مدخل:

يتطرق هذا البحث إلى الحقبة ما بين سقوط الحكم الهاشمي في سورية وإقامته في العراق بعد ثلاثة عشر شهرًا. يبدأ البحث يوم معركة ميسلون في 24 تموز/يوليو 1920 وينتهي يوم تولي الملك فيصل عرش العراق في 23 آب/أغسطس 1921. لم يُعطِ أي من المؤرخين العرب هذه الحقبة حقها، وفضلوا البحث إما في تجربة الحكم السورية أو العراقية، من دون التطرق إلى ما حدث بينهما. ولكن، وفي هذه الأشهر الفاصلة في تاريخ المنطقة، كانت الثورة المصرية ضد الإنكليز وتبعتها الثورة العراقية، وباتت بريطانيا تبحث عن وكلاء جدد لإدارة مستعمراتها في البلدان العربية. وجدت في شخص الملك فيصل، صديق الأمس من زمن الحرب العالمية الأولى، كل المواصفات المطلوبة لحكم العراق. لم يسعَ فيصل لهذا المنصب وكانت كل محاولاته تصب في رد الظلم الذي تعرض له في سورية واستعادة عرشه المسلوب في دمشق. أخذته هذه المرحلة في رحلة منفى مفتوحة وقاسية، مر بها على فلسطين ومصر وإيطاليا والنمسا وألمانيا وبريطانيا، وصولًا إلى العراق. ومن المفيد العودة إليها اليوم في الذكرى المئوية الأولى لسقوط المشروع الهاشمي في سورية وبدأه في العراق.

كثيرة هي الكتب والأبحاث التي صدرت عن فيصل بن الحسين، الأمير الهاشمي الذي كان حاكمًا على سورية من نهاية الحرب العالمية الأولى حتى صيف عام 1920، ومن ثمّ ولِّي ملكًا على العراق حتى وفاته في أحد مستشفيات سويسرا سنة 1933. أنشأ فيصل الأول حكمًا عربيًا وبرلمانيًا على أنقاض الدولة العثمانية في سورية، وفي بغداد أسس لحُكمٍ ملكي استمر حتى وصول العسكر إلى السلطة يوم ثورة 1958. وفي هذه الثورة طبعًا أطيح الحكم الملكي وذُبح الكثير من أفراد أسرته، وعلى رأسهم حفيده الحاكم يومئذ، الملك فيصل الثاني. الكثير من المؤرخين السوريين كتبوا بإسهاب عن العهد الفيصلي في سورية، متجاهلين المرحلة العراقية بالكامل ومعتبرين أنها لا تتعدى جائزة ترضية أعطيت لفيصل من جانب الحكومة البريطانية لتعويضه عرشه المسلوب في الشام. والعكس كان صحيحًا بالنسبة إلى معظم المؤرخين العراقيين، ولكن ما بين العرشين، السوري والعراقي، حقبة زمنية مُهمة في تاريخ فيصل والمنطقة سقطت من مُعظم تلك الكتب والدراسات، من المفيد العودة إليها اليوم في الذكرى المئوية الأولى لإنهاء الحكم الهاشمي في سورية، حكم الملك فيصل، وخروجه من عاصمة الأمويين مهزومًا مكسورًا إلى منفى قسري، مفتوح ومجهول، تنقل فيه بين فلسطين ومصر والنمسا وألمانيا ولندن والحجاز، وصولًا إلى العراق.

امتدت هذه الحقبة من خروجه من سورية في 1 آب/أغسطس 1920 حتى وصوله إلى العراق في 11 نيسان/أبريل 1921 وخلال هذه الأشهر حمل فيصل لقب «الملك المخلوع» أو «الملك السابق». وقد جال على مُدن أوروبا بصفة أقل كثيرًا من كلا اللقبين، عبارة عن «ممثل خاص عن مملكة الحجاز» التي كانت تابعة لوالده الشريف حسين بن علي، ملك الحجاز وقائد الثورة العربية ضد العثمانيين. ظلّ فيصل مرميًا على أبواب المسؤولين البريطانيين، محاولًا رد الظُلم الذي تعرض له في سورية ومهددًا باللجوء إلى الاتحاد السوفياتي لو لزم الأمر. ولكنه لم يحد ولا للحظة عن موقفه المؤيد للبريطانيين، الذين كان لهم اليد العليا، وربما الوحيدة، في تنصيبه ملكًا على سورية أولًا ومن ثمّ على العراق. ولكنه بخلاف ما قيل في حينها، لم يسعَ للوصول إلى كرسي حكم في بغداد ولم يُفكر بعرش بديل في أي بلد عربي وبقي متمسكًا بعرشه السوري حتى النهاية. كان تاج العراق مفاجأة بالنسبة إليه، تمامًا كما كان بالنسبة إلى الشعب العراقي.

سيتطرق هذا البحث إلى هذه الأشهر المنسية من حياة فيصل، بناء على ما جاء في مذكرات بعض معاصريه وفي أرشيف الخارجية البريطانية. لن ندخل في تفاصيل حكمه لا في سورية أو في العراق، لأنها أشبعت بحثًا وتحليلًا من جانب المؤرخين العرب والأجانب، وسنحاول الإجابة عن سؤال واحد فقط: كيف ولدت فكرة «العرش البديل» وكيف تقبلها فيصل؟ المعروف أنه خلال مراسلات الشريف حسين مع هنري ماكماهون، المندوب السامي البريطاني في مصر، تم الاتفاق على تولي أبنائه الحكم في البلدان العربية المحررة من الحكم العثماني، بعد نجاح الثورة العربية. اتفق الطرفان على أن يصبح الشريف حسين ملكًا على العرب ليحكم من الصحراء العربية وأن يكون نجله الأكبر الأمير علي وليًا للعهد وأن يُصبح شقيقه الأمير عبد الله ملكًا على العراق وأن يكون فيصل ملكًا على سورية، يعاونه شقيقه الأصغر الأمير زيد بن الحسين، الذي كان من المفترض أن يُصبح وليًا للعهد بدمشق[2].

تحقق هذا المشروع بجزئيته يوم تولى الشريف حسين عرش الحجاز ومبايعة فيصل ملكًا على سورية في 8 آذار/مارس 1920، ولكنه توقف على أبواب العراق، بسبب ثورة العشرين، فأجبر الأمير عبد الله على قبول منصب وزير خارجية في مملكة أبيه. ومن ثمّ اصطدم المشروع الهاشمي بطموحات الجمهورية الفرنسية التي كانت قد أرسلت قواتها العسكرية إلى الساحل السوري منذ خريف عام 1918 تمهيدًا لاحتلال البلاد بموجب اتفاقية سايكس – بيكو، الموقعة خلال الحرب العالمية الأولى بين الحكومة البريطانية ونظيرتها الفرنسية. عارض فيصل نظام الانتداب الفرنسي وعدّه تعديًا على مُلكه، فحصلت مواجهة عسكرية بينه وبين الفرنسيين يوم 24 تموز/يوليو 1920، أدت إلى خلعه عن العرش وفرض الانتداب بقوة السلاح على سورية. وفي مذكرات الأميرة بديعة، حفيدة الشريف حسين وكريمة أكبر أبنائه، تقول إنها تكشف سرًا لأول مرة في تاريخ الأسرة وهو: «عمّي الملك فيصل ظلّ طوال حياته يتذكر الشام بالخير. ويتردد بيننا عائليًا بأنها ظلّت في نفسه لآخر لحظة في حياته… ربما لأن أهل الشام كانوا أكثر انصياعًا لحكمه من أهل العراق»[3]. حاول فيصل مرارًا وتكرارًا العودة إلى عرشه في دمشق ولكنه لم يفلح وقبل وفاته بأشهر عرض على الفرنسيين إقامة وحدة بين سورية والعراق، تكون العاصمة فيها متنقلة بين دمشق وبغداد ويكون العرش فيها له ولأبنائه من بعده، ولكن عرضه قوبل بالرفض من جانب الحكومة الفرنسية[4].

أولًا: مغادرة دمشق

كانت نهاية الحكم الفيصلي في دمشق يوم معركة ميسلون في 24 تموز/يوليو 1920. سقط العهد الهاشمي في سورية الذي كان فيصل قد أعلنه باسم والده الشريف حسين يوم دخوله دمشق فاتحًا ومحررًا مع نهاية الحرب العالمية الأولى في يوم 3 تشرين الأول/أكتوبر 1918. عند توجه جيشه إلى ميسلون، انتقل فيصل من دمشق إلى قرية الهامة على ضفاف نهر بردى القريبة من العاصمة السورية للإشراف على تطورات المعركة وتوجه منها مباشرة إلى قرية الكسوة جنوب دمشق بعد هزيمة الجيش السوري واستشهاد وزير الحربية يوسف العظمة. هذا يعني أنه لم يعد إلى دمشق وأنه أخذ معه إلى الهامة كل امتعته وأوراقه الخاصة، تحسبًا لهزيمة مرتقبة في ميسلون. لا نعرف مدى دقة هذه الرواية لعدم وجود دليل موثق، ولكنه وفي مقتنيات قصر المهاجرين، قصر الملك فيصل بدمشق، لا يوجد أي أثر لفيصل اليوم بالرغم من أنه حكم سورية من أروقته لمدة سنة وعشرة أشهر. فلا ورقة تحمل توقيعه، لا ختم أو حتى صورة تذكاريه. وفي مذكراته يقول أسعد داغر، أحد رجال فيصل في تلك الحقبة، أن الملك غادر دمشق باكرًا «لكي لا يراه الناس فيزيد من ألمهم برؤيته خارجًا على هذا الشكل من عاصمة مُلكه»[5]. هذا يعني أنه غادر العاصمة السورية بعد الهزيمة لا قبلها، أي أنه دخلها سرًا بعد معركة ميسلون وأراد أن لا يراه أحد من رعيته. وقد قرر يومها نقل حكومته السورية إلى قرية الكسوة بعد زحف الجيش الفرنسي باتجاه دمشق ودخوله إليها مُحتلًا صباح يوم 25 تموز/يوليو 1920 [6].

سافر الملك بسيارته الخاصة إلى الكسوة وتبعه بالقطار نحو خمسين شخصًا، كان من بينهم رئيس الوزراء هاشم الأتاسي ووزير الخارجية عبد الرحمن الشهبندر ووزير النافعة يوسف الحكيم ووزير المعارف ساطع الحصري، إضافة إلى الوطنيين الشبان شكري القوتلي وسعد الله الجابري وجميل مردم بك ورياض الصلح[7]. هذا وقد تخلّف عن السفر كلّ من رئيس مجلس الشورى عبد الرحمن باشا اليوسف ووزير المالية فارس الخوري والداخلية علاء الدين الدروبي الذي كان الملك قد عينه رئيسًا للوزراء فور هزيمة الجيش في ميسلون. وصف الوزير يوسف الحكيم حالة الملك المخلوع قائلًا: «كانت علائم الإعياء والحزن بادية عليه» وكانت عيناه «اغرورقت بالدمع» عند التحدث عن شهيد ميسلون يوسف العظمة[8].

قضى الملك وصحبه ليلة قاسية بالكسوة، ناموا فيها على مقاعد القطار الخشبية وتناولوا الكعك اليابس على العشاء، وبعدها تناوب بعض الشبّان على حراسة القطار خوفًا من أي هجوم فرنسي قد يودي بحياة الملك[9]. كانت ليلة رهيبة بالنسبة إليه بعد سنوات من العيش المرفّه في قصور دمشق. لم يعتقد فيصل يومها أنه خارج من دمشق بلا عودة، والدليل هو تكليف مستشاره العسكري نوري السعيد بالبقاء في العاصمة لمفاوضة الفرنسيين، لعله ينجح في إيجاد مخرج يرضي كلا الطرفين ويعيد الملك إلى عرشه. بعض المسافرين معه ظنّوا أن إقامتهم في ريف دمشق لن تطول وأن الحكومة البريطانية الداعمة لفيصل سوف تتدخل مع نظيرتها الفرنسية لإعادته إلى العرش ضمن شروط جديدة وتسوية سياسية. ولكن هذا لم يحدث طبعًا وفشلت كل مساعي نوري السعيد فتوجه الملك من الكسوة إلى مدينة درعا، أملًا أن تكون عاصمة مؤقتة لحكمه، فأصدرت فرنسا تعميمًا لأهالي حوران يوم 29 تموز/يوليو 1920، اُسقط عليهم من السماء بواسطة الطائرات الحربية، طالبتهم فيه بعدم تقديم أي مساعدة لفيصل وإلا سيكون عقابهم شديدًا.

رد فيصل على الإنذار من داخل خيمة عربية كان قد نصبها لاستقبال مشايخ حوران، مسطّرًا برقية إلى المندوب السامي الفرنسي هنري غورو جاء فيها أنه مقيم في جزء من بلاد كانت قد بايعته ملكًا قبل أربعة أشهر ولكنه مستعد لمغادرتها لأنه «يسعى دائمًا إلى إسعاد البلاد وأن لا يتضرر أحد من أبناء الوطن بسببه»[10]. حذره كثيرون من المغادرة القطعية، ومن بينهم أسعد داغر الذي قال: «أنتم تعلمون أنه ما من ملك ترك بلاده في مثل هذه الحالة ثم عاد إليها»[11]. ولكن نية الفرنسيين كانت قد اتضحت بإقصائه نهائيًا عن سورية وتحميله وزر هزيمة الجيش السوري في ميسلون، مع إذلاله قبل المغادرة. ومن ضمن الإجراءات التي اتخذت بحقه مصادرة صفائح البنزين التي جاءت معه من دمشق إلى الكسوة فدرعا، والتي تم وضعها في مستودعات الجيش السوري. رفض القائمون على المستودع تسليمه البنزين بحجة أنها أصبحت مُلكًا للحكومة السورية التي لم يعد فيصل يمثلها[12]. قرر فيصل الرحيل إلى مدينة حيفا الفلسطينية لمقابلة المسؤولين البريطانيين هناك، لعلهم يساعدونه في محنته. هنا حصل فراق بينه وبين الكثير من وزرائه، فهاشم الأتاسي مثلًا عاد إلى سورية وعبد الرحمن الشهبندر توجه إلى مصر مع شكري القوتلي، أما مترجمه الخاص جميل مردم بك ففضل البقاء في فلسطين، ولكن بعيدًا من حاشية الملك المخلوع.

ثانيًا: إلى حيفا

في 1 آب/أغسطس 1920 غادر فيصل الحدود السورية واتخذ من هذه الرحلة القصيرة فرصة للتفكير بما حدث، ويبدو أنه قرر أن لا يسمح للمتشددين والمتطرفين بأن يفرضوا رأيهم عليه كما فعلوا في مراحله الأخيرة بدمشق، حيث إنهم قادوه إلى المواجهة العسكرية في ميسلون. كان قراره يومها مسايرة البريطانيين إلى أبعد حد، لكونهم الوحيدين القادرين على إعادته إلى عرشه المسلوب. كانت الإشاعات تصله من دمشق وأهمها أن الفرنسيين يفكرون بعودة العرش إلى سورية، ولكن بعد إعطائه للأمير محمّد سعيد الجزائري، الذي كان قد ألّف حكومة انتقالية سنة 1918 وأدار البلاد في المرحلة الفاصلة ما بين خروج العثمانيين ودخول القوات العربية[13].  لم يُفكر للحظة أنه سيعود بعرش بديل في بلد غير سورية، علمًا أن أول إشارة إلى إمكان توليه عرش العراق كانت في رسالة بتاريخ 31 تموز/يوليو 1920، مُرسلة من حاكم العراق الإداري أرنولد تالبوت ويلسون إلى وزارة الخارجية في لندن. جاء فيها: «هل حكومة صاحب الجلالة مستعدة للتفكير في إمكانية إعطائه (أي فيصل) إمارة العراق؟ فهو وحده بين العرب من يملك القدرة على إدارة حكومة مدنية هنا»[14]. كتب هذا الكلام في وقت كان فيصل لا يزال على الأراضي السورية، بعد أسبوع واحد فقط من معركة ميسلون.

في طريقه إلى حيفا توقف فيصل في محطة عفولة، وقد ذهل بفاتورة الاستراحة البريطانية التي قدمت القهوة والشاي لصحبه. تذكر أنه غادر دمشق على عجالة ولم يأخذ معه ما يكفي من المال لتسديد نفقات السفر، ظنًا أن عودته إلى دمشق ستكون قريبة[15]. أبرق إلى أبيه طالبًا المساعدة المادية، فأرسل له الأخير خمسة وعشرين ألف جنيه، ذهبت معظمها لتسديد نفقات إقامته في حيفا[16]. نزلت حاشية الملك في فندق نصّار وحلّ فيصل ضيفًا على سيدة بريطانية اسمها مس نيوتن كانت من المؤيدين للقضية العربية، لم تأخذ منه أي أجرة[17] ومن دارها الصغير في حيفا كتب فيصل رسالة مطولة إلى أبيه، شرح فيها ملابسات خروجه السريع من دمشق قائلًا: «كنا مُجبرين على إظهار ليونة، نظرًا لتفوق قوتهم وضعفنا. كانت حياتي في خطر وكذلك حياة الحكومة. الناس بدأوا يتدفقون تجاه الجبهة من دون سلاح، ولم يكن باستطاعتنا الوقوف في وجههم. السوريون فضّلوا الموت عن الاستسلام». كان الشريف حسين غاضبًا من تعامل الفرنسيين مع ابنه وقد كتب للحكومة البريطانية احتجاجًا جاء فيه: «إن إنذار غورو لفيصل يشعرني بهدر كرامتي والمساس بشرفي»[18]. وجه الشريف حسين خمس نداءات إلى حكومات الدول العظمى دفاعًا عن ابنه ومطالبًا بإنصافه، ولكن جميعها رفضت التدخل لمصلحة فيصل[19].

في حيفا حاول فيصل استعادة علاقاته القديمة بأصدقائه الإنكليز واستقبله الحاكم البريطاني الكولونيل إدوارد ستانتون، الذي أكد له أن حكومة بلاده لم تغيّر موقفها منه وأنها ما زالت تعدّه حليفًا لها. ولكن هذا الكلام بقي حبرًا على ورق، لا معنى حقيقي له على أرض الواقع. وفي ظلّ التطورات السياسية المتسارعة، حاول الاتصال بالجنرال إدمون أللينبي، قائد الجيش البريطاني في الشرق الأوسط، الذي رافقه إلى دمشق يوم دخوله إليها قبل عامين، وكان يومها مقيمًا في الاسكندرية بعد تعيينه مندوبًا ساميًا في مصر[20]. ولكن الجنرال أللينبي رفض حتى التحدث مع فيصل، وكتب رسالة إلى حكومته قائلًا: «لا أملك أي نصيحة لفيصل لأني لا أعرف موقف حكومة صاحب الجلالة تجاهه. وأي تواصل معه سيزعج الفرنسيين. أقترح إرساله إلى أي محطة على طريق الحجاز ومن ثمّ نقله فورًا إلى المدينة المنورة»[21]. تجاهل أللينبي له مثل صدمًة كبيرة لفيصل الذي كان يعدّه صديقًا منذ أيام الثورة العربية، ولكنه لم يستسلم وأرسل عدة برقيات أخرى إلى الخارجية البريطانية، قائلًا إنه لا ينوي تأجيج أي خلاف بينهم وبين الفرنسيين، أو القيام بأي فعل محرج تجاه الحكم الفرنسي في سورية. طلبه الوحيد كان الإنصاف وإيجاد حل يعيده إلى سورية بصورة سلمية. هذا مع العلم أن الفرنسيين، وخلال وجوده في حيفا أصدروا سلسلة من قرارات الإعدام شملت معظم رجالات فيصل من الوطنيين السوريين، مما أجبرهم إما على البقاء في فلسطين أو التوجه إلى مصر، بحثًا عن حياة جديدة بعد أن أدركوا أن احتمال عودتهم مع مليكهم إلى سورية باتت مستحيلة.

ثالثًا: من فلسطين إلى مصر

بقي فيصل في حيفا أسبوعين، من دون أي اجتماع مُجدٍ مع الإنكليز، فمعظم زواره كانوا من الفلسطينيين الداعمين له أو السوريين القادمين معه من دمشق. وعندما عَلم أن رئيس وزرارء بريطانيا لويد جورج مسافر إلى سويسرا لحضور اجتماعات عصبة الأمم، شد فيصل الرحال إلى مصر يوم 18 آب/أغسطس، بهدف الإبحار من بور سعيد إلى ميناء نابولي الإيطالي ثم التوجه إلى سويسرا لمقابلة لويد جورج. كان فيصل قد تعرف إلى لويد جورج في باريس سنة 1919 وولدت علاقة متينة بينهما، ظنها كفيلة بإنصافه ذلك الصيف. لم يجد أي سفينة مدنية للإبحار إلى إيطاليا فركب في سفينة شحن اسمها «ستروبي»، وهو ما زاد من شعوره بالمهانة والذل. كانت رحلة شاقة ولكنه أُجبر على اتخاذها لتجنب المرور عبر الأراضي الفرنسية، خوفًا من الاعتقال. وعندما وصل إلى محطة اللد وهو في طريقه إلى مصر كان في استقباله السير هيربرت صاموئيل، المندوب السامي البريطاني، ومعه مئة من حرس الشرف ظنهم فيصل فرقة عسكرية مُرسلة لاعتقاله[22].

لم تكن الحكومة المصرية تعترف بفيصل بعد خلعه عن عرش سورية، لذلك اعتذر السلطان فؤاد (الملك فؤاد لاحقًا) عن إرسال أي تشريفات مصرية لاستقباله أو مساعدته، وقد شوهد فيصل في إحدى المحطات المصرية وهو يجلس مع حقائبه، مثله مثل أي مسافر، بانتظار نقله عبر قناة السويس إلى بور سعيد[23]. تقدم منه عبد الملك الخطيب، ممثل الشريف حسين، وقدم له جوازات سفر صادرة عن مملكة الحجاز لتسهيل مروره إلى أوروبا، لأن جوازه السوري كان قد ألغته سلطات الانتداب الفرنسية[24]. وحمل الخطيب رسالة شفهية من الشريف حسين، بأن لا يدخل فيصل إلى الأراضي الفرنسية مهما جرى، وأن تكون محادثاته مع الإنكليز حصرًا دونًا عن غيرهم من الأوروبيين، وأن تكون مبنية على مراسلات الحرب بين الشريف وهنري ماكماهون. وقبل مغادرة الأراضي المصرية قرر فيصل التخلي عن ما تبقى من أعوانه القادمين معه من سورية، لعدم توافر ما يكفي من النقود لتحمل أعباء سفرهم إلى أوروبا، واختصر «الوفد الشريفي» على شقيقه الأمير زيد ومستشاره نوري السعيد ووزير معارفه الأسبق ساطع الحصري ومرافقه الخاص تحسين قدري وكبير أمنائه إحسان الجابري[25]. ثلاثة من هؤلاء، الحصري وقدري والجابري كانوا من السوريين. في محطة اللد، سمع فيصل من عبد الملك الخطيب أن إشاعات تدور في الأروقة السياسية بأن الإنكليز يفكرون بتعيينه ملكًا على العراق، ولكنه لم يبدِ تجاهها الكثير من الأهمية[26].

رابعًا: في إيطاليا

بعد وصولهم إلى إيطاليا، افترق ساطع الحصري عن المجموعة بطلب من الملك للتوجه إلى تركيا، في محاولة للحصول على دعم من مصطفى كمال أتاتورك[27]. هذا وقد وصل فيصل إلى ميناء نابولي يوم 25 آب/أغسطس وقرأ في الصحف الإيطالية خبر مقتل علاء الدين الدروبي، رئيس وزراء سورية، وأن ثورة مسلحة قد انطلقت ضد الفرنسيين في الساحل السوري وفي مدينة أنطاكيا وفي ريف إدلب شمال البلاد وفي سهل حوران. عززت هذه الأخبار من تفاؤل فيصل، ولعلها بعثت قليلًا من الأمل في داخله، مع شيء من التشفّي لأن الدروبي الذي كان قد عيّنه في منصبه قبل مغادرة دمشق كان هو المسؤول عن إبعاده من سورية، تنفيذًا لأوامر الفرنسيين. ومن نابولي، توجه فيصل إلى العاصمة الإيطالية للاجتماع مع البروفيسور بونفانتي، أحد أساتذة القانون في جامعة روما، وطلب منه تحضير ملف دفاع عن موقف سورية، أراد أن يقدمه إلى عصبة الأمم في سويسرا لحظة وصوله[28].

من روما توجه فيصل بالقطار إلى مدينة ميلانو ولكنه تفاجأ بزيارة حداد باشا، معتمد الحكومة الفيصلية في أوروبا، حاملًا رسالة شفهية من الحكومة البريطانية تمنى عليه عدم التوجه إلى سويسرا وعدم مقابلة لويد جورج. قالوا إنهم لا يفضلون وجود الملك مع رئيس الوزراء في المدينة نفسها، لكي لا يحدث أي لقاء بينهما لأنه لو تم فإن لويد جورج «ليس مستعدًا لتلبية طلباتكم»، وهذا سيؤثر سلبًا في علاقته مع حلفائه الفرنسيين وفي علاقة فيصل بحكومة صاحب الجلالة[29]. رفض جورج مقابلة فيصل لعدة أسباب، أهمها الثورة المشتعلة في العراق وبقايا الثورة المصرية التي كانت قد انطلقت ضد الإنكليز سنة 1919. إهماد كلا الحركتين كان أضرّ كثيرًا بالنسبة إليه من إيجاد حلول للقضية السورية التي كانت بريطانيا قد أوكلتها كليًا إلى فرنسا. طلب الإنكليز من فيصل المكوث في إيطاليا لقليل من الوقت (دون تحديد مدة زمنية) ووعدوه بترتيب زيارة له للندن «في قريب العاجل». كان فيصل قد حجز غرفًا له ولصحبه في فندق لوسيرن في سويسرا، حيث كان لويد جورج يقضي إجازة الصيف، وأرسل أحد معاونيه اللبنانيين رستم حيدر لترتيب الزيارة[30]. تفاجأ الأخير بأن الملك قد ألغى حجوزات الفندق من دون إبلاغ أحد من معاونيه، وتوجه إلى بلدة فاريزي الإيطالية القريبة من ميلانو، حيث أقام لمدة أيام قبل الانتقال إلى مدينة كومو القريبة من الحدود السويسرية، بانتظار أي إشارة من الإنكليز.

في كومو، نزل فيصل في فندق فيلا ديتسي العريق، وأنزل مرافقيه في فندق الميتروبول المتواضع، نظرًا إلى ضيق الموارد المادية. التحق به رستم حيدر قادمًا من سويسرا الذي علّق على الفندق في مذكراته قائلًا إنه «نزل وسط لا يليق بملك»[31]. ولكن فيصل قال لأعوانه بوضوح إن من يرغب بتغيير الفندق، فعليه أن يفعل ذلك من ماله الخاص لأن مخصصات الوفد تكاد تنتهي[32]. بقي فيصل في كومو ثلاثة أشهر، منتظرًا برقية من لندن لم تأتِ أبدًا. غضب كثير من هذا التجاهل وحالة الانتظار وهدد بأن يمد يده إلى السوفيات لو بقيت إنكلترا على موقفها الغامض تجاهه. قال لرستم حيدر: «ما الفائدة (من الانتظار)؟» فرد الأخير: «عيشتنا قبيحة جدًا، ويود المرء أن يترك كل شيء ويذهب ولكن من الحمية أن يبقى ويصبر»[33]. والده الشريف حسين كان ينصح فيصل بالعودة إلى الحجاز، والإقامة في مدينة الوجه على شاطئ البحر الأحمر، ظنًا أن في هذا الابتعاد صونًا لكرامته، ولكن فيصل رفض ذلك بشدة قائلًا إنه لو تراجع الآن فسيكون ذلك نهاية لفكرة الدولة العربية التي كان يناضل من أجلها[34]. وقد قال فيصل بوضوح إنه يفضل الموت على العودة إلى حياة طبيعية في الحجاز[35]. وقد زاد متاعب فيصل أنه تعرض لحادثة سرقة في إيطاليا، عندما دخل إلى غرفته لص وسرق 175 جنيهًا وستة آلاف فرنك سويسري[36]. ثم جاءت شقراء أوروبية للتعرف إلى فيصل، وشكك الملك بنياتها فطلب من أحد النزلاء الأوروبيين الجلوس معها والتعرف إلى شخصيتها الحقيقية. فبعد جلسة طويلة من المُسكرات، اعترفت أنها تعمل لمصلحة جهاز استخبارات أوروبي وهي مكلفة بمراقبة فيصل خلال وجوده في إيطاليا[37].

فقد فيصل صبره، وفي 11 أيلول/سبتمبر 1920، كتب رسالة مطولة إلى لويد جورج، مؤلفة من ست وعشرين صفحة، أعاد فيها تفنيد موقفه المتعلق بسورية، مطالبًا بلقاء الأخير للتباحث بشكل واضح وصريح عن مستقبله ومستقبل مُلكه[38].  قال إنه ينتظر المقابلة منذ أشهر وأنه لا يستطيع أن يبقى في هذه الحالة إلى الأبد. تبعها برسالة لشقيقه الأمير زيد، الذي كان قد عاد إلى الحجاز، قائلًا: «لا أعرف ما هي نية البريطانيين تجاهي، ولكني لا يمكن أن أفقد الأمل»[39]. وفي 21 تشرين الأول/أكتوبر 1920 بعث برسالة إلى صديقه اللورد جورج كورزون، وزير خارجية الحكومة البريطانية، طالبًا الإذن بزيارة لندن لمقابلة الملك جورج الخامس، بحجة تقديم الشكر على بعض الهدايا التي كان قد أرسلها الأخير لأبيه، وهي عبارة عن سيف قديم وساعة. حُملت هذا الرسالة باليد إلى لندن بواسطة نوري السعيد، وجاء جوابها بعد عشرين يومًا، في 1 تشرين الثاني/نوفمبر 1920، بأن ملك إنكلترا بات جاهزًا لاستقبال ملك سورية الأسبق في لندن.

 

خامسًا: السفر إلى بريطانيا

كان لفيصل عدة أصدقاء ومناصرين في أروقة الحكم البريطاني، أدّوا دورًا محوريًا في إقناع الملك بمقابلته. أبرز هؤلاء طبعًا كان الوزير كورزون والضابط البريطاني توماس لورانس، صديق فيصل القديم من أيام الثورة العربية الذي عرف بلقبه الشهير «لورانس العرب». لم يخفِ لورانس إعجابه الشديد بفيصل وقاد حملة علاقات عامة لمصلحة الملك، كما كتب عنه في كبرى الصحف البريطانية كـ الأوبزيرفر والتايمز، واصفًا فيصل بأنه «صديق وفيٌّ لبريطانيا، لا يجب التخلي عنه أبدًا». وأضاف أنه يمتلك الكثير من الصفات الحميدة، منها اللباقة والحكمة والخبرة العسكرية التي لا يضاهيه فيها أحد في الوطن العربي. إضافة إلى كورزون ولورانس، كان لدى فيصل مناصرون كثر بين موظفي وزارة الخارجية مثل معاون الوزير شارل هانديدج وخليفته السير أير كرو، ومعهم هيوبرت يونغ وهو مسؤول مكتب المنطقة العربية في الخارجية البريطانية الذي كان قد خدم مع فيصل في الثورة العربية. جميع هؤلاء الموظفين كانوا متأثرين بلورانس ويولون لمشورته الكثير من الأهمية في رسم سياسات الشرق الأوسط. وأخيرًا كان الخبير السياسي غاربيت الذي كتب للوزير كورزون عشية وصول فيصل إلى لندن: «لو قبل الحلفاء، سيكون فيصل أميرًا جيدًا في العراق»[40]. ولكنهم وعندما عرضوا هذه الفكرة على حلفائهم الفرنسيين، قوبلت باستنكار شديد، نظرًا إلى تاريخ فيصل المعادي لهم في سورية[41]. وقد ردت الحكومة الفرنسية رسميًا على كتاب لويد جورج قائلة إنه لو توّج فيصل ملكًا على العراق ستعتبره باريس «تصرف لا ينتج عن صديق».

لم تكن السفرة إلى لندن أقل مشقة من سفر الملك من سورية إلى فلسطين ومن ثم إلى إيطاليا، فقد سلك طريقًا طويلًا لتجنب المرور بالأراضي الفرنسية، أخذه إلى النمسا أولًا ثم إلى ألمانيا ومن ثم إلى بلجيكا. كان من المفترض أن يعبر مدينة بازيل السويسرية ولكن حكومة جنيف رفضت استقباله بإيعاز من الفرنسيين، فأجبر إلى السفر عبر معبر برينز الجبلي، بمرافقة ضابط ألماني يدعى فريتز غوبا، الذي أصبح سفيرًا لبلاده في العراق بعد سنوات، وقد كتب عن تجربته القصيرة مع فيصل يومها وكيف توقف الموكب في نقطة عسكرية داخل ألمانيا كانت تابعة للجيش البريطاني قبل استبداله بجيش فرنسي. «أطفأنا الأنوار في الكابين، وكان الملك عصبيًا بعض الشيء، يمشي في ممر القطار جيئة وذهابًا»[42]. مر الموكب بسلام ولكن الأمير عادل أرسلان، المحكوم بالإعدام في سورية من جانب الفرنسيين، أخرج مسدسه وفتح صمام الأمان قائلًا: «لن يقبض علي الفرنسيون حيًا»[43]. في نهاية الطريق وعند وصولهم إلى المعبر الحدودي مع بلجيكا، شكر فيصل الضابط الألماني وقدم له ساعته الشخصية، ماركة «لونجين،» شكرًا على مرافقته[44]. ويبدو أن هذا التصرف كان عُرفًا لدى فيصل الذي كان قدم ساعته الشخصية للاعبي فريق كرة القدم الدمشقي بعد فوزهم على الجيش البريطاني سنة 1919.

سادسًا: أوضاع العراق بعد ثورة العشرين

حصل فيصل على أوراق اعتماد من أبيه الذي كلّفه برئاسة وفد مملكة الحجاز إلى مؤتمر الصلح، وذلك لتسهيل دخوله إلى بريطانيا بجواز سفر حجازي يوم 1 كانون الأول/ديسمبر 1920. الحكومة البريطانية كانت بِحيرة من أمرها حيال الوضع الأمني في العراق الذي كانت قد احتلته في 11 آذار/مارس 1917 خلال الحرب العالمية الأولى. تألفت لجنة إدارية لبلاد ما بين النهرين برئاسة اللورد كورزون، وكان الأخير يبحث عن حاكم عربي للعراق، ذي صدقية واحترام، ويُفكر جديًا بتكليف فيصل بهذه المهمة[45]. وكان يوجد اقتراح ثانٍ بإنشاء إدارة مشتركة لولايتي البصرة وبغداد وإنشاء مجلس حكم مشترك بين بريطانيين وعراقيين يرأسه عبد الرحمن النقيب، أحد أعيان بغداد الذي أصبح أول رئيس للوزراء في تشرين الثاني/نوفمبر 1920 [46].

فيصل لم يكن بعيدًا من الأوضاع العامة للعراق، نظرًا إلى كثرة المرافقين العراقيين المحيطين به. خلال سنوات حكمه في دمشق وصل عددهم، ما بين سورية والحجاز، إلى 385 [47]. تعاون فيصل مع عدد كبير من هؤلاء الضباط مثل نوري السعيد، الذي عمل مستشارًا عسكريًا له خلال الفترة السورية، وجميل المدفعي قائد موقع دمشق، وعلي جودت الأيوبي الحاكم العسكري لمدينة حلب، وجعفر العسكري مستشار الملك للشؤون العسكرية، وناجي سويد والي مدينة حلب وياسين باشا الهاشمي رئيس ديوان الشورى الحربي، وطه الهاشمي مدير الأمن العام في سورية[48].  كان لهؤلاء تأثير بالغ في فيصل، وقد بعثوا برسالة مشتركة إلى لويد جورج في 24 حزيران/يونيو 1919، بعد الحصول على مباركة من مليكهم، يطالبون فيها بإنشاء حكومة موحدة للعراق. ويبدو أن فيصل نفسه قد تبنى هذا الموقف نيابة عن رجاله العراقيين وطالب بإيجاد حل لمستقبل العراق، بعيدًا من مؤتمر الصلح ومن إدارة البريطانيين في الهند أو في مصر. ولكن لم يفكر أن يكون هو المرشح لتولي الحكم في هذا البلد.

وصل فيصل إلى لندن بعد أقل من شهرين من إهماد الثورة العراقية التي كانت قد انطلقت ضد الإنكليز في صيف عام 1920، وتعامل معها البريطانيون بعنف مُفرط. جاءت الثورة بعد إعطاء بريطانيا حق الانتداب على العراق في نيسان/أبريل 1920، خلال مؤتمر سان ريمو، وجمعت بين المسلمين السنّة والشيعة في شهر رمضان من ذلك العام لتهز عرش بريطانيا في كبرى المدن العراقية. انطلقت الثورة العراقية بعد أشهر فقط من اندلاع ثورة مماثلة في مصر، قادها سعد زغلول ورفاقه ضد الإنكليز. كلفهم قمع الثورة العراقية أربعين ألف جنيه إسترليني، وهو أكثر من تكلفة الثورة العربية الكبرى، إضافة إلى حياة 500 جندي بريطاني وستة آلاف مواطن عراقي[49]. الحاكم البريطاني ويليسون كان متوجسًا من علاقة فيصل بضباطه العراقيين وعدّه داعمًا لنشاط الثوار، وشاركه هذا الرأي الجنرال أيلمر هالدين، الحاكم العسكري البريطاني في العراق. حذر هؤلاء حكومتهم من استقبال فيصل فردّ هربرت يونغ من وزارة الخارجية يوم وصول فيصل إلى لندن قائلًا: «أنا لا أعتقد أن فيصل مسؤول عن ما حدث بالعراق، ولا بأي شكل من الأشكال»[50].

 1- في لندن

كانت هذه هي زيارة فيصل الثالثة للندن، المدينة التي أحبها كثيرًا وحاول الاقتداء بها خلال فترة حكمه في كلّ من دمشق وبغداد. قبل لقائه مع الملك جورج، قُدمت له عدة ارشادات من قسم البروتوكول في القصر الملكي، أهمها أنه يجب عدم فتح أي موضوع إشكالي مع الملك، لا عن ما حدث في سورية ولا عن الوعود التي قطعت خلال الحرب بين الإنكليز والشريف حسين. ولكن يبدو أن قسم البروتوكول لم يكن قد أبلغ الملك جورج أي من تلك الإرشادات وقد تكلم مع فيصل في كل الممنوعات، وقال له بحزم: «لا تخف من الفرنسيين، فنحن نقف وراءك»[51]. كان اللورد كورزون حاضرًا ولاحظ أن فيصل لم يرتدِ عباءته العربية المعروفة فقال له: «أين هي عباءتك الحلوة يا جلالة الملك؟» فأجابه فيصل: «إنهم شلحوني بلادي يا حضرة اللورد فشلحت عباءتي». فقال كورزون: «ستلبس أحسن منها»[52]. ويبدو أن هذه كانت أول إشارة مبطنة من الإنكليز عن قرب توليه عرش العراق.

انتقل فيصل، بطلب من مضيفيه، من فندق كلاردج حيث كان يقيم إلى شقة مفروشة في بيركلي سكوير غرب لندن، التي تحولت إلى محج لعدد من السياسيين البريطانيين، من بينهم لورانس وكورزون، إضافة إلى الجنرال إدوارد بولفين، أحد ضباط الإنكليز في الثورة العربية وحاكم حيفا الأسبق إدوارد سانتون وحاييم وايزمان، رئيس الوكالة اليهودية. كان فيصل قد التقى به في العقبة مطلع عام 1919 ووصلا إلى اتفاق إشكالي اعترف به الأخير بحقوق اليهود في فلسطين مقابل دعمهم لدولته ودوره المستقبلي في الشرق الأوسط. أبقى فيصل على هذه الصلة مع وايزمان، وأقام عشاء على شرفه نظرًا إلى علاقاته المتينة مع المسؤولين البريطانيين، ظنًا أنه قادر على مساعدته على العودة إلى سورية. وقد حضر المأدبة على شرف وايزمان اللورد لوثيان، سكرتير لويد جورج[53]. في 9 كانون الأول/ديسمبر 1920، عرض عليه البريطانيون فكرة تولّيه عرش العراق، وعندما سُئل فيصل عن رأيه قال إنه لا يرغب بذلك خشية من غضب شقيقه الأمير عبد الله الذي كان وعد بعرش العراق[54].

2 – إشكالية الأمير عبد الله

كانت قضية الأمير عبد الله قد بدأت تكبر وتُقلق البريطانيين، بعد أن جمع جيشًا في معان وهدد بالهجوم على سورية لتحريرها من الحكم الفرنسي. رأى الإنكليز في تصرفه إحراجًا لهم، وظنه الفرنسيون مُرسلًا من جانبهم للفت انتباه العالم عن الاضطربات في كل من العراق وفلسطين ومصر. طلب الإنكليز من فيصل التوسط مع أخيه للبقاء في شرق الأردن وإقامة حكم هناك، بدعم مالي وعسكري بريطاني، وقبل فيصل بذلك وأبرق إلى أبيه ثلاث مرات خلال الحقبة ما بين 7- 16 كانون الثاني/يناير 1921، طالبًا منه التوسط مع عبد الله لقبول العرض. جاء في إحدى تلك الرسائل: «القلاقل في شرق الأردن سوف تدمر مفاوضاتنا في لندن»[55]. وقال لمضيفيه الإنكليز: «أخشى من أن والدي لن يقبل بذلك»[56]. وأصر فيصل على أنه لن يقبل بعرش العراق إلا في حال تنازل عبد الله عنه أو قبوله بإمارة شرق الأردن[57]. وكان لقبول عبد الله بالعرض دور مهم في تكريس ترشيح فيصل لعرش العراق.

في 7 كانون الثاني/يناير 1920، جاء اللورد كينهان كرومواليس إلى شقة فيصل بلندن، ومعه عرض مُفصل مؤلف من خمس صفحات مُرسل من اللورد كورزون. لم يجد فيصل في شقته، حيث كان قد خرج لحضور عرض مسرحي فانتظر عودته. دار بعدها نقاش دام أربع ساعات حتى ساعة متأخرة من منتصف الليل، أصر فيه فيصل على موقفه السابق قائلًا: «الناس سيقولون إني جئت إلى هنا لأعمل لنفسي وليس لأمتي. شرفي أغلى عليّ من لقب الملك ولا يمكن أن أقبل بذلك. لن أرضى أن يقول إني انتهازي وسأقبل فقط عندما يتراجع الإنكليز عن عرضهم لعبد الله»[58]. وأضاف أنه لا يمكنه أن يقبل العرش من دون معرفة كل مخططات البريطانيين في العراق وكيف سيكون شكل الحكم في ظل الانتداب البريطاني[59]. وفي اليوم التالي لهذا الاجتماع، سافر فيصل إلى منزل صديق له في الريف الإنكليزي، إدوارد تورناور، بحضور لورانس والنائب عن حزب المحافظين ويليام أورنسبي غور، صديق ونستن تشرشل، وزير الحربية البريطاني المرشح لتولّي مكتب المستعمرات البريطانية الذي كان قيد الإنشاء. وفي هذا المكان، أبدى فيصل ليونة تجاه العرض البريطاني، ولكن بعد إرضاء عبد الله[60]. أصر أن يكون قبوله مبنيًا على روح التفاهم القائم بين أسرته والإنكليز منذ الثورة العربية، وأن يُطلب منه رسميًا تولي العرش. وقد وصف المضيف الإنكليزي الاجتماع قائلًا: «الملك فيصل كان رجل شجاع، موهوب وساحر. وكان أفضل «جنتلمان» عرفته في حياته. لقد سئم من السياسة، وتحديدًا السياسة الأوروبية، ومن كل الأوروبيين، إلا نحن أصدقاءه المقربين. عاملناه بقسوة في دمشق، فهل له أسباب أننا سنكون مختلفين في بغداد؟»[61].

في 10 كانون الثاني/يناير اجتمع لورانس مجددًا مع فيصل، وبعدها بثلاثة أيام اجتمع به اللورد كورزون في مبنى وزرارة الخارجية. يومها تطرق الحديث إلى قضية العراق أولًا وإلى مطامع الأمير عبد الله وإلى الهجمات المتكررة من الوهابيين على معاقل الشريف حسين في الصحراء العربية. وكانت خشية فيصل كبيرة بأن سلطان نجد عبد العزيز آل سعود سيواصل هجومه على مكة والمدينة بدعم مكتب الهند التابع للحكومة البريطانية. طالب بمزيد من السلاح لأبيه، وبزيادة المخصصات المادية لمملكة الحجاز، ولكن الإنكليز رفضوا ذلك متحججين بضيق مواردهم بعد الحرب العظمى[62]. عرضوا عليه العرش مجددًا وطلب فيصل مهلة للتفكير وإعطاء جواب رسمي ونهائي. وأكد لأحد معاونيه عوني عبد الهادي أنه لم تغمض له عين تلك الليلة بطولها، وكان يقول لنفسه: «هل أقبل عرش العراق، رغم أنه من حق أخي عبد الله، أم أرفض؟ إني إن قبلت هذا التاج يعتبرني أخي قد اعتديت على حقه، ولكن كنت أقول لنفسي من جهة أخرى قد يكون بالرفض ضياع العراق من أيدي آل هاشم وانعزال آل هاشم عن استمرارهم في خدمة العروبة. ثم قابلت اللورد كورزون وأبلغته موافقتي على ما عرض علينا، والله يعلم أننا ما قصدنا إلا الخير للعرب أجمعين ولم أكن أبغي نفعًا شخصيًا»[63].

3 – مؤتمر القاهرة

ولحسن حظ فيصل، كان الكولونيل لورانس قد نجح في إقناع الحكومة البريطانية بإنشاء مكتب خاص للمستعمرات في اليوم الأخير من سنة 1920. تولى ونستن تشرشل مهامه في 14 شباط/فبراير 1921، وهو قرر عقد اجتماع موسع مع خبراء الشرق الأوسط الإنكليز في فندق سميراميس بالقاهرة، برئاسته شخصيًا وحضور عدد من مناصري فيصل مثل لورانس والمستشارة غيرترود بيل، صديقة فيصل، وهربرت يونغ من وزارة الخارجية الذي كُلّف بإدارة اللجنة السياسية في مكتب المستعمرات. وقد تعاقد لورانس مع المكتب الجديد بصفة مستشار لمدة عام واحد وكان ضمن مهامه الرئيسية إقناع فيصل بتولي فيصل عرش العراق. فيصل نفسه لم يدعَ إلى مؤتمر القاهرة ولم يتم إعلامه بماجرياته إلا بعد حين[64].

افتتح المؤتمر في يوم 12 آذار/مارس 1921 وناقشت اللجنة السياسية أسماء المرشحين لعرش العراق، حيث قامت بشطب أسمائهم واحدًا تلو الآخر، ليبقى فيصل وحده بين المرشحين، لا يضاهيه أحد. ضمت القائمة رئيس الحكومة العراقية عبد الرحمن النقيب ووزير داخليته طالب باشا النقيب، العضو الأسبق في مجلس المبعوثان العثماني. ومن غير العراقيين، طرح اسم عبد العزيز آل سعود والأمير برهان الدين نجل السلطان عبد الحميد الثاني[65]. وبعد الإبقاء على فيصل أُرسل القرار إلى الحكومة البريطانية التي صادقت عليه في جلستها المنعقدة بتاريخ 23 آذار/مارس 1921. وفي 28 آذار/مارس، خطب تشرشل في مجلس العموم، شارحًا مقررات المؤتمر التي ضمت تنصيب فيصل في العراق والاعتراف بالأمير عبد الله في شرق الأردن ودعم الشريف حسين في الحجاز، مع عدم المساس بمستعمرات فرنسا في سورية ولبنان. قرر المؤتمرون في مصر إنشاء إمارات عربية تابعة لهم، تُحكم عن طريق وكلاء مؤتمنين وتهدف إلى تجنب تكرار ثورة 1919 في مصر و1920 في العراق. هذا وقد أشار تشرشل إلى ضرورة خفض الوجود العسكري البريطاني في العراق، لأسباب مادية وعسكرية، والاعتماد على سلاح الجو الملكي لإهماد أي قلاقل مستقبلية.

4 – إلى بغداد

لتبديد أي معارضة أوروبية لحكم فيصل الجديد، اجتمع كورزون مع ممثل عن الحكومة الفرنسية لإبلاغهم القرار وتوجه لورانس إلى القدس للاجتماع بالأمير عبد الله وتثبيت بقائه في شرق الأردن والقبول بعمّان عاصمة لحكمه بناء على مقررات مؤتمر القاهرة. غادر فيصل إنكلترا في مطلع شهر نيسان/أبريل، بعد إقامة طويلة دامت خمسة أشهر، متوجهًا إلى بور سعيد لمقابلة لورانس فور عودة الأخير من فلسطين والاستماع إلى نتائج مباحثاته مع عبد الله. وفي القاهرة، هبت وفود من المهنئين العرب لمقابلة فيصل، ضمت عددًا من أصدقائه السوريين والمصريين، مثل شكري القوتلي وسعد زغلول[66]. قال لهم فيصل: «لقد قبلت أن أرشح نفسي لعرش العراق، رغم معرفتي بالتهم التي سيلصقها بي بعضهم في العراق وفي خارج العراق، ولكني رأيت أني أخون وطني إذا اخترت النوم في فراشي بالحجاز، خشية شغب الناس علي، في الوقت الذي أشعر أنه في مقدوري أن أقوم بخدمة الوطن»[67].

وصل فيصل إلى مدينة جدة في 25 نيسان/أبريل 1921 واستُقبل استقبال الأبطال من جانب أبيه، الذي أقام عشاءً كبيرًا على شرفه[68]. كتب حسين رسالة إلى عبد الرحمن النقيب في بغداد قائلًا: «سأرسل لكم فيصل لمعاونتكم على حكم العراق». أبحر فيصل بعدها إلى مدينة البصرة على متن سفينة بريطانية، ومعه عدد من قادة ثورة العشرين المنفيين الذين حصلوا على عفو خاص من الحكومة البريطانية لإطفاء شرعية على الحكم الجديد، مثل السيد محمد الصدر ويوسف السويدي وعلوان الياسري، الذي عُيّن مستشارًا لفيصل للشؤون العشائرية. وصلوا جميعًا إلى البصرة يوم 23 حزيران/يونيو 1921، وكان في استقبالهم صديق فيصل ومستشاره جعفر العسكري، الذي بات وزيرًا للدفاع في العراق. وعلى المرفأ كانت أعلام الثورة العربية الكبرى التي كانت قد زُينت بها دمشق يوم دخوله قبل ثلاثة أعوام. كانت هذه هي المرة الأولى التي حطت أقدام الملك فيصل أرض العراق.

وفي الساعة السادسة صباحًا من يوم الثلاثاء 23 آب/أغسطس 1921، نُصِّب فيصل بن الحسين ملكًا على بلاد الرافدين، في حفل كبير أمام سراي الحكومة بساحة القشلة وسط بغداد، حضره ألف وخمسمئة شخص من الأهالي والمسؤولين البريطانيين[69]. هذا التاريخ ربما لا يعني شيئًا في التقويم المسيحي، ولكنه صادف يوم 18 ذي الحجة في التقويم الهجري، وهو يوم مهم لدى المسلمين الشيعة، وهم أغلبية سكان العراق، عَيّن فيه النبي، بحسب معتقدهم، صهره الإمام علي بن أبي طالب خليفة على المسلمين بعد العودة من حجة الوداع. ويبدو أن فيصل اختاره للتقرب من شيعة العراق وتذكير العراقيين كافة بنسبه الشريف لآل البيت. المنظر الاحتفالي لم يختلف كثيرًا عن حفل التنصيب الذي تم في دمشق، سوى أن فيصل كان أكثر خبرة وحنكة من قبل، وأن كرسي العرش كان أفخم هذه المرة، لأن السوريين لم يجدوا كرسيًا يليق بتلك المناسبة يوم 8 آذار/مارس 1920 واضطروا إلى استعارة كرسي دمشقي مُطعّم بالصدف من أحد أعضاء المجلس البلدي في العاصمة السورية[70]. ولكن في بغداد كان كرسيًا ملكيًا يليق بفيصل، جاء به البريطانيون بأنفسهم. كتبت مستشارته البريطانية غيرترود بيل: «لقد رمينا النرد والأيام القليلة المقبلة سترينا إن كانت ضربة رابحة»[71].

 

قد يهمكم أيضاً  الثروة النفطية والمشروع الاقتصادي الوطني في العراق : بديل الاقتصاد السياسي للريع النفطي

#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #العراق #الملكية #الملك_فيصل_الأول #الملكية_في_العراق #فيصل_الأول #ثورة_العشرين #العهد_الفيصلي #الحكم_الهاشمي #مؤتمر_القاهرة