كما تراهن “إسرائيل”، كما سبقت الإشارة، على نجاحها في استدراج الولايات المتحدة إلى المشاركة المباشرة في حال تصاعد المواجهة مع إيران.

كل ذلك كان يحدث في ذروة انشغال الولايات المتحدة الأمريكية في معركة الانتخابات الرئاسية لديها، التي غالبًا ما يتم توظيف كل ما يمكن من ملفات داخلية وخارجية، مهما كانت ملفات قذرة، من جانب أيٍّ من الحزبين الديمقراطي أو الجمهوري، لخدمته فيها. لذلك، عملت الإدارة الأمريكية الديمقراطية في الشهور الماضية الأخيرة من عهد الرئيس جو بايدن، على ضبط إيقاع التوتر والضربات العسكرية المتبادلة بين “إسرائيل” وإيران، في الحدود التي تحول دون أخذ المنطقة إلى مواجهة شاملة لا يمكن أن تقف الإدارة الأمريكية مكتوفة الأيدي حيالها، فتتورط تلك الإدارة بمواجهة لا تكون في مصلحتها انتخابيًا؛ فكانت تقدم مساعدات عسكرية دفاعية واستخباراتية إلى إسرائيل لتحد من فاعلية الضربات الصاروخية الإيرانية من جهة ولضبط إسرائيل في اختيار الأهداف الحساسة التي يمكن استهدافها في إيران. لكن من المتوقع أن تشهد هذه التوترات بين إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية من جهة وإيران من جهة أخرى، تغيرات في المرحلة المقبلة، في ضوء عودة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، وفي ضوء تطورات الحرب البرية في جنوب لبنان، والمواجهات الأشمل على مستوى المنطقة.

ومن المحتمل أن يُدخل فوز دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية الحالية، لا غزة ولبنان فحسب، بل المنطقة كلها، في موجة واسعة وطويلة من العنف الدموي الإسرائيلي، نظرًا إلى مواقفه المتطرِّفة المعروفة تجاه قضايا المنطقة، لناحية تأييده المتطرف لإسرائيل الذي يتخطى فيها المواقف والسياسة الرسمية للولايات المتحدة الأمريكية، سواء لناحية قضية القدس والجولان وأراضي الـ67، ودعوته فوق ذلك إلى توسيع حدود “إسرائيل”، أو لناحية طريقة التعامل مع إيران وملفها النووي وبرنامجها الصاروخي والجوفضائي، الذي لا يتردد ترامب في تأييد ضربة عسكرية قاضية لإيران تتخطى أهداف إنهاء برنامجها النووي إلى حدود القضاء على نظام الثورة الإسلامية فيها. من هنا، بدأ الحديث يظهر عن احتمال تزويد إسرائيل قاذفات استراتيجية أمريكية وقنابل ثقيلة خارقة لهذا الهدف، إذ تشير بعض التقارير الغربية إلى عدم امتلاك “إسرائيل” التقانات العسكرية الكافية لتدمير البرنامج النووي الإيراني، نظرًا إلى توزع مواقعه على نقاط متعددة في جغرافية واسعة، وبعض هذه المواقع محصّنة تحت الجبال، يحتاج تدميرها إلى استخدام قنابل GBU 57 الخارقة للتحصينات العميقة التي يزن كل منها 12 – 14 طنَّا، والتي يتم استخدامها بواسطة القاذفات الشبحية B2 Spirit الأمريكية، وهو أمر يحول دون قدرة “إسرائيل” على القضاء على البرنامج النووي الإيراني من دون مشاركة عسكرية أمريكية مباشرة في العملية، أو من خلال امتلاكها أو تزودها هذا النوع من القاذفات والقنابل.

وتُظهر أسماء الشخصيات التي بدأ ترامب يختارها لإدارته المقبلة توجهاته ونياته العدوانية تجاه القضية الفلسطينية ومحور المقاومة وإيران؛ فمرشحه لمنصب وزارة الخارجية ماركو روبيرو يعبّر عن مواقف متطرفة تجاه مختلف الملفات الدولية، بما فيها القضية الفلسطينية وإيران وحرب غزة والمحكمة الجنائية الدولية؛ ويدعو مرشحه لمنصب وزارة الدفاع بيت هيغسيث إلى تدمير غزة، وهو من المؤيدين المعروفين لتوجيه ضربة عسكرية أمريكية لإيران؛ ولا يختلف عن هذا التوجُّه مرشحه لمنصب مستشار الأمن القومي مايك والتز الذي يعبر عن دعمه لحكومة نتنياهو ويدعو إلى اعتماد الولايات المتحدة سياسة رادعة تجاه إيران والصين التي يصفها بالتهديد الوجودي للولايات المتحدة. ويعبر مايك هوكابي، مرشحه لمنصب سفير الولايات المتحدة في “إسرائيل”، عن رفضه حل الدولتين أو حتى النظر إلى الضفة الغربية كأرض محتلة.

2 – الدور الإيراني

تصر إيران في المقابل على دعم محور المقاومة مهما بلغت التهديدات، وهي تراهن دفاعيًا على الأنظمة الصاروخية الدقيقة والفرط الصوتية التي تمتلكها والتي يمكن أن تُمطر المراكز الاستراتيجية في الكيان الصهيوني بها من دون أن تتمكن أنظمة الدفاع الجوي الإسرائيلي على صدّها كلها؛ فالمنظومات الصاروخية البالستية والمجنَّحة التي طورتها إيران، أو غيرها من أطراف محور المقاومة، تتمتع بمواصفات تقنية عالية، سواء لناحية سرعتها أو لناحية قدرتها على المناورة والتخفي، تجعلها قادرة إلى حدٍّ بعيد على تجاوز منظومات الدفاع الجوي لدى “إسرائيل” أو الدول الغربية. وهذا ما أظهرته الضربة الصاروخية التي وجهتها إيران لإسرائيل في الأول تشرين الأول/أكتوبر 2024 والتي وصل القسم الأكبر من الصواريخ التي أطلقت فيها إلى أهدافه على الرغم من منظومات الدفاع الجوي التي تمتلكها إسرائيل. وهذا ما تظهره أيضًا الضربات الصاروخية التي تقوم بها أطراف أخرى في محور المقاومة، وبخاصة في اليمن باتجاه البحر الأحمر وصولًا الى المحيط الهندي شرقًا والكيان الصهيوني غربًا.

كما تراهن إيران على الطائرات المسيَّرة الانقضاضية القادرة على استهداف مراكزَ ونقاطٍ عسكرية حساسة في “إسرائيل” بدقة، بما فيها منصات الدفاع الجوي والمعدات المتنقلة. وقد نجحت هذه الطائرات بالفعل في أكثر من جبهة، بدءًا من الحرب في أوكرانيا، التي استُخدمت طائرات “شاهد” الإيرانية فيها من جانب الروس وأثبتت فعاليتها في هذه الحرب، كما أن المسيَّرات المستخدمة من طرف محور المقاومة، سواء في لبنان أو اليمن أو العراق، نجحت غالبًا في اختراق منظومات الدفاع الجوي في “إسرائيل” أو لدى القطع البحرية الأمريكية والغربية في البحرين المتوسط والأحمر وبحر العرب، وضربت أهدافًا حساسة واستراتيجية، سواء داخل إسرائيل أو في البحر الأحمر وبحر العرب وصولًا إلى المحيط الهندي. وهذه القدرات كلها سيتم تفعيلها في حال اندلاع المواجهة الكبرى بين “إسرائيل” والولايات المتحدة الأمريكية من جهة ومحور المقاومة من جهة أخرى.

إلى جانب ذلك، تراهن إيران على أن الولايات المتحدة الأمريكية لن تجرؤ على مشاركة “إسرائيل” مباشرةً في أي عدوان ضدها يمكن أن يعرِّض عشرات القواعد العسكرية الأمريكية المنتشرة في منطقة الخليج وشبه الجزيرة العربية وبلاد الشام للخطر، ويمكن أن يفتح منطقة الشرق الأوسط برمتها على فوضى وردود فعل لا يمكن أن تكون لمصلحة الولايات المتحدة، بما فيها من فقدان السيطرة على سوق النفط والنقل البحري والمضائق البحرية وأمن المصالح الأمريكية وأمن الدول الصديقة أو التابعة لها في المنطقة؛ وهذا أمر يمكن أن يساهم في نأي الولايات المتحدة عن الدخول في مواجهة مباشرة مع إيران، وبخاصة أن الرئيس الأمريكي الآتي دونالد ترامب فضّل في عهده السابق عدم توريط بلاده بحروب مباشرة ما دام هناك من يخوض الحروب نيابةً عنه.

خاتمة                                                                    

في منتصف تسعينيات القرن الماضي، ذكر بنيامين نتنياهو في كتابه مكان بين الأمم أن “الفلسطيني الذي اختار العيش في الضفة الغربية، يجب عليه الاعتراف بحقيقة أنه اختار أن يكون أقلية في منطقة خاضعة لسلطة الدولة اليهودية. ولا يحق له المطالبة بدولة فلسطينية ثانية في الضفة الغربية”، وأنه “في ضوء التقدم التكنولوجي العسكري والقنابل الذكية والصواريخ وغيرها من أسلحة الدمار، يتوجب على كل زعيم عربي يُصرُّ على الخروج إلى الحرب، أن يأخذ في الحسبان النتائج المحتملة للحرب، وهي أنه قد يجد جيشه مدمَّرًا، وعاصمته مدمَّرةً، ونظام حكمه في خطر، وربما يفقد حياته أيضًأ”. وما ذكره نتنياهو في كتابه منذ أربعة عقود يعمل على تطبيقه على أرض الواقع اليوم. وإذا كان نتنياهو قد حقق جزءًا من رؤيته هذه، إن لم يكن بقوة إسرائيل وحدها فبقوة الولايات المتحدة الأمريكية والقوى الإمبريالية الأخرى في العالم، ويسعى لتحقيق الجزء المتبقي من خلال الحرب التي يخوضها اليوم في غزة ولبنان والمنطقة، فهو لم يأخذ في الحسبان أن ترويض الأنظمة العربية وجيوشها على مدى العقود الأربعة الماضية لن يضمن له استكمال تحقيق تلك الرؤية؛ فتحييد معظم الجيوش العربية والنظام الرسمي العربي من معادلة تحرير الأراضي المحتلة واستعادة حقوق الشعب الفلسطيني فجّر من رحم الشعب العربي مقاومات شعبية كسرت معادلة التفوُّق العسكري الإسرائيلي في المنطقة، ولم تَعُد الأسلحة الذكية والصواريخ الدقيقة حُكرًا على إسرائيل في المنطقة كما كان نتنياهو يريد، كما لم تَعُد قوات النخبة في الجيش الإسرائيلي هي الأقوى في الميدان. حتى إن إسرائيل بلغت الحدَّ الذي لم تعد تستطيع فيه خوض حرب ضد قوى المقاومة العربية، الشعبية، بمفردها، بل هي اليومَ تخوض حربها في لبنان وغزة والمنطقة بمشاركة أمريكية واضحة، مباشرة وغير مباشرة، على مختلف الصعد العسكرية والأمنية والمعلوماتية والتمويلية، وهي تراهن على استدراج الولايات المتحدة إلى مزيد من الانخراط في هذه الحرب لكي تحقق انتصارًا استراتيجيًا فيها. فهل أن عودة ترامب إلى البيت الأبيض سيوفر لإسرائيل ما تريد من هذه الحرب؟ هذا يعني أن الحرب ستكون مفتوحة على احتمالات المزيد من الاتساع والعنف في المنطقة.

لذلك، تقف القضية الفلسطينية والمشرق العربي، ومنطقة الشرق الأوسط بوجه عام، أمام مرحلة تاريخية مفصلية، إما أن تستعيد القضية الفلسطينية مركزيتها عربيًا وعالميًا، وتحفظ شعوب العالم العربي والإسلامي الحد الأدنى من حقوقها وكرامتها ومستقبلها الحر والمستقل، وإما أن تدخل المنطقة في منعطف جديد نحو الهزيمة والانكسار التاريخي والحضاري. كل ذلك يتوقف إلى حدٍّ بعيد على نتائج المواجهة الكبرى الدائرة في المنطقة اليوم، وعلى معادلة الميدان في الجبهات الأمامية للقتال، وبخاصة جبهة جنوب لبنان، التي تمثل خط الدفاع الأول في هذه المواجهة.

كتب ذات صلة:

غزة: بحث في استشهادها

القضية الفلسطينية والمشكلة الإسرائيلية: رؤية جديدة

مشاريع الطاقة الإسرائيلية في شرق المتوسط وتحديات الأمن القومي العربي

فلسطين: أربعة آلاف عام في التاريخ