مقدمة:

منذ انتهاء الحرب الباردة، أثيرت في النظام الدولي عدة قضايا، لعل أهمها ما يمكن أن تستقر عليه الهرمية الدولية، نتيجة كون القوة الأمريكية واتجاهات الإدارة الأمريكية، لم تكن قد استقرت على تبني اتجاه محدد دولياً، إنما ظهرت أطروحات متباينة في التعامل مع تلك المرحلة، وأهمها اتجاه يدعو إلى فرض الهيمنة (مشروع سياسي)، وتعزيز كل ما من شأنه أن يثبت القطبية الأحادية، وآخر يدعو إلى المشاركة في قيادة العالم، ما دامت عناصر القوة تتغير ويعاد انتشارها بأشكال مختلفة في غير مصلحة الولايات المتحدة.

ثم أعيد طرح الموضوع للنقاش بعدها بمرحلتين: مرحلة ما بعد أحداث 11 أيلول/سبتمبر 2001، ومرحلة ما بعد صعود إدارة أوباما إلى الحكم عام 2009. ولم تكن إعادة طرح الموضوع بعيدة من عدة حقائق، أهمها:

الأولى، أن تحولات القوة تذهب بالقدرة بعيداً من الولايات المتحدة، لتعيد إظهار قوى كبرى بعضها كان أقل فاعلية (روسيا)، وأخرى لم تأخذ أدوارها في النظام الدولي (الهند وربما جنوب أفريقيا والبرازيل وتركيا وإيران وغيرها).

الثانية، أن هناك تحولات في معنى القوة والتفاعلات المرتبطة بها والقوى الفاعلة عالمياً، التي باتت تنتشر على أكثر من مستوى: عالمي، وعابر للقومية، وقومي، ومحلي. وكل منها يمارس تأثيره على مستويات عالمية متباينة بحكم ثورة المعلومات والاتصالات والعولمة.

الثالثة، أن التحولات التي يعيشها العالم منذ نحو عقدين من الزمن، المرتبطة بتحولات القوة، يرافقها تحول آخر مقترن بظهور تحولات في اتجاهات ومضامين الصراع الدولي، وما دام مستقبل النظام الدولي يرتبط بكليهما: القوة والصراع، أكثر مما يرتبط بالتنظيم والتعاون، فإن الأمر يثير إشكالات كثيرة يتطلب بحثها.

تتحدد أهمية البحث بالآتي:

1 – إن البحث في تحولات القوة عالمياً، يتيح إمكان دراسة ظاهرة الصراع، وأي تحول يمكن أن يعقبها في هرمية النظام الدولي.

2 – إن دراسة التحولات التي تحدث في النظام الدولي، تفيد بمعرفة الكيفية التي يتطور بها كل من: عملية بناء القوة واستخداماتها من قبل القوى المختلفة، والاتجاهات التي تتجه إليها الهرمية الدولية، بحكم ارتفاع وزن وتأثير القوى من غير الدولة.

3 – إن دراسة مستقبل النظام الدولي مهمة، كونه سيجعل الدول المختلفة أمام حقائق: تغير في أوزان الفواعل العالميين، وفي منطق القوة وعلاقاتها، ما دام المنهج الواقعي بتطبيقاته المختلفة هو الذي يسود العالم، وليس المنهج الذي يركز على كون التنظيم الدولي والتكامل سيقودان إلى إظهار عالم جديد.

4 – إن البلدان الواقعة في المنطقة العربية، لا يمكنها أن تتجنب تأثير التحول في القوة وفي اتجاهات وأنماط الصراعات الدولية، وهو ما يجعلها تتعامل بمنطق واقعي، أو بمنطق يجنبها تأثير تلك الصراعات فيها.

أما أهداف البحث، فهي:

1 – دراسة مضامين التحول في عناصر القوة، وكيفية انتشارها عالمياً، على نحو يعيد تعريف مكانة وأدوار القوى الكبرى في النظام الدولي، ومكانة وأدوار الفواعل من غير الدول.

2 – دراسة اتجاهات الصراع في النظم الدولي، وبيان كونها اتجاهات صارت تتبنى خطوطاً متشابكة غير متناسقة؛ فهناك صراع محلي، وآخر إقليمي، وآخر دولي، وهناك صراع عابر للمستويات، يتداخل فيه الإقليمي والدولي بالمحلي.

3 – دراسة مستقبل النظام الدولي، فالتحول الحاصل في عناصر القوة وانتشارها عالمياً، يرافقه تحول آخر في اتجاهات الصراع الدولي، وكلاهما سينتهيان إلى إحداث تغيرات في الهــرميــة الدوليــة، ومــن ثَمَّ قــد نجــد أنفســنا أمام نظــام دولــي بهــرميــة جديدة خلال العقد المقبل.

4 – إن التحولات الحاصلة في النظام الدولي، وفي علاقات القوة، لا يمكن أن تبقى المنطقة العربية بمنأى من تداعياتها، وهو ما يلاحظ في مدى التداخل الحاصل في علاقات الصراع الإقليمي، وتداخل الأبعاد المحلية بالدولية، لتظهر وجود اتجاهات وتحولات في منطق الصراع الدولي، على نحو يعكس تحولاً مهماً في علاقات القوة عالمياً.

وهنا، سيتم التقيد بالحدود الآتية:

– مكانياً: يكون التركيز على تداخل مستويين: الدولي والإقليمي، مع التركيز على العلاقات الأمريكية – الروسية، ومقدار التداخل والاشتباك الحاصل في المنطقة العربية.

– زمانياً: يتم التركيز على المرحلة الزمنية 2000 – 2016، مع تناول سقف من التوقعات المستقبلية الممتدة حتى عام 2030.

– موضوعياً: يكون التركيز على ثلاثة متغيرات: التغير في عناصر القوة وانتشارها عالمياً، والتحول في مضمون واتجاهات الصراع الدولي، والتحول المتوقع في معنى الهرمية الدولية.

إن إثارة مسألة تحولات القوة عالمياً، تثير معها مسألة أخرى متعلقة باتجاهات التحول في الصراع الدولي. فاليوم، يقبل العالم على صراع بين القوى الفاعلة على نحو يذكِّرنا نسبياً بأيام الحرب الباردة، وصارت انعكاسات ذلك الصراع تصيب عدة مناطق من العالم، أهمها المنطقة العربية. هنا تتعلق المشكلة بكون التحول في الصراع الدولي مرتبطاً بالتحولات الحاصلة على القوة من حيث مضمونها وانتشارها عالمياً، ومن ثَمَّ كلما ارتفع عامل عدم اليقين بتحولات القوة، ارتفع اللايقين بمخرجات التحول في علاقات الصراع الدولي.

هذه المشكلة تطرح الحاجة إلى الإجابة عن عدة أسئلة، ستكون إجاباتها محور اهتمام هذا البحث، وهي:

– ما الذي تتعرض له القوة من تحولات على صعيد مضمونها وانتشارها عالمياً؟

– ما هي التحولات الحاصلة في ميدان الصراع الدولي؟ وكيف ينعكس الصراع الدولي على الصراعات الإقليمية؟

– ما هي التحولات التي يتوقع حدوثها في هرمية النظام الدولي؟

وهنا نفترض:

1 – أن القوة تعاني تحولين: انتشار القوة عالمياً، واتجاه قسم منها نحو القوى الإقليمية لتزيد من التعددية القطبية، فضلاً عن ارتفاع شأن الفواعل من غير الدولة. والتحول هنا يزداد نحو القوة غير الصلبة (متغير مستقل)، وهو ما يؤدي إلى اتجاه الصراع للابتعاد أحياناً من مستويات العلاقات الأمنية والسياسية والاقتصادية في علاقات القوى الكبرى، واتجاهه نحو الأقاليم غير المستقرة، ومن ضمنها المنطقة العربية (متغير تابع).

2 – كلما ازدادت حدة الصراع بين القوى الكبرى (متغير مستقل)، ازدادت معه التحولات في بنية النظام الدولي، حتى وصولها إلى مرحلة التعددية القطبية، وربما مرحلة اللاقطبية (متغير تابع).

هنا، سنعتمد منهج تحليل النظم، لما يعطيه من ميزات في تفهم التحولات الحاصلة في بنية النظام الدولي، وفي علاقات القوة.

وبقصد إيجاد رؤية موضوعية شاملة لهذا الموضوع، سنتناوله من ثلاث نقاط، وكالآتي: أولاً: تحولات القوة. ثانياً: اتجاهات الصراع. ثالثاً: التحولات المتوقعة في النظام الدولي.

أولاً: تحولات القوة

إن أساس الهرمية الدولية هو ارتكازها على عناصر القوة وكيفية توزيعها بين الوحدات الدولية، وانعكاسات ذلك التوزيع على سلوك الوحدات الدولية. والقوة بتعريف مبسط هي مجموع العوامل القابلة للاستخدام التي تكون بحوزة الدولة، داخلياً وخارجياً، المادية منها وغير المادية، ولا اتفاق محدد على تعريف تلك العوامل، كونها تشمل حزمة واسعة، كما لا اتفاق على انتشار موحد لها بين الدول؛ فالدول تعاني تبايناً في امتلاك عوامل القوة، كما لا اتفاق على أيّها أكثر تأثيراً عند امتلاكها، فالامتلاك مسألة منفصلة عن قابلية الدولة على التأثير أحياناً، كون القابلية على التأثير إقليمياً أو عالمياً، تتوقف على امتلاك الإرادة والمشروع السياسي والتكنولوجيا، وهي مسائل لا تتفق الدول في الحصول عليها، كمقدمات وليس كنتائج [1]. كما لا يمكن تجاهل أن العالم يتجه إلى وجود حقيقة أن هناك اطرافاً متعددة تمتلك من عوامل القوة والتأثير الكثير، وأهمها: الفواعل العالمية، والفواعل العابرة للقومية، والفواعل دون مستوى الدولة. وهي جميعاً تزداد قوة وتأثيراً، وسيكون لها مكانة في صياغة النظام الدولي، ودفعه بعيداً من طابعه الدولي، ونحو اتجاهات عالمية في عقود مقبلة.

والاتجاه الغالب في النظام الدولي، هو أن هناك مزيداً من التوجه نحو عوامل القوة غير الصلبة، أي نحو مزيد من التوظيف لعوامل القوة القائمة على استخدامات ناعمة: المساومة، والتهديد، والابتزاز، واستهداف قواعد بيانات، وتأليب الرأي العام، واستخدام نظام العقوبات، وغيرها، مع استخدامات محدودة للقوة العسكرية، واستخدامات القوة العسكرية الشاملة. وبذلك، اتجه إلى أن يكون محدوداً، كونه مرتبطاً بعوامل الردع، وتوازن الرعب النووي بين القوى النووية، وحسابات الكلفة والخسارة لفرص التعاون لدى الدول كافة [2].

ولبيان المقصود بتحولات القوة الحاصلة منذ مستهل الألفية الجديدة صعوداً، فإن الأمر مقترن بالآتي:

1 – بيان التحول الحاصل في معنى القوة القابلة لأن تكون مؤثرة في العلاقات الدولية، والتحول هو بالابتعاد من عوامل القوة التقليدية، واقترانها بعوامل غير تقليدية، مثل المعرفة والتكنولوجيا والمال والإعلام.

2 – إن هناك انتشاراً لعوامل القوة بين أكثر من دولة، أي أنه لا يوجد حاجز نهائي أمام انسياب عوامل القوة بين الدول والوحدات الدولية.

3 – إن الفواعل من غير الدول تمتلك الكثير من عوامل القوة ووسائل التأثير، ومنها مثلاً، الشركات المتعددة الجنسية، والمنظمات المختلفة العالمية، حكومية وغير حكومية، وغيرها.

إن المتعارف عليه أن هناك عناصر قوة منتشرة في العالم، ويتباين تملكها أو استخدامها بين الوحدات الدولية، نقصد بها العناصر الدبلوماسية والعسكرية والاقتصادية والثقافية. هذه العناصر تدفع بالدول في الأغلب إلى تبني نهج سياسي محدد في سياساتها الخارجية، استناداً إلى ما تملكه من تلك العناصر. وحتى عام 1989، كان العالم موزعاً بين مجموعتين رئيستين: الغربية والشرقية، تمتلكان أغلب عناصر القوة في النظام الدولي، ومعها شكلان من التحالفات الكبرى الداعمة لتلك العناصر (حلف الناتو وحلف وارسو).

إلا أنه بعد ذلك، بدأ العالم يشهد مراحل انتقالية، ليس فيها ثبات واضح في مسألة انتشار عناصر القوة، وهو ما تم تسميته «مرحلة ما بعد الحرب الباردة»، وفيها عاشت الولايات المتحدة مرحلة عدم انسجام المكانة بين امتلاكها عناصر قوة عسكرية هائلة، وبين وجود ضعف اقتصادي وثقافي. في حين، عاشت القوى الأخرى مرحلة قريبة منها، متعلقة بعدم انسجام المكانة؛ فالعناصر الاقتصادية والثقافية فيها كانت تتفوق على ما تملكه من عناصر قوة عسكرية أو سياسية، ومثاله اليابان وألمانيا.

في تلك المرحلة التاريخية، تقدَّمت الولايات المتحدة بأسلوب، جعلها تقدِّم الخيار الاقتصادي على العسكري، وذلك في عهد كلينتون بعد عام 1993، إلا أن الداخل الأمريكي كان قد وصل إلى مرحلة نضج فيه تيار يميني محافظ، أراد أن يبتعد من مخرجات عالم ما بعد الحرب الباردة، باتجاه عالم تتسيد فيه الولايات المتحدة، من خلال حدث يمكن أن يؤثر في ماجريات التفاعل ككل، فكان حدث 11 أيلول/سبتمبر عام 2001 في الولايات المتحدة. وهو حدث منحها مبرراً لخوض ما عُرف بالحرب العالمية المفتوحة على الإرهاب، تحت غطاء أممي، فبدأ العالم معها يخرج من ربقة عالم ما بعد الحرب الباردة ليعيش عالم ما بعد أحداث 11 أيلول، حيث الاتجاه الأمريكي الطاغي نحو استغلال الفجوة الهائلة في عناصر القوة بينها وبين أقرب منافسيها، وتحديداً في القوة العسكرية، فصار اتجاهها الغالب هو السحب من عناصر القوة الاقتصادية ومن رصيد قبولها الدولي، لمصلحة دعم الخيار العسكري. وكان أكثر الأقاليم تعرضاً لهذا التحول هو الشرق الأوسط بعامة، والمنطقة العربية بخاصة؛ إذ شهدت إعادة تنظيم لخريطة الشرق الأوسط في إطار ما عرف بـ «مشروع الشرق الأوسط الكبير»، وقبله كانت النتيجة غزو أفغانستان عام 2001، والعراق عام 2003.

لكن الاستنزاف الذي تعرضت له الولايات المتحدة من جراء حدثَي احتلال العراق وأفغانستان، والحرب على الإرهاب، والذي يقدر بعدة آلاف من مليارات الدولارات، كتكلفة مباشرة أو غير مباشرة، انتهت بالولايات المتحدة إلى التراجع في مرتبتها على صعيد توزيع عناصر القوة دولياً، ولمصلحة مزيد من بروز كل من روسيا والصين، وهو ما دفع الولايات المتحدة إلى التعامل بعقلية جديدة مع حقائق عالم ما بعد صعود أوباما إلى الحكم، قوامها التوسع بالشراكة والتقليل من التورط العسكري المباشر والتركيز على أداء خيار التوازن. فنتائج الغزو والحرب دفعت الولايات المتحدة إلى زيادة الإنفاق العسكري الذي قارب الـ 700 مليار دولار طوال المدة 2003 – 2010 [3]، وهو بالضرورة إنفاق يأخذ من رصيد الإنفاق على قطاعات البحث والتطوير والصحة والتعليم، ويكون على حساب التوسع بالضرائب، الأمر الذي يثقل كاهل الشركات الأمريكية، ويضعف قدرتها على التنافس. وهو ما انتهى إلى تعرض الولايات المتحدة لنتائج أزمة الرهن العقاري عامي 2008 و2009 بسرعة، فأصاب اقتصادها بالركود ابتداءً، ثم بالانكماش طوال أعوام 2011 – 2013، قبل أن يعود للنمو المحدود بعد عام 2014. أي أن نتائج الغزو والحرب أصابت الاقتصاد الأمريكي، وأضعفت إمكاناته.

في المقابل، كانت القوى الأخرى المنافسة تنمّي عوامل قوتها بشكل متوازن؛ فروسيا استثمرت ارتفاع أسعار النفط، وارتفاع ناتجها القومي من نحو 400 مليار دولار عام 2000 ليصبح نحو 902 مليار دولار عام 2005، ثم إلى نحو 2100 مليار دولار عام 2015، لترفع معه إنفاقها العسكري من نحو 13 مليار دولار عام 2000 إلى نحو 21 مليار دولار عام 2005 وإلى نحو 67 مليار دولار عام 2015 [4]. فضلاً عن إعادة تفعيل عمليات البحث والتطوير العسكري، وإعادة نشر قواتها وأنشطتها العسكرية عالمياً. في حين أن الصين التي نما ناتجها القومي من نحو 2.2 تريليون دولار عام 2000 إلى نحو 4.3 تريليون دولار عام 2005، ليصبح 11.2 تريليون دولار عام 2015، ونمت تجارتها العالمية من نحو 400 مليار دولار عام 2000 إلى نحو 907 مليار دولار عام 2005، لتصبح نحو 4.6 تريليون دولار عام 2015، فإنها انفتحت على تطوير قدراتها العسكرية عالمياً بعد مرحلة عدم اهتمام استمرت من عام 1979 إلى عام 2000، وخلالها رفعت معدل الإنفاق العسكري من نحو 16.3 مليار دولار عام 2000، إلى نحو 36 مليار دولار عام 2005، لتصل إلى نحو 97 مليار دولار عام 2015، وتوصلها التقديرات الأمريكية المحسوبة على أساس القدرة الشرائية إلى نحو 215 مليار دولار [5]. ليس هذا فحسب، بل شرعت بإعادة تطوير الصناعات النووية، ووسعت قاعدة الصناعات الدفاعية الفضائية، ودعمت جهود تطوير القدرات الجوية والبحرية، ونشرت جزءاً من قدراتها العسكرية البحرية في بحر الصين، حيث تتحمل الولايات المتحدة جهد الحفاظ على الأمن والتوازن الإقليمي في تلك المنطقة، على نحو ينبئ باحتمالات تصادم المصالح والسياسات مستقبلاً [6].

أما بالنسبة إلى الاتحاد الأوروبي، فهو يعد تقليدياً حليفاً للولايات المتحدة، كون أغلب أعضائه هم أعضاء في حلف الناتو. أما اليابان، فإنها أعادت تعريف أدوارها الإقليمية في التسعينيات من القرن الماضي، ثم في العقد الأول من هذا القرن، بسماح الولايات المتحدة لها برفع إنفاقها العسكري فوق الواحد بالمئة من الناتج القومي الإجمالي، وسمحت لها بتأدية أدوار عسكرية خارج مياه اليابان الإقليمية، وبتصنيع بعض القدرات العسكرية الجوية والصاروخية، ودخلت في حوار استراتيجي مع الولايات المتحدة لحفظ الأمن الإقليمي في شرق آسيا [7].

وأكثر جوانب الخلل الحاصلة في مركز الولايات المتحدة عالمياً، هو المتعلق بكون القوة المؤثرة عالمياً، لم تعد تتعلق بالقوة العسكرية على أهميتها، وإنما هناك القوة الاقتصادية والثقافية والإعلامية، وهي ما تجد فيه الولايات المتحدة نفسها في مرتبة أدنى من بعض دول العالم؛ حتى إن القدرة الاقتصادية تشير التوقعات حولها إلى أن الصين ستسبق الولايات المتحدة بحجم الاقتصاد الكلي بحدود عام 2025، عندما تصل الصين إلى نحو 23.1 تريليون، كناتج قومي، في حين ستصل الولايات المتحدة إلى نحو 23 تريليون دولار [8]. كما ستجد الولايات المتحدة نفسها في عام 2035 غير قادرة على الانتشار عسكرياً في أغلب أقاليم العالم، وخصوصاً في شرق آسيا وفي البحر المتوسط، لأن قوة الدول الأخرى ستصل إلى مستويات لا تسمح للولايات المتحدة بأداء أدوار القيادة في نظمها الإقليمية [9].

مع نهاية العقد الأول من هذا القرن، واجهت الولايات المتحدة مسألتين [10]:

– الأولى: التراجع في عناصر قوتها التقليدية، لمصلحة بروز قوة القوى الأخرى المنافسة لها، ويتوقع أن تتراجع مشاركة الولايات المتحدة في العناصر التقليدية للقوة عالمياً إلى النسب الآتية: عسكرياً من 47 بالمئة من الإنفاق العسكري العالمي عام 2002 إلى نحو 35 بالمئة عام 2012، ونحو 17 بالمئة عام 2035، ويتراجع الناتج المحلي الإجمالي من 26 بالمئة إلى نحو 18 بالمئة، ثم إلى نحو 12 بالمئة على التوالي، والتجارة الدولية من 23 بالمئة إلى نحو 16 بالمئة، ونحو 10 بالمئة على التوالي.

– الثانية: أن عناصر القوة اليوم صارت تتجه إلى الابتعاد من العناصر التقليدية لمصلحة عناصر غير منظورة في القياس والتأثير، كالمعلوماتية، والأقمار الصناعية، والتجسس، ووسائل التواصل الاجتماعي، والقوة العسكرية الخفيفة والخاصة، ووحدات القيادة والسيطرة، والاستثمارات، والبحث والتطوير، واستخدام المنظمات الدولية والقانون الدولي، واللجوء إلى تطوير القدرات الصغيرة ذات القدرات التدميرية الهائلة، واستخدام حروب الجيولوجيا (اصطناع الهزات الأرضية، والفيضانات…)، فضلاً عن تطوير الشركات الأمنية والعسكرية للقيام بمهام بدلاً من الجيوش التقليدية للدول، وبلا قيود القانون الدولي والأخلاقيات الدولية.

بمعنى آخر، صار العالم يؤشر إلى وجود تحول في انتشار عناصر القوة، وفي علاقات القوة دولياً، وبروز لأدوار الفواعل الجدد. رافق ذلك تحول الولايات المتحدة من الاعتماد على عناصر القوة التقليدية إلى استخدامات القوة الذكية، للاستجابة إلى التحولات الحاصلة في عوامل القوة، إلا أن مسرح التفاعلات العالمية يتَّجه إلى إحداث تحولات سريعة جداً، ومثاله ما يحصل في المنطقة العربية، والتوسع في النشاط العسكري الروسي عالمياً، والتحول في ميزان القوى في شرق وجنوب شرق آسيا، ولا تزال التحولات في أفريقيا (جنوب أفريقيا ونيجيريا خصوصاً)، وفي أمريكا اللاتينية (البرازيل خصوصاً) غير منظورة حتى اليوم. كل ذلك، دفع إلى توليد بيئة غير مرنة أمام الولايات المتحدة في التعاملات الدولية، ومن ضمنها عدم المرونة على نشر الدرع الصاروخية، وانغلاق في التعامل مع القوة الإيرانية [11]، وغيرها… وهذا ما دفع إلى البدء بتغيرات أصابت السياسة الأمريكية، تم ملاحظتها في عهد أوباما للتعبير عن نهج فرض نفسه في السياسة الأمريكية، والانسحاب من سياسة المواجهة المباشرة في التفاعلات الدولية.

ثانياً: اتجاهات الصراع

إن النقطة أعلاه، وإن دلت على بدايات تحول في الهرمية الدولية من النمط القائم على الأحادية في القطاع العسكري بعد عام 1989، إلى نمط جديد يؤشر إلى أن هناك تعددية مفرطة في الجوانب الثقافية والاقتصادية والصناعية، وبدأ العالم يؤشر إلى وجود اتجاه نحو التعددية في القطبية العسكرية، وإلى وجود فواعل من غير الدولة القومية، يمكنها أن تؤدي أدواراً موازية للأدوار التي تقوم بها، وربما أكثر فاعلية منها.

إن هذا التحول صار يدفع بالعالم إلى الخيار بين الآتي [12]:

– استمرار مسايرة الولايات المتحدة في قيادتها للنظام الدولي، وعدم الرغبة في معارضتها أو الوقوف ضدها، بانتظار تآكل قوتها، وبيان ضعفها.

– أو العمل على تسريع سقوطها عالمياً وإقليمياً، أو في أقل تقدير إضعافها، عبر إشغالها بأكثر من منطقة صراع وأزمات إقليمية، وهو ما اتضح بالاستنزاف الذي أصابها في أفغانستان والعراق، ثم عدم قدرتها على إدارة ملف إيران النووي، أو إدارة الأزمة السورية، واتجاه الرئيس أوباما في شباط/فبراير عام 2016 إلى إعلان أن لا مصلحة للولايات المتحدة في الانخراط، كطرف محلي، في صراعات الشرق الأوسط، وأن الجهد الأمريكي سينصب على منطقة شرق آسيا، حيث مركز ثقل العالم في السنوات المقبلة [13].

بعبارة أخرى، إن العالم أمام مرحلة انتقال منذ عام 2000، وعلى الرغم من أن الجهد الأمريكي انصب على تأخير ظهور المنافسين والسعي إلى إعلان قيادتها على العالم بجهد عسكري عام 2001، وهو ما ظهر بوضوح في السياسات الأمريكية الشرق الأوسطية، إلا أن الأمر انتهى إلى فشل واضح؛ إذ ارتفعت كلفة الحفاظ على المكتسبات العسكرية، نتيجة ارتفاع كلفة حفظ المصالح الأمريكية المنتشرة عالمياً، وهو ما سمح بأن تتجه دول مثل روسيا والصين إلى تسريع تنمية قوتها، ونحو خلق مجالات نفوذ إقليمية، كما إلى معارضة الولايات المتحدة في بعض المناطق، وهو أمر تسبب بحدوث مجالات للصراع والصدام معها، على نحو بات يدفع إلى القول، إن العالم اليوم مقبل على صراعات دولية وحروب باردة جديدة.

لقد ناقشت قوى إقليمية مسألة الخروج على الإرادة الأمريكية، مثل تركيا، عقب التقاطع في السياسات بشأن إدارة الملفات الإقليمية، وعقب محاولة الانقلاب العسكري الفاشلة فيها صيف 2016، لتضاف إلى دول أخرى، مثل إيران، في معارضة فرض الإرادة الأمريكية في إدارة الملفات الإقليمية والعالمية[14].

إن ما تقدّم، فتح العالم على عدة صراعات، بعضها عالمي وآخر إقليمي وآخر محلي، كون الولايات المتحدة كانت قد وضعت في ذهنها عام 2001 التحول بالصراعات من المستويات العالمية والإقليمية إلى المستويات المحلية، وصراعات الهوية والانتماءات الأولية، كونها ستقود إلى انسحاب عدة دول من التفاعلات الدولية، وتتجه إلى التفكك، وخلق بيئات اضطراب إقليمية واسعة، تسمح للولايات المتحدة بالتمدد عالمياً، في حين ستقود إلى تورط القوى الإقليمية في تلك الصراعات. وهذا النهج يمكن تتبعه في ما جرى من أحداث في المنطقة العربية بعد عام 2003 صعوداً.

إلا أن الأمر اتجه إلى نتيجة مغايرة؛ فقد خلقت الولايات المتحدة بيئة الفوضى في الشرق الأوسط، وبيئة الفوضى ارتدت على المصالح الأمريكية بمعدلات مرتفعة، ونجحت قوى إقليمية في توسيع النفوذ على حساب الحضور الأمريكي. وقد نجحت روسيا في توسيع حضورها عالمياً، بسبب الأزمات الإقليمية في الشرق الأوسط، كما اتجهت الصين إلى تغيير في مسار استراتيجيتها الإقليمية باتجاه توسيع عوامل قوتها وتسريع حضورها في شرق آسيا وجنوب شرق آسيا، قبل أن تصل إلى غاية هدفها اتمام الإصلاحات لعام 1978 والتي تنتهي عام 2030، وهو ما يعني دفع الدول الأخرى إلى تغيير استراتيجياتها، لاستنهاض عوامل قوتها والوصول إلى مرحلة القدرة على منافسة الولايات المتحدة.

إن العالم اليوم، قد خرج من الأنماط التقليدية للصراع، ليدخل ضمن منطق الصراع المعولَم، أي الصراع في ظل عالم مفتوح النهايات، عالم يمكن في أي لحظة أن تنتصر قوى صغيرة فيه على قوى كبرى في النظام الدولي؛ إما نتيجة القيود على استخدام القوى الكبرى عناصر قوتها وإما نتيجة الكفاية والملاءَمة في استخدام القوة الصغرى لعناصر القوة الموجودة، وخصوصاً أن عالم الأسلحة التي تستخدم في صراع القوى، صارت تتجه لتعتمد على المعلوماتية وعلى وسائل التواصل الاجتماعي، والدبلوماسية، وتأليب الرأي العام وغيرها.

وتحليل هذه الإشكالية الجديدة للصراع الدولي، يفيد بالآتي:

إن العالم اليوم يتجه نحو مزيد من العولمة، أي التداخل بين الأبعاد والمستويات، وصعوبة الفصل بين خط سيادي وآخر، فما كان منه عالمياً يتجه نحو المستويات الإقليمية ويؤثر فيها، ويؤثر في المستويات المحلية، والعكس صحيح، وهو ما أظهرته الأحداث في سورية، كونها سمحت بوجود أكثر من طرف في تداخل واسع للأبعاد لتفرض توازنات من غير الممكن التأثير فيها بطريقة الحسم العسكري لأنها ستؤثر في التوازن الدولي ككل.

إن العولمة هي كفكرة بسيطة تفيد بتداخل في الحدود وأحياناً في اختفائها وتسارع في الأحداث والتفاعلات، على نحو لا يمكن معه القول بوجود الدولة القومية أو الوطنية، كوحدة وحيدة في التفاعلات الدولية، إنما هذه الوحدة اتجهت إلى خفض حضورها الاقتصادي في الحياة العالمية، حتى إنه يتوقع أن تتجه إلى خفض حضورها العسكري، كون العلاقات الدولية لا تتحمل تكلفة خوض صراعات عسكرية واسعة، بسبب تداعيات توازن الرعب؛ فالصراعات تتجه نحو المناطق غير الحساسة، مثلاً نحو العلاقات الاقتصادية، ونحو مجالات الحرب الاستخبارية، ونحو حروب الاستنزاف بالوكالة. وفي عالم معولم كهذا أي رفع لسقف الصراعات عن هذه المستويات، سيفيد أن العالم سيتجه إلى سباق تسلح لا يمكن كبحه، وخصوصاً أن التطور التكنولوجي سيجعل مستوى ونوع الأسلحة التي ستُصنع قادرة على التأثير في كل الوجود الإنساني، كون الحروب لم تعد فقط في مجال أسلحة الدمار الشامل، إنما صارت التكنولوجيا قادرة على شل الحياة الاجتماعية، وحتى على إنهاء الحياة بكل مظاهرها، وربما من دون الحاجة إلى دخول حروب مباشرة، وأكثر الوسائل القابلة للاستخدام هي التأثير في عقد الاتصالات والتحكم بالمعلومات، وضرب أنظمة القيادة والسيطرة التابعة للخصوم [15].

في بيئة كهذه، إن نتائج أي صراع لا تقاس وفقاً لحجم ما تمتلكه الدول من قوة عسكرية ومن انتشار عسكري، وإنما تتعلق بعدة عوامل، أهمها المباغتة لإجهاض الطرف الآخر. كما أن التحكم بعوامل القوة المعلوماتية، يمكن أن يخدم دولاً صغرى أو وحدات من غير الدول، ويجعلها تحقق نتائج مهمة في علاقات الصراع مع دول كبرى. كما أن دولاً كثيرة، أصبحت لا تفضل مجرد التفكير بخيار الصراع المسلح، وإنما في اعتماد سياسات واستراتيجيات تشل الطرف الآخر في مسائل مثل: القدرة على إدارة الدولة، ونظم المعلومات والسيطرة والاتصالات، أو تحريك أقليات مهمة في داخل الدولة إلى الضد من شرعية الاستمرار تحت حكم الدولة القائمة، أو الاتجاه إلى ضرب الانسجام بين المواطنين والحكومة، وغيرها من استراتيجيات يمكن أن تستخدم في علاقات الصراع الحديثة [16].

إن الولايات المتحدة وروسيا والصين، على المستوى العالمي، ودول مثل إيران وتركيا وإسرائيل والهند وغيرها، على المستوى الإقليمي، وقوى لا تمثل دولة، مثل التنظيمات الإرهابية، وتنظيمات جهادية وحركات مقاومة وغيرها، على المستوى المحلي أو العابر للحدود الإقليمية، وكيانات تصارع من أجل الظهور بمرتبة دولة، مثل الأكراد وغيرهم، كلها قوى حية، تتجه إلى التعامل ليس مع الأنماط التقليدية للصراعات الدولية: تقاطع إرادات بين الدول يدفعها في أحيان إلى اعتماد استراتيجيات توظيف الموارد واستخدام المواجهة[17]، فتلك الاستراتيجيات لا يمكن أن تصلح في عالم اليوم؛ فأي مواجهة تقليدية محسومة نتائجها لمن يمتلك قوة عسكرية أكبر، إنما الحديث هو عن كيفية التأثير في إرادة الطرف الآخر الذي يستهدف في علاقات الصراع، فنجد مثلاً أن الفارق كبير جداً بين مستوى إنفاق الولايات المتحدة وروسيا عسكرياً، وفي الناتج القومي، إلا أن روسيا أعاقت قدرة الولايات المتحدة في مجال إتمام إقامة الدرع الصاروخية حول أوروبا، كما أعاقت جهدها للتعامل مع الأحداث في سورية، وقبلها أعاقت حصول الأمريكيين على شرعية أممية في التعامل العسكري مع البرنامج النووي الإيراني. كذلك فإن إيران أعاقت الولايات المتحدة في إتمام مشروعها بتفكيك الشرق الأوسط، بما يخدم المصالح الأمريكية؛ فالقوى المتوسطة والصغرى، والقوى ما دون الدولة، صارت تركز على استراتيجيات الاستنزاف وتوريط الطرف الأقوى، لدفعه إلى معركة استنزاف، وتعطيل قدرته على استخدام عوامل قوته.

إن استراتيجيات كهذه، لا يمكن تطبيقها ما لم تكن هناك:

1 – بيئة تتيح ذلك، وهي متعلقة بالانتقال من كون التأثير منحصراً بالقوة العسكرية إلى كونه متعلقاً بعوامل قوة شمولية (القدرات)، مع تركيز أكبر على القوة المعرفية والتكنولوجية.

2 – عوامل قوة انتشرت بما يمكّن الطرف الذي يستخدم استراتيجيات إدارة الصراع من اللجوء إليها، والتأثير في العلاقات الدولية بأحد مستوياتها: العالمية أو الدولية أو الإقليمية؛ فضلاً عن المحلية.

ثالثاً: التحولات المتوقعة في النظام الدولي

نتيجة الحقائق المتقدم ذكرها، وما تسببت به الأزمات المتكررة في العراق، ثم مع إيران وكوريا الشمالية، ثم في سورية وأوكرانيا، صار العالم يندفع اليوم بعيداً من تكريس القطبية الأمريكية؛ فحقائق القوة أن العالم صار متعدد القطبية نسبياً على الصعيد العسكري، وبصورة واضحة على الصعد الاقتصادية والثقافية، وسيزداد الاتجاه نحو التعددية القطبية، حتى نجد أن العالم عند مستوى عام 2030 سيكون عالماً فيه القوى الآتية على قمته: الولايات المتحدة والصين وروسيا والاتحاد الأوروبي واليابان والهند والبرازيل، وسنجد أن هناك نظماً إقليمية تدار من جانب قوة واحدة بارزة لها تأثيرها الدولي، مثل تركيا وجنوب أفريقيا. وهذا الأمر تقدم له دراسات متعددة؛ فالنظام الذي يحكم العالم، استناداً إلى تسويات عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، والممثل بمجلس الأمن وحق الفيتو، لا يمكن أن يستمر إلا إذا اتفق مع حقائق القوة الجديدة، وإلا فإنه سيتفكك بسرعة وسيجد العالم نفسه أمام دول تنسحب من الأمم المتحدة، وتركز على تنظيمات أخرى تجد نفسها فيها، مثلاً منظمة شنغهاي، ونادي بريكس للصين وروسيا، وغيرها للدول الأخرى.

أما القول إن الهيمنة الأمريكية يمكن أن تستمر، متمثلة بوجود مشروع سياسي، تستخدم فيه الولايات المتحدة القوة عسكرياً، والضغوط السياسية والاقتصادية، وحلف الناتو، والتحالفات الثنائية، من أجل الاستمرار على قمة الهرم الدولي، يمكن القول إن طرحاً كهذا يمكن أن يستمر، إلا أنه لن يكون قادراً على أخذ مديات عام 1990 و2001، كون الدول المنافسة أخذت تتجه إلى تشكيل نظمها الإقليمية، بما يناسب مصالحها: روسيا وشرق أوروبا، وروسيا والقوقاز، والصين وجنوب شرق آسيا، والدول المطلة على شرق آسيا، وغيرها. وقد ظهر حلف الناتو نفسه بموقف العاجز عن التصرف في الأحداث السورية، وترك تركيا بلا خيارات، حتى إنه أظهر تدخلاً في الشأن التركي صيف عام 2016، على نحو دفع تركيا إلى إحداث تغيير في استراتيجيتها والانفتاح على روسيا وإيران[18]، بمعنى أن حلف الناتو الذي اعتنق اتجاه التوسع أفقياً وعمودياً في القارة الأوروبية عام 1999، واتجه إلى الانفتاح على العالم عام 2004 عبر توسيع علاقات الشراكة، وجد نفسه غير قادر على الاتفاق على إدارة أحداث إقليمية مهمة تقع على تخومه الجنوبية وترك المبادرة لروسيا فيها. ومن ثَمَّ، فإن قدرة الولايات المتحدة على الاستعانة به مستقبلاً، غير قابلة للتصور ضمن حدود عليا، إنما المسألة نسبية وضعيفة الاحتمال.

يبقى أن تظهر الولايات المتحدة حدثاً عالمياً، على غرار حدث 11 أيلول/سبتمبر 2001، تدفع معه إلى استقطاب العالم حولها ودفع الدول الأخرى إلى تجديد منظورها للقيادة عالمياً، إلا أن التفكير بخطوة كهذه، سيكون من باب المغامرة الخطرة، لأنها ربما ستنطوي على استخدام سلاح دمار شامل على مصلحة عالمية مهمة.

قد تلجأ الولايات المتحدة إلى خيارات أخرى، ومنها مثلاً استخدام الشركات الأمنية في أداء عمليات شبه عسكرية ضد منافسين، أو ربما القيام بتطوير حروب معلوماتية أو لأنواع جديدة من الحروب قائمة على مزاوجة عوامل طبيعية وتكنولوجية: فيضانات أو زلازل… على نحو تجهد به موارد خصومها وتستنزفهم [19].

ومن ثَمَّ، فإن خلاصة القول، إن العالم يتجه نحو عالم متعدد الأقطاب، وربما عالم اللاقطبية إذا ما وصل الانتشار النووي فيه إلى مرحلة لا تستطيع فيه الدول الكبرى أن تضبط تفاعلات النظام الدولي، على مدى العقد المقبل. أما ما بعده، فإن العالم سينفتح على تعددية قطبية واسعة من دون الحاجة إلى امتلاك السلاح النووي؛ فالقوة تغيّرت في معناها، وصارت تركز على الاقتصاد والتكنولوجيا والمعرفة، أكثر مما تركز على القوة العسكرية. كما أن الدول أضعفت في عالم ينفتح على مؤسسات العولمة والعالمية، كصندوق النقد والبنك الدوليين، ومنظمة التجارة العالمية، واحتمالات التوسع بعضوية مجلس الأمن ليكون أقرب إلى الحكومة العالمية، والمحكمة الجنائية الدولية، والشركات المتعددة الجنسيات… أي أننا هنا أمام عالم لن تتملك الولايات المتحدة فيه عوامل قوة قادرة على إحداث حسم عالمي، إنما يمكنها التأثير والمشاركة في إدارة الأحداث العالمية، والانتصار في حروب وصراعات إقليمية محدودة، ويمكن فيها أيضاً كبح الولايات المتحدة عبر تحالفات دولية – إقليمية، على غرار ما حدث في سورية، عندما وصلت الولايات المتحدة إلى مرحلة العجز عن إدارة الأحداث أو التعامل معها.

وهنا سيكون لدينا الآتي:

1 – من حيث التفاعلات الدولية، يتوقع أن يتجه بعض من الصراعات الدولية للتنشيط، وأن يظهر جلياً في النظام الدولي، أو في النظم الإقليمية الفرعية، وبخاصة في شرق آسيا وجنوبها، وفي الشرق الأوسط، وفي أفريقيا وأمريكا اللاتينية، رغبة من بعض الدول في أن تأخذ مساحة تفاعل ومكانة وأدواراً دولية أوسع من المتحقق الآن، وهو أمر متصور في سلوك القوى الآتية: الصين وجنوب أفريقيا والبرازيل والهند خلال العقدين المقبلين.

2 – الأطراف الفاعلة، ويتوقع أن تتجه وحدات دولية متعددة إلى ممارسة أدوارها، وعلى الأقل في النطاق الإقليمي، بمعنى أن هناك صعوبة في اختيار الاتجاه نحو الانكفاء في عالم معولم، والاتجاه هو نحو تنشيط كل عوامل الفاعلية بقصد احتلال مكانة دولية أو إقليمية خلال العقدين المقبلين، وأكثر النظم الإقليمية التي ستظهر دينامية ويغلب فيها الصراع، هو الشرق الأوسط.

هذه الدينامية ستقود إلى نتائج مهمة، ألا وهي أن حركة الصراع الدولي بأبعاده العالمية والدولية والإقليمية، ستجعل أغلب دول العالم ترفع من مقدار انخراطها بتفاعلات نشطة، عالمياً ودولياً وإقليمياً، ومن ثَمَّ، ستولّد دينامية مرتفعة، تعيد معها احتساب القوة الداخلة في تعريف الهرمية والقطبية الدولية، لذلك، ستجد دول العالم نفسها أمام حقيقة، مفادها أن هناك اتجاهاً حاداً نحو عالم اللاقطبية، أي عدم وجود مركز للقوة عالمياً، إنما سنكون أمام عالم تسوده مراكز إقليمية لها تفاعلات عالمية؛ فالاتحاد الأوروبي من خلال أوروبا، وروسيا من خلال شرق أوروبا والقوقاز، والصين من خلال جنوب شرق آسيا، واليابان من خلال شرق آسيا، والهند من خلال جنوب آسيا، وجنوب أفريقيا من خلال أفريقيا جنوب الصحراء، والبرازيل من خلال أمريكا الجنوبية، كلها أقطاب عالمية، تستطيع الوصول إلى أي تفاعل عالمي وتشارك فيه أو تؤثر فيه بطريقة أو بأخرى. ولا يمكن الحديث عن حامل ميزان أمريكي على غرار عصر السلام البريطاني، كون التوازن سيفرض نفسه من خلال منطق الكلفة المصاحبة لأي صراع، وهو منطق سيدفع الصراعات لأن تكون داخل النظم الإقليمية القارية الكبرى، أكثر مما ستكون على المستويات العالمية والدولية الشمولية. أما ما يتعلق بالشرق الأوسط، فلا توجد حتى اليوم قوى يمكنها أن تكون دولية وكبرى، إنما ما زالت تقع في مصاف القوى الإقليمية، والكابح الرئيس لبروز قوى كهذه، هو التداخل بين الأبعاد الداخلية (المفككة أحياناً لاستمرار الدولة/ الوحدة الوطنية) والإقليمية (التنافس السلبي) والدولية (التدخل الخارجي، وانكشاف الدول الشرق الأوسطية أمام المصالح والسياسات الدولية).

عموماً، إن التفاعلات التي صارت تسود في العالم اليوم، يتوقع أن تدفع به نحو مزيد من العنف خلال السنوات المقبلة، لكن عند المستويات الإقليمية وليس العالمية الكلية. وفي أقل تقدير الاتجاه المتوقع هو رفع سقف صراعات جديدة، ربما ستقود إلى توسيع سقف الصراعات الدولية والإقليمية، إلا أنها ستكون أكثر تركزاً عند المستويات الإقليمية، منه عند المستويات العالمية.

خاتمة

لقد بيّنا التغير القائم والمتوقع في معنى ومضمون واستخدامات القوة عالمياً، وكيفية تأثير ذلك في التحول في الصراع الدولي من صيغه التقليدية؛ من صراع دولة مع دولة أخرى، إلى كونه صراعاً، يمكن أن يستوعب ويستخدم كل عوامل القوة، وفي كل المستويات: عالمية ودولية وعابرة للقومية ومحلية. وهذا الأمر ينذر بحصول تغيرات في النظام الدولي، لأنه يظهر ضعف الولايات المتحدة في إدارة ملف العلاقات الدولية، ويدفع على نحوٍ متسارع إلى بروز عالم سيسوده مرحلياً تعددية قطبية، وسيندفع بعدها نحو عدم وجود مركز للتفاعلات الدولية (عالم لاقطبي).

في الختام، توصلنا إلى الاستنتاجات الآتية:

1 – إن العالم يشهد مزيداً من التحول في معنى القوة الأكثر قدرة على التأثير عالمياً من كونها متعلقة باستخدامات القوة العسكرية لتكون أكثر تركزاً عند القوة غير التقليدية: تحالفات، المعرفة، التكنولوجيا، الاقتصاد…

2 – إن القوة أصبحت تنتشر عالمياً، ولا يوجد تركيز لها بيد دولة واحدة، ويتوقع أن تصل إلى مستوى لا يمكن معه القول بوجود حالة قطبية محددة، نتيجة الانتشار المفرط في عوامل القوة عالمياً.

3 – إن العالم يتجه نحو مزيد من التوسع في الوحدات التي تمتلك عوامل وعناصر القوة، وعدم بقاء احتكار الدولة لها، وهو عالم يتجه إلى أن ترتبط تلك الوحدات بدفع العالم نحو العالمية والعولمة أكثر من ارتباطه بخاصية العالمية. وعالم اليوم يمهد للتوسع بظهور وحدات ستكون في الأغلب، أكثر فاعلية ودينامية من الدولة في التعامل العالمي أو المحلي مع مصالحها.

4 – إن الصراعات الدولية اليوم تعيش حالاً تتداخل فيها الأبعاد المحلية والإقليمية والعالمية، على نحو يمكن أن تتورط فيها القوى الكبرى والإقليمية بصراع إقليمي أو محلي موجود في منطقة تقاطع مصالح دولية وإقليمية. وهو ما ظهر بوضوح في حالة سورية، التي تداخلت فيها الأبعاد الداخلية والإقليمية والدولية، على نحو ضاعف من حجم المأساة في هذا البلد.

5 – إن العالم يعيش مرحلة التحول نحو التعددية القطبية التامة، والأكثر توقعاً هو أننا سنشهد وجود مراكز إقليمية تهيمن عليها القوى الكبرى حالياً، أي أن النظام الدولي سيتجه إلى توسيع انتشار القوة إن كلاً من القوى الكبرى ستتجه إلى بسط قوتها ووجودها في نظامها الإقليمي، لأن النظام العالمي سيكون أكبر مما تستوعبه قوة واحدة، وحتى الولايات المتحدة تراجعت لتتخذ مسار الانتقاء من بين الأقاليم في التفاعلات التي تديرها، ومثالها الاتجاه على تركيز تفاعلاتها في شرق آسيا وإضعاف مكانة الشرق الأوسط.

6 – إن أكثر الصراعات المتصورة عالمياً في السنوات المقبلة، هي صراعات داخل النظم الإقليمية، كون تكلفة الصراعات الكبرى ستكون مرتفعة في ظل توافر التكنولوجيا وانتشار عوامل القوة عالمياً.

7 – إن الشرق الأوسط سيعاني التغير الحاصل في علاقات القوة، وفي اتجاهات الصراع، وفي تداخل الأبعاد المحلية والإقليمية والدولية، كون التفاعلات تدار بمنطق التنافس السلبي، المفتوح على التدخل الدولي، وفي غياب مركز قيادة إقليمي، أو منظمة إقليمية جامعة، فهو ما سيجعل هذه المنطقة مقبلة على تحمل تبعات صراع متعدد المستويات، ومن ضمنه تحمل جانب من الصراعات الدولية بالوكالة.

في الختام، لقد حققنا الغايات المتمثلة برصد علاقات القوة والصراع والهرمية الدولية، والتعامل مع مشكلة اللايقين بمخرجات علاقات الصراع المقترن بانتشار القوة عالمياً، وستتحدد بكون التكلفة المترتبة على أي صراع، ستقود إلى دفع الصراعات إلى التعلق بالأنظمة الإقليمية، وليس بالنظام الدولي. وإن مزيداً من الانتشار في عوامل القوة مستقبلاً، سيدفع إلى إحداث تحولات في بنية النظام الدولي، حتى وصولها إلى مرحلة التعددية القطبية ابتداءً، ثم إلى مرحلة اللاقطبية ثانياً.

 

اطلعوا أيضاً على  تأثيرات الصعود الروسي والصيني في هيكل النظام الدولي في إطار نظرية تحول القوة

إقرؤوا أيضاً  سياسة روسيا الخارجية اليوم: البحث عن دور عالمي مؤثر

قد يهمكم أيضاً  إدارة ترامب للسياسة الخارجية الأمريكية في الشرق الأوسط

#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #الصراع_الدولي #اتجاهات_القوة #النظام_الدولي #القوة #التعددية_القطبية #الأحادية_القطبية #دراسات