مقدمة

لا يخفَى على أيّ باحث في العلوم الاجتماعية والإنسانية حجم انعطاف اللغة على الهوية في الأدبيات البحثية المعاصرة؛ حيث أصبح مفهوم «اللغة والهوية» دارجًا على لسان عدد كبير من الباحثين وواردًا في عدد غير قليل من الأبحاث. وقد يكون تبيان حقيقة المُشاكلة والاختلاف بين مفهوم اللغة ومفهوم الهوية خطوة منهجية مهمة لكشف مسارات الخطابات التي تتكون بسبب ذلك العَطف. إن الإشكالية الأساسية لهذه الورقة هي رصد العلائق الممكنة بين التعدد اللغوي، بوصفه وضعًا لغويًا لا تخلو منه أي جماعة كلامية، والهوية عمومًا، وبمزيد من التخصيص تأثير التعدد اللغوي الذي يكتسيه طابع الصراع والحرب بين اللغات في الهوية العربية وتشكلاتها الخطابية. بمعنى آخر، هل يمكن الحديث عن هوية عربية تشكلها لغات غير العربية في وضع لغوي تعددي؟ وما هو وضع الهوية العربية في ظل اللغات المتعددة التي تشكلها؟ على هذا الأساس، قُسّمت هذه الورقة إلى ثلاثة محاورَ أساسية يجيب كل محور منها عن إشكالية معينة من دون الاخلال بالطابع التركيبي والنسقي لمفاهيم الهوية والهوية العربية، والتعدد اللغوي، ثم حرب اللغات. وهذه المحاور كالآتي: أولًا، إشكالية اللغة والهوية؛ ثانيًا، التعدد اللغوي وتشكل الهويات القومية؛ ثالثًا، الهوية القومية واللغة العربية.

أولًا: إشكالية اللغة والهوية: حدود التعالق

تستمد هذه الورقة إطارها النظري ونموذجها التحليلي من نظرية السوسيولسانيات وعلم الاجتماع اللغوي من جهة، وفلسفة اللغة أو ما يتصل بنظرية اللغة والفكر من جهة ثانية. وبتعقيد هذه الأطر النظرية يمكن مقاربة مفهومَي اللغة والهوية على نحو يسمح بتحليل مضمون وحدود الانعطاف والتعالق بينهما. بمعنى آخر؛ تحاول هذه الفقرة بحث دور اللغة في بناء الهوية، وتأثير الهوية في الكشف عن وظائف اللغة في اتجاهَي الفرد والمجتمع. هو بحث، إذًا، في الهوية اللغوية للأفراد والمجتمعات، ولغة الهوية للفئات نفسها.

يلاحظ عبد السلام المسدي أن «انعطاف الهوية على اللغة في عبارة تركيبية واحدة يتضمن تباينًا في الجوهر، أعانت على إخفائه العادة من حيث هي طبع ملازم، وأكدته الأعراف البحثية في معظم تجلياتها. فاللغة ظاهرة اجتماعية، وهي اصطلاحية بامتياز، تستند إلى مكوّنين متلازمين؛ مكون مادي حسي، ومكون ذهني غير مادي. أما الهوية، فظاهرة رمزية مجردة ليس لها أي تحقق مادي يربطها بعوالم الحس الوجودية. الهوية انتماء، بينما اللغة اكتساب»[2]. وقد توصل جون جوزيف إلى النتيجة نفسها، أي تباين اللغة والهوية وانفصالهما رغم الترابط الظاهري الملاحظ بين اللغة والهوية[3]. إن ما يميِّز اللغة عن الهوية بحسب التحديدين السابقين راجع إلى طبيعة وجود كل منهما في علاقتهما بالفرد أو المجتمع، فالوجود المادي للغة هو الكلام، أي العبارات اللغوية والملفوظات التي تتحقق عبر الأصوات، فالصوت جسم مادي يمكن التحقق منه فيزيائيًا بوسائل مادية. إضافة إلى هذا الوجود المادي، تتميز اللغة بوجود ذهني ونفسي يرتبط بالفكر والطقوس الرمزية التي تشكلها اللغة، ويمكن القول إن هذا الوجود الذهني والنفسي أو الرمزي عمومًا هو نقطة تقاطع اللغة والهوية.

فما قد يظهر من تمايز بين اللغة والهوية من حيث الدلالة، لا يمكن أن ينفي كونهما متقاطعين في السياق التداولي والذهني للأفراد والمجتمعات، بمعنى أن وجودهما معًا مرتبط بوجود شيء آخر في استعمالات اللغة هو مفاهيم القومية، الوطن، الأمة، الجنسية، والعرق تحديدًا. والواقع هو أن «المفكرين الألمان هم من أقاموا علاقة حميمية روحية وصوفية بين اللغة والهوية، والانتساب والوفاء إلى الأمة، ابتداءً من القرن الثامن عشر في إطار ما يسمى «الرومانسية الألمانية». إلا أن الثقافات والآداب الأخرى لا تخلو من مأثورات وتجارب في اتجاه ما يمكن أن يُدعى القومية اللسانية، وهي مبنية على فكرة أن اللغة تمثل الدعامة الحاسمة في بناء الأمة»[4]. إن هذا الطرح يحيل على أن الهوية كما اللغة رغم اختلاف دلالتهما المركزية لا يمكن أن يُنظر إليهما بصورة مستقلة من دون استحضار الجماعات اللسانية التي تُميزُهما. فالدعوى الأساسية في هذا المقام هي أن لا وجود للغة خارج المجتمع، وفهم معنى أي لغة مُتاح في إطار المجموعات الكلامية التي تتحدث هذه اللغة. وإذا كان الحديث عن المجتمع والمجموعات الكلامية قائمًا، فبالإمكان الحديث عن خصائصهما ومميزاتهما، أي المجتمع والمجموعات الكلامية، وفي الغالب يُعبّر عن هذه الخصائص بمفهوم الهوية، فما يميّز «الأنا» عن «الهُوَ» هو اللغة وما يترتب عنها من تشكلات خطابية أخرى؛ كالثقافة والفكر والدين… إلخ.

من المفيد في هذه المرحلة إقامة جسور مفاهيمية بين اللغة والهوية، وهذه المفاهيم كما عبّر عنها مجموعة من المختصين هي: الأمة، والوطن، والقومية، والعرق، والبلد… إلخ. ومن الواضح أن أي مجتمع يعيش في حيّز جغرافي محدد، غير أن الجغرافيا لا يمكن أن تكون دافعًا حقيقيًا لانجماع أفراد أو جماعات في مجتمع يؤلف هوية، لذلك نجد أن أغلب الهويات المجتمعية تستند إلى مفاهيم ذهنية متخيَّلة من قبيل الأمة التي تتكوّن من طريق اللغة، والدليل على ذلك تلك العبارة التي روّج لها الفرنسيون أثناء تأسيس الدولة القومية الفرنسية «أمة واحدة…لغة واحدة». فهوية الفرنسيين تألفت عبر اللغة، بل هوية الدولة القومية في أوروبا كلها تألفت بلغات مجموعات كلامية تطورت لتصبح لغة دولة وقومية كاملة.

يلخص جون جوزيف تعريفه للهوية بقوله «إنّ هويتك بباسطة هي ماهيتك»[5]. إن الطابع الماهوي لكل شخص موجود حقيقة، لكن إدراكه أو دراسته في ذاته بصورة مباشرة متعذر تمامًا ما دامت الماهية كما الهوية مفاهيم رمزية ومتخيلة فقط، غير أن هذا لا يمنع من سلوك طريق آخر ننتقل فيه من المادي إلى الرمزي أو المتخيل، ويمكن أن ندرك في مستوى عفوي غير نظري أن اللغة هي هذا الجسر الذي يصل شخصًا بشخص آخر، فاللغة بهذا المعنى هي الدعامة التي نعبّر بها عن هويتنا وذلك في اتجاهين اثنين: الأول، هو تحديد الشخصية أو الهوية الفردية، فالآخر يعرف هوية الأنا من طريق الاسم الشخصي؛ وهذا الاسم ليس إلا مجموعة من الأصوات اللغوية التي تشكل مدلولًا ذهنيًا. أما الثاني، فهو تحديد الهوية الجماعية، فمن طريق اللغة يمكن أن يعبّر المجتمع عن تاريخه ومصيره وثقافته وطقوسه الرمزية… إلخ. ومثال ذلك اسم العلم «أشرف»، فهذا الاسم تعيين شخصي لفرد ما داخل المجتمع العربي وبه يتميز عن «إبراهيم» أو «جوزيف» مثلًا، فالحديث عن اسم العلم أشرف يحيل إلى الشرف والدلالات الرمزية والذهنية لمفهوم الشرف في المجتمع، كما يحيل على الطقوس الفكرية والرمزية التي يعطيها المجتمع العربي لهذا المفهوم. ومن الواضح ههنا أننا انتقلنا من هوية الفرد إلى هوية الجماعة. ورغم ذلك، ليس من الصحيح أن نجزم القول بأن اللغة تحدد كلية كيفية تصورنا لشخص ما. ولكن طريقة كلامهم بمعزل عمّا يقولونه تؤدي دورًا أساسيًا جدًا. وإن اتصالنا بالناس في عدد كبير من الحالات، لغوي بحت يجري عبر الهاتف، أو الإنترنت… إلخ[6].

على هذا الأساس، يبدو أننا بصدد نتيجتين: الأولى هي أن اللغة لوحدها لا تعبّر كلية عن ماهية الهوية بشكل متطابق تمامًا. والثانية، أن الكشف عن هذه الهوية لا يكون إلا بالتواصل اللغوي، بغضّ النظر عن شكل هذه اللغة أهي طبيعية أم غير طبيعية. إن التواصل هو المفهوم المفتاح في فهم الجوانب المختلفة للهوية، فما نعرفه عن هوية المجتمعات والأفراد هو ما تقوله من طريق اللغة، ومن طريقة استعمالها للغة، أي من طريق التواصل.

من الواضح، إذًا، أن الهوية واللغة متصلان من حيث هما مختلفان أيضًا. وقد تبدو هذه النتيجة متناقضة منذ أول وهلة؛ فالهوية لها تحديد ماهويّ ورمزيّ لا يمكن إدراكه إلا من طريق اللغة، كأن انعطاف الهوية على اللغة يحيل إلى أن العلاقة بينهما كالتالي: اللغة تسعفُ الأفراد والمجموعات في تشكيل هوياتهم وتشكُّلها والتعبير عنها، كما تسعف الباحث في دراسة هوية الأفراد والجماعات أنفسهم، لكنها لا يمكن أن تقوم مقام الهوية. إن اللغة تخصيص للهوية من جهة واحدة، في حين أن الهوية متعددة.

ثانيًا: التعدد اللغوي والهويات القومية

بيّن بينكدت أندرسون على نحو واضح أنه «بات على اللغات المقدسة، اللاتينية واليونانية والعبرية، أن تختلط على أساس أنطولوجي متكافئ مع حشد متنافر من اللغات المحلية العادية المتنافسة، في حركة أتمت ما سبق أن أذاقتها إياه رأسمالية الطباعة من تقليل شأنها في الشرق. ولأن اللغات جميعها غدت تتقاسم تلك المكانة المشتركة الدنيوية، فقد باتت جميعًا جديرة بالمثل، ومن حيث المبدأ، بأن تكون محل دراسة وإعجاب […] من قبل مالكيها الجدد: الناطقون المحليون بكل لغة وقرّاؤها»[7]. لقد قام أندرسون بجرد للغات المحلية الأوروبية التي عمل لسانيوها ولغويوها على إنشاء معاجم خاصة بها، وكتابة قواعدها، فقد أصبح التعامل مع تلك اللغات بنظرة من الإعجاب والاعتداد سببًا رئيسًا في دراستها وتخطيط متنها اللغوي، لكن النتيجة التي أوصلت إليها تلك الدراسات هو تكوّن وعي قومي في دول أوروبا على أساس لغوي؛ فتشكلت القومية الألمانية والقومية الفرنسية والقومية الأوكرانية والقومية السويدية والفنلندية… إلخ. إن ظهور الاهتمام باللغات القومية ليس مشكلًا منذ أول وهلة، لكن عدم وجود رؤية للتوفيق بين اللغات المقدسة السابقة لوجود اللغات المحلية قد يسبب مشكلًا، بمعنى أن وضع اللغات المقدسة واللغات القومية في وضع متكافئ سيسبب وضعًا لغويًا متوترًا، فأوروبا أمام الاختيار بين لغاتها القومية التي تحدد هويتها، أو اختيار اللغات المقدسة التي تصلُها بالقوميات الأخرى من جهة، أو أن يبقى الوضع على ما هو عليه، وهو ما لا يمكن بالنظر إلى تطور العناية والتخطيط للغات القومية. إننا أمام وضع تتسم فيه اللغات بنوع من القداسة والابتذال.

يُعدّ تقسيم اللغات الأوروبية إلى لغات تكتسبُ قداستها من الدين المسيحي أو اليهودي، وإلى لغات محلية قومية ما زالت وليدة اعتداد بالقومية والوطنية، بداية التنافس كما لاحظ أندرسون. فما يراه المتديّن هو أن لغة الدين مقدسة، ولا يمكن أن تكون في وضع أقل من ذلك، في حين تظهر لغات أخرى تعبر عن القومية الخاصة في دول معيّنة في حيّز جغرافي معيّن. وهذا الوضع يمكن أن يُفهم منه أن لغة الدين، سواء كانت لاتينية أو يونانية أو عبرية، تشكل الهوية الكلية لأوروبا كلّها، في حين تشكل اللغات القومية الجوانب الهوياتية الأخرى لكل حيّز أضيق من الحيز الجغرافي الأول؛ كالوطنية والجنسية والقومية نفسها. فإذا كانت اللغات ذات طابع تنافسي صراعي، فإنها نقلت هذا الطابع إلى تشكلاتها الخطابية، والمقصود بذلك؛ أن الصراع لم يبقَ في حدود لغة محلية ولغة مقدسة، بل انتقل إلى الصراع بين الدين ولغاته والقومية والجنسية والوطنية ولغاتها. من هنا يبدو التساؤل مشروعًا: هل انتقلت اللغة من وضع تعبّر فيه عن الهوية ومكوناتها، إلى وضع يكون فيه تعدد اللغات سببًا في الصراع والتنافس؟

يفترض هودسن أنه «لو تعلم فرد بعينه وحدتين لغويتين مختلفتين من جماعتين مختلفتين من الناس، فقد تكون كل من هاتين الوحدتين مرتبطة بمجموعة مختلفة من القيم والمعتقدات الثقافية. وفضلًا عن ذلك، فلن يكون من الصعب تصور أن كلًا من هاتين الوحدتين تحرض مجموعة مختلفة من المعتقدات والقيم عند استخدامها، ويمكننا القول إن اللغة (في هذه الحالة اختيار نوعية لغوية بعينها بدلًا من الأخرى)، تحدد الفكر»[8]. اللغة من هذا المنطلق تحدد الفكر، بل تحدد مصفوفة من القيم والمعتقدات مع تعلّمها، بحسب هودسن. وبالعودة إلى الوضع اللغوي الذي لاحظه أندرسون سابقًا في أوروبا وتشكل الهويات القومية من طريق اللغة بالموازاة مع وجود لغات مقدسة سابقة لها، فإنه أصبح من الممكن أن نقول بأن كل لغة تشكل معها نسقًا من الأفكار والمعتقدات والقيم، وحيثما وُجدت أكثر من لغة فهذا يُحيل على وجود أنساق مختلفة من الفكر والقيم، وهذا مؤذن بوجود تنافس وصراع بين اللغات من جهة، وبين الأنساق التي تُشكلها من جهة ثانية. ولما كانت الهويات تتشكل من الأفكار والثقافات والمعتقدات، فسيكون من المفيد طرح السؤال التالي: هل يؤدي كل تعدد لغوي ذي طابع صراعيّ إلى حرب الهويات؟ وهذا ما ستحاول الفقرة الموالية الإجابة عنه من خلال مقاربة اللغة والهوية العربيين.

ثالثًا: الهوية القومية واللغة العربية: من التعدد اللغوي إلى حرب اللغات

يلاحظ رشيد بلحبيب أن الهوية هي الكيفية التي يُعرف بها الناس ذواتهم أو أمتهم، وتتخذ اللغة والعرف والثقافة والدين… أشكالًا لها، فهي تنأى بطبعها عن الأحادية والصفاء، وتنحى منحى تعدديًا تكامليًا إذا أُحسن تدبيرها، ومنحى صداميًا إذا أُهملت وأسيء فهمها[9].  يمكن إبداء ملاحظة منهجية في هذا الصدد، وهي أن الهوية في علاقتها بالتعدد اللغوي تتخذ صورة الحياد، بمعنى أنها يمكن أن تتخذ طابعًا تكامليًا إذا نُظر إليها كثراء فكري ومعرفي وثقافي، وقد تتخذ طابعًا صراعيّا إذا نُظر إليها بنظرة احتيازية وفوقية، بمعنى أن الهوية تكون في ظل التعدد اللغوي سببًا في إظهار التفوق والهيمنة.

يشير برنارد لويس إلى أن «منطقة الشرق الأوسط منطقة هويات قديمة وعميقة الجذور، لكنها تعرضت في الأزمنة الحديثة لتبدلات عميقة. فغدت دراسة وفهم هذه الهويات أكثر تعقيدًا وصعوبة نظرًا إلى كوننا، نحن الغربيين، بل وحتى شعوب الشرق الأوسط إلى درجة كبيرة، نفهم هذه الهويات ونناقشها ونفكر بها بلغة مستعارة من آخر له منظومات مختلفة للهوية الجمعية، إنني أكتب هذا باللغة الإنجليزية وهي لغة غربية، لكن المشكلة ذاتها ستبرز حتى لو أنني كتبتُ باللغة العربية أو أي لغة أخرى مستخدمة في الشرق الأوسط اليوم»[10]. ليس مفهوم الشرق الأوسط مفهومًا متفقًا عليه بين الباحثين، فتارة يُنظر إليه ككتلة سياسية واحدة، وتارة ينُظر إليه ككتلة جغرافية وتاريخية وثقافية واحدة. ومن الناحية التاريخية، فقد عرفت دول الشرق الأوسط منذ العهود الإمبراطورية العربية والفارسية والتركية تداخلًا بين هوياته وثقافاته، حيث كان الدين، أو الديانات الشرقية المتعاقبة، سببًا أساسيًا في التداخل، ومن المعروف أن الديانات السماوية، وخصوصًا في الجزيرة العربية والشام، نزلت بلغات مختلفة، فالإسلام لغته عربية، والتوراة والإنجيل اختُلف في لغتيهما الأصلية، فتارة تكون عبرية، وتارة آرامية، وطورًا آخر يُعتقد أن لغتهما هي الأكادية. إضافة إلى هذه اللغات المتعددة في المجال الجغرافي نفسه، فقد عرفت هذه اللغات نوعيات ولهجات مختلفة، وبذلك يكون التنافس تعدديًا وازدواجيًا في الوقت نفسه.

إن الهويات العربية في الشرق الأوسط التي تشكلت باللهجات المحلية للقبائل، واللغة العربية الفصحى في تاريخها، تميزت بنوع من التكامل التوزيعي، بمعنى أن كل لهجة لها مجال جغرافي محدد شكلت هويته وثقافته، كما تشغل مجالها التداولي في الحياة اليومية للمجموعات الكلامية المُستعملة لها، لكن هذا المجال يذوب في مجال أوسع منه هو مجال الفصحى، والسبب في ذلك هو الدين الإسلامي، فالازدواجية في هذا المقام عنصر إثراء طالما أن الدين حسم في اللغة الأولى والمعيار للشرق الأوسط، لكن الوضع مختلفٌ تمامًا إذا نُظر إلى وضع الهويات واللغة العربية في علاقتهما بلغات أخرى. إن حقائق الواقع القديمة لم تختفِ، فعند التصادم مع الخارجي الغريب، تعود بمعانيها ومفاهيمها المحددة، اللغة، وخلال الصراعات بين المجموعات المتنافسة أو الهويات المتنافسة داخل المجتمع، يجري أحيانًا استخدام كلمات جديدة بمعانٍ قديمة، وتحتفظ كلمات قديمة أو تستعيد مدلولها الأصلي[11].

يذكر يوسف الشويري أن الحقبة التي كانت فيها القومية العربية اتجاهًا سائدًا طوّر القوميون العرب اللغة العربية بوصفها أداة لتمثيل الهوية الثقافية المستقلة والقادرة في الوقت نفسه على التعبير عن المفردات والمصطلحات المستعملة في الحضارة الأوروبية[12]، إن أكثر مفهوم يجب التدقيق في مدلولاته في هذا السياق هو الهوية الثقافية المستقلة، وجعل اللغة أساسًا لبناء هذه الهوية. فمن المعروف أن البلاد العربية خلال القرن التاسع عشر والقرن العشرين اشتد فيها عود المطالبات المتتالية عن الاستقلال عن الدولة العثمانية، والاستعمار الغربي. ويعني هذا أن اللغة العربية كانت في وضع تنافسي مع اللغة التركية من جهة، واللغات الفرنسية والإنكليزية من جهة أخرى. وللتغلب على هذا الوضع عمل القوميون العرب على تخطيط متن اللغة العربية ووضع قواميسها التي تستطيع التعبير عن الهوية العربية على نحوٍ دقيق[13]. فقد أضحى الصراع والتنافس على إثبات الهوية المستقلة صراعًا على تطوير اللغة التي تستطيع تكييف الهوية نفسها في بيئة عربية واضحة المعالم والحدود. إن هذا الوضع يجعل التساؤل عن هوية اللغة العربية في ظل التعدد اللغوي الذي عرفته البلاد العربية، وطبيعة الهوية العربية التي عُبّر عنها بلغات غير العربية، أمرًا ممكنًا.

بعد كتاب وليام ويتني (William Dwight Whitney) عن حياة اللغة وموتها، أصبح شبه مسلّم به أن اللغات تولد فتحيا وتموت، وتعانق الغنى وتعاني الفقر بطريقة تجعلها لا تثبت على حال حتى في ما تحمله كلماتها من معانٍ، لكن قبل ذلك، من الطبيعي أن تحارب اللغة العربية من أجل البقاء قوية، مثلها في ذلك مثل أي كائن طبيعي ينطبق عليه الزمن؛ فهي من جهة تحارب عملية الذوبان التي تتعرض لها من جانب اللهجات المحلية واللغات الأجنبية المجاورة، ومن جهة ثانية تحارب العجز الذي يصيب مفاهيمها أمام المعاني الجديدة التي يقرضها راهن الحياة والتقدم العلمي الذي تفرضه باقي اللغات، وعلى رأسها اللغات الاستعمارية. إلا أن الحرب على المستوى الداخلي المتمثل بصراعها مع المعاني لقولبتها في مفاهيم عربية أصيلة، وعلى المستوى الخارجي المتجلي في الحرب مع بقية اللغات من أجل إثبات الذات العربية، يجد عمقه في الهوية العربية، والأمر يصبح أكثر وضوحًا حين يتم ربط حرب اللغة العربية بالتعبير عن الهوية العربية.

يعرِّف هدروك ميموني (Hadroug Mimouni) اللغة بأنها أداة ووسيلة تستمد قيمتها من قيمة مستعمليها[14]، لكن في ظل شح إنتاج أهل اللغة العربية للتقنيات العلمية ووسائل العيش التي تسهل الحياة اليومية للبشرية، لا تجد اللغة العربية غير الهوية لتستند إليها في استعادة قوتها، ذلك أن الهوية تقع في صميم ما تعنيه اللغة، التي تعدّ الآلية الأكثر فاعلية في التعبير عن الهوية العربية ومظهرًا أساسيًا من مظاهرها، في ظل قدر التعدد اللغوي الذي يخترق كل اللغات وليس حكرًا على لغات العالم الثالث، بما في ذلك اللغة العربية.

أصبح من البديهي حتى الآن، أن المفارقة تكمن في أن التعددية اللغوية تفتح الباب أمام سائر اللغات غير العربية للمشاركة في تشكيل الهوية العربية ولو بنسب متباينة؛ فاستقبال لغة الآخر المشارك في المجال أو الغريب تُعد عاملًا أساسيًا في تنشيط الحرب بين اللغات وإن لم يكن السبب الوحيد[15]، في ظل شعور الأقليات المتزايد بالرغبة في إثبات أحقية لغتهم في السيطرة على مرتبة اللغة الوطنية، في مواجهة باقي اللغات التي تحتضنها الدولة في إطار التعدد اللغوي، مسندين مشروعية لغتهم في ذلك إلى أنها لغة التراث أو أنها لغة السكان الأصليين أو أنها لغة دين الدولة… وهذا ما يضع اللغة في تجاذبات لا تعرف السكون.

ترتقي كينونة الهوية العربية من خلال تنمية إنتاج التراث العربي، والتجديد الديني في المجال العربي، وفن توثيق التاريخ العربي، من دون أن نغفل عن أن التعدد اللغوي يبيح في هذا السياق للهوية العربية إمكان التعبير عن مضمونها بأكثر من لغة إلى جانب اللغة العربية، من دون أي تهديد لمصير الوحدة الثقافية العربية، شريطة أن تظل اللغة العربية هي الأصل في التنشئة الاجتماعية وفي تشكيل للوعي الهوياتي، كحل مؤقت للمفارقة السابقة الذكر. لأنه لا يمكن الحفاظ على خصائص الهوية العربية من دون الحفاظ على اللغة العربية[16] في مواجهة ما خلفه التدخل الأجنبي في الهوية، وبخاصة ما خلفه الاستعمار في بلدان العالم الثالث.

1 – الهوية العربية والإرث الاستعماري

تعبّر الهوية العربية في معناها المجرد عن جملة من العلامات والخصائص المميزة للجماعة العربية التي تجعلها مستقلة عن غيرها وحاضرة بذاتها، ففي غياب هذه العلامات والخصائص تذوب هذه الذات في الآخر أو تتلاشى[17]، إلا أن بساطة هذا التعريف الذي نسنده هنا إلى الهوية العربية، لا يغني عن كشف ما خلفه التصادم بين الهوية واللغة من العلامات والخصائص المميزة للذات العربية، الناجمة عن تزاوج الهوية باللغة في مواجهة حمولة الإرث الاستعماري الذي حاول فرض لغته وثقافته، وما تولد من هذا الصدام من ثابت ومتحرك (التطورات) في الهوية العربية.

ترتكز الهوية العربية على ما بين الماضي والمستقبل من الحاضر الإنساني، وترتبط بمجموعة من الخصائص المعبرة عنها، التي تتمحور أساسًا حول التاريخ المشترك للجماعة العربية، والدين المرسوم عربيًا، ومستقبل المنطوق العربي بأحرف عربية.  من هنا تبرز أهمية الهوية العربية في ارتباطها الشديد باللغة العربية تاريخيًا ودينيًا وحضاريًا. وباعتماد هذه الأخيرة تحاول الهوية العربية دمج الأقليات وتجديد لحمة الهوية العربية، بتخليصها من الإرث اللغوي الاستعماري سواء في بلدان المشرق العربي أو بلدان المغرب العربي على حد سواء.

قامت اللغات الأجنبية بحمولتها الهوياتية باجتياح المجال التداولي العربي إبان الحقبة الإمبريالية في القرن العشرين نتيجة تزاد الضغط الذي فرضته الدول الرأسمالية على البلدان العربية، التي فُرضت عليها اللغة الأجنبية في أقطار كثيرة، وبخاصة في جانب الإدارة والتسيير، لكن حتى بعد نيل البلدان العربية استقلالها ظل الاحتكاك باللغات الأجنبية في تزايد مستمر. فعلى الرغم من إقرار البلدان العربية للغة العربية كلغة رسمية، إلا أن اللغة الأجنبية ظلت هي لغة النخبة والتحديث، والعلم والتقدم، ليتم إدراجها في التعليم الرسمي تلبية للحاجة الحضارية. لكنها في الوقت نفسه أصبحت تمثل جزءًا غير مباشر من الهوية العربية، فعندما نقول بالهوية العربية التي تكملها اللغة الفرنسية نتوجه مباشرة إلى بلدان المغرب العربي، في حين تشير الهوية العربية التي تكملها اللغة الإنكليزية إلى بلدان المشرق العربي.

على الرغم من أن الهوية العربية بدأت تدريجًا ترتكز على اللغة العربية وتطورها لمواكبة التطورات العلمية، فلا تزال قوة اللغات الأجنبية المجاورة لها تجبرها على الانكسار، فيدخلونها في نوع من الاغتراب الجزئي الذي ما زالت تصارع للخروج منه في التعبير عن هويتها العربية، وبخاصة في ظل الدراسات والإنتاجات العلمية التي تقوم بها اللغات الأجنبية حول اللغة العربية نفسها، في ظل شح الدراسات التي يقوم بها أهل اللغة العربية عن لغتهم، وهو ما يضيء إنذار خطر ضعف اللغة العربية الذي قد يزيد من تشقق الذات العربية أكثر فأكثر.

2 – من هوية اللغة إلى لغة الهوية

يستوجب الارتباط المتبادل بين اللغة والهوية العربيتين الكشف عن التفاعل القائم بينهما في السياق العربي، وما يولد من قلق عربي ينعكس على راهن اللغة العربية وآفاقها، على اعتبار أن هذه الإشكالية تجاوزت كونها مظهرًا لغويًا إلى كونها ظاهرة اجتماعية وسياسية تتطلب حلولًا لغوية[18].

فالنظر إلى اللغة من زاوية الهوية لا يجعل منها مجرد أداة تواصلية محايدة، بل كائنًا حيًا منتجًا[19] للذات العربية على نحوٍ يحافظ على استمرار توازنها، غير أن دخول أي لغة أجنبية إلى مجالها السيادي من شأنه أن يخل بتوازنها، وإن كانت الحاجة الحضارية ملحة في استقطاب لغة أجنبية، لأن دخول اللغة الأجنبية على اللغة العربية لا يتوقف عند حدود إشباع الحاجة الحضارية بل سرعان ما ينافس اللغة العربية في التعبير عن الهوية العربية، فيستولي شيئًا فشيئًا على التعبير عن الهوية العربية بلسان غير عربي، وهذا ما يضعف الشعور بالانتماء الهوياتي[20] ويُغرب اللغة العربية في ديارها.

إن نحن قسمنا الإنتاجات العلمية التي ساهمت في تطوير البشرية على أساس الهويات، تأكد لنا أن لكل هوية لغة خاصة بها، وأن لغة الهوية العربية هي المعمار الذي شيّد الفكر العربي وقوّمه مكوّنًا هويته اللغوية الحالية[21] التي تحارب في صمت كل التصنيفات العنصرية والتصورات الترهيبية التي تلصق بالفرد العربي الذي يبلغ عدده نحو 371 مليون شخص.

فغالبًا ما يعبر التلفظ بلغة ما عن الانتماء إلى هوية معينة[22] كما يشير التعبير عن الانتماء إلى هوية معينة إلى امتلاك لغة بعينها، وكلاهما يشير ضمنيًا إلى الارتباط بالثقافة نفسها ويبيح التنقل ما بين هوية اللغة ولغة الهوية. فاستعمال الذات العربية للغة العربية في التعبير عن قضاياها المحلية يجعل اللغة بمعنى من المعاني مسكنًا للوجود الهوياتي، بحيث تختزل بداخلها معاني الهوية، وكأن الهوية تسكن اللغة واللغة تختزل الهوية. وفي تناسل اللغة والهوية العربيتين يتم رسم تصورات ذهنية معينة، تتفاعل في السلوك الفردي والجماعي المعبر عن وحدة الذات العربية.

خاتمة

إن التعبير الرصين عن الهوية العربية لم يعد حكرًا على اللغة العربية وحدها، في ظل سياسة الهوية المفتوحة وقوة التطور العلمي الذي تعرفه بقية اللغات، لكن هذا الانفتاح يقتضي تزويد اللغة العربية بمناعة تمنع تشقق الذات العربية في التعبير عن هويتها، في حين يمدها باللياقة اللازمة لمواكبة التطورات العلمية وإذكاء الشعور بالانتماء والتفرد أثناء تحقيق التواصل مع بقية اللغات، ويمنحها القوة المفاهيمية اللازمة في التحاور مع بقية الهويات، من دون الحاجة إلى استعارة مفاهيم أجنبية في التعبير عن قضاياها المحلية، كما يفعل عدد من المفكرين العرب، أو الاستعانة باللهجات المحلية الهجينة كما هي حال بعض البرامج الإعلامية… إلخ. ذلك أن الشعور بثراء اللغة العربية لا يمكن أن يؤدي إلا إلى إغناء التعبير عن الهوية العربية بلسان عربي قوي، قد يعصمها من أي اختراق لغوي قد يؤدي إلى تمزق الذات العربية □