ليس الحيّز هنا للحديث عن حدث 7 تشرين الأول/أكتوبر، بما هو عملية عسكرية فوق عادية، ولا عن تقييم ماجريات الميدان مُذّاك، وإنما لإلقاء نظرة طائر فوق مشهده الأسطوري السمات، والمحمّل بالدلالات. أُكثّف قسمات المشهد في العناصر التالية، وإنْ من دون ترتيب مُدوزن:
1 – إن الحدث قد انتوى جبَّ ما بدا قبله من صيرورة جيوسياسية بدت وكأنها لا تُقاوَم، ولا سيّما وقد حفلت بمدخَلات فلسطينية: أولها، حياكة واشنطن، مخدومةً بضغوط مالية وحصارية على غزة، تفاهمًا إقليميًا – ببعدٍ فلسطيني – شمَل هدنة طويلة الأمد بين غزة وبين «إسرائيل»، لقاء فك الحصار عنها، مصحوبًا بتخفيف غلظة تعامل الاحتلال مع الأقصى، وإطلاق بعض الأسرى. ثانيها، حثّ الرياض الخطى على طريق التبرهم. وثالثها، الانفراج فالوفاق السعودي – الإيراني. على خلفية تلك الصيرورة انضاف ثابتان: ضِعة وهشاشة سلطة رام الله، خادمةً لأمن «إسرائيل»، وتجبّر اليمين الإسرائيلي الحاكم في ممارساته الصلفة، سواء في الحرم القدسي، أم لجهة الاستلاب الاستيطاني اليهودي في الضفة الفلسطينية، بما فيها القدس العربية.
2 – تلوًا، فقد تسبّب الحدث في تخريب بنيان منظومةٍ انهمكت واشنطن في تلزيق قطعها، أملًا في تلزيمها الإقليم، في إطار سعيها للتخفّف من أحمال مسؤوليتها المباشرة عن أمنها ومصالحها فيه. منظومةٌ، «إسرائيل» فيها واسطة العِقد، وحولها تكوكبت «دولٌ» لعرب «السنّة». وكمْ جهُدت واشنطن وما فتئت في محاولة ترميم ما تبعثر، وفي إخراج آثار التخريب ذاك من التداول، بأمل أن تعيد الحياة إلى مسار التبرهم، وعلى حساب زيارة جادّة لملفّ فلسطين.
3 – إن ما جعل من محاولة الإنعاش تلك عصيّة على النجاح استمرار حرب غزة، من جهة، وركوب المستويين، السياسي والعسكري/الأمني، الإسرائيليين رأسيهما في مسعاهما العاثر لقطع رأس حماس، من جهة أخرى.
4 – إن الحرب بادية الانتماء إلى خانة الحروب الطويلة، مثَلُها كمثَل الحرب الأوكرانية، ما يعني أنْ ليس من استراتيجية خروج تسمح لأيّ من الطرفين بعدم الخسارة، نسبةً إلى الآخَر. لقد نصب «قسّام» حماس فخًّا لـ«تساهل» العدو في غزة، وأوقعه فيه. كان ردّ الأخير من صنفٍ لم تعهده حربٌ حديثة، وبسقف عال من الأهداف. لكنه خسر الرأي العام العالمي، والغربي بالأخصّ، وشطر مضّطرد الاتّساع من الأمريكي في أخصّ الخصوص، من جرّاء توحّشه في الحرب. ثم فشل في نيل تلك الأهداف، ما جعل من النكوص عنها والنزول على السلّم برهانًا على خسارته الحرب.
5 – إن أحوج ما يحتاج إليه «قسّام» حماس هو وقف الحرب وانسحاب الغازي وتدفّق الإغاثة؛ تفريجًا عن شعبه المكلوم في الأساس، وتوطئة لاستعادة ما خسر من قدراتٍ بعده. والحال أن تينك البُغيتَين براهين فوز له – القسام – بالقياس على ما بعد 7 أكتوبر، وأدلّةَ انكسارٍ للعدو و«تْساهله»، نسبةً إلى ما بعد القارعة. وبرغم أن تلك المقاربة تبدو، على السطح فقط، غريبة، إلّا أن هول الحدث جعل من أدوات القياس عضوية الصلة به.
6 – إن استماتة «إسرائيل» في مسعاها لاستعادة طقس 6 أكتوبر وما قبله عسيرة النجاح، فحتى بافتراض خسارة «قسّام» حماس لألوف من مقاتليه فما لديه وما انضاف كفيل بإدارة حرب استنزاف مرهقة للمحتلّ إنْ مكث، ولا سيما وشبكة الأنفاق في العون إيصالًا إليه حيث قابع. ثم إن تهشّم سمعة «إسرائيل» في العالم إلى حدّ أنها باتت منبوذة من القاصي والداني من جرّاء وحشيتها، مجتمعًا وجيشًا، بالغة الإفراط نحو وفي غزة يأخذ من حنوّ الغرب الشعبي، ويحرج الغرب الرسمي، عليها بمقدار قناطير.
7 – إن موقف واشنطن، بتحليل الحركة، ذو صلة وثقى بمشعر الكسب/الخسارة. هي قائدةٌ الغرب الجماعي، وقد قادَته فعلًا إلى الهرع لإنقاذ ركنها / الركين في الإقليم، «إسرائيل»، من ضربة لم تتلقَّ نظيرًا لها في حياتها، إلى تاريخ 6 تشرين الأول/أكتوبر 2023. لم تقتصر واشنطن وعُصبتها على تزويد العدو بالسلاح والذخيرة وقطع الغيار، ولا على معلومات الاستخبار، بل نزلت طواقم كوماندوس ومفارز استخبار على أرض غزة لتقاتل جنبًا إلى جنب مع ربيبها الإسرائيلي في حرب «استقلاله الوجودية» الثانية، فضلًا عن تحريك أساطيلها وقواتها إلى جواره سندًا وغطاءً. وبرغم ذلك، فتحليل الحركة ناطقٌ بعثرات تحويل نصرة العدو إلى نصر له؛ أي أن الرهان على إعادة تمكينه من العدْو ركنًا ركينًا للغرب الجماعي في الإقليم ليس متاحًا. وعليه، فتركُ الربيب عالقًا في حرب غير فائزة، ناهيك بعالي كلفتها على السيّد وبناته سمعةً ومصالحَ ومصير بنين وبنات حولنا، وصفة خسران فاضت عن عثرات الميدان.
8 – إن «قسّام» حماس، في المقابل، وعلى عظيم توقه إلى وقف الحرب نافٍ، بقطعٍ، لأية شبهة نكوص أو استسلام. هو آبه بعذابات شعبه، لكن كل ما جرى، إلى تاريخه، لا يدع مجالًا سوى للخروج من القارعة بسلامةٍ عنت دحرًا لغازيه.
9 – إن ترداد مقولة دخول شعوب أمة العرب في نفق مَواتٍ وسكناه لا يتعرّف إلى كمْ مغايرٌ المستظهَر للمستبطَن، ولِما يخبّئ تحته من اعتمال يُرجَّح ألّا سبيل نفاذٍ له سوى العنف الضاري لجموعٍ من شباب أمة فتيّة، قاربت النصف مليار، علّمتهم حربٌ قُدَّت من بشر، في وعلى غزة، أن المحتلّ/الغازي، والراعي/اة شركاءٌ في مقتلةٍ أنزلوها بغزة- فلسطين، ولا تُرَدّ عندهم إلّا بمثيل.
10 – إن أشدّ ما أغاظ واشنطن وعُصبَتها قلبُ قوة مقاتلة «سنيّة» المائدة على ترتيباتها الإقليمية، مناقضةً بذلك طقس «الاعتدال السنّي» الرسمي المتحالف مع «إسرائيل». بل وزاد ضغثًا على إبالة نوعٌ من ائتلاف لها مع طقس «شيعي» ممانع في الإقليم. وتينك لعمري من النواهي المحرّمة لدى واشنطن استحقّت عندها كل ضير للخارجين عن الناموس، وفي الطليعة «قسّام» حماس.
11 – إن واحدًا من أهمّ سمات حرب غزة هو أنها كاشفةٌ للكلّ، صالحهم وطالحهم، ومُعرّية. لم تعد هناك من أوراق توت ولا أغطية ولا سواتر. الإمبراطور وربعه عراة في الحمّام. ثم إن هناك بعدًا ذا صلة: إن انقسامات المجتمعين الأمريكي والإسرائيلي، التي توفّرت على أسباب ذاتية، كفت لإشعال فِتنٍ أهلية فيهما، انضاف إليها «مُفاعل» غزة، التي استُدخلت حربها نسيجيًا في حشا الاثنَين، ليؤجّج فيهما ما فاض عن محض فِتنْ. دوام ذلك بات مقضيًّا، بما باتته فلسطين قضيّة داخلية في كليهما، ولا سيما الأمريكي الأهمّ.
12 – إن من الكواشف فهم ماهيّة ومدى الدورين الروسي والصيني في شأن الإقليم. فالأول اكتفى بمحاولة إعاقة سياسية للجهد الأمريكي فيه، سواء بالدبلوماسية أم بتظهير عروة علاقة مع حماس، وباعتقاد أن تلك حدود قدرته راهنًا، من جهة، وأنْ ليس من داعٍ لمزيدٍ وواشنطن تغرق في أوحال الإقليم بما يحتّ من قدراتها بعموم. أما الثاني، فقد تمسّك بأهداب نهجه الانتظاري/السكوني مكتفيًا ببعض تمظهر دبلوماسي وعلوٍّ في نبرة تأييد لفظي لفلسطين، وتشاركٍ مع صنوِّه الروسي في التلذّذ في ورطة الخصم الأمريكي في غرب آسيا، واكتفى بذلك القدر. خلطةٌ من ذلك كله بدا عليه موقف تركيا، مع خشونة لفظية وردع استخباري داخل حدودها. بسقفٍ كذلك تثبَّت أن ناتويتها سمت فوق أي رباط آخر. والحال أن توازن القوى بين الولايات المتحدة وناتوها وبين ما دعته بالمحور المضاد (روسيا والصين وكوريا الشمالية وإيران وسورية والمقاومات) ما انفكّ طابشٌ نوعًا ما لمصلحتها. لكن الاستنتاج ذاك غير صالح للاستدامة حين لحظ محدودية القدرة الأمريكية على ضبط إيقاع الإقليم على نوتتها، لا نسبةً لخصومها ولا حتى لأربابها. التحليل بالحركة يؤشّر على تراجعٍ جارٍ لها وإنْ لم يتصاحب بتوازٍ مع ارتفاع قدْر الخصوم بعد.
13 – إن وصف «المحور» ليس متّسقًا مع واقعه. هو ائتلاف متباين السماكة النسيجية بين أطرافٍ رفضت الهيمنة، الإسرائيلية منها والغربية، لكن وشائج بعضها بالآخر اقتصرت على رفضٍ لتلك الهيمنة غير مقترنٍ، بالضرورة، بسواه. ثم إن الوزن النوعي للائتلاف لم يصل ردعيًا إلى حدّ التساوي مع ردعية «إسرائيل» له (هو ردعٌ متناظرٌ غير متساوٍ)؛ وعليه قدرتها المستدامة على الضرب جوًا في سورية لِما ناف على ثلاثة عشر عامًا، ولِمَدِّ اليد إلى الداخل الإيراني تفجيرًا واغتيالًا لزهاء ذات المدّة، ولتهيّب إيران من الانتقال من العتبة النووية إلى التسلّح النووي.
14 – إن حديث الحاجة إلى «وحدة وطنية» فلسطينية يغفل استحالة الجمع بين نهجين متناقضين في الساحة الفلسطينية ومحيطها: المقاوم والمساوم. أقصى الممكن، لذا، هو عدم إيذاء واحدٍ للآخر؛ وأولى متطلّبات ذلك خروج سلطة رام الله من طقس ترتيبات أوسلو قولًا واحدًا.
15 – أخلص إلى القول إن حرب الشهور الستة، لتاريخه، أثقل وقعًا على العرب، حالًا ومآلا، من كل سابقاتها؛ من أول نكبة 48 ولتاريخه. هو تاريخ فارق تحمله الأمة على ظهرها حتى يوم فرقان.
كتب ذات صلة:
المصادر:
هذه هي افتتاحية العدد 542 من مجلة المستقبل العربي لشهر نيسان/ أبريل 2024.
العدد 542 في الرابط أدناه:
مجلة المستقبل العربي العدد 542 نيسان/أبريل 2024
كمال خلف الطويل: كاتب وطبيب.
كمال خلف الطويل
طبيب أشعة زاول مهنته لثلث قرن في الولايات المتحدة، وساكنٌ في التاريـخ ومسكونٌ به قبل وبعد. ولد في 16 أيار/ مايو 1952 في بيت لحم، على كونه من البيرة - فلسطين، ثم عاش ودرس في دمشق منذ عام 1956، وتخرج فـي كليتها الطبية عام 1975، ليغادر بعدها للاختصاص في الولايات المتحـدة. تقلد هناك مناصب ذات صلة: رئاسة الجمعية الطبية العربية الأمريكية؛ رئاسة جمعيـة الخريجين العرب الأمريكيين؛ رئاسة جمعية البيرة - فلسطين؛ وعضو مجلـس أمنـاء اللجنة العربية الأمريكية لمكافحة التمييز العنصري. انضم لعضوية المؤتمر القومي العربـي عام 2000 وانتخب عضوًا فـي أمانته العامـة 2003-2010. وهو عضو اللجنة التنفيذيـة لمركز دراسات الوحدة العربية وعمل مديرًا له في عام 2015. الشغف بالتاريـخ والسكنى في إهابه باتا نصًا من أقانيم ثلاثة، أراد منه صاحبه أن يكون صلة وصل لأجيال بازغة مع ماض ليس ببعيد كان فيه العرب ذوي شأو... أو هكذا بدا...
بدعمكم نستمر
إدعم مركز دراسات الوحدة العربية
ينتظر المركز من أصدقائه وقرائه ومحبِّيه في هذه المرحلة الوقوف إلى جانبه من خلال طلب منشوراته وتسديد ثمنها بالعملة الصعبة نقداً، أو حتى تقديم بعض التبرعات النقدية لتعزيز قدرته على الصمود والاستمرار في مسيرته العلمية والبحثية المستقلة والموضوعية والملتزمة بقضايا الأرض والإنسان في مختلف أرجاء الوطن العربي.