لكتابات الأستاذ محمد نور الدين أفاية مكانتُها الخاصة في جغرافيا التأليف الفلسفي في المغرب كما في الوطن العربي. والقارئ في كتبه يلحظ نَفَسها النقدي الذي مكنها من الإفلات من قبضة النزعة النصية التي هيمنت على ذلك التأليف وصيَّرتهُ ممارسةً مدرسيةً كل غايتها شرح النصوص الفلسفية، الإسلامية التراثية والغربية الحديثة والمعاصرة، والتعريف بها، في غفلةٍ كادت أن تكون تامة عن الواقع المعيش، وسياقاته الاجتماعية، والثقافية، والسياسية، التي شرطت الوعي العربي منذ ما يزيد على قرنين من الزمن.

كما يمكن للقارئ في أعماله أن ينتبه إلى المساحات النظرية الشاسعة التي تحرك فيها؛ بدءاً بالفلسفة وقضاياها الكبرى، ووصلاً إلى السينما والفن والمسألة الجمالية، مروراً بمناولته للوضع السياسي في الوطن العربي والرجات التي ما انفك يعيشها[1]، بما يستلزمه ذلك من انفتاح على قضايا الهوية والعولمة والتواصل. في كل هذه المحطات الفكرية كان على وعيٍ بالدور الذي يمكن أن يضطلع به كمثقفٍ يستمد عناصر رؤيته من تكوينه الفلسفي الرصين، إنْ على مستوى استشكال الراهن وتفكيك تمفصلاته، أو على مستوى توصيف أزمته واقتراح حلول للخروج منها، معتداً في ذلك بالإنصات الهادئ، المحكومِ برغبةٍ عميقة في الفهم، وبقدرة على تعليق الأحكام، مما يستلزمه الموقف الفلسفي النقدي.

أتى تأليف أفاية، خلافاً لكثيرٍ من أضرابه المحتقلين لمجال الفلسفة في الوطن العربي، مهجوساً بالراهن وأسئلته الكبرى، وأراد له صاحبه أن يكون خلخلة لتلك الأسئلة من طريق فهم المعيش، والقلق إزاء أكثر مظاهره «بساطة» و«وضوحاً»، فاتخذ فكره الفلسفي صورة انهمام و«اندهاش» إزاء أسئلةٍ من قبيل سؤال الجسد، والمتخيل، والكتابة، والمرأة، والاختلاف، والسياسة، والهوية، والتواصل، والإبداع، والديمقراطية… إلخ[2]، ما يشي أننا أمام نمطٍ في الكتابة الفلسفية ينأى بنفسه عن كل نزعة مدرسيةٍ أو انغلاق أكاديمي من شأنه أن يحول دون الإفادة من مختلف الروافد النظرية، التي يمكن أن تُسعفنا ببلورة فهم معقولٍ للواقع وتمفصلاته. فالرجل لا يتشرنق داخل تخصصٍ معرفيٍ مخصوص يطل من برجه العاجي على كل أسئلته وهمومه، وإنما يتحرك بين مجالات معرفية متعددة، من فلسفةٍ، وفنٍ، وأدبٍ، وتواصلٍ، وسياسة؛ يتنقل بينها جيئة وذهاباً دون أن يُشعِر قارئه بوجود حدودٍ تفصل الواحد منها عن الآخر؛ يرتب معطياتها وفق ما يقتضيه منه موضوع دراسته، يطوّع مفاهيمها بمقدار حاجته إليها، يركب بين عناصر مناهجها لتغدوَ أكثر استيعاباً لقضايا راهنه، لتكون النتيجة ضرباً من القول الفلسفي الذي يَغْرف من روافد معرفية متعددة من دون أن يتنازل عن نَفَسِه وهويته الفلسفية من جهة، ومن دون الغفلة عن الواقع وشروطه من جهة ثانية. في هذا السياق، تحديداً، كتب أفاية ما كتبه عن الفلسفة العربية ومسارات النقد فيها، وقد أتى كتابه في النقد الفلسفي المعاصر؛ مصادره الغربية وتجلياته العربية، يعبر عن مقدار حضور الهمِّ النقدي في فكره؛ إذ رامَ من خلاله بيانَ المسارات التي اتخذها مفهوم النقد في سياقات تشكُّله الغربية، في الفلسفة الحديثة، مع كانط والمثالية الألمانية وماركس، ومن بَعدُ في الفلسفة المعاصرة منذ النظرية النقدية وصولاً إلى علاقة التفكيك بالنقد[3].

هذا قبل أن يُعرِّج أفاية على بيان صلة النقد بالديمقراطية وتجلياته في الفكر العربي الفلسفي المعاصر. من يدقق النظر في توزيع هذه الموضوعات على فصول الكتاب يلحظ وجود استراتيجية في مساءلة التلقي العربي لمفهوم النقد؛ إذ متى تذكرنا صلة المفهوم بالحداثة الغربية ومخاضات تكوينها النظري والتاريخي[4]، ومتى استحضرنا في ذهننا علاقته بالديمقراطية من حيث هي شرطٌ قبلي للممارسة الفلسفية[5]، أمكننا إدراك أن مساءلة التلقي العربي للنقد الفلسفي لم تكن بالبعيدة عن التفكير في الشرط السياسي الحاكم لعملية التلقي تلك، وهذا ما يكشف عن حضور الهاجس السياسي في كتاب أفاية رغم ما قد يلوح من عنوانه من اندراجٍ في خانة الكتب المؤرخة لمفهوم النقد الفلسفي، أو التي تتصدى لشروط نشأته بالدراسة والتحليل. بل ويمكن أن نذهب في هذا الطرح بعيداً، فنزعُم أن الكتاب ذاك كان تفكيراً في حاجة النهضة والتحديث إلى الفكر الفلسفي النقدي[6]، انطلاقاً من القول إن «التفلسف لا يمكن اختزاله في مجرد لعب تأملي، وإنما هو انخراطٌ فكريٌ ووجوديٌ لتغيير أحوال الذات، وتحسين ظروف العيش»[7]، وهو ما يعني أن «ممارسة التأمل الفلسفي لا تُفهم بوصفها مقاربةً لتاريخ الأفكار، بمقدار ما يُفترض فيها المساعدةُ على تكوين المواطن، وتطوير حسه النقدي التحليلي، وتقديرٍ لتنوع الحجج واختلافها، ووعيه بنسبية الأمور»[8].

خلف هذه الرغبة لدى أفاية في الزج بالفلسفة في معمعة الواقع الاجتماعي وأسئلته الحضارية، والتبرم من كل نزعة نصية، يثوي تصوراً للفلسفة من حيث هي انهمام بالواقع وانشغال به. وسيكون علينا، قصد فهم مقاربته لحضور الفلسفة في ثنايا الفكر العربي المعاصر، أن نستحضر وعيه القلق بالراهن الذي ما غاب عن جل تأليفه الفلسفي. لن يجد القارئ، في كتب أفاية عامة، تأريخاً لهذا التيار الفكري أو ذاك، رغم الصورة البانورامية التي يقدمها عن مسار القول الفلسفي المغربي والعربي انطلاقاً من وصْله بسؤال النقد. إن كتاب أفاية في النقد الفلسفي المعاصر محاولةٌ للتفكير في الشرط الفلسفي للراهن العربي من خلال استشكال وضعية مفهوم النقد في الفكر الفلسفي المغربي والعربي، وهذا ما يوحي به عنوان كتابه من حيث هو بحثٌ في الأصول الغربية للنقد وامتداداته في الفكر العربي المعاصر، أو في التلقي العربي لهذا المفهوم إن نحن شئنا الدقة أكثر. لذلك سأحاول فهم أغراض هذا الكتاب عامة، وخاصة ما تعلق منها بوضعية الفلسفة في المشاريع الفكرية التي تصدى لها بالدراسة والنقد، من خلال التفكير، أولاً، في المنابع النظرية التي استمد منها أفاية عناصر تصوره للفلسفة ووظيفتها، ثم في علاقة اهتمامه بالنقد بسؤال الفلسفة بالديمقراطية ومخاضاتها في الوطن العربي، لا سيَّما بعد الرجات السياسية التي عاشها هذا الأخير منذ نهاية سنة 2010، والتي دفعت الفكر الفلسفي المغربي إلى الإسهام بكثافةٍ في بلورة فهم معقول لما حدث حينها كما هو بيِّن من كتابات محمد سبيلا، ومحمد المصباحي، وكمال عبد اللطيف، وعبد الإله بلقزيز، وسليم رضوان[9]… إلخ.

كان أفاية في جملة المثقفين العرب الذين واكبتْ كتاباتهم أحداث «الربيع العربي»؛ رصَدَ الغموضَ والارتباك اللذيْن يكتنفان التسميات ويشوشان على الوعي، وتوَّج مجهوده ذاك بتأليف كتابه الديمقراطية المنقوصة، الذي يمكن اعتباره بياناً في نقد التسلطية[10]، وتنبيهاً إلى مغالطات «التفاؤل المعلق» الذي حكم ردود فعل الوعي العربي إزاء أحداث «الثورات العربية»[11]. وعندي أن هذا الكتاب يمثل مقدمة لفهم موقف من النقد ووظيفة الفلسفة في الوطن العربي اليوم، ما دام الهمَّ السياسي لم ينفصل، يوماً، عن الهم الفلسفي في فكر هذا المثقف. هذا قبل أن نتوقف، ثالثاً، عند قراءة لطبيعة حضور النقد الفلسفي في المشاريع الفكرية المؤثثة لمشهد الفكر العربي المعاصر، متسائلين عن استراتيجية تعامله معها والمغزى من قراءتها في ضوء مسارات مفهوم النقد في الفكر العربي المعاصر.

بأي معنى يكون النقد هويةً للفلسفة العربية التي نحتاجها اليوم؟ ما هي المنابع الفكرية التي انتهل منها مقاربته النقدية لمفهوم النقد في الفلسفة العربية المعاصرة؟ كيف تكون فكرة النقد قاعدة للديمقراطية وتأسيساً لثقافتها في الوطن العربي؟ كيف يمكن أن نسائل المشاريع الفكرية العربية في ضوء مفهوم النقد؟ وكيف تتحدد هوية الفلسفة التي يحتاجها الفكر العربي اليوم من خلال التفكير في وضعية النقد ومآله الثقافة العربية؟

أولاً: مسار النقد… ومسار الفكر

أ – استطاعتْ كتابات أفاية أن تجد لنفسها موقعاً داخل المسار العام للفلسفة النقدية، وانتهلت منه كثيراً من ملامح هويتها. وسواءٌ تعلق الأمر بالفلسفة النقدية عند كانط، حيث يحضر النقد كتفكيرٍ في حدود المعرفة والفعل والحرية، أو بالمثالية الألمانية وتصورها لمفهوم النقد، الذي عبدتْ به الطريق أمام فلسفة هيغل وماركس، أو بالمعنى الذي أعطته له مدرسة فرانكفورت عندما زجت بالعقل في أتون المجتمع وتشخيص أمراضه ومظاهر أزمته[12]، لتُخرج الفلسفة بذلك من بعدها التأملي وتزج بها في معمعة الواقع الاجتماعي ومصير الإنسان الحديث… إلخ، فإن الثابت، في نهاية المطاف، أن إعمال أفاية فكرة النقد يختزن وعياً بكثافته الدلالية وتقاطعاته الإشكالية، وهو ما يأذن لنا بالقول إن الرجل يستمد مفهوم النقد من خلفياته الفلسفية الكبرى قبل أن يقدم على أقلمته أو إعماله في فهم معطيات الراهن العربي وقضاياه. يعني هذا القول، في جملة ما يعنيه، أن النقد عند أفاية مفهوم فلسفي بقدر ما هو استراتيجية فهمٍ من شأنها أن تساعد الوعي على إدراك الواقع والإمساك بتمفصلاته. إن ما يضفي على هذا الاختيار القدر اللازم من المشروعية انتباهُ أفاية، كما الجابري من قبل، إلى ما يطغى على علاقة الوعي العربي بالواقع من قلق يجعله يتنطع من قبضة الإدراك والفهم معاً[13]، تحت ضغط المرجعيات والرؤى الأيديولوجية، وتغوُّلها في مساحات هذا الفكر، وهذا ما جعل الاشتغال الفلسفي يتعامل مع الفكر كمجالات تأسست خارجه[14]. لا أدل على ذلك من الارتباك الذي تتسم به عملية تسمية الأحداث والأشياء في الفكر العربي، ولعل التردد الذي طغى على تعامل هذا الفكر مع الرجات السياسية التي شهدتها المنطقة العربية في مطلع العقد الحالي، يبقى العلامة الفارقة على ذلك. حيث عاد «الاختلاف تسمية هذا الذي يجري أمامنا مرةً أخرى ليبرز القلق الذي يسيطر على اللغة والفكر منذ عقود، أي قلق تحديد الكلمات والأشياء والوقائع بناءً على نوع من الفهم المشترك للأحداث الجارية»[15].

لم تكن مواجهة الوعي العربي لتلك الأحداث السياسية المناسبة الوحيدة التي تبدى فيها ارتباكه في تسمية الأشياء والوقائع؛ إذ تلك سمةٌ يمكن حسبانها ظاهرةً مزمنة وسمتْ اشتغالَهُ وسعيَه إلى تملك معنى القضايا التي تؤرقه، من قبيل تسميته لهويته، وللآخر[16]، وتحديد موقعه داخل عالمٍ مُعولمٍ دائم التغير. وإذا كان الوعي، بالمعنى الفينومينولوجي، وعياً بشيء ما، فإن «الوعي العربي المعاصر، بمختلف مستنداته الفكرية وروافده، تشكل في سياق علاقة مضطربة مع موضوعاته وأشيائه، إلى درجة يجوز فيها القولُ إنه وعيٌ بأشياءَ ليستْ بتلك التي هو مطالبٌ بالوعي بها»[17].

يُدرك أفاية أن لشقاء الوعي العربي أسبابه التي تفسره، والتي تدفعُنا إلى التفكير في تشكله وتكوينه التاريخي، خاصةً ما تعلق منه بالتغلغل الأجنبي، والاصطدام بمظاهر الحداثة الغربية، وتجذُّر التسلطية في ثنايا الاجتماع السياسي العربي، وما أفرزه ذلك من اضطرابٍ في لغة التعبير عن الهوية وسؤالها. لا يمكن أن نفهم وضعية العقل والعقلانية في الوطن العربي بمعزلٍ عن الوعي بهذا التشكل التاريخي للوعي وقضاياه. ورغم كل الجهود التي بُذلت من طرف أبرز المثقفين العرب، فإن العقلانية العربية لم تزل تجد نفسها مكبلة بالتضخم الأيديولوجي الذي لم يتردد أفاية في وصفه بـ «العائق التاريخي»[18]، بحكم المطلقية التي فرضها على الوعي، وعي النخب والأفراد والسلطة. نقرأ له في هذا المعرض قوله: «هناك هوة سحيقة بين الفكرة والواقع في الوطن العربي، ويشكل التضخم الإيديولوجي «عائقاً» يحول دون انتقال العقل العربي من الاستهلاك إلى الفعل والخلق. وتجد كل فئة أو سلطة نفسها في إطار مرجعي يتخذ صفة المطلق، الأمر الذي حوَّل الوجود العربي إلى وجود أيديولوجي بامتياز، يسعف في ازدهار اللاعقلانية والتصوف والانسحاب، ويعاند كل إرادة للمعرفة أو الرغبة في صوغ فهم مختلف»[19].

وهذا ما يعني أن «التضخم الأيديولوجي في الفكر العربي الحديث والمعاصر يلغي العقل، أو يعمل جاهداً من أجل احتواء نتائجه وإقصاء تساؤلاته المزعجة، الأمر الذي يساعد على انتعاش التديُّن السطحي، أو السلوك السحري في مجالات الحياة العربية كافة، في السياسة والاقتصاد والمجتمع والفكر، ويلغي الحركة الصميمية للواقع العيني»[20].

ومتى أشرنا إلى العامل الأيديولوجي لزمنا أن نشير، بالتبعة، إلى السلطة ودورها في تكريس انسداد الوعي بسبب تدبيرها للمستوى الأيديولوجي في الوطن العربي، وقد كانت النتيجة تكريس ثقافة اللاعقل والانسحاب، وهذا ما يعني أن مظاهر اللاعقل التي ما انفكت تقلق بال المثقفين العرب لم تكن وليدة العامل الثقافي وحده، وإنما هي نتيجةٌ لتجذُّر التسلطية في أمشاج الاجتماع السياسي العربي[21].

ب – إلى هذا المسار النقدي يمكن أن نضيف رافداً آخر لفكر أفاية؛ فلسفة الاختلاف الفرنسية مع كل من فوكو ودلوز ودريدا. ليس حضور هذه الأسماء، وخلافاً لسابقتها، بالجلي في كتابة الرجل، وهذا أمرٌ يمكن تفهمه بالنظر إلى تبرمه من كل نزعةٍ نصيةٍ تُعلن تبعيتها لهذه المرجعية أو تلك من دون أن تلحظ حاجة الفكر إلى تعديد المواقع وتغييرها، وبالنظر، كذلك، إلى وعيه بما يفرضه الواقع العربي من اختيارات على مستوى المرجعيات الفكرية والفلسفية، لا سيَّما أمام تضخم الحاجة إلى الحداثة والتحديث[22]، وفي ظل التوجس مما تثيره فكرة ما بعد الحداثة، أو النقد الجذري للحداثة إن نحن شئنا الدقة أكثر، من شكوكٍ على مستوى التأثير في الاختيار الحداثي، أو التشويش عليه بدعوى نقد الغرب للحداثة وخروجه منها.

إن إدراك هذا الأفق التأويلي الذي يفرضه الواقع العربي على تلقي الفلسفة المعاصرة، وخاصةً منها فلسفة الاختلاف، هو الذي يقف وراء هذا التعامل المنهجي مع نصوصها الكُبرى من طرف أفاية؛ إذ لم يقده اضطلاعه الواسع على متونها إلى الغفلة عما وُجه إليها من انتقادات من طرف هابرماس، باسم حاجة المجتمع والسياسة إلى التوافق والإجماع، أو باسم حاجتنا إلى العقل والعقلانية الأنوارية، بصرف النظر عن كل المواقف المتشائمة منها والداعية إلى الردة عليها. وعندي أن هذا الاختيار ينم عن وعي الفيلسوف المغربي بضرورة مراعاة مقتضيات الراهن العربي وقيام الحاجة فيه إلى مطلب العقل والعقلانية أمام ردود الفعل غير العقلانية التي يدفعنا إليها تفاعلنا مع الحداثة والعقل الغربيين من جهة، وأمام تضخم منسوب اللاعقل في ظل هيمنة ثقافة الإدراك على الوعي العربي المعاصر، تحت وطأة قوة العولمة الجارفة وما تناسل منها من تصاعد خطابات الهوية والصراع[23]، انطلاقاً من القول إنه «لا يُمكن أن ننظر إلى العولمة بحسبانها، فقط، مرحلة جديدة من مراحل اشتغال الاقتصاد والسياسة. وإنما هي، بالأحرى، حاملة لباراديغم جديد على مستوى الفكر، ولمنظورات جديدة في مجالات الثقافة؛ إذ تستلزم، بفضل مرتكزاتها التواصلية، حساً مختلفاً وجذرياً بالزمن والمكان، كما بالأبعاد اللامحدودة للمتخيل»[24].

يمكن اعتبار أفاية، إلى جانب عبد الله العروي، ومحمد عابد الجابري، وناصيف نصار، وعبد الإله بلقزيز، في جملة المدافعين عن الاختيار العقلاني في الفكر الفلسفي العربي المعاصر، وهو يقصد بالعقلانية «تحدياً يومياً يواجه العربي، كيفما كان موقعه، سواء في علاقاته الاجتماعية أو في تعامله مع الزمن والتاريخ، أو في تبادله اللامتكافئ مع عالم التقنية والحداثة، ولا سيَّما أن الشروط العربية الراهنة تطالب مفكريها وفعالياتها السياسية والعلمية بوعيٍ ممكن بتفاصيل الواقع العربي المتموج»[25].

واضحٌ أننا أمام خطاب فلسفي يعي مطلب العقل والعقلانية في الواقع الذي ينتمي إليه، ولا يُجازفُ بمسايرة موجةِ الردة على العقلانية التي وسمت خطاب ما بعد الحداثة، رغم إدراكه لقيمتها النقدية؛ إذ إن رفْضَ العقلانية والتشنيع عليها باسم نقد ما بعد الحداثة[26]، في مناخ ثقافي واجتماعي كالمناخ العربي، يبقى مغامرةً لا تخدُم الرهان الثقافي والحضاري للوطن العربي، لأنها تكرس واقع اللاعقل والتسلطية باسم نبذ النتائج السلبية التي أفرزتها عقلنة المجتمع الحديث، ومن دون المرور بمرحلة التحديث والتشبع بالعقلانية على مستوى الفكر كما على مستوى الفعل والسلوك[27]. وهذا ما يُفسر حرص أفاية على إظهار السياقات الفكرية التي نشأ فيها النقد كمفهوم فلسفي، مع التنبيه إلى تمايزها عن السياق السياسي والثقافي والاجتماعي الذي يحكم عملية تلقيه في الثقافة العربية المعاصرة؛ إذ وحده الوعي بالتمايز بين تلك السياقات يجنبنا الخلط بين موقفنا، نحن، من العقل والعقلانية، وموقف الغرب المتشبع بالحداثة والراغب في الإفلات من قبضة عقلانيتها.

بيد أن هذا الموقف الحذر من موجة نقد الحداثة لم يحل دون الإفادة من المكتسبات والفتوحات الفكرية التي أنجزتها فلسفة الاختلاف في مضمار نقدها لتمركزات العقل الغربي، وخاصة أن جل ممثلي تلك الفلسفة كانوا سليلي ثورة معرفية قادت إلى إعادة اكتشاف مساحات اللامفكَّر فيه في تاريخ المعرفة والعقل والوجود، ليس فقط على مستوى تاريخ الفلسفة منذ نيتشه وهيدغر، وإنما، أيضاً، على مستوى دراسة الإنسان بعد إنجازات كلود ليفي ستروس في مجال الأنثروبولوجيا، واستثمار مكتسبات التحليل النفسي والمدرسة البنيوية في مجال الدراسات اللغوية، وإعادة النظر في مفهوم الزمن التاريخي مع مدرسة الحوليات (برودل)… إلخ. إننا أمام ثورة معرفية أعادتْ ترتيبَ أوضاع العقل الغربي بأن حملته على مراجعة كثير من مفاهيمه ومقولاته الكبرى، كما هي الحال بالنسبة إلى مفهوم التقدم[28]، والعقل، والحقيقة، والزمن، والتاريخ، واللغة، والمعنى… إلخ. وليس مصادفة أن تحمل فلسفة الاختلاف في طياتها معالم هذا الهوس بتكسير مركزيات العقل والتفكير في اللامفكر فيه والمنسي في ثناياه[29]، بل وأن يجهد فيلسوف كميشيل فوكو للكشف عن علاقة الحقيقة بالسلطة، وبالجنون، والجنس. وليس مصادفة، كذلك، أن يعمد فيلسوف كجاك دريدا إلى خلخلة مركزيات العقل الغربي من حيث هو عقل الميتافيزيقا نفسه[30]، وأن يعيد النظر في الحدود التي ظلت تفصل مجالات المعرفة وإنتاج الحقيقة في تاريخ الفكر الغربي، ليفتح باب القول الفلسفي على مصراعيه أمام الأدب[31]، والفن، والشعر، والأنثروبولوجيا[32]. والملاحظة عينها يمكن أن تقال عن غيره من ممثلي هذه الموجة الفكرية التي هيمنت على الفكر الفرنسي منذ أعمال فوكو التأسيسية في هذا الباب.

ما يعنينا من هذا كله علاقةُ أفاية بهذا التيار الفلسفي، حيثُ نلاحظ أن عنايته به أتت من طريق اهتمامه الفريد بعبد الكبير الخطيبي؛ ممثل فلسفة الاختلاف بامتياز في الوطن العربي. شكلت كتابات هذا الفيلسوف خير ترجمةٍ لنصوص تلك الفلسفة، وخاصة منها فلسفة دريدا، كما عبرت عن قدرته الخاصة على تطويع مفاهيم فلسفية على قدر هائل من الرسوخ في التراث (التقليد) الفلسفي الغربي مع قضايا الوطن العربي وهمومه الرئيسية، وما انصرافه إلى التفكير في أسئلة الكتابة، والهامش، والآخر، والاختلاف، إلا علامة، من بين أخرى، على قوة إفادته من استراتيجية دريدا في خلخلة المركز وتحريك الفكر على مستوى هوامش الميتافيزيقا. من يقرأ ما كُتب عن الخطيبي في الوطن العربي يدرك أن أفاية كان من أبرز المهتمين به، بل وإنصافاً له كذلك. ولعل من أمارات ذلك أنه خصص فصلاً بكامله، من كتابه في النقد الفلسفي المعاصر، لفكر الخطيبي، بل وختم حديثه عن مسارات النقد في الفكر العربي بالحديث عن هذا المفكر، مبيناً قيمة سهمه في توجيه الفكر الفلسفي المغربي صوب قضايا ظلت مغيَّبة في مشاريعه الفكرية الكبرى. وهذه مسألة تؤشر، في نظري، إلى إيمانه بالقيمة الفكرية لكتابات الخطيبي وقدرتها على احتضان مسارات النقد بمختلف مشاربها، بل وبقدرتها على تقديم فهم معقول للواقع انطلاقاً من مرجعية الاختلاف والأسئلة الكبرى التي عجت بها.

واضحٌ، في ضوء ما تقدم، أننا أمام فكرٍ يضرب بجذوره في تاريخ الفلسفة الغربية ليزج بمفاهيمها في معمعة راهنه. ومتى تذكرنا أن الرجل أنفق وقتاً طويلاً على الاشتغال على مفهوم المتخيل، فهمنا مقدار إفادته من مكتسبات الفكر الفلسفي المعاصر، كما فهمنا، بالضرورة، استراتيجيته في التعامل مع تلك المكتسبات؛ إذ سرعان ما استمد أفاية المفهوم ذاك من مصادره وسياقاته الغربية ليعمله في فهم إشكالية تراثية على قدر كبير من الأهمية والتعقيد؛ إشكاليةُ تمثل الوعي الإسلامي الوسيط للغرب وصورته[33]، بل وتعقب تلك الصورة حتى في ثنايا العلاقة الجدلية التي تربط الوعي العربي المعاصر بالغرب في زمن العولمة[34].

وعندي أن استراتيجيته هاته تنمُّ عن تصور للاشتغال على الفلسفة في ظل وعيه بمهمته كمثقفٍ ملتزم بقضايا مجتمعه ودائم القلق إزاءها، بعيداً عن أي منزعٍ نصي تجاه نصوص الحداثة والتراث، ما دام «الخطاب الفلسفي العربي، يقول مثقفنا، يتكئ، دوماً، على مرجع منفصل عن سياقه الثقافي، الأمر الذي جعله يعاني «غربة مزدوجة»؛ غربة عن الواقع الثقافي الذي كثيراً ما يعاند كل تفكير عقلاني، تنويري، وغربة عن الروح الفلسفية، من حيث هي قوة سلب، وميل نحو خلق المسافة مع المألوف، أو بما هي «معرفة فرحة» تنشط بالسؤال وفيه، وتصغي إلى تحولات المرحلة لالتقاط مكوناتها وتفاصيلها»[35].

ليس بالعسير أن يلحظ القارئ المعنى الموسع الذي يعطيه أفاية لمفهوم النقد، فهو لا يحصره في تيار فلسفي بعينه، وإنما يبحث في تشكلاته عبر «مسار» تكوينه على مستوى تاريخ الأفكار، فالنقد «لا يمثل جزءاً من الفلسفة أو جزءاً خاصاً منها فحسب، إنما يتدخل في مستويات الفكر الفلسفي كافة، بل وفي كل عمل مبدع يمتلك ما يلزم من القدرة على كشف المسبقات، وسذاجة التفكير، والارتهان إلى النقل، وعلى تخطي المستويات الإدراكية في النظر إلى الواقع والتاريخ، وفضح الآراء غير المُعللة. فضلاً عن أن الفكر النقدي يسكنه قلق التاريخ والإرادة اللامتوقفة لمنح معنى مختلف للوجود، ويحث على سمو الفكر الحر»[36].

إننا، إذاً، بحاجةٍ إلى الخروج من ميتافيزيقا النص والتمرس على الإنصات للواقع وضخ النقد في شرايين الوعي والإبداع[37]. فكيف يُسعفنا الخروج من هذه النزعة النصية، الاجترارية لتاريخ الفلسفة، من امتلاك الروح الفلسفية التحرر من قبضة تلك الغربة المزدوجة؟ وكيف يكون الإسهام في بلورة وعي بالديمقراطية مُحدداً من محددات شرعية القول الفلسفي في الوطن العربي؟ إن التفكير في علاقة الفلسفة بالديمقراطية والشرط السياسي للفكر العربي يبقى خير مدخل للإجابة عن هذا السؤال، وفي ما يأتي بيان ذلك.

 

ثانياً: في حاجة الديمقراطية إلى القول الفلسفي

1 – «آن الأوان، في سياق التحديات الكبرى التي تواجه العرب، لأن يبتعد الاشتغال الفلسفي قليلاً عن التعامل مع الفكر كمجالات تأسست خارجه، بل يتعين على «المفكرين» أن يفكروا مع تقدير استراتيجيات القول، وإرادة القوة السياسية الساعية إلى ترتيب فضاءات الناس، انطلاقاً من تصورات تخدم حسابات الغير. المطلوب اكتساب اللغة الحديثة لفهم ما يجري، والمساهمة في خلق قنوات تواصلية تنسج مجالاً عمومياً متفتحاً وأكثر إنسانية». بصرف النظر عما يتضمنه هذا القول من دعوةٍ للمفكرين العرب إلى إعادة النظر في طريقة تعاملهم مع الفكر وموضوعاته، فإن ما يعنينا منه إشارتُه إلى وجود إرادات قوةٍ سياسيةٍ ينبغي الانتباهُ إلى مفعولها في الاجتماع السياسي العربي، بل ومواجهته بالوعي النقدي الذي يتأتى من طريق ترسيخ الممارسة الفلسفية في الثقافة العربية المعاصرة. إننا أمام إشارةٍ صريحة إلى مركزية العامل السياسي، وحاجتنا إلى الفكر الفلسفي لمواجهة ما يضطلع به من أدوار في تضخم الأيديولوجي، وانسحاب الفكر النقدي من مشهد الثقافة العربية. خصص أفاية جانباً من كتابه في النقد الفلسفي المعاصر للنظر في العلاقة الإشكالية التي ما انفكت تربط القول الفلسفي بالديمقراطية، متسائلاً: «هل يمكن القول بمجتمع منفتح من دون تعلم ملكة النقد، وممارستها والتصريح بها؟»[38]، وهذا السؤال وحده يكفي، مبدئياً، لفهم تشديده على ضرورة «دعم الدرس الفلسفي داخل المؤسسات وترسيخه، بدلاً من ترك الميدان حراً للنزعات اللاعقلانية، حيث ينتعش التحجر، واللاتسامح، وإعدام التاريخ»[39].

يمكن للباحث أن يتفهم هذا الهوس بالمسألة التربوية والتعليمية عند أفاية؛ وهو الذي يؤكد أن «المراهق العربي معرَّض لأشكال مختلفة من الفكر الجاهز، ومحكوم عليه بالاجترار أو بالصمت»[40]، وهذا ما يطرح على الفكر الفلسفي عندنا مسألة التفكير في مفهوم الاعتراف باعتباره خير قاعدة نُقيم عليها تربية وتعليماً يستجيبان لمتطلبات المجتمع الحديث، المنفتح، الذي نرنو إليه[41]. يكاد هذا الضرب من التربية أن يكون منعدماً في الوطن العربي، حيث تنتشر ثقافة الجحود والإقصاء، وحيث استطاعت التسلطية فرض رؤيتها الأحادية للمجتمع وللتراتبية الحاكمة له. لقد بين أفاية أن التسلطية قامت على ترسيخ سياسة الإذلال الممنهج، والحط من قيمة الإنسان العربي، وإفراغه من هويته السياسية بما هو مواطن يتحدد بالانتماء والمبادرة. فكان من نتائج ذلك انسحابُه من الفضاء السياسي وكفره المطلق بالسياسة، وهذا ما جعله يتقدم إلى مشهد الأحداث في صورة ضحيةٍ لظلمٍ تاريخيٍ أو أصلي[42]. في مثل هذا الجو من الانحباس السياسي والتسلطي، تنسد كل الأبواب أمام التربية على المواطنة والحق، يغدو التعليم آلية لتكريس هذا الوضع، فيخلو من كل ما يمكن أن يزرع في المُتعلم القدرة على التفكير، ليَقتُل فيه، في صمتٍ، قدرته على المساءلة والنقد.

لا يستقيم التساؤل عن مقدار حاجتنا إلى الفكر الفلسفي من دون استحضار هذا الهاجس التربوي والتنويري في كتابات أفاية؛ إذ به تتجلى الوظيفة التي ينبغي على الفلسفة أن تنهض بها في مجتمعٍ لا يزال يرزح تحت أشكال التسلطية والقمع، وهي وظيفة تنويرية ترمي إلى تفكيك القواعد النظرية للتسلطية وتَعَقُبِ تجلياتها في أدق تفاصيل الحياة الاجتماعية والثقافية والسياسية. ليست الفلسفة، هنا، بحثاً عن الحقيقة، وإنما هي جرأة على قولها في جو ثقافي يمنع القول ويحاصر الرغبة في البحث عن الحقيقة، أو لنقل إنها «سياسة للحقيقة» على حد تعبير فوكو[43]، وهذا ما يستلزم «الابتعاد عن التمسك المطلق بالحقيقة الواحدة، ولا سيما في المجتمع الحديث الذي أفرز فئة المراهقين التي تطرح كل أنواع الأسئلة والشكوك»[44].

الفلسفة، وفق هذا المنظور، مطلب مشروع وحاجة ملحة بالنظر إلى ما تضخه في أمشاج العملية التعليمية من مفاهيم نقدية وما ترسخه من قدرة على المساءلة والنقد، وهي تشق بذلك درباً نحو خلخلة بنى التسلطية على مستوى تمثل الإنسان العربي لنفسه ووعيه النقدي بوضعه كمواطن قادر على الانسلال من وضعية الرعية، بما يستدعيه ذلك من تحقيق شرط الحرية بحسبانها المجال الذي ينتعش فيه الوعي النقدي. نقرأ لأفاية قوله: «لا يمكن للعقل، بوصفه عملية ذهنية، أن يغتني ويتطور إلا ضمن مناخ اجتماعي وثقافي يسمح بهوامش للحرية. إننا لم نتعود، في تنشئتنا العامة، على الاستئناس بالعقل باعتباره قدرة على التفكير والتقييم والحكم، لأن أنظمتنا التعليمية تلقينية تطالب بالحفظ وإعادة الإنتاج ولا تسمح بالاختلاف وسلوك سبيل السؤال وإحكام العقل»[45].

إن ما يزيد حاجَتنا إلى الفلسفة في مجال التربية كثافةً الرجّاتُ العنيفة التي شهدها الوطن العربي منذ مطلع هذا العقد، والتي عجلت ببروز دور الشباب في تحريك الحشود، بل وأعادت طرح السؤال عن قدرة هذه الفئة على تحقيق تغيير عجزت الفئاتُ الاجتماعية الأخرى، بما فيها المثقفون التقليديون، عن تحقيقها. وهذا ما حمل المراقبين على التساؤل عن علاقة الشباب بالمجال السياسي والفاعلين فيه، وعن دور تكوين وعيهم وتأهيله للاضطلاع بدورٍ في توجيه حقل السياسة في الوطن العربي، بحسبانهم الفئة التي عمدت التسلطية على تهميشها[46]، ولا سيَّما في ظل نظامٍ تعليمي لا يحفز على التفكير ويرسخ ثقافة الاجترار والتسليم. والمأساة، يقول أفاية، هي أن هؤلاء الشباب «يعدمون القاعدة الاجتماعية الحاضنة، ولا جذور عميقة لهم في المجتمع، ولم يكن لهم لا الوقت ولا الاقتدار التنظيمي لخلق أطر كفيلة للدخول في حلبة المنافسة الانتخابية»[47].

تتضح علاقة الفكر النقدي بوضعية فئة الشباب إنْ نحن أخذنا بعين الاعتبار المعنى الذي يُعطيه أفاية للديمقراطية وشروط الانتقال الديمقراطي من حيث هو خروج من التسلطية؛ إذ لم يختزل الديمقراطية في بعدها التمثيلي الضيِّق، أي في ما يسميه عبد الإله بلقزيز الداروينية السياسية[48]، وإنما ينظر إليها كعمليةٍ تتجاوز البعد السياسي والمؤسساتي إلى البنية الثقافية والاجتماعية الحاضنة للاجتماع السياسي ككلٍ؛ «إذ ينهض تفاعل دائم، في مسار الانتقال، بين إرادة التغيير وقدرة الفاعلين الاجتماعيين على صياغة وبناء وتحقيق مقتضيات الثقافة والممارسة الديمقراطية»[49].

2 – ليس من شك في أن تصاعد دور الشباب في أحداث «الثورات العربية» خلخل كثيراً من بديهيات الوعي العربي المعاصر، ولعل دور المثقفين العرب كان في جملة تلك القناعات، ولا سيما أن الأحداث تلك فاجأت الجميع، «وتجاوزت، في منطلقاتها وخطاباتها ومقاصدها، «الإيديولوجيات» التي اعتاد المثقفون العرب التموقع داخلها، وإعادة إنتاج مفرداتها طيلة العقود الخمسة الأخيرة»[50]. وسرعان ما أخذ التساؤل عن جاهزية المثقفين، وعن قدرة مشاريعهم الفكرية على احتواء ما حدث وتقديم فهمٍ معقول له، يفرض نفسه على الوعي العربي، خاصة أمام ظهور «مثقفٍ جديد» خرج من جوف الأحداث وأينع وعيه في تربة ثقافتها التواصلية، فاستطاع بذلك تحقيق ما عجز المثقف التقليدي، المُطل على العالم من برجه العاجي، بأن أفلح في إنتاج خطاب «شوارعي مفتوح على المجموع المنخرط في الفعل الجماهيري»[51]، وهذا ما دفع البعض إلى التبشير بنهاية المثقف التقليدي وانحسار دوره. تصدى أفاية بالنقد لهذا الموقف المتسرع من فهم دور المثقف التقليدي والحكم عليه على ضوء «الثورات العربية»، معتقداً أن الحاجة إليه لا تزال قائمة، إذ «لا يجوز – في نظره – محو كل هذا العطاء الفكري والثقافي الذي أنتجه المثقفون العرب، فقط لأن هناك فاعلاً تواصلياً جديداً له ما له من اقتدار وعليه ما عليه من حدود وعوائق»[52].

يضعنا هذا الموقف في صلب العلاقة الإشكالية التي ما انفكت تجمع المثقف العربي بالسياسة ومجالها، أي من حيث هو إنسان ملتزم بقضايا المجتمع ومنخرط في مواجهتها[53]، وهذا ما يعني أنه على المثقف العربي أن ينخرط في فهم الأحداث السياسية والانشغال بالشرط السياسي للراهن العربي، بعد إفلاته من قبضة الفهم جراء تسارع أحداث الربيع العربي. غير أن أفاية، وعند حديثه عن الجابري كنموذج للمثقف المغربي، لم يتردد في القول إن جزءاً كبيراً من شخصية الجابري، المثقف، ارتبط بدفاعه عن استقلال المثقف عن السياسة، متسائلاً؛ «لو لم يتحرر الجابري من هواجس السياسة، ومن همومها وأوهامها، هل كان بإمكاننا أن نربحه كمثقف مغربي يتقدم إلى الساحة الفكرية العربية، بوصفه أحد النهضويين العرب في نهاية القرن العشرين، وبداية هذا القرن؟»[54]، فهل يعني هذا أن الاستقلال عن هموم السياسة وهواجسها يبقى شرطاً قبلياً لاستقلال المثقف؟ ألا يقود هذا إلى القول، قسراً، إن ماهية المثقف لا تتحقق إلا باستقلاله عن السياسة ومجالها؟ ألا يكرس هذا الموقف نزعة انسحابية من الشأن العمومي لدى المثقفين العرب، ويعضد، بالتبعة، رأي المشنعين عليه والداعين إلى صمته، وفسح في المجال أمام الفاعلين الجُدد الذين أفرزتهم الاحتجاجات والثورات العربية الأخيرة؟

3 – إن الوضع السياسي القائم في الوطن العربي يستدعي الدور النقدي للمثقف، قصد جبه «خطاب السلطة العربية وخياراتها النابذة للسؤال والحرية» والتي «حولت الإنسان العربي إلى كائن نسي ذاته، كلية، وارتمى في لحظته الآنية الوقتية، بسبب ضغط اليومي، وبسبب النزعة التواكلية والتعامل غير المنتج مع الزمن، أو لجأ إلى ماضٍ متخيل»[55]. يمكن القول، عموماً، إن أفاية يلخص، هنا، بكثافة ما ستتصدى له أعمال المثقفين العرب ومشاريعهم الفكرية؛ نقد السلطة والتراث والعقل. من يقرأ ما كتبه مثقفون كمحمد أركون، وعبد الله العروي، وهشام جعيط، ومحمد عابد الجابري، وحسن حنفي، يدرك أن مشاريعهم الفكرية كانت مشغولة بتلك الهواجس رغم الاختلاف القائم بينهم من حيث الرؤية والمنهج. يصف أفاية مجهودات هؤلاء بأنها «وعي عربي ذو طبيعة نقدية» أخذ في التحرك وخلخلة الفهم المشترك الذي تعود عليه الإنسان العربي[56]، وقد كان للتراث حظه من التحليل والنقد كما هو بين من متن هؤلاء المثقفين، حتى عند أكثرهم دعوة إلى القطع معه والخروج من أفقه التاريخي والنظري كعبد الله العروي[57].

ليس نقد التراث، هنا، غاية في ذاته، وإنما توسلت به تلك المشاريع الفكرية النظرية قصد وضع اليد على العقل الثاوي في تضاعيفه، إيماناً من أصحابها بأن العقل التراثي لا يزال يجثم على الوعي العربي المعاصر ويفرض عليه رؤيته الخاصة للوجود والتاريخ، فيكون استدعاء التراث، كما بينَ الجابري، خطوةً للتفكير في الحاضر والإجابة عن أسئلته. ويكفي استحضار العناوين الكبرى التي اختارها المفكرون العرب لمشاريع دراستهم للتراث والعقل حتى نتبين كثافة النزعة النقدية عندهم؛ إذ يتحدث أركون عن نقد العقل الإسلامي والجابري عن نقد العقل العربي، وهذا ما يؤشر إلى نضج فكرة النقد عند هؤلاء وارتفاعهم بها لأن تصير مرتكزاً من مرتكزات المشروع الحضاري العربي. ما المعنى الذي يعطيه المثقفون العرب لمفهوم النقد عند تحليلهم للتراث والعقل؟ وبأي معنى يتماهى النقد مع الفلسفة في الفكر الفلسفي العربي المعاصر؟

ثالثاً: النزعة النقدية في مواجهة الحداثة والتراث

1 – لم يكن اكتشاف الذات العربية في مرآة الغرب مجرد تفصيل عادي بالنسبة إلى الوعي العربي، إذ كان عليه أن يجترع حقيقة تأخره التاريخي كلما أقدم على عقد مقارنة بين حاضره وحاضر الغرب المتقدم، بما استلزمه ذلك من وعي ملحمي بالزمن والتاريخ والتراث، ومن شقاءٍ على مستوى الوعي بالوضع التاريخي وسُبل تحصيل أسباب التقدم[58].

ويمكن القول، إن «فكر النهضة هو وعي بواقع الانحطاط العربي – الإسلامي ومحاولة لمقاربة سؤال؛ لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم؟»[59]، وأن الغرب ارتقى إلى المفهوم الذي يستدعيه الوعي العربي كلما أراد التفكير في راهنه أو البحث عن «هويته»[60].

ما كان للفكر العربي أن يتحرك خارج مدار أسئلته النهضوية، وسرعان ما بات الاهتجاس بها ضمانةً لمشروعية كل إنتاج فكري يرمي إلى فهم الراهن العربي قصد الخروج من وضعية التأخر التاريخي. وما كان الخطاب الفلسفي العربي بمعزل عن تلك الأسئلة، إذ سرعان ما أدرك المشتغلون فيه أن عملهم لا ينبغي أن يظل حبيس تاريخ الفلسفة، وأنهم مطالبون بالانخراط في فهم إعضالات النهضة انطلاقاً من مرجعياتهم الفلسفية. وسواء تعلق الأمر بالتراث الفلسفي العربي – الإسلامي، أو بالتراث الفلسفي الغربي، فإن الملاحظ على المشاريع الفكرية التي أنتجها المنتمون إلى حقل الفلسفة رغبتها في تطويع تلك المرجعيات مع مقتضيات النهضة وأسئلتها، اعتقاداً منهم بقدرة الفلسفة على إمدادنا بفهم معقول للراهن وتحولاته. كانت تلك حال عبد الرحمن بدوي مع الوجودية، ومحمد عزيز لحبابي مع الشخصانية، وزكي نجيب محمود مع الوضعانية، وعبد الله العروي مع التاريخانية… إلخ[61]، وهذا ما يفيدنا في القول إن استدعاء هذه المرجعية أو تلك، عند هؤلاء، ما كان غايةً في حد ذاته بقدر ما راموا البحث فيها عن أجوبة لأسئلتهم النهضوية. يركز، في تحليله لمسار النقد في المشاريع الفكرية العربية، على كلٍ من العروي، والجابري، والخطيبي، ويضع إسهاماتهم في سياق النزعة النقدية العربية التي أخذت في التشكل منذ عصر النهضة، وهو ما يعني أننا أمام استمراريةٍ فكريةٍ على مُستوى الإشكالية الحاكمة للوعي العربي منذ النهضة إلى اليوم، ما يجعل الحديث عن نزعة نقدية أمراً ممكناً. يتعلق الأمرُ باتجاهٍ فكري طغى على حيز كبير من ممثلي الفكر العربي منذ لحظاته التأسيسية مع مفكري النهضة، وتوّج بظهور مشاريع ترمي إلى نقد العقل التراثي في ظل موقف معين من الفكر الغربي، وهذا ما نبه إليه أفاية عندما أشار، مثلاً، إلى أن عبد الله العروي «يحدد جهوده النظرية ضمن تطور الفكر العقلاني العالمي والعربي»[62]، وإلى أن «مطلب النقد، عند الجابري، مرتبطٌ عضوياً بمشروع النهضة»[63]، وأن «[فكر الخطيبي] يعبر عن تفاصيله من خلال نص جسور في محاوراته سواء مع التراث، أو الغرب، أو الواقع»[64].

لا حاجة بنا إلى القول إنه يقارب مشاريع أولئك المثقفين من خلال مواقفهم من ثنائية التراث والحداثة، مع استحضار الصعوبات التي واجهت تفتق النقد العربي في ظل تضخم العامل الأيديولوجي ونبذه لكل وعي نقدي. كان التلقي العربي للماركسية، وهي التي مثلت نمطاً تأسيسياً في تاريخ النقد على حد تعبير أفاية[65]، في جملة الأسباب التي زادت التضخم ذاك حدةً؛ إذ غلب على التعامل معها النظر إليها كمنظومة فكرية صالحة لكل زمان ومكان، «وبدلاً من أن تبرز الماركسية كنظرية نقدية تعلم السؤال الفعلي، وتساعد على صوغ أشكال حياتية تعاند المكرور وتتخطى ما يحول دون الإبداع، سقط الماركسيون العرب في نزعة من الاجترار رهيبة، وتحول النقد، في هذه المنظومة، إلى جمود اختلطت فيه المعرفة بالسياسة، وهيمنت الإيديولوجيا على الأشياء والأفكار والناس»[66].

فهل يمكن القول إن ما ميز المشاريع الفكرية النقدية العربية قدرتُها على جبه إعضال التراث والحداثة، وعلى الإفلات من قبضة الأيديولوجيا؟

2 – بوّأ أفاية مشروع الجابري مكانة مركزية في تشكل النزعة النقدية العربية، بل واعتبر مشروعه في نقد العقل العربي، إلى جانب أعمال محمد أركون، محاولة «تستهدف تأسيس نظرية في النقد»[67]. ليس من شك في أن رغبة الجابري في نقد العقل هي التي تقف وراء هذا الاعتبار، إذ كان عليه أن يخوض مرافعةً نقدية ضد ممثلي الفكر العربي المعاصر، بمختلف مستوياته وتياراته، لتشخيص أعطاب العقل المنتج لذلك الخطاب، والمُضي نحو إنجاز مشروعٍ في نقد العقل العربي انطلاقاً من البحث في عملية تشكله البنيوي والتاريخي. لذلك أعلن الجابري، في خاتمة كتابه الخطاب العربي المعاصر، عن حاجة المشروع النهضوي العربي إلى نقد العقل قصد التحرر من سلطة التراث والآخر، «وتدشين عصر تدوينٍ جديد، تكونُ البداية فيه نقد السلاح… نقد العقل العربي»[68]. لا يستقيم النقد، إذاً، إلا إن هو تصدى للعقل التراثي وعمل على تفكيك بنيانه النظري، وهذا هو العمل عينه الذي أنجزه محمد أركون في مشروع نقد العقل الإسلامي، عندما انصرف إلى البحث في البنية القياسية للعقل، مبيناً مركزية الظاهرة القرآنية وأثرها في تشكل مكونات العقل التراثي، بل وامتداداته في الوعي الإسلامي المعاصر أيضاً[69]. بل إن هذا التعامل النقدي مع العقل هو ما يفسر استدعاء اسم العروي رغم موقفه السلبي من التراث، ودعوته الصريحة إلى القطع معه[70].

فرغم أن هذا المفكر لم يدع مشروعاً في نقد التراث العربي الإسلامي، ورغم كل ما قيل عنه من صدوره عن موقف عدمي من التراث[71]، فإن القارئ في أعماله، ولا سيَّما منها تلك التي عقبت كتابة مفهوم الإيديولوجيا، يلحظ حضوراً قوياً للتراث وقضاياه في متنه، وليس في ذلك ما يدعو إلى الاستغراب طالما أنه أقر، في أكثر من مناسبة، بأن «القطيعة مع التراث، أي التحرر من هيمنته، [لا تتم] إلا بدراسته دراسة تاريخية نقدية»[72].

وعند عبد الكبير الخطيبي المسألة أوضح؛ إذ الكتابة السوسيولوجية عنده «استراتيجية واقتصاد»، ومتى تذكرنا الكثافة التفكيكية التي تنضح بها هاتان العبارتان، ومتى تذكرنا تعويل دريدا عليهما في خلخلة أسس الميتافيزيقا الغربية وزحزحتها عن مرتكزاتها الكبرى، أمكننا القول إن ما يرومه صاحب النقد المزدوج من فعل الكتابة هو تصفية الحساب مع الميتافيزيقا الغربية والتقليد الفكري العربي الإسلامي[73].

تقتضي هذه الاستراتيجية إعادة النظر في التشكل التاريخي للفكر الإسلامي والغربي، وللعقل المنتج للمعنى في ذلك التاريخ، قصد الوقوف على المراكز التي شيدها العقل الميتافيزيقي بما يقتضيه ذلك من فضح للهوامش واللامفكر فيه والمسكوت عنه في الفكر الميتافيزيقي. لذلك يمكن للمرء أن يتفهم دعوة الخطيبي إلى تأسيس «علم اجتماع يفكر ذاته بمقتضى فكر متعدد للاختلاف»[74].

التنقيب في التراث عن ملامح العقلانية؛ خلخلة مرتكزاتها وإظهار محدوديتها على ضوء مكتسبات العقل الحديث؛ ضخ عدة مفاهيمية ومنهجية جديدة في حقل الدراسات التراثية؛ شق دروب تساؤلية في ثناياها؛ ربط نقد العقل بهاجس الحداثة، كلها سمات اختصت بها مساءلة أركون والعروي والجابري والخطيبي للتراث، فكان من الطبيعي أن يجمعها أفاية ضمن خانة واحدة مثلها تيار النزعة النقدية العربية[75]. واضح أننا لسنا أمام استنساخ للنقد بمعناه الغربي؛ إذ الأمر لا يتعلق باستدعاء نظرياتٍ في النقد وتنزيلها على مجال الراهن العربي والتراث الإسلامي، بل إننا، بالأحرى، أمام فكرٍ يرتكس صوب تراثه وذهنه مشدود إلى راهنه؛ إلى سؤال الحداثة الذي اخترق كيانه وفرض نفسه على أدق مكونات الوعي العربي المعاصر.

إلى هذه الأسماء يُمكن أن نضيف مفكرين آخرين كان لهم سهمهم البارز في بناء الفكر النقدي العربي المعاصر؛ حسن صعب، وحسن حنفي، وناصيف نصار، ونصر حامد أبو زيد، وعبد الله الغذامي، وزكي نجيب محمود… إلخ. لذلك يمكن القول إن الحديث عن نزعة نقدية لم يكن من قبيل التزيد والمبالغة في توصيف وضعية الفكر الفلسفي العربي؛ فنحن أمام عملٍ نقدي متواصلٍ، سعى إلى إعادة ترتيب أوضاع الوعي بالتراث وامتد جهده النظري ليمس أكثر البديهيات والمسلّمات صلابة وثباتاً فيه[76]. إن نقد العقل يبقى مقوماً من مقومات الفكر النقدي العربي المعاصر، وليس المقصود بالعقل هنا كياناً ميتافيزيقياً متعالياً عن الوجود والتاريخ، وإنما الآليات الذهنية المنتجة للحقيقة والمعنى في الماضي كما في الحاضر، التي تقف عاجزة عن فهم المفارقات التي يعيشها الإنسان العربي على مستوى علاقة وعيه بفعله، أي على مستوى علاقة عقل الإسلام بعقل الفعل على حد تعبير العروي[77]. إن مطلب نقد العقل، كما تُقدمه أدبيات الفكر العربي النقدي، ليس مجرد ترف أكاديمي بمقدار ما يمثل حاجة ثقافية وذهنية، بل ومهمة على الفكر الفلسفي العربي أن يضطلع بها لجبه واقع تأخره التاريخي.

خاتمة

كانت الغاية من هذه القراءة الوقوف على الصورة التي رسمها نور الدين أفاية لمفهوم النقد في الفكر العربي المعاصر، غير أن إدراك مثل هذه الغاية سرعان ما يزج بالباحث في التنقيب عن الأصول النظرية لمفهوم النقد عند هذا المفكر، ليجد نفسه في معمعة تاريخ الفلسفة، ومناحي تلقّيه من طرف المفكرين العرب المعاصرين. استطاع أفاية أن يربط الفكر الفلسفي العربي المعاصر بإشكالياته الحضارية الرئيسية؛ فلم يتخذ حديثه عنه صورة تفكير في نصوصٍ تتعالى عن الزمن والتاريخ، ليُكرِّس بذلك تبرُّمه من كل نزعةٍ نصيةٍ تحصرُ الفكر الفلسفي في عقل النص بعيداً من التاريخ وطوارئه.

بيد أن موقفه هذا لم يأل به إلى الانفصال عن تاريخ الفلسفة، ما دام الفكر الفلسفي، منذ كانط وهيغل، لم يعد بمقدوره أن يتحقق خارج تاريخ الفلسفة، وهو ما تبدى بجلاء في تشديد أفاية على وصل الفكر العربي المعاصر بأصوله الفلسفية وبيان كيفية إفادته منها، وتطويعها مع أسئلة شرطه التاريخي. يمكن الاعتراض على استراتيجية أفاية في انتقاء نماذج فكرية للدفاع عن أطروحته في وجود نزعة نقدية استطاعت التموقع في جغرافيا الفكر العربي المعاصر، كما يمكن التساؤل عما إذا كان عرضه لفكر العروي والجابري ونصار والخطيبي ينم عن اقتناع بإمكانية المواءمة بين مشاريعهم الفكرية، أو الإفادة منها لاستئناف عمل النزعة النقدية التي لا تزال حاجتنا إليها قائمة اليوم. كما يمكن التساؤل عن دلالة البدء بالحديث عن الجابري والانتهاء بالخطيبي، وعما إذا كان ذلك يعني إيمانه بحاجة العقل العربي إلى الانفتاح على الهامش، وأن يعقل نفسه على ضوء مكتسبات تفكيك الميتافيزيقا الغربية، بما يستلزمه ذلك من إعادة نظرٍ في مفهومه عن الكتابة والمعنى والحقيقة. بيد أن ذلك كله يبقى جزءاً من مقاربة أفاية لمفهوم النقد، وهو الذي أكد أن النقد لا يسلم من النقد، «لأن هذا الإجراء العقلي ملتصق بلعبة اللغة وبإنتاج الخطاب»[78].

إن قيمة عمل أفاية تكمن، في حيز منها، في هذه الحيوية التي ضخها في مفهوم النقد، وجعلته، بالتالي، قريباً من استراتيجية التفكيك من حيث هي سيرورةٌ لا تتوقف لخلخلة المراكز، والتنقيبُ المستمر عن عملية إنتاج الاختلاف في المعنى، وزحزحة الحدود بين قطاعات الفكر من فلسفة وشعر وأدب، وتغييرٌ لمواقع النظر والفهم بحسبانه جزءاً من لعبة إنتاج الخطاب والحقيقة. وعندي أن عمله ذاك يفتح الباب أمام إمكانية الإفادة من مكتسبات ودرس النزعة النقدية العربية، بل وأمام النظر إليها باعتبارها عملاً فكرياً لا ينبغي أن يتوقف، لأنه يبقى، في نهاية المطاف، جزءاً من واجب الفكر الفلسفي العربي تجاه راهنه وتاريخه.

 

قد يهمكم أيضاً  الفلسفة وسؤال المؤسسة والديمقراطية

#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #الفلسفة_العربية #الفلاسفة_العرب #الفلسفة_النقدية #النقد #الفكر_العربي_المعاصر #الفلسفة_المعاصرة #الفكر_الفلسفي_العربي #العقل_العربي #العقلانية #محمد_نور_الدين_أفاية