«لم يكن محط انشغال الحداثة هو التقدم والرقي فحسب بل وكذلك الافتقار لهما وزوالهما. إن ذلك الافتقار لجدير هو أيضاً بالتفكر من منظور دلالة الحديث» (Ramaswamy, 2001: 5)

في تشرين الثاني/نوفمبر 2001، كان أحد اقتصاديي بنك استثماري في لندن يراجع جملة من الجداول باحثاً عن بيانات تؤرخ لإجمالي الناتج المحلّي على المستوى الدولي، جداول تقابلت أمام ناظريه فيها بلدان مجموعة السبعة (G7) بما أسماه «بعض أكبر اقتصادات السّوق الصاعدة». وقد توقعت استنتاجات الباحث أن البرازيل وروسيا والهند ستكون اقتصادات الصدارة في حدود 2050 متجاوزة اقتصادات الغرب الستة الأكثر ازدهاراً. بدا ذلك هائلاً ولكن الإسقاط لم يكن في النهاية بقدر مبالغة الادّعاء التي قد تستشفّ منه. فقد انتهينا على كل حال إلى أن لَحَظْنا على غلاف صحيفة جادة ذات سبع صفحات عنواناً يقول «بلدان البريكس تبني اقتصاداً كونياً أفضل» (O’Neill, 2001). كان ذلك على وقع نهاية سنة مالية وَسَمَتْها هجمات 11 أيلول/سبتمبر بحيث كان تزامن التلميح «إلى عالم أفضل» مع ميقات أعياد الميلاد مناسباً.

توالت السنون ولاقى الافتراض نجاحاً. ومنذ سنة 2001 صار للتنبؤ المستقبلي الذي أطلقه جيم أونيل (Jim O’Neill)، كبير المحللين في Goldman Sachs Bank، مناصرون؛ إذ شجعت الوسائط الإعلامية على خوض اقتصاديي السوق والتكنوقراط الحكوميين في المناقشة وحفزت بيعَ أدبيات التعلم الذاتي حول المنوال التنموي الكوني، تلك الأدبيات واسعة الشهرة على مواقع الاتجار في الكتب وعلى رفوف المتاجر في المطارات. في صلب المحاججة كان يمثلُ ذاك السؤال القديم: ما هي الإمكانات المتاحة أمام البلدان الطرفية للمشاركة في أجندة العالم السياسي من مواقع قيادية؟ وورد التوقع القائل بأن بلدان البريكس مقبلة على أن تكون القاطرة الكونية الجديدة ضمن مقالات وحوارات أخرى كتبها وأدلى بها أونيل (حيث حددت سنة 2050 ومن ثم سنة 2039 وأيضاً سنة 2032). وصارت الفكرة مركز جدل جمع بين هذه البلدان الصاعدة وموجة تنمية جديدة.

غيّرت فكرة البريكس حياة أونيل (جاعلة منه شخصاً واسع الشعبية وواضعة كتبه حول المنوال التنموي الجديد على رأس قائمة المبيعات، (O’Neill, 2011; 2013))، كما ساعدت على إعادة جدولة الأجندة السياسي لبلدان أطراف الرأسمالية الدولية (لا أجندة بلدان البريكس فحسب). بالطبع، لم يكن تقبل ما جاء في تمرين أونيل في المستقبليات محلّ إجماع حيث ظهر العديد من الانتقادات؛ بل إن البعض قال إن الافتراض مثير للسخرية لأنه بدا وكأنه رجم بغيب العام الجديد.

ولكن البعض أخذ ذلك الرجم بالغيب على محمل الجدّ، وكان أن شهد العام 2006 أول قمة رسمية حول بلدان البريكس بالتوازي مع انعقاد الجمعية العامّة للأمم المتحدة. وبعد فترة وجيزة كان أن صدّقت أزمة 2007 – 2008 على نبوءة أونيل مصيبة اقتصادات شمال الأطلسي بالشلل مع عدم المساس بالاقتصادات الصاعدة، وانتهت ما تسمى ببلدان البريكس إلى احتلال موقع أكثر مناسبة لها. لاحقاً، وفي سنة 2011، انضمت إلى الكتلة جنوب أفريقيا التي كانت جزءاً من IBSA كتلة البلدان الصاعدة الأخرى التي كانت تجمع جنوب أفريقيا إلى الهند والبرازيل، في ظل انتقاد العديد من الخبراء وانتقاد أونيل ذاته الذي اقترح الاستعاضة عن ذلك بدمج المكسيك أو تركيا. لقد انتهى الاسم الرمزي المكوّن بمختصر الحروف الأولى الذي صنعه أونيل إلى أن عزّز الاستعارة المستندة إلى اللّبنات (اسم لبنة البناء باللسان الإنكليزي يُنطق كما ينطق المختصر الرمزي الأوائلي للبرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا – المترجم) التي بها يُبنى معمارٌ جديد لاقتصاد العالم وسياسته وصارت البريكس حقيقة. وليس ذلك في نهاية الأمر مفاجئاً. ألم يقل روبرت مورتون (Robert Merton) إن التمثّلات هي «نبوءات ذاتية التحقّق» (1948).

أولاً: الحداثة وجغرافيات التنمية

ربما كان من المهمّ أن نمضي بحجة مورتن إلى مدى أبعد، آخذين بالاعتبار موقع التمثلات والنبوءات، بحيث ننظر في أجندة تمزج بين نظريات التنمية وسرديات الحداثة وتمرين تخيُّل الأمكنة وابتداعها (Place-imagining and Place-making)‏[1].

تسعى هذه الورقة إلى العودة التحليلية إلى هذه المحاور الثلاثة بحيث نرى الكيفية التي بها انتظم معجم التنمية على العموم حول تعارضات ثنائية (تجسدها البلاغة القائلة بوجود التنمية وغيابها) وساعد على تحديد نوع من سيميائيات الاختلاف ضمن دراسات التنمية. تحيل تلك المعاجم على الحداثة بوصفها شرطاً لتصور جغرافياتٍ تُجمع إلى الماضي والفقر والمستقبل أيضاً وكذا إلى الآمال في الازدهار. أخيراً، ننظر في مناسبة بلدان البريكس لتناول العلوم الاجتماعية مُحيلين المختصر الرمزي الأوائلي إلى وصف جغرافياتٍ (جغرافيات الازدهار والافتقار له)، وعائدين بالتحليل إلى باراديغمات ابتداع الأمكنة ضمن أجندة علم الاجتماع (الدراسات المناطقية (Area Studies) ومجادلات المناطق الثقافية).

لم يكن تخيُّل الأمكنة بوصفه سيرورة تخيل جغرافي امتيازاً حداثياً، إذ نذكر أن أفلاطون كان قد وصف الأطلنتيس سنة 360 ق. م.، فإن الحكايات حول الأراضي الرائعة باتت موضوعاً معتاداً لحقبة الحداثة. لقد سحرت التمثلاتُ والنبوءاتُ المتعلقة بأراضي الازدهار والتقهقر الخيالَ الأوروبي على امتداد قرون منذ العصور الوسطى، ولكنها فعلت ذلك بأثر أبلغ وقعاً خلال الأزمنة الحديثة عندما صار جزء مهمًّا من رحلات الاستكشاف الأوروبية الأولى يستوحي ميثولوجيات العوالم الرائعة المليئة بالكنوز الخارقة. وُجدت في تلك الحقبة تشكيلةٌ واسعة من الأساطير والسرديات حول سعادة أمكنة شُغف الاستعمار الأوروبي خلال الأزمنة الحديثة بالرغبة فيها موزّعة على أرجاء مختلفة من الأمريكتين وأفريقيا وآسيا (Johnson, 1998; Manguel and Guadalupi, 2000). كان ذاك هو الاعتقاد بوجود «مدينة القياصرة» (Ciudad de los Caesars) في بتاغونيا (Patagonia) بالأرجنتين، وأسطورة القديس بروندون (Saint Brendon) حول هاي برازيل (Hy Brazil) وهي جزيرة ذات ثروات لا تحصى تحيل على برازيل اليوم (أو نظريات القرن التاسع عشر الهندية حول القارة الأسطورية ليموريا (Lemuria) التي يعتقد أنها وجدت في ما بين أفريقيا والهند) والتي كرس لها راماسوامي عمله (Ramaswamy, 2001).

أنتجت الحداثة ترابطات نسقية بين أرجاء الكون، ذلك الأثر المتولد عن الاستعمار والتجارة والتبشير المسيحي والفضول الشديد حول الآخر (Stagl, 1985)، ليس هذا وحسب؛ بل وشابكت بين تمارين في تخيّل الأمكنة وابتداعها بوصفها جزءاً لا يتجرأ من مواقعية السلطة. لقد رأى إدوارد سعيد (Said, 1978) أن الحداثة وتخيّل السياقات (الناس والأراضي) التي كانت محلّ استعمار البلدان الأوروبية أسّسا لنفسيهما موقعاً حصرياً تميّز به المستعمِرون ذواتهم وكذا أبناؤهم وجهاز الدولة. عزّز هذا الظرف شرخاً يقابل بين المركز (أو المراكز) الذي (أو التي) يمتلك (أو تمتلك) قوة التخيّل والطرف (أو الأطراف) الذي (أو التي) يتم تخيّله(ـا) (سياسيّاً واقتصاديّاً واجتماعيّاً وثقافيّاً) بوصفه(ـا) تعبيراً عن سلطة الأوّل(ين). في هذا المعنى حلل سعيد الاستشراق بوصفه تكنولوجيا الغرب وسجِلّه السلطوي ذاك الذي يجمع ما بين التخيّل وإنتاج التمثّلات وهو ما يحيل على بنيةِ هيمنةٍ في خدمة الفعل الاستعماري تركت بصمة بليغة على التقسيم الدّولي للقدرات الثقافية وساعدت على تعزيز المعرفة بالآخر وبالآخرية. والواقع أن للمرء أن يقترح حواراً بين سعيد وراماسوامي. ففيما تمثل جزء أصيل من الحداثة بالانعكاس في التقدّم كما في الافتقار له سواء بسواء فإنّه وفي الآن ذاته أحال على هوّة تفصل بين المركز، أي المكان الذي يشهد الازدهار ويُؤوي صانع الخيال، والأطراف، أي المكان الذي يفتقر إلى الازدهار وتَنْذُرُهُ الأشعار مَوْضُوعاً لتمثلات المتروبول وسياساته.

ولئن لم يستخدم سعيد حجة اقتصاد التنمية الأخلاقي الذي يفصل «النحن» عن «الآخر» فإنه في تحليله للاستشراق بوصفه مقولةَ هيمنةٍ للغرب على الشرق يعالج بالضبط هذا التوتر القائم بين البنى المتوحدة الذي يميز الحداثة. هذا النوع من التمشي جزء من التأويل التاريخي الثقافي للسرديات الكبرى المتمحورة حول اختراع الآخرية وله آثاره في المجادلة حول النظرية الاقتصادية. ولقد تمّ تقديم الحجة الفوكوية (نسبة إلى ميشال فوكو – المترجم) من قبل العديد من الكتّاب لدى تأويلهم البنية الإيبيستيمية للاستعمار مثلما فعل مودينبي عندما عالج خطاب السلطة ومعرفة الآخرية (Mudimbe, 1988:1‑23).

منذ القرن الثامن عشر فصاعداً، سعت موديلات نظرية إلى تفسير التنوع (تنوع الشعوب واللغات والمناطق الترابية) في معنى كوني محاولة في الآن ذاته تحليل الاختلاف في معنى تراتبات تطورية تحوم حول مفهوم التقدم. من المحتمل أن يكون كتاب آدم سميث الكلاسيكي بحث في طبيعة ثروة الأمم وأسبابها (1776) واحداً من الأعمال التي افتتحت المجادلة حول الاقتصاد السياسي للتقدم مُقسّماً العالم بين «أمم مزدهرة» و«أمم متوحشة» (Smith, 1776). لقد كرّسَ بحثَه للإدلاء بتفسير اقتصادي وأخلاقي «لاختلاف التقدم في تحقيق الوفرة لدى الأمم المختلفة» في تقدمها نحو «الثروة والترقي».

يحيل مفهوما آدم سميث الثروة والتقدم إلى كوكبة سيميائية من الحجج التي ترتبط في النهاية بمفهوم خُلُقِ التطوّر مجموعاً إلى مقولات من قبيل الترقي والتقدم والثروة والحضارة… إلخ، واضعيْن تعارضاً بين «الأمم الثرية» (المتحضرة والمزدهرة) و«الأمم الوحشية والبربرية» (الهمجية والفقيرة). تتصور هذه الترسيمة التفسيرية – الاختلاف والتنوع – (في معانيهما التاريخية والاقتصادية والاجتماعية) مستسلمة لهَوَس جمعهما إلى فكرتي المُضيّ إلى الأمام والتقدم وإلى سرديات غيابهما سواءً بسواءٍ. يُعتقد في كون التقدم هو الغاية القصوى للبشرية ولكن منافعه تتوافر متفاوتة القسمة في ما بين الشعوب والمناطق الترابية. ولقد غذّت هذه الفرضية تعارضاتٍ ثنائية، هي متناقضات الحداثة، كان من شأنها أن نظّمت أفهام الآخرية منذ ما بعد التنوير. بالإضافة إلى تعزيزه بنية التعارضات في الفكر الاقتصادي، عزّز بحث سميث مجموعة من المقولات التي استُعملت بطريقة مستقرة إلى هذا الحد أو ذاك إلى حدود الحرب العالمية الثانية (Arndt, 1981 and Rist, 2008). وتعتبر فكرة «التقدم المادي» بوصفه مرادفاً «للتنمية الاقتصادية» واحدة من الأفكار ذات الموقع المركزي ضمن الجدل الاقتصادي الذي دار في الفترة الفاصلة ما بين أواخر القرن التاسع عشر وأواسط القرن العشرين.

تم استعمال مفهوم التنمية الاقتصادية من قبل اقتصاديي تلك الحقبة وكان حضوره ذا كثافة واضحة في الجدل الذي قام بين النظريات الاقتصادية ونظريات الإمبراطورية في أواخر القرن التاسع عشر وتمت المماثلة الجوهرية بينه وبين أفكار من قبيل التصنيع والتحديث والغَرْبَنَة (Marshall, 1890 and Schumpeter, 1911، من بين آخرين). كان يُنظر إلى الدفع بالتنمية الاقتصادية على أنّه خاصية مميزة للاستعمار الذي بات التفويض الذي جيّره لنفسه أكثر صراحة في منتهى القرن التاسع عشر مع استخدام مفهوم «الوصاية». يحيل مفهوم الوصاية (Arndt, 1981: 463 sqq) على المفهوم القانوني السياسي، الذي يمكن تلخيصه متمحوراً حول فكرة «التقدم الوصي» أو التقدم الذي يحصل من طريق المعونة التي تمنحها المراكز المتروبولية الاستعمارية، والذي سيصير واسع الشعبية حتى الحرب العالمية الثانية ويغنم في أثر ذلك معجماً جديداً ضمن نفس الدلالات السيميائية. خلال هذه الحقبة أعاد المفهوم بالأساس استكشاف الانقسامات الثنائية بين التنمية وغيابها وجدد المنظور المتمحور حول التقدم الوصيّ محوّلاً إيّاه نحو التدليل على «سياسات الترقي بالتنمية»، و«التنمية المدعومة» ونعوتها. لاحقاً، وخلال السنوات 1940 و1950، نجد مفاهيم «المناطق المتأخرة» و«الدول الفقيرة» و«المناطق المتخلفة» وقد عوضت مفهوم «الأمم الوحشية» الذي كان استخدمه آدم سميث.

يمثّل خطاب هاري ترومان ((Harry Truman(*) الافتتاحي جزءاً أساساً في هذه الحركة، لا بتعزيزه معجماً جديداً فحسب، بل وكذلك بتعزيزه وجوداً جديداً «للآخرية» مؤسّسة على عقلانية اقتصادية. «علينا أن ننطلق في مخطط جديد جريء بغية جعل فوائد ما حققناه من تقدم علمي وتقدم صناعي مُجَيّرَةً لفائدة ترقّي المناطق المتخلفة ونموها» (التأكيد من عند المؤلف). بتاريخ ذلك اليوم صار ملياران من البشر في عداد المتخلفين. ولئن لم يكن في استطاعتنا أن نتابع تقلبات المعجم فإننا نقف على بنية أزواج ثنائية متناقضة ما تزال قائمة وتستمر حتى اليوم في تعزيز النظرة التي ترى أن التقدم والتنمية يُهَيْكلان شيئاً ما، لنا أن نسمِّيَهُ مؤقتاً «سيميائية الاختلاف»، وهي سيميائية حولها انتظمت الأصناء المتناقضة للحداثة (Antinomies of Modernity) (Kaiwar and Mazumdar, 2003). ولقد كان من شأن هذه الأصناء المتناقضة أن غذّت النّظرة التي ترى أن الجغرافيا السياسية الدولية للتنمية نزعت إلى أن تحكم العالم انطلاقاً من تقسيمٍ قَابَلَ ما بين البلدان التي مركزت الثروة وتلك التي عجزت عن استكمال التنمية. تلخّص هذه السيرورة المديدة حجة راماسوامي القائلة بالنظر إلى الحداثة من خلال تجارب التنمية وغيابها، فتلك حقبةٌ بالغة الغنى بسرديات التنمية الكونية التي تشمل كذلك ميثولوجياتٍ ومعاجمَ جديدةً عبّرت عن انشغالات حيال توزيعٍ عادل للثّروة.

لم يكن التمرين الذي شرع فيه جيم أونيل حول تخيّل الأمكنة مُعتبِراً بلدان البريكس أمل المنوال التنموي الجديد أوّل تجربة في تحليل الوضعية مجموعاً إلى دعاوى التنبؤ المستقبلية حول تنظيم جغرافي سياسي دُوليّ يمكن أن يصير نبوءة ذاتيّة التحقّق. كانت ثمّة محاولات أخرى لإدراج معاجم وأنحاء جديدة للجغرافيات السياسية الدولية من منظور تعريفٍ ينطلق من ظرفية مخصوصة لآخريّةِ التنمية والتقدم. بكلمات أخرى كانت ثمّة محاولات أخرى لتعريف مناطق اللاتنمية واللاازدهار.

خلال شهر آب/أغسطس من سنة 1952، نشرت المجلة الفرنسية الأوبزرفاتور (L’Observateur) واحداً من أهم مقالات القرن العشرين تحت عنوان عوالمُ ثلاثةٌ وكوكبٌ. صار ذلك المقال الذي لم يتجاوز طوله نصف الصفحة معروفاً على اتساع العالم بأنّه هو من أوْجَد مفهوم العالم الثالث. وصف الكاتب، الجغرافي والديمغرافي الفرنسي ألفريد سوفي (Alfred Sauvy) (1898‑1990) العالم مُنقسماً بين قطبيْن ثنائييْن من القُوى المتعارضة، أسماهما «الشرق والغرب»، «الرأسمالية والشيوعية» تُساكنهما فيه كتلة من المناطق المتخلّفة هي بالأساس المستعمرات والمستعمرات الأوروبية القديمة في أفريقيا وآسيا والأمريكيتين والتي لم يكن لها من خيار إلا أن تنحاز إلى أحد العالميْن ممثّليْن بالقطبيْن اللذيْن يقودهما كلّ من الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة. غَنِم المقال وكذا اللفظ شعبية هائلة وساعدا على تعزيز السيميائية السياسية الخاصّة بالحرب الباردة بحيث بَدَوَا مرجعيةً إلزاميةً في ما يناهز تقريباً كلّ المجادلات التي شهدتها تلك الحقبة حول النظام الدولي. اشتُهر سوفي وغنم موقعاً بارزاً في المجادلة الفكرية وفي التراتيل المقدّسة لأجندة التنمية الكونية إذ صار عضواً في اللجنة المالية الفرنسية ورئيساً لمجلس الأمم المتحدة الاقتصادي والاجتماعي، ورئيساً للجنة السكان والتنمية وغدا شخصاً مفتاحياً في العديد من المؤسسات الأكاديمية‏[2].

أطلق مقال الأوبزرفاتور سيـلاً من النصوص الأكاديمية ومن برامج الترقية التنموية ومن الجدالات الإعلامية حول الاقتصاد الكوني،… إلخ اعتمد الكثير من ذلك على الفكرة التي ترى أن مفهوم العالم الثالث يمكن أن يختصر تقسيماً للكرة الأرضية بين دول ومناطق منتظمة هرمياً بين من فاز منها بسبق التنمية ومن أخفق فيه. ضمنها، كان من حقّق الازدهارَ والثروة من الدول والمناطق قد أنجز، بالتالي، الحداثة. وعلى هذا، تمّ تحويل مفهوم العالم الثالث إلى مفهوم ذي حقيقة إيبيستيمية وبالأحرى كثافة وجودية وتمّ تبنّيه من قبل وسائط الإعلام السّائد وضمن المجادلات الأكاديمية وكذا من قبل مؤسّسات الحَوْكَمَة الكَوْنيّة العاملة على التَّرَقِّي بالتنمية ومُواجهة التفاوت اللامتساوي.

منذ عام 1950 فصاعداً تُوّجت سلاسلُ من المبادرات بانبثاق معاجم جديدة كان القصدُ منها وصفَ البنية السياسية الكونية لما بعد الحرب العالمية الثانية وإعادة كتابتها. تولّد عن تأسيس جامعة الدول العربية (1945) ومؤتمر باندونغ (1955) والثورة الكوبية (1959) واجتماعات حركة عدم الانحياز (1961 فصاعداً) ومنظمة الوحدة الأفريقية (1963) وأزمة البترول ومشاركة منظمة الدول المصدرة للنفط (السنوات 1970) ولجنة براندت (Brandt Commission) (1980) ولجنة «الجنوب» (South Commission) (1986 ‑ 1987) من بين مناسبات أخرى بحثٌ عن مناويل للتنمية، ولكن تولدت عنها كذلك نزاعات حول التصنيفات الدلالية التي طبعت الجغرافيات السياسية الكونية. كانت تلك هي حقبة نزع الاستعمار في آسيا وأفريقيا وبدا أن مفهوم العالم الثالث يشير بالتحديد إلى هذه الدول الجديدة المنبثقة من غسق أفول الاستعمار. ولكن فكرة العالم الثالث التي أتى بها ألفراد سوفي كانت تُخفي التمايزات الصّارخة بين سياقات أطراف الرأسمالية الممتدة من أمريكا اللاتينية إلى ما تعْسُر مُمَاثَلَتُهُ بها من مناطق آسيا وأفريقيا التي لمّا تزل آنذاك تكافح ضد الاستعمار خلال مجريات معيشها اليومي.

يمكن القولُ، تعميماً، إنّ أمريكا اللّاتينية كانت تترجح بين الاستيحاء مما كان يُعرّفُ على أنّه تجارب ناجحة في التقدم والتحديث ضمن العالم الأول وبين البحث عن سُبُل جديدة للتنمية الجهوية ممّا أمكنت رؤيته من خلال المجادلات البنيوية للجنة الاقتصادية لأمريكا اللاتينية والكاراييبي (ECLAC) أو من خلال نظرية التبعيّة. على الجانب الآخر من هذا العالم المتخلف بحثت البلدان الأفريقية والآسيوية عن مناويل جديدة يكون بمستطاعها أن تقطع من هيمنة الغرب الاستعمارية الجديدة. وآمنت بعضٌ من أقسام العالم الثالث بنبوءة سوفي وانضمّت إلى واحد من القطبيْن المهيمنيْن فيما سعت أقسام أخرى إلى استلهامات جديدة. وجد التباين في المعتقدات وفي السبل إلى التنمية تعبير في معجم الاختلاف وسيميائياته التي استُخدمت في وصف غياب التنمية في السّياقات الطّرفية.

تناسباً مع ذلك، جاهر مؤتمر باندونغ بالمطالبة بأجندة جديدة للتنمية والتقدّم المادّيّ بغية تصوّر معمار للسلطة دولي جديد خارج أطر الاستعمار (Chatterjee, 2005)، وكان ذات الانشغال حاضراً في صفوف أعضاء حركة عدم الانحياز التي عقدت أول اجتماع لها شهرَ أيلول/سبتمبر 1961، أو ضمن المطالبات بمشاركة سياسية أوسع للبلدان المنتجة للخيرات بزعامة منظمة الدّول المصدرة للنفط انطلاقاً من أزمة البترول التي كانت خلال سنوات 1970. لم يكن العالم الثالث مفهوماً كونيّ التبنّي يُحيل من خلاله المثقفون والسياسيون في أمريكا اللاتينية وآسيا وأفريقيا على أجندة التنمية الذي يمكن أن يُعرّف بلدانَ المنطقة. ففيما كرّس اللفظ في بعض أقسام العالم الآخريةَ والاختلافَ على أساس مؤشرات اقتصادية (حيث كان التحدّي الأكبر ماثـلاً في الدفع بالتقدّم المادّي بوصفه شرطاً للتغلب على الفقر)، كان من يتوجب صَرْعُه من الأعداء في سياقات أخرى ماثـلاً في «الاستعمار الجديد»، شبحِ الاستعمار، ذلك اللفظ الذي دشن استعماله رئيس إندونيسيا سوكارنو سنة 1955 وكرّسه سارتر وكوامي نكرومه وفرانز فانون وآخرون.

في أواخر سنوات 1960 ساعدت بحوث جديدة في التّفاوت اللامتساوي على تجديد المجادلات حول سيميائيات الاختلاف مُقترحةً معجماً آخر للتنمية. انبثق مفهوم «الجنوب» من المناقشات حول قضايا التفاوت اللامتساوي الكوني الذي تمّ اعتباره مُجسِّداً لعجز النظام الرأسمالي على إنتاج حالة من الرفاه الكوني (Gregory, 1994). في هذا السياق، اشترك «الجنوب» في نفس السيميائيات التي يسرت تقسيمات ثنائية أخرى نظّمت الأممَ على أساس التقابلات المتعارضة للحداثة مترادفاً مع ألفاظ من قبيل العالم الثالث والبلدان الطرفية وشبه الطرفية أو المتخلفة. عينت هذه المناقشات الانقسام شمال – جنوب من خلال التوسّع في «مظاهر التّفاوت المادّي» التي تميّز «أممَ الوفرة» (أمريكا الشمالية وأوروبا الغربية واليابان) و«البلدان الفقيرة» (في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينبة) التي تكافح من أجل قيام نظام اقتصادي دُوليّ جديد يكون بمستطاعه أن يراجع التوازن القائم غير القابل للديمومة. حينها كان «الجنوب» يماثِل «الأمم الفقيرة النّامية الموجودة في النصف الجنوبي من الكرة الأرضية» (Amuzegar, 1976: 547). وقد جعلت هذه المقاربة «الجنوب» شديد القرب من التّماهي مع فكرة سوفي المسماة العالم الثالث والتي تمّ تجسيدها في مبادرات من قبيل لجنة براندت (1977 – 1978) ولجنة «الجنوب» والتي أعادت وضع الجغرافيا الكونية على أسس ثنائية متناقضة وأحالت على قضايا من قبيل المعركة ضد الفقر وأسعار المواد في السوق الكونية والفساد والعسكرة وعلى الأخص التصنيع. على أن «الجنوب» سيظل لفظاً ذا رنين تعدديّ الأصوات على اعتبار ظهوره في سياقات مختلفة كثيرة وبمعانٍ واستعمالات مختلفة.

في بداية سنوات 1970 كان «الجنوب» يُستخدم على الأرجح بوصفه أداة للتمفصل السياسي مرتكزاً على المبادرات الناجحة لمنظمة الدول المصدرة للنفط للرفع من الأسعار الكونية للبترول وإلى تغيير ميزان القوى الكوني وإنْ بصفة ظرفية. بنجاحها في الدفع نحو تغيير أسعار النفط، حاولت البلدان المنتجة له أن تلهم حركةً سياسيّة لإنعاش أسعار المواد على المستوى الدولي بغية منح البلدان الطرفية دوراً سياسيا أكبر. في ذلك الظرف أشار مفهوم «الجنوب» إلى موقع للتلفّظ السياسي أكثر مما أشار إلى جغرافية للغياب أو الافتقار إلى التقدم المادي. لقد جرى توظيف المفهوم في حَلَبَةٍ أكثر اتساعاً بكثير من الفاعلين والأفكار ونظريات الترابط السياسي والاقتصادي بحيث نأى بنفسه عن شكل مُلطّف من الفقر الوَاسِمِ نَحْواً آخر من بُنى السلطة، ومؤسساً لعالم متعدد الأقطاب.

أنهت كل تجارب بناء المعاجم الجديدة هذه التي هدفت إلى وصف بنية السلطة الكونية التركيز على الثنائيات المتعارضة على ما وصفها به آدام سميث خلال القرن الثامن عشر وغير بعيد عن نظرات راماسوامي للحداثة (Ramaswamy, 2001). ثمة في كل هذه المناقشات مظهران للمجادلة العلمية الاجتماعية يأخذان بنظر الاعتبار الكيفية التي بها يمكن لبلدان البريكس أن تؤثر في أجندة العلوم الاجتماعية. فمن ناحية أولى يحيل هذا المدى المُعجمي أكثر من أي وقت مضى إلى المنازعات التصنيفية حول سيميائيات الاختلاف بين جغرافياتٍ تخَيَّلها المركزُ (وهي حالة ألفاظ من قبيل العالم و«الجنوب» في معنى ما) وتخيّلتها الأطرافُ هي ذاتها (من قبيل حركة عدم الانحياز). وبذلك هو يحيل على منازعة حول موقع التلفّظ وحول هوّية من يُعرّف جغرافياتِ التنمية وكيفيّات ذلك التعريف. إذا ما استعملنا تعابير إدوارد سعيد يكون السؤال: كيف يبني الطرف التمفصل بين تخيُّله لذاته وتعريفه إياها باعتبارهما من الصفات المميّزة لصاحب السلطة. فضـلاً عن ذلك، ومن بين المظاهر المهمّة في تخيّل هذه الجغرافيات في الفكر الاقتصادي كما في العلوم الاجتماعية كليهما أنّ تلك العناصر تسمح بالتفكير تفكيراً مقارناً بين السياقات (البلدان، المجالات الترابية… إلخ).

ما الذي خلق التماثل بين بلدان العالم الثالث ومناطقه؟ هي تشترك في اللاتنمية وتعمل على إيجاد التّسويات اللازمة للدفع بالتقدّم المادّي ضمن إطارٍ يجمع بين الطّرف والفقر والافتقار إلى الديمقراطية والتفاوت اللامتساوي (الاقتصادي والاجتماعي). في الأساس، يحيل العالم الثالث على إقصاءٍ من الاشتراك في منافع التنمية الاقتصادية والسياسات الكونية. ما الذي أوجد تماثلاً بين العناصر المكوّنة لحركات من قبيل باندونغ وحركة عدم الانحياز؟ هي الحاجة إلى الإجابة عن الاستعمار (والاستعمار الجديد) بوصفها طريقاً نحو الاعتراف بالأجندات السياسية والاقتصادية التي تميّز العلاقة بين المركز والطرف مُحَاكِيَة للتقسيم العالمي القديم بين المتروبولات والمستعمرات. وما الذي خلق التماثل بين العناصر المكوّنة للجنوب الكوني؟ هي الرغبة في تلفظ سياسي ضمن سياق كوني لمّا يزل يجمع بين الطّرف وبعض أشكال المشاركة الاقتصادية (كما في حالة منظمة الدول المنتجة للنفط والمصدرة له).

ثانياً: عناصر ترميق‏[3]؟

ولكن ما هو وجه الفرادة والمناسبة في ظهور ما يسمى بلدان البريكس؟ إنها نفس تلك الظرفية التي اعتملت في بلدان أطراف الرأسمالية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، عنيتُ توقع تغير منتظر يكون في المستقبل. وهذا يمثّل الاحتمال المرتقب الحقيقي في تجاوز بنى الاقتصاد العولمي التقليدي المتراتب التي ميزت كل القرن العشرين الواقع تحت أثر الثنائية القطبية السوفياتية الأمريكية (هذه التي اعتُبرت تجارب ومخططات تنمية) إضافة إلى العالم الثالث (باعتباره مُجسّداً لسيناريو التخلف). وهو يمثل كذلك الآمال في أن تتمكن هذه البلدان الصّاعدة من التعبير عن مطالب بلدان طرفية لم تكن مجرّد نتاج إقصاء اقتصادي وسياسي. وقد صار ذلك مناسباً بوجه خاص بينما كان العالم يواجه ظهور مشهد جغرافي – سياسي دولي متعدد الأقطاب. تتعرف بلدان البريكس على نفسها بوصفها موضوعاً لتخيّل المراكز إذ هي تحرم من تملك الجهاز المفاهيمي الضروري لبناء التمثلات الذّاتية.

لم تمنع كل هذه الانتظارات الإيجابية النقد الذي قال بعدم مناسبة مصطلح البريكس بوصفه تحالفاً أو تشكيـلاً سياسياً اعتباراً لما افترض في ما بين بلدانه من «الافتقار إلى التماثل». تولّد عن هذه الحجة خطّان من البرهنة متظافرين أحدهما اقتصادي والثاني علمي اجتماعي. في كلا الحالتين وهبت بلدان البريكس فرصة مهمّة لتجديد الثقة في القدرة التفسيرية للنظرية العلمية الاجتماعية المتعلقة بالرأسمالية المعولمة في جدالها مع النظرية الاقتصادية. لقد أحيت تجارب من قبيل ما ورد لدى اللجنة الاقتصادية لأمريكا اللاتينية والكاراييبي (ECLAC) أو في نظرية لتبعية أو نظريات النسق العالمي معيدة الاعتبار لمناسبة العلوم الاجتماعية ضمن أجندة نظريات التنمية.

تساعد فكرة البريكس على العودة إلى الجدال التاريخي حول نظريات التنمية (Rist, 2008) والتزامها بفهم للحداثة على أساس بنية ثنائيات متعارضة (Kaiwar and Mazumdar, 2003). الأثر الآخر الذي كان للفكرة هو أنها شجعت مراجَعَة للكسور الجغرافية – السياسية الكونية تجاه المجادلة حول التنمية أي حول تحليل الكيفية التي بها تتساوى مفاهيم من قبيل «المركز والأطراف» أو «التنمية والتخلف» في إطار يساعد على تعديل التدفقات المالية والأهمية السكانية والسياسية لمناطق معينة. ركز التحليل الاقتصادي على التساؤل إن كان المختصر الرمزي الأوائلي بريكس يمثل تحولاً نحو نظرة تنموية جديدة تكون فيه بلدان الأطراف الاقتصادية آخذة بتأمين قسم أكبر كثيراً من إنتاج الثروة مما كانت تفعل فيما تشهد أمم المركز القديم أزمة اقتصادية حادة. ومثلما ترى الاقتصادية البرازيلية الخطيرة ماريا دا كوسيشاو تافاريس (Maria da Conceição Tavares) كان الكسر مركز – أطراف بصدد التراجع أمام فكرة «البلدان النامية الوسيطة» (Conceição Tavares, 2010) وهي الأطروحة التي يمكن في النهاية اعتبارها نوعاً من الإحياء لأطروحة جيوفاني آرريغي (Giovanni Arrigui) حول إعادة مفهمة أشباه أطراف الرأسمالية (Arrigui, 1990).

ولكن لفظ البريكس لا يتناسب بدقة مع البلاغة التي تفصل بين الجغرافيات المتخيلة مصاغة بعبارات التقدم وغيابه، بل هو يمثّل أداة للتفكير في الاعتقاد التاريخي المنعقد حول جغرافيات الازدهار ويوتوبيات المستقبل. وعليه فإن البريكس يساعد على ملاحظة عنصر آخر لم يأخذه رامساوامي بنظر الاعتبار وهو أن الحداثة ليست معنية بتفسير الماضي والحاضر فحسب (حيث تهتم بالتقدم وبالافتقار له) ولكنها تُعْنَى كذلك بالتكهّن من خلال توقعات مستقبلية للصيرورة. لا يحيل المختصر الرمزي الأوائلي الذي وضعه أونيل على الحاضر بل على توقعات مصيرية مدحية أو، إن تحدثنا بكلمات رينهارت كوسليك (Reinhart Kosselick)، على أفق انتظارات (Erwartungshorizont)، أي أمل يضارع المستقبل. كان علم الاقتصاديات وعلى الأخص الاقتصاد السياسي من حيث خاصيّة كونه علمَ التنبؤ أو سرديّةَ مستقبليات (Johnson and Kenyon 1993) على أشد القرب من مَهَمّة العرض الاستباقي لسيناريوات التنمية عنيتُ «التكهن الاقتصادي»‏[4]. ليس البريكس المثال الحديث الوحيد الذي فيه اعتبرت النظريةُ الاقتصاديةُ الجغرافياتِ المتخيّلةَ والازدهارَ المتخيّلَ تعبيراتٍ عن المصير. كانت نفس هذه الاعتبارات قد وُضعت خلال سنوات 1990 في ترابطٍ مع مناويل التنمية في سنغافورة وهونغ كونغ وتايوان وكوريا الجنوبية، تلك البلدان التي سميت آنذاك بالنمور الآسيوية أو التنانين (Vogel, 1991).

تساعدنا التحاليل الموضعية للاقتصاد الكوني من مثل ما أنجزه أونيل (والّتي كثيراً ما تُقدّم على أنّها «نظريات اقتصادية») على فهم الكيفية التي بها يُهَيْكِل هذا الحقلُ حُجَّتَه البلاغيّة حيال الازدهار في مستوييْن اثنين مختلفين. يُنظر إلى هذه النظريات أوّلاً على أنّها غائياتٌ ونُبُوءَات تنمية (أي نظرة مُنَظّمة إلى الماضي وتوقعات للآفاق المستقبلية) وسرديةُ افتقارٍ لها (أي سردية في الفقر والتخلّف والتبعيّة وكل نعوتها). في المستوى الثاني بإمكاننا أن نعتبر أن بناء تمثلاتٍ عن الازدهار بوصفه موضوعَ انتظارٍ متوقِّعٍ لصيرورة ضروريّةٍ حاجةً إلى تجسيد المستقبل في جغرافيّات (متخيلةٍ). ومن شأن هذا الاعتبار أن يساعدنا على مقارنة الكيفية التي بها تكون النظرية الاقتصادية الراهنة ذات ارتباط بتقليد ممتد من ميثولوجيات التنمية والتقدم والازدهار أنتجتها «تمارين التخيل وابتداع الأمكنة» التي تحدثنا عنها في ما تقدم.

يمكن لتحليل السياقات المتخيلة التي تعالج تحقيق انتظارات المستقبل المتوقّعة في صيرورتها والمبنية على حاضر سمته عدم الاكتمال أن تبدوَ وكأنّها أوّل تحدٍّ كبير تواجهه النظرية العلمية الاجتماعية. على هذا الأساس يبدو من الطبيعي أن نقابل بين هذه النظرة والانتقادات الموجهة إلى نظريات الحداثة بوصفها تعبيراً عن التجربة الأوروبية مأخوذة على أنها «كونية»‏[5] وإلى فرض مناويل التنمية الغربية‏[6] على أنها الطريق الوحيدة المحتومة لتقدّم العالم. وفضلاً عن ذلك، يبدو من المهمّ إعادة الاعتبار لمقاربة النظرية العلمية الاجتماعية في تحليلها للصيرورة (المستقبل) بما أن «بلاغة الصعود» قد وسمت الكثير من التحاليل المتعلّقة بالمجتمعات الطرفية لا من المنظور الاقتصادي فحسب، بل في ممارسة السياسة أو في ما يهم دراسات البنية الاجتماعية، وبنيتها التكوينية،… إلخ.

يمكن للانعكاس في تعابير المستقبليات والتكهّن أن يبدوَ غير معتاد بالنسبة إلى فكر الراهن العلمي الاجتماعي ولكنه كان شعبياً في الخنادق التي رسمنا ومطلباً بالغ الاعتيادية كذلك يتواتر الإقبال عليه في صفوف العلماء الاجتماعيين. خلال سنوات 1980، تعالت الجمعية الأنثروبولوجية الأمريكية على «لجنةٍ للمستقبليات» وضعت على عاتقها الاعتبار المتدبر للسّيناريوات الممكنة التي يمكن أن تكون عليها صيرورة حركات تدفق السكان وآثار التنمية في سياقات محلّية (Burman, 1982 and 1984). من الناحية الأخرى لعلم الاجتماع ذاته ذلك التقليد المديد من التعامل مع طرائق التكهن على اعتبارها جزءاً مكوناً لما زُعم أنه سيكون حقـلاً علمياً، يسمى «التكهن الاجتماعي»، مستخدماً الانتظامات ومُظهِراً القدرة على توقّع السلوك الاجتماعي (الفردي أو المؤسسي أو الجماعي) وقد كان ذلك ذا شعبية في بعض كتابات روبرت مورتن (Henshel, 1982; Horowitz, 1974‑1975).

تساعدنا الأطروحة التي تراعي العلاقة بين التخيّثل الجغرافي وتوقعات المصير على المتابعة بتناول محور أخير في هذا المقال وهو أهمية الصبغة الموقعية في مجادلات التنمية وآثارها بالنسبة إلى العلوم الاجتماعية.

واحد من الانتقادات المتواترة الظهور يتعلق بالقيمة التفسيرية والمُنَاسَبَة المفترضة لمفهوم البريكس للعلوم الاجتماعية. يرى عدد من المحللين وجود نوع من «الاصطناع» في هذا التحالف يُبَرِّرُ القوْل به «الافتقار إلى التماثل» منظوراً إليه على أنه «عناصر مشتركة» تترجمها مظاهر ثقافية شأن التاريخ واللغة والثقافة والهوية الاجتماعية المشتركة، وهي عناصر يفترض تقاسمها حتى يكون تَعَاضُدٌ في ما بين أعضاء تجمع البريكس بحيث يعملون بوصفهم كتلة اقتصادية تسمحُ من ثمّ بتحليل علمي اجتماعي مقارن. يقوم هذا الافتراض على سذاجة بعض الأفهام. هو يقوم أولاً وقبل أي شيء آخر على جهل كبير بالترابطات القائمة بين هذه البلدان (عنيتُ العناصر المشتركة) وعلى الافتراض القائل بأن التماثل الثقافي قابل للترجمة إلى ما يُيَسّر التوافق والتضامن الاقتصادييْن. كما يقوم على القول بأنّه يُمكن لهذا التّضامن أن يَبْنِيَ التّماثل بين البلدان ومن ثم قابليّتها للمقارنة. ذلك هو نفس النقد الذي وجهه كوامي آبياه (Kwame Appiah) إلى تحديد ما يميز الشعب الأفريقي من عناصر تضامن طبيعية مجسدة في العرق أو ما تقاسمته من تواريخ الإقصاء. وفضـلاً عن محاولاتِه تعريف «آخرِ» التنمية الغربية («الهمجي»، «المتوحش» و«الأمم البربرية» على ما وردت على لسان آدام سميث، والعالم الثالث، و«الجنوب» الكوني،… إلخ) ينتهي تحليل انتقاد الافتقار إلى التماثل في ما بين بلدان البريكس إلى مجادلة أخرى باهظة الكلفة بالنسبة إلى العلوم الاجتماعية والاقتصادية متمثلة بالكيفية التي بها عملت العلوم الاجتماعية على التقسيم المناطقي للسياقات الجغرافية والثقافية بحيث تُبرّر المقارنة وتيّسرها.

بُعيْد الحرب العالمية الثانية بدأ بالظهور تقسيم للجغرافيا الكونية تَشْطُر العالم بين «مجالات دراسة». وعلى الرّغم من أن ذلك التقسيم هَدَفَ إلى تجاوز التقسيم المناطقي الجغرافي الاستعماري المُستخدم في دراسة المجتمعات غير الأوروبية فإنه أعاد، وإلى مدى بعيد، إنتاج نفس هذا التمشي. كان الدفع نحو تقسيم العالم إلى مجالات قد صدر عن الأكاديميات الأمريكية الشمالية والأوروبية (وكلاهما لمْ يُعتبر «مجالاً») وانتهى إلى تعريف القسمات التي أنهت إعادة إنتاج الحدود الإمبراطورية مثل تلك التي تم تخليقها في أثر مؤتمر برلين (Van Schendel, 2002: 647‑648). لقد أنهى تعريف مجالات الدراسة هذا ابتداع وحدات ذاتيةَ التّحديد لما تحتويه ومتجانسةً منقطعةً عن الوقائع الاجتماعية. وعلى الرّغم من أن هذه السيرورة لم تُوَلِّد حملات عسكرية أو إدارية واسعة النطاق فإنها حافظت على تماثلات مع «المزيج الأفريقي المشوش» الذي كان قد قام منذ عقود قليلة. لم تكتف آثار ذلك بأن راعت الطريقة التي بها كان يُحدَّقُ بالنّظر إلى العالم من خلال تلك التقسيمات المناطقية بل رانت كذلك، ومثلاً بمثل، على من دَرَس ومن موّل البحث الذي عزّز خريطة التقسيم التفريعي الكوني الجديدة هذه (Parmar, 2012). ولقد ساعدت الدّراسات المجالية على تعزيز الجماعات الأكاديمية المتخصصة والموقعية التي وُجدت بوصفها سيادات ذاتية التحديد. في حالة الأكاديمية الأمريكية الشمالية مثّلت الدراسات المجالية وسائل للتنافس حول مناسبة البحث وموارد تمويله وأقامت حدوداً فكرية تأسّست على تقسيم جغرافي جِهوي للعالم. وساهمت هذه السيرورة في الافتقار إلى التواصل بين مختلف مختصّي الدراسات المجالية وفي ابتداع الحدود والطّقوس والأصناف الأهلية (الباحثين) التي استُخدمت في تحديد هذه القسمات الفرعية التي عززت الإقطاعيّات الأكاديمية‏[7].

على سبيل تعميم القول تم تبنّي القول إنّ المجال يمثل جهةً ثقافيةً، وحدة جغرافية تُعيّنها مظاهرُ ثقافيةٌ تاريخية يُدّعى أن بإمكانها أن تُعيّن تواريخ التوطّن الإنساني وثقافاته. تمّ الجمع بين الناس (الإثنيات، المجموعات، الجماعات،… إلخ) من خلال عناصر ثقافية مشتركة (صلات تاريخية، روابط لغوية،… إلخ) ضمن مجالات متجاورة الانتظام تُرَابِيّاً. صحيح أن مفهوم الدراسات المجالية لم يكن الوحيد المتوافر ضمن الإنسانيات في تحديد الجغرافيات الثقافية، بل إنه كان محـلاً للجمع مع أفهام ثقافوية أخرى، وكذا مع أولويات في السياسة الثقافية تتعلق بجغرافيات التنمية. ظهر التعبير (الدراسات المجالية) بوصفه مفهوماً مناسباً للإنسانيات خلال ما بعد الحرب وتقاسم الفضاءَ مع مفاهيم من قبيل «المجال الثقافي» أو «المجال الاجتماعي الثقافي» واسعي الشعبية كليْهما في العلوم الاجتماعية وفي اللسانيات، و«الاقتصاديات الصّاعدة» (Van Agtmael, 2007) بوصف تلك المفاهيم تمثيـلاً للآخرية في الخطاب حول التنمية في النظريات الاقتصادية. وليس متعسراً الفهم القائل إنَّ الانتقادات القائلة بافتقار بلدان البريكس للتماثل هذه تقوم هي أيضاً على توقّعات ترى أن «الثقافة» منتجة للترابطات بين هذه السياقات. وفضـلاً عن ذلك، ولئن لم تُكرّس الدراساتُ المجاليةُ الحدودَ السياسيةَ ولا حتى ما يهم منها الدّولة – الأمة فإنّها تبنت القول إنَّ المجالَ يفترضُ التّجاور التّرابيّ. ويعني ذلك أنّ الدراسات المجالية تعترف بالدولة – الأمة بوصفها قصّةَ اختلاقٍ حديثةً وأنّ الحدود الثقافية لا تجد لها ما يناظرها في الحدود السياسية وأن المقاربة الثقافية هي التي أوجدت حدوداً فيزيائية جديدة تقوم على عناصر من «الثقافة» مشتركة كما على انتظارات مُتوقّعة من التجاور الترابي والثقافي. وعليه فإن بلدان البريكس بما هي مُشتتةٌ على امتداد جغرافيّة كونيّة متقطّعة بل وأكثر من ذلك بما هي منقطعةٌ عن الأفق الثقافوي، تَقف على عُسْر الأخذ بها مَوْقِعاً مُناسباً من منظور التحليل العلمي الاجتماعي. والنتيجة هي أن بلدان البريكس تقف على عُسر الأَخْذِ بها على أنّها تَشَكُّلٌ يمكن أن يكون مَحَلَّ نَظَرِ الدّراسات المَجَالِيَّةِ.

كانت الدراسات المجالية محلّ انتقاد حادّ خلال السنوات الأخيرة (Van Schendel, 2002; Slocum and Thomas, 2003)، وكانت العلوم الاجتماعية في تلك الفترة بصدد مراجعة أبعاد المنظور الموقعي إزاء تعزّز الدّراسات حول العولمة الكوكبية (Appadorai, 2000; Van Schendel, 2002; Slocum and Thomas, 2003) ونزعت إلى أن تعود بالنظر في العلاقة بين زوايا النظر المحلية – العابرة للحدود الوطنية – الكونية. تلك كانت الحركة التي قامت حين أبدى العلم الاجتماعي اهتمامه بالترابطات المتبادلة والتدفقات والتمفصلات الحادثة بين المركز والأطراف (Appadorai, 1996; Clifford, 1997; Hannerz, 1998) وذلك خلال سَعْيِه إلى الأخذ بالاعتبار وجود سياق كونيّ من خلاله تَتَهَيْكَلُ العديد من السّيرورات المحلية (Friedman, 2000 and 2003) وكذا إيلاء الاعتبار لأهّمية الشبكات والأفهام المحلية ضمن المدى الكوني (Ong, 1999; Tsing, 2000). بل إن آبادوراي يقترح فكرةَ جغرافيّات تَصْنَعُها السّيرورات «Processual Geographies» (2000) بحيث يتمّ استثمارها ضمن مناويل تحليلية تتجاوز ثبات المجالات. كانت تلك الحركة على علاقة بأزمة المناويل التفسيرية التي ربطت ابتداع الأمكنة السياقية والجغرافية وعلى علاقة بتحديد أيّ العناصر تُمكّن من تعيين هذه السياقات بوصفها كلّيات يكون بالمستطاع تفسيرُها مَجْمُوعَةً إلى أُخْرَيَاتٍ (Appadurai, 2000).

على هذا، وعودَةً إلى الاستفهام الذي يشغلنا نسأل: كيف نتعامل مع البريكس من منظور النظرية العلمية الاجتماعية؟ ذلك أن البحث في عناصر التعريف يضعنا هو أيضاً على شفا خطر اختلاقِ تَرْمِيقٍ، مَادّته هي تلك النّسخ الهزلية المعاصرة من المناظير الاستعمارية من قبيل ما وضعه دارسو البرازيليات ودارسو الصينيات ودارسو الهنديات وما كان من ضمن الدراسات المجالية لما بعد الحرب العالمية الثانية، بِلُغَتِه الاصطلاحية المتخصصة وحدوده وخصائصه العجائبية. تلك حركة مشروعة ولكن بإمكانها أن تشقّ طريقاً إلى التخصّص الذي كان بَعْدُ محل انتقاد شديد خلال السنوات الأخيرة.

على أنه توجد، وفي خضم هذا الضعف المفترض لمفهوم البريكس وحيال عدم مناسبته، حجة تدعم القول بمناسبة ما يقدمه علم الاجتماع للنظرية الاقتصادية من إسهام مثير للاهتمام. يقطع المفهوم الاقتصادي «الصاعدة» (منطبقاً على الأسواق والاقتصادات والبلدان) مع التوقّعات القائلة، ضمن الدراسات المجالية، بأن الاتصال الترابي من الخاصيات المميّزة للهوية الثقافية. لقد تمّ إنجاز تحليل «المعجزة الاقتصادية» للسّنوات 1990، ذاك الذي أشار إلى النمور الآسيوية مثل سنغافورة وهونغ كونغ وتايوان وكوريا الجنوبية بوصفها منوالاً للاحتذاء به على طريق الدفع بالتنمية الكونية، والتي تتميز هي أيضاً بتشتتها الجغرافي، على أساس اعتبارها من خارج المدى الذي تشمله الدراسات المجالية ومتقطعة التواصل الجغرافي. وكان البرهان الاقتصادي والعلمي الاجتماعي القائل بذلك الترميق مبنياً على الكيفية التي بها تم اقتراح إعادة القراءة في النسق الرأسمالي الدولي. وعليه تم الاعتماد على البرهان الفيبري بحيث تم تعيين «النمور» على أنها من مواليد «إيتيقا كونفشيوسية مُحَفّزَةٍ للرأسمالية».

وفي معنى ما، يمكن لنا أن نعتبر أن العالم الثالث والجنوب الكوني قد أُخِذا من منظور منطق الدراسة المجالية على اعتبار البلاغة القائلة بالافتقار وعدم الاكتمال (عنيتُ ظرفية آخرية التنمية بما هي فقر وافتقار للتنمية والحداثة غير المكتملة) بوصفهما عنصري التماثل بين البلدان والمناطق التي تُصنع منها خرائط هذه الكُتَل. ولكن ما البريكس؟ وما العوامل التي بمستطاعها أن تؤسس لنا مقاربة علمية اجتماعية لهذا التشكّل الجغرافي السياسي؟

ملاحظات ختامية: من ألعاب الترميق
إلى نظريات «البناء الترميقي»

إلى حد بالغ، كان البناء التاريخي لنظريات التنمية مجموعاً إلى تمارين في تخيّل الأمكنة وابتداعها وهما مكوّنان لا ينفصمان للمعادلة التي ساعدت على تصور الحداثة مَبْنِيّةً على أساس ثنائيّاتٍ متعارضة. كما اضطلعت هذه المقاربة كذلك بدور في تشكيل سيميائيات الاختلاف التي نظّمت الجغرافيات السياسية الكونية وتصورت التنمية على أنّها حركة دائبة تميّزُ ما بين سياقات من العالم (بلدان، مناطق ترابية جهات ومجالات) بلغت الحداثة وأخرى لم تفعل. كما أن تحليل مناويل التنمية الجديدة حفّز توقّعات بانعكاسه في أفول أشكال أخرى من التنمية وفي اختفاء أمكنة عُرفت بالازدهار.

قد يكون من المثمر تحليل البريكس ضمن هذا الإطار، على اعتبار أن هذا التشكل يرفع تحدّياً في وجه العلوم الاجتماعية في ما يتعلّق بالتفكير في أيّ المحاور يمكن أن يكون مناسباً للمقارنة، وبأهمية الموقعية بوصفها متغيّراً وبتوقّعات المصائر ضمن التحليل العلمي الاجتماعي. ارتباطاً بذلك يكون بمقدورنا تناول البريكس على أنّه واقعة خطابية (سواء أكانت حقيقية أم متخيلة، فذلك التمييز ليس بذي أهمية في سياقنا هذا) من حيث إمكان النفاذ إلى المجادلة التي تجمع بين الحداثة وتخيّل جغرافيات التنمية في ترابطهما اتباعاً للمقترح المنهجي الذي ورد لدى سانجاي سوبراهمانيام (Subrahmanyam, 1997; 2005) الذي انتقد الدراسات المجالية أيضاً لعدم مناسبتها لتجميع تجاربَ اجتماعيّة وسياسيّة متباينةً يتمّ توزيعها مناطقياً حسب محاور المقاربات الثقافوية التي تنتهي إلى الإحالة على مفهوم «المجال» (Area). وعلى هذا الأساس فإن مقترح سوبراهمانيام يتمثل بالقول إنّه بمستطاعنا الرّبط بين سياقات تمّت فهرستها ضمن محاور تحليلية مخصوصة لا تتقاسم بالضرورة تواريخَ أو ثقافاتٍ مشتركةً بوصفها شرطاً للتحليل العلمي الاجتماعي.

وعليه فإن اقتراحي هو إبراز عنصر مُفَاجِئ غيابُه إلى حدّ الآن في المناقشات التي تتعلق بالبريكس وهو المتمثل بأن كل هذه البلدان تكوّنت بوصفها دولاً ما بعد استعمارية مبنية، وإلى حد بعيد، على تجارب إمبراطورية. يتقاسم كلّ أعضاء كتلة البريكس تاريخاً كانت فيه امبرطوريات عابرة للجهات واجهت مهمّة ترتيب التنوعات (الشعوب والمجالات الترابية) وحُكْم الاختلاف الذي تحوّل إلى «تفاوت لا متساوٍ». لقد منح هذا الشكلُ من التجربة السياسية المديدة الدولَ المعنية معرفةً بابتداع المؤسسات والتصنيفات السياسية المُوَظَّفَة في حكم الاختلاف. وبناء على ذلك علينا أن نعترف بما تمّ من بناءٍ للتّقاليد المعرفية التي وسمت الإدارة الاستعمارية للتفاوت اللامتساوي والتي ترجمت التنوع (الإثني والسياسي والديني والجندري،… إلخ) إلى تفاوت لا متساوٍ. للبرازيل كما لروسيا والصين والهند وجنوب أفريقيا تاريخ مُمْتَدٌّ من تدبير شؤون الساكنات المحلّية مثـلاً تلك التي صُنّفت ضمن مقولات حكم إمبراطوري وتمّ لاحقاً إدماجها ضمن دول قومية (بمؤسساتها وساكناتها) انتهت إلى أن تكون موضوع إعادة تشكيل من خلال بنى سياسية ما بعد استقلالية أخرى.

كان لهذه الظروف آثار في التقاليد القومية للتفكير العلمي الاجتماعي (في العلم السياسي وعلم الاجتماع والإناسة والتاريخ باعتبار علم الاقتصاديات حالة منفصلة عن هذه الصورة). ولئن كانت هذه التقاليد قد دخلت في حالٍ من المفاوضة مع التجارب السياسية الخصوصية لهذه البلدان واستندت إلى حد بالغ على عَكْسِ التكوّن التّاريخي لأصناف التنوّع (الإثنية والسياسية والدينية والجندرية… إلخ، كرّة أخرى) فإنّ التّجادل بين الأجندات العلمية الاجتماعية للبلدان الطرفية لم يقم أبداً في صيغة نسقية. وعليه، وعلى الرغم من أن الدراسات الريفية احتلت مكانة بارزة في تكوين علم الاجتماع البرازيلي مثلما كانت العمود الفقري لعلم الاجتماع الهندي فإن الحوار بين هذين الحقلين يكاد يكون مفقوداً. وقد عنى غياب الحوار البنيوي هذا أننا أهدرنا فرصة الاعتبار بما كان من الكيفية التي بها تكوّنت النظرية الاجتماعية في كلّ من الهند والبرازيل في علاقة بالتاريخ السياسي للعلاقة بين الدول (وقبل ذلك بين الامبراطوريات) خلال ذات هذا الأجندة.

الكثير مما يَحْوِيه تاريخ مفهوم البريكس وتطويراته اللاحقة ليس غريباً عن أطراف صاعدة أخرى في «الجنوب» الكوني. لقد شهدت سنوات 1990 وعلى الأخص السنوات 2000 ظهور تشكلات سياسية غير متوقعة أوجدت روابط بين الأطراف في «الجنوب» الكوني مثل السوق الجنوبية المشتركة MERCOSUR (Southern Common Market) (1994)، واتفاق الهند – البرازيل – جنوب أفريقيا (India-Brazil-South Africa Agreement) (2003) والقمة الجنوب أفريقية – العربية (ASPA (The South America and Arabic Countries Summit) (2005) والقمة الجنوب أفريقية – الأمريكية الأفريقية (ASA The Africa-South America and Africa Summit) (2006) وغيرها، إذا ما ركزنا النظر على مبادرات جنوب أفريقيا لوحدها. لقد هدف أغلب هذه المبادرات إلى تفادي الثنائيات القطبية التي ميّزت الجغرافيات السياسية الكونية على امتداد حقبة الحرب الباردة باحثاً عن تعددية قطبية بديلة تساعد على الاستجابة إلى ضرورة التمفصل مع البلدان الطرفية لدى تحديد جغرافيات التنمية البديلة. ومثلما أكد بارثا تشاترجي: «نحن بحاجة الآن إلى التسلح بالشجاعة اللازمة لرفض الحداثات التي أسّس لها الآخرون. في عصر القومية كانت ثمّة محاولات عديدة من هذا القبيل عكست الشجاعة والإبداعية سواء بسواء. لم تكن كلّها مبادرات متساوية التوفيق بالطبع. واليوم، في عصر العولمة الكونية، ربما يكون الوقت قد حان مجدداً لتعبئة نفس تلك الشجاعة» (Chatterjee 1997: 20).

على ما هي عليه، ربما مَثُلَتْ البريكس بوصفها تحدياً مثيراً للاهتمام بالنسبة إلى النظرية العلمية الاجتماعية. ربما كانت إحدى الطرائق إليها تمر عبر إنتاج «ترابطات» بين التجارب السياسية والأجندات العلمية الاجتماعية في هذه البلدان التي حشرت تقليدياً في خصوصية عدم القابلية للمقارنة ضمن أمدائها القومية. قد يقود ذلك إلى تمكين البريكس من تفادي التحوّل إلى مجال للدراسة والتحسب لافتتاح حقل للترميق ضمن دراسات البلدان الطرفية والمساعدة على تطوير مقاربة مختلفة للدراسات المقارنة في الاقتصاديات والعلوم الاجتماعية حيث يكون للربط بين تشكلات من قبيل أمريكا اللاتينية والوطن العربي والمقارنة بينها دَلالَةٌ.