مقدمة:

يجتهد القائمون على الدرس الفلسفي في مؤسساتنا الثانوية والجامعية في طرح السؤال: كيف تؤدي الفلسفة دوراً فاعلاً تنويرياً؟ هذا السؤال المحوري الذي نطرح بعض جوانبه في هذه المقالة يعبّر عن هاجس البحث عن فلسفة تكون بالفعل طريقاً ينتهي بنا إلى الانخراط والاندماج في «ثقافة الحداثة»؛ أي ثقافة التغيير والتجديد والابتكار التي صارت شعاراً مرفوعاً في أقطارنا العربية. كما إننا أردنا من خلال هذا السؤال أن نجلب الانتباه إلى أن دور العنصر الثقافي عامة والفلسفي خاصة في التنمية يعتريه شيء من الغموض، وهذا يضعنا أمام مهمة التفكير وإعادة التفكير في ما يمكن للفلسفة أن تساهم به في مشروع تجدد حضاري رصين.

أين نضع المشتغلين بالفلسفة في خضم ما حدث ويحدث في بلداننا العربية من تغيير؟ يمكن هنا العودة إلى ما قاله نجيب محفوظ في روايته ثرثرة فوق النيل من كون الثورة يخطّط لها الدهاة وينجزها الشجعان ويغنمها الجبناء، وإذا كان العنصر الثاني من المقولة ينطبق على الثورات العربية، وخاصة الشجاعة التي تحلّى بها الشباب والإرادة الصلبة التي تسلّح بها الشعب في التعامل مع التطوّرات في تونس وفي مصر وفي غيرهما، فإن العنصر الأول الخاص بالتخطيط وبالدهاء غير مؤكد ما إذا كان للمشتغلين بالفلسفة قسط فيه، لأنها كانت ثورات مفاجئة ولم يتوقعها أحد، أما بالنسبة إلى القسم الثالث فإننا لا نتمنّى للفلاسفة أن يكون لهم حظ فيه.

إذا كنا لا نجد حضوراً لافتاً للفلسفة وللفلاسفة في خضم ما حدث، فإن الثورات العربية طرحت وتطرح إشكاليات فلسفية في المقام الأول، منها: ما هي العوامل والظروف التي ساهمت في تفجّر هذه الثورات؟ وما هي القوى الحقيقية المحرّكة لها؟ وما هي المقومات السوسيوثقافية التي ساعدت على إنجاحها؟ وهل بمقدور هذه الثورات أن تقدّم البديل الحضاري للأنظمة التي كانت قائمة؟

من جهة أخرى فإن الفلسفة تحتّم علينا أن نتفادى الحكم المسبق والمقارنة الخاطئة لهذه الثورات مع غيرها من الثورات التي حدثت في الماضي داخل سياقات اجتماعية مختلفة. وما نعمل على تحقيقه هو محاولة فهم ما حدث من هبَّة شعبية وانتفاضة اجتماعية وزلزال سياسي أحدث منعطفاً في التاريخ سوف يؤرّخ لما قبله وما بعده بالنسبة إلى الفضاء الجيو – سياسي للمنطقة، وما نحرص عليه هو التفكير في شروط مساهمتها في صناعة مستقبل أفضل للوطن وللفكر[1].

إن عوامل الثورة وأسبابها كثيرة وتتراوح بين الخصوصي والكوني، والذاتي والموضوعي، والرمزي والمادي، والمعرفي والأيديولوجي، وهي عوامل موجودة في كل الدول التي تُعاني نير الطغيان وغياب مؤسسات المجتمع المدني، حيث يتمّ إقصاء الناس من المشاركة الفعلية فيها ويحرَمون التدخّل الإيجابي في الشأن العام وانتشار الدعاية المضللة التي تهدف إلى خدمة السلطة الحاكمة.

وفي ظل هذا الخضم فإن الفلسفة تصبح مطلباً استعجالياً، لأن التغيير الذي صار مطلوباً عربياً هو ذلك الذي يتطلب إضافة إلى: الحماس والشجاعة والممارسة والنشاط والفاعلية والحركية والضغط والإصرار… وغيرها، نخبةً ثقافية ملتزمة لها القدرة على التوجيه العقلاني الواعي بفضل ما لديها من قدرة على الرؤية العقلية السليمة للأمور، وحسن تأطير تطلّعات الجماهير. ومن ثم فإن مجتمعاتنا العربية لم تكن بحاجة إلى الفلسفة بقدر ما هي بحاجة إليها في وقتنا الراهن. فالحاجة إلى التفكير العقلاني أمر يزداد أهمية على أهميته بالنظر إلى التحديات التي وضعتنا أمامها تحديات ما سُمِّي بـ «الربيع العربي».

لكن الفلسفة في وطننا العربي شأنها شأن باقي الاختصاصات المعرفية الأخرى توجد في وضع مأزوم جعلها لا تواكب المستجدات الحاصلة في بلداننا العربية. ومن أجل تشخيص أسباب الأزمة والبحث عن الآليات التي تسمح للفلسفة بأن تكون في الموعد، وجب علينا أن نطرح سؤالاً محورياً ملحّاً هو: كيف نجعل من الدرس الفلسفي في مدارسنا الثانوية وفي جامعاتنا فاعلاً منتجاً لدور تنويري وتغييري مُلحّ؟ هذا هو السؤال الجوهري المركّب الذي نحاول أن نطرح بعض جوانبه في هذا المقال، وهو سؤال يعبّر عن هاجس البحث عن فلسفة مدرسية وجامعية تكون موجِّهة وموجَّهة في الآن ذاته، وتكون بالفعل طريقاً ينتهي بنا إلى الانخراط والاندماج في «ثقافة الحداثة» أي ثقافة التغيير والتجديد والابتكار التي صارت شعاراً مرفوعاً في أقطارنا العربية في المرحلة الراهنة التي تواجهنا فيها تحديات «ثقافة العولمة» الزاحفة[2].

هذا السؤال الذي طرحناه أردنا من خلاله أن نجلب الانتباه إلى أن ثمّة أزمة غير واضحة المعالم تحيط بعملية التغيير، حيث دور العنصر الثقافي عامة والفلسفي خاصة في تغيير يعتريه شيء من الغموض، أو أنه كان ضحية تغليب البعد الاقتصادي في عملية التغيير، من أجل تلبية الحاجات اليومية المعيشية للمواطن العربي، أو يكون قد وقع ضحية احتكار مشاريع التغيير والإصلاح من قبل جهات إما أنها صاحبة السلطة الفعلية في مجتمعاتنا العربية، أو جهات لها ارتباطات بها، كما هو الحال بالنسبة إلى بعض الأحزاب التي تسمّي نفسها معارضة. ومهما يكن من أمر، فإن واقعنا العربي يضعنا أمام مهمة التفكير وإعادة التفكير في موضوع الفلسفة ومكانتها في المجتمعات العربية، والهدف من ذلك هو لفت الانتباه إلى ما يمكن للفلسفة أن تؤدّيه من دور في معركة التغيير، التي بدأت في شهر كانون الثاني/يناير الماضي في تونس، ولكننا لا نعرف متى ولا أين ستنتهي.

من جهة أخرى إن نظرة بسيطة إلى المطالب التي رفعها الشباب الذين حملوا لواء التغيير في بلداننا العربية تبيّن لنا أن هؤلاء الشباب عندما خرجوا إلى الشارع لم يكونوا مدفوعين فقط بالظروف الاقتصادية السيئة من فقر وبطالة وتضخّم وعجز في الميزانية وارتفاع مديونية وتدهور القدرة الشرائية وتراجع التغطية الصحية والحماية الاجتماعية واحتكار فئة قليلة للثروة في مقابل بقاء شرائح واسعة على حالة من الإفلاس الدائم… إلخ، إذ إن هذه العوامل على أهميتها لم تكن هي العوامل الوحيدة التي ساعدت على اندلاع الثورات العربية، وإنما هناك عوامل سياسية وروحية أخلاقية وثقافية تتعلّق في مجملها بقيم الكرامة والعزّة والحرية والاعتراف والمساواة والعدالة التي تمّ تدنيسها واستبدالها بقيم مادية تستمدّ من السوق وخاصة بعد انتشار الظلم والتفاوت والفوقية وإغلاق الحياة السياسية واحتكار الأحزاب الحاكمة للشأن العام وهيمنتها على دواليب الدولة وانفراد فئة قليلة من أصحاب النفوذ بالرأي وإقصاء الرأي الآخر مهما كانت قيمته.

وبهذا فإن الشباب العربي من خلال الثورات التي قام بها، والنجاحات التي حققها أوجد واقعاً جديداً لم يحدث مثله في كل تاريخنا الطويل، ولم يستطع أحد أن يتنبّأ بمدى التغيير الذي سيأخذه. وهذا بلا شك يضع على كاهلنا كمشتغلين بالفلسفة في الوطن العربي عبئاً ثقيلاً، ويفرض علينا دوراً جديداً قد لا نكون مهيئين له بعد، ولكن الأمر يتطلّب التفكير جدياً بما يمكن لنا ويجب علينا القيام به إزاء الواقع الجديد الذي وجدنا أنفسنا فيه.

أولاً: حقيقة التغيير في مجتمعاتنا العربية

إن هذا الواقع الجديد يطرح موضوع الفلسفة ودورها في التغيير، فالثورات كشفت وجود أزمة تنموية في بلداننا العربية، وبهذا فهي تكون قد حملت أحكاماً قيمية سلبية تجاه واقع التنمية ذاته. وهي بهذا تكون قد مارست النقد بطريقتها الخاصة. وكان يفترض فينا كمشتغلين بالفلسفة أن نوفر لهؤلاء الشباب وللمجتمعات العربية بصفة عامة آليات النقد لمختلف التقارير التي تصدر عن الهيئات الرسمية في بلداننا العربية هنا وهناك، والتي كانت تجمع على مدى السنين على أن التنمية على ما يرام أو في سبيلها إلى ذلك؟ فقد كان علينا أن ننتبه حينها، وأن ننبّه غيرنا إلى أن تلك التقارير تنطلق في أغلبها من أطروحة مفادها أن التنمية هي التنمية الاقتصادية بالدرجة الأولى، حيث إن بلداننا العربية تحقق سنوياً نسبَ نمو إيجابية، وقد تمكّنت من بناء العشرات من المصانع عبر نقل التكنولوجيا، وهي آخذة بالحد من ظاهرة البطالة والفقر والمرض… إلخ.

لكن سرعان ما تبيّن أن التنمية بهذا المعنى لم تحقّق التغيير المنشود الذي سبقنا إلى التعبير عنه شباب الثورات العربية، فقد كان على الفلسفة من خلالنا أن تكون السباقة إلى التنبيه بالحجة العقلية المنطقية، وإلى أن التغيير لا يتحقق من خلال التنمية المادية فقط في مجتمعاتنا العربية، فالإنتاج الصناعي الذي سعت وتسعى بلداننا العربية إلى تحقيقه عبر نقل التكنولوجيا، على الرغم من أنه قد يساهم في منح الإنسان العربي شيئاً من الفراغ لكي يستغله في تنمية مواهبه وقدراته الفكرية، فإنه في الوقت ذاته يهدّد هذا الإنسان بأن يحيل عمله إلى نشاط آلي يقتل كل خيال خلّاق. كما أن التكنولوجيا التي تضع في متناول الإنسان في سهولة ويسر روائع الإنتاج الثقافي والفني، كما تراكمت على مرّ العصور والأجيال هي ذاتها التي تحجب عنه وجه الطبيعة وتفقده الرمزية الحيوية التي تحفل بها تلك الطبيعة[3].

إن التغيير الذي صار مطلوباً بعد ما سُمّي بالربيع العربي، يدفعنا إلى تجاوز الأساليب التقليدية في معالجة مشكلة التنمية في مجتمعاتنا العربية، فالتنمية لم تعد تعني السيطرة على الطبيعة وزيادة الإنتاج فقط، كما لاحظ ذلك منذ خمسين عاماً هنري لوفيفر، وإنما هي السيطرة العقلانية على نتاج النشاط الإنساني وتنظيمه وتوجيهه إلى خدمة قضية التقدّم الاجتماعي والثقافي. وهذا يقتضي توفير جوِّ من الحرية والمساواة اللتين تسمحان للمواطن العربي بأن يوجّه أقصى اهتمامه إلى إثراء كل أشكال الفكر والثقافة ووسائلهما وتوحيدهم ودفعهم نحو الكمال[4].

إن المطالب التي رُفعت وترفع هنا وهناك بيّنت – بما لا يدع مجالاً للشك – أن التنمية الحقيقية لا تكمن في سد حاجات الإنسان المادية فقط، بل ومن باب أولى في إشباع حاجاته الثقافية والروحية بحيث تصير هذه الحاجات في سلّم أولويات أي مشروع حقيقي للتغيير، وليس هذا فحسب، بل إن عملية نقل التكنولوجيا عامة التي يرى فيها البعض عملاً تقنياً مادياً محضاً هي في حقيقتها عمل ثقافي، كما أن نقل العلوم والمعرفة والمعلومات عمل ثقافي، وتكوين القائمين على عمليات التغيير الإنمائي عمل ثقافي، وفي المحصلة كما يوضح عبد الله العروي: فإن قيادة التقدّم العلمي والتكنولوجي عمل ثقافي، إذ المثقف مستشار، وصاحب «الحل والعقد» في كثير من قضايا الأمم والشعوب وفي طليعتها قضية النماء[5].

على هذا فإن النظرة الفلسفية النقدية، كان يجب أن تكشف أن أخطر أسباب إخفاق مشاريع التغيير في بلداننا العربية يكمن في إغفال الشقّ الفكري والثقافي من الإنسان، وكان عليها إذاً أن تمنع أو أن تنبّه على الأقل أنظمتنا الحالية التي تورطت إلى الاعتقاد الخاطئ بإمكانية التصنيع وتحقيق التغيير المطلوب من خلال استيراد التكنولوجيا وحدها، ومن دون استثمار في بناء المعرفة العلمية واستيعاب فلسفة العلم، وصولاً إلى المشاركة في إنتاجها. فلقد كان علينا كمشتغلين بالفلسفة أن نتسلح بسلاح النقد وأن ننتبه أولاً ثم نُنبّه ثانياً إلى أن استيراد التكنولوجيا لا يعني توطينها بالضرورة، فضلاً عن تطويرها أو توليدها بالرغم من مئات مليارات الدولارات التي أُنفقت على هذا الاستيراد خلال العقود الأخيرة[6].

إن الفلسفة يجب أن تتوجّه اليوم إلى تكريس مفهوم جديد للتغيير يستجيب لتطلّعات الفئات العريضة في مجتمعاتنا العربية. وأن تنبّه المجتمع العربي أفراداً ومؤسسات إلى أن الواقع الجديد يتطلب مفهوماً جديداً للتنمية يعتمد نظرة شمولية لطبيعة الإنسان العربي، وتأخذ بعين الاعتبار مختلف حاجاته المادية والفكرية. وهي ما أصبح متداولاً تحت تسمية «التنمية البشرية» التي صارت من أكثر المفاهيم تداولاً في وقتنا الحاضر، وذلك بالنظر إلى أن دلالتها الشمولية لا تقتصر على حصر عملية التغيير في جانبها الاقتصادي الضيق فقط… بل تتجاوز هذا الجانب لتنصبّ بشكل أساسي على الإنسان، ولتجعل منه المحور المحرك لكل تنمية شاملة[7].

وإذا لم يكن باستطاعة التقنية أن تحقّق التغيير بمعناه الشامل، فإن الاعتماد على العلوم التطبيقية أيضاً ليس بإمكانه أن يفعل ذلك بمفرده… فبقدر ما يحرز العلم من تقدم فإنه يصير أكثر احتياجاً إلى مزيد من المعقولية، وهذا دليل على أن كلّ شيء لم يتحول بعد إلى وقائع علمية، ما يعني أنه ما زال للتفكير الفلسفي مجال في تجربة الإنسان. لأنه طالما أن العلوم كلها لم تستقر بعد، وطالما أن اللغة البشرية لم تبلغ بعد حد الدقة الكاملة، وطالما أن حركة المعرفة لم تتوقف لأنها لم تزل تجد ما تتجه إليه، فعندئذٍ سيبقى للفلسفة وللميتافيزيقا مجال. وستبقى تغطي – بحسب تعبير فؤاد زكريا – تلك الأرض التي لم يمتد إليها ظلّ العلم بعد[8].

وحتى لو كنا نسلّم بالدور الكبير والمهم الذي تؤدّيه العلوم البحتة في ميدان نشر الوعي ومن ثم إحداث التغيير، فإن تدريس هذه العلوم في جامعاتنا بعيداً من الفلسفة يواجه بعض الصعوبات، من ذلك ما أشار إليه الفيلسوف دومينيك لوكور في دراسة له بعنوان: «لماذا تدريس الفلسفة وتاريخ العلوم لطلبة التخصصات العلمية»، حيث قال: يوجد عدد كبير من طلبة التخصصات العلمية يعانون أزمة، فعلى الرغم من أنهم تلقّوا تقنيات ومعادلات ونظريات، إلا أنهم ظلّوا يفتقدون تلك النظرة الشاملة لماهية الفكر العلمي، حتى في داخل ميدان تخصّصهم الضيِّق[9].

ثانياً: واقع الفلسفة في مجتمعاتنا

1 – على المستوى المجتمعي العام

إن المتفحص لواقعنا الحاضر يجد أن الفلسفة في الوطن العربي بصفة عامة لا تزال بعيدة من أن تؤدّي أي دور تغييري في مختلف مناحي الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية. وهذا لوجود كثير من العقبات منها ما يتعلّق بالفلسفة ذاتها ومنها ما يتعلق بالإطار الاجتماعي الذي تمارس فيه. ونذكر هنا أهم هذه العقبات:

العقبة الأولى: تتعلق بطبيعة الفلسفة ذاتها، حيث إن معظم الأفكار والنظريات الفلسفية التي نتداولها مصدرها الغرب، إذ نجد ترسيخاً لتصوّر معين للفلسفة يجرّدها من وظيفتها النقدية التقويمية على صعيد التنظير الاجتماعي والسياسي[10]. والأمثلة على هذا كثيرة، فالفلسفة التحليلية التي سيطرت لفترة طويلة على مسرح فلسفة القرن العشرين تقوم على النظر إلى أن الفلسفة محايدة، وأنها إذا أريد لها أن تكون فلسفة علمية وجب على أصحابها أن يحصروا مهمتها في التحليل النقدي للغة من أجل توضيح معنى ما نقوله من عبارات[11]… إلخ.

العقبة الثانية: تتمثل بوجهتي نظر سلبيتين إلى الفلسفة، ويمثّلهما منظوران:

المنظور الأول: وهو الذي يسميه محمد محسن: «المنظور التقنوبيروقراطي»[12]، وهذا المنظور ينتقد أصحابه الفلسفةَ بكونها عملاً عقلياً مجرداً بعيداً من الممارسة الإجرائية، ومن ثم فهي عديمة الجدوى في مجال تحقيق أي إسهام مباشر في تنشيط الاقتصاد والاستجابة لحاجات السوق، وبهذا تكون المساهمة في مسار التنمية الاقتصادية والاجتماعية المنشودة.

المنظور الثاني: ويسميه محمد محسن بـ «المنظور التقليدوي المحدث أو المستحدث»: وهو منظور أقدم تاريخياً من المنظور الأول، ويعبّر عن وجهة النظر القديمة الحاملة للشعار «من تمنطق فقد تزندق» و«المنطق مدخل إلى الفلسفة والمدخل إلى الشر شر»… إلخ، ولكن وجهة النظر هذه لا تزال تعيش بيننا، حيث غالباً ما ينتقد أصحابها الفلسفة بكونها مدعاة للإلحاد، أو إلى الاختلاف الفكري. ومن ثم فإن ضررها أكبر من نفعها لأنها في رأي أصحاب هذا المنظور أحد أهم عوامل الفرقة والتشرذم الفكري والعقائدي والحضاري[13].

2 – على مستوى الدرس الفلسفي

إذا كانت الفلسفة تواجه على مستوى المجتمعات العربية عوائق تمنعها من أن تؤدي دوراً فاعلاً في سبيل إحداث التغيير المنشود، فإنها ليست أفضل حالاً في جامعاتنا وفي مدارسنا الثانوية، إذ يواجه الدرس الفلسفي أيضاً جملة من العقبات تعترض طريقه نجملها في:

أ – مستوى النقد الموجه إلى الدرس الفلسفي بصفة عامة

حيث يقوم هذا النقد على أن تعليم الفلسفة يتجاهل حاجيات المتعلم، ويتجاهل متطلبات الحاضر أيضاً. فلا نعثر على ما هو راهن وجديد إلا من خارج التعليم الفلسفي. ويتعزّز هذا النقد الموجه إلى تعليم الفلسفة بمحتوى أطروحة ثقافية ترى في ماضي الفلسفة عبارة عن جسد ميت، أصبح – بحكم التحوّلات التي يعرفها نظام التربية – متجاوزاً. ومن ثمة، فإنه يتعين على القائمين على الدرس الفلسفي، إذا أرادوا الاحتفاظ بوظائفه التربوية، أن يقوموا بتغييرات جوهرية، تتوجه إلى مناهج الدرس الفلسفي ومقاصده، وهذا بأن يكون الدرس الفلسفي أكثر ارتباطاً بواقع المواطن العربي، ويمكن إحداث ذلك مثلاً إذا أدخلنا في برامجنا التعليمية بعض المشكلات مثل: المواطنة، التسامح، العدالة الاجتماعية، التعايش مع الآخر، الديمقراطية، الحق والواجب… إلخ.

ب – على مستوى النقد الداخلي

هذا النقد تتبناه بعض الآراء والاتجاهات التعليمية في الفلسفة، ذاهبة إلى القول بوجوب تبسيط المعارف واختزالها على أساس أن المتعلّم يحتاج إلى أن يتعلم بتدرّج، وأن الإكثار من الأفكار والنظريات والمفاهيم الفلسفية المطروحة تاريخياً، يجعل المتعلم عاجزاً عن التكيّف مع محيطه، وغير قادر على إيجاد حلول لمشاكله ومشاكل مجتمعه.

ج – على مستوى خطاب المدرّس

حيث يرى مدرّس الفلسفة أن جهوده التربوية والتعليمية، وعمله الشاق في تاريخ الفلسفة، يصطدم بواقع التلميذ الثقافي والمعرفي، وأن عمله لا يلقى الاستجابة المقبولة لدى المتعلِّم، ومرد ذلك، بحسب هذا الخطاب، هو ضعف مستوى التلاميذ اللغوي والمعرفي، وهذان شرطان ضروريان وسابقان لإنجاز أي درس في الفلسفة.

د – على مستوى الوضع المتأزّم في منظومتنا التربوية

إن الصعوبة التي يواجهها الدرس الفلسفي في مدارسنا وجامعاتنا لا ترتبط بالفلسفة فقط، ولكنها تتعلق بوضعية الأنظمة التربوية في بلدان الوطن العربي، حيث لا تزال علاقة المؤسسة التربوية والجامعية مع محيطهما الثقافي والاقتصادي والاجتماعي مشوبة بالكثير من الغموض. وعلى حدّ تعبير د. محسن إن تدريس الفلسفة مسألة ترتبط بوضع مأزوم[14]، حيث إن العامل الأبرز الذي تعانيه منظومتنا التربوية هو تخلّيها عن تكريس المنظومة الأخلاقية المتجذّرة في الشعب والمنقولة عبر الذاكرة الاجتماعية والشروع – في مقابل ذلك – في ترويج نمط من الحياة خالٍ من المعنى يشجّع على النجاح الفردي والانتفاع بكل الوسائل حتى غير المشروعة منها. وحتى لو أننا وجدنا ديباجة التوجيهات الرسمية المصاحبة لمقررات الفلسفة – عندنا – في التعليم الثانوي، إذ تتضمن مجموعة من الأهداف والغايات والمبادئ العامة الواضحة تماماً والتي لا يسعنا سوى مباركتها وتشجيعها، إلا أن تجسيد تلك الأهداف والغايات والمبادئ في الواقع ظلّت تعترضه المشاكل والمعوقات التي سبق أن ذكرناها.

لكن على الرغم من المعوقات التي ذكرناها فإن منظوماتنا التربوية العربية محكومة بالإقرار بالحاجة إلى الدرس الفلسفي الذي يجعل هدفه الرئيس في نهاية المطاف تلقين أطفالنا وشبابنا الطريقة المنهجية في التفكير العقلاني النقدي في العالم وفي الإنسان. وليس هناك أدنى شك في أن هذه الطريقة المنظمة في التفكير لا يمكن لأية عملية تغيير واعٍ ومنظم أن تتمّ من دونها.

كما أن تلك المعوقات على كثرتها لا ينبغي أن تُضعف من عزيمتنا في الدعوة إلى أن دعم مجهود التغيير الشامل والواعي في بلداننا العربية يمرّ حتماً بتدعيم الفلسفة كفكر للنقد والتنوير وتحرير العقول من الأوهام والخرافات، لأنه عن طريق الفلسفة فقط يمكننا أن نطلع إلى «ثقافة نقدية جديدة»، تقوم على الانفتاح والجرأة والقدرة على طرح الأسئلة الحقيقية لا الأسئلة المغلوطة أو الزائفة.

وفي الختام نقول إن الاهتمام بالفلسفة كطريقة منهجية في التفكير الحرّ والنقدي هي وحدها التي تعطي للتغيير مدلوله الواسع، حيث تكون فلسفة استثمار في الرأسمال البشري باعتباره ثروةً مادية ومعنوية عالية القيمة والمردودية، إذ تأخذ في الاعتبار أن لهذا الإنسان وجهاً آخر غير ذلك الوجه الذي يقيّده بلغة الأرقام والوقائع المادية. وفي هذا الوجه الآخر يتسع أفق العقل البشري، وكذا أفقه الروحي[15]. وهكذا تزيد فرص فهمه لنفسه وللعالم المحيط به. هذا الفهم هو ما نحتاجه فعلاً في سعينا إلى تغيير حقيقي شامل.

وإذا كنا لا نذهب إلى حدّ دعوة المشتغلين بالفلسفة إلى أن يقودوا حركات التغيير في الميادين العامة، فإننا ندعوهم في المقابل إلى العمل على أن ينظروا إليها بشكل مسبق ومن ثم المشاركة فيها بطريقة معينة. كما عليهم أن يتّخذوا من أحداثها ومجريات أمورها ومآلها المادة المفضّلة للتفلسف واستخلاص العبر والدروس. فالفكر العقلاني هو وحده الذي يدرك أن كل أشكال التغيير الواعي، يجب أن تجعل من العامل الفكري والثقافي محفزاً بارزاً ومنتجاً لهذه الثورة أو تلك. وذلك لأنه وعلى حد قول إدغار موران فإن: «نمو الدماغ وإعادة تنظيمه التي بدأت بالإنسان الفضولي وانتهت بالإنسان المفكّر شاهدان على ثورة عقلية تؤثر في جميع أبعاد الثالوث (الفرد – المجتمع – النوع) ولهما دور فيها[16].

 

قد يهمكم أيضاً  العرب والتجدد الحضاري