ما إن يُفكر المرء في تيمة «المرأة في السينما المصرية» كدراسة بحثية حتى يتبادر إلى الذهن مباشرة المرأة كمبدعة، إذ تطفو على سطح الذاكرة صور تلك النساء الرائدات: عزيزة أمير، فاطمة رشدي، بهيجة حافظ، وعلى الأخصّ عزيزة أمير التي أنتجت أول فيلم مصري روائي طويل «ليلى»، فمدحها أمير الشعراء أحمد شوقي يومها في حضور الاقتصادي الكبير طلعت حرب الذي قال لها: «سيدتي.. لقد نجحتِ في ما عجز عنه الرجال». ثم تتوالي الأفكار عن المرأة كموضوع سينمائي بما يتضمنه من تلك الصور التي ظهرت بها المرأة على شاشة السينما المصرية، وهو ما يستدعي بدوره مقولة الكاتب والأديب الإنكليزي جوزيف كونراد: «أن تكون امرأة مهمة صعبة بشكل رهيب، لأنه يترتب عليها بالأساس التعامل مع الرجال».

المقولة السابقة لكونراد تشي بأمرين: الأول يتعلق بالأسلوب الذي يتعامل به الرجل مع المرأة، والثاني أن رجلا – وأقصد جوزيف كونراد – هو من كتب أو صاغ تلك الحقيقة بشأن العلاقة الشائكة بين الجنسين، وهذا الشق الأخير بدوره يصبّ في صالح بعض الرجال الذين أنصفوا المرأة، وتمكنوا من فهمها وإدراك عقلها ومشاعرها ومأزقها مع المجتمع البطريركي، ومن ثم نجحوا – إلى درجات متفاوتة – ليس فقط في التعامل معها كإنسانة بعيداً عن أي تصنيفات جندرية، ولكنهم أيضاً – أقصد الرجال المبدعون في مجال الأدب والفنون – نجحوا في التعبير عن عالمها وتجسيد مشاكلها، وتسليط الضوء على ازدواجية المجتمع، وأحياناً القانون، عندما يتعامل مع المرأة والرجل، فيضع الفروق بينهما وينتصر للرجل على حساب المرأة في كثير من الأحيان.

عندما كانت السينما هواية وفن ومغامرة، اقتحمت المرأة هذا المجال، وخاضت تجربة الإنتاج، وجمعت أحياناً بين الإنتاج والتمثيل والإخراج. عندما كانت السينما هواية وفن ومخاطرة مادية كبيرة لم يُغامر الرجل، ولم يقتحم، بل، ولم يجرؤ على أن يخطو تلك الخطوة. وحدها كانت المرأة المصرية من دون نساء العالم التي غامرت وخاضت تجربة الإنتاج والإخراج، بالطبع، إلى جانب أدوارها كممثلة. فمنذ أن دخل فنّ السينما بلادنا العربية، كانت المرأة موجودة وبقوّة، وكثيرة هي الأفلام التي حملت أسماءً أنثوية مثل «ليلى» و«زينب»، و«وداد»، إلى آخره.

ليست وحدها مفعولاً به

رغم حضور المرأة الدائم في جميع الأعمال السينمائية، ورغم دورها الكبير في إنجاح تلك الأفلام – مهما كان الدور ثانوياً – سواء تم ذلك عبر إبراز مفاتنها الجسدية أو عبر استغلال طاقتها الغنائية وصوتها العذب، أو قدراتها في الرقص الشرقي الفاتن، لا بد من الاعتراف بأن صنّاع السينما لم يفلحوا بشكل عام، في رسم تلك الأدوار النسائية، بحيث تكون قادرة، بأنوثتها وجمالها، على تجسيد واقع المرأة العربية كما هو بالفعل، فنادراً ما تناول هذا الفنّ المرأة القوية الشخصية ذات الإرادة المتمكّنة من إدارة ضفة أمور حياتها وحياة أسرتها التي تعيلها. وهذا ينطبق على السينما العربية كلّها مع وجود بعض التجارب الاستثنائية من رجال سينمائيين نظّروا للمرأة برقيّ، فظهرت النساء في أفلامهم مبدعة وحرّة وقادرة على صُنع مستقبلها بإرادتها الحرة مهما كانت التحديات.

رغم ما تم ذكره سابقاً، ورغم استغلال جسد المرأة عبر شاشة السينما لتحقيق أكبر نجاح ممكن للعمل الفيلمي، لا يمكن القول إن الأمر توقف عند حدود المرأة دون غيرها، فالدراسات التي اهتمت برصد الصورة التي تتعامل بها السينما مع أجساد النساء باعتبارها موضوعاً للفرجة والتطلع من قبل أبطال الفيلم والمتفرجين الذكور، تلك الدراسات التي أكدت عملية تشييء جسد المرأة في الثقافة الاستهلاكية، أغفلت أن الرجل هو أيضاً كان موضوعاً للفرجة، وتم تشييئه هو أيضاً. فلسنوات ظلت نصيرات النسوية ينتقدن الصورة التي تتعامل بها السينما مع أجساد النساء باعتبارها موضوعاً للفرجة والتطلع من قبل أبطال الفيلم والمتفرجين الذكور، ويؤكدن عملية تشييء جسد المرأة في الثقافة الاستهلاكية، ومن بين هؤلاء المفكرة النسوية المعروفة لورا ميلفي في دراستها المتعة البصرية والسينما الروائية التي فتحت مجالاً خصباً أمام النقد النسوي والسينمائي، حيث ربطت بين أفكارها والتحليل الفرويدي الذي يعتبر أن التطلع والذات المتطلعة شيء سادي إيجابي مذكّر، في حين أن موضوع النظر مازوشي سلبي مؤنث. كما ربطت ميلفي أفكارها بالحركة النسوية التي أعادت النظر في الأدوار التي تفرضها الثقافة على كل من النساء والرجال.

كذلك في مصر، وبالإضافة إلى ما سبق، فإن تأمل الدراسات التي أجريت على وضعية المرأة في السينما المصرية، سواء في أعقاب ثورة 1952 أو في الستينيات والسبعينيات وما بعدها، يكشف من الوهلة الأولى انحياز الباحثات غير الموضوعي إلى قضايا المرأة، وإلى الصورة المثلى التي يرغبن في أن تكون عليها المرأة، متناسيان – عمداً أو سهواً – ظروف المجتمع السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تعبّر عن تلك الفترة، وانعكاس ذلك على وضعية المرأة، ما يجعل نتائج الدراسات مشكوكاً في صدقيتها. ومثال ذلك دراسات أجرتها الدكتورة منى الحديدي، وصفية مجدي، وحتى دراسة فيولا شفيق المعنونة بـ المرحلة الناصرية، وقضية المرأة في السينما: نقطة تحول؟[1] فهي ارتكزت في أغلبها على أفلام القطاع الخاص، متجاهلة أهم الأفلام التي أنتجها القطاع العام، والتي تناولت بشكل أو بأخر دور المرأة وإسهاماتها. ويمكن ببساطة دحض نتائج دراسة شفيق بطرح تساؤل عن المنهج المتّبع في الدراسة وعلى أي أساس تم اختيار العيّنة التي تناولتها في بحثها. فحتى الأفلام الجيدة التي اختارتها اتخذت منها موقفاً يشكك في مضمونها، فهي مثلاً قد اعتبرت فيلم «مراتي مدير عام» (1966) من كتابة سعد الدين وهبة، قد نجح في إخفاء المعارضة في قالب يبدو تقدمياً ولكنه يحتوى في الحقيقة على إسقاطات عديدة ما زالت تعبّر عن شك إزاء نجاح تجربة المرأة العاملة».

لذلك، فإن كاتبة هذه السطور تدعو كل أصحاب تلك الدراسات التي وجّهت الاتهام إلي صنّاع الأفلام بأنهم يتعاملون مع المرأة مثل سلعة ‏‏يبيعونها في شباك التذاكر، وأنهم يركّزون على عوامل الإثارة والجنس أكثر من العناصر ‏التي تعلي من قيمة وأهمية المرأة؛ ‏تدعوهم إلى قراءة الكتاب المثير المعنون بـ الرجل على الشاشة… استكشاف الذكورة في سينما هوليوود[2] الذي يتضمن ثلاث عشرة دراسة تكشف بالتحليل العميق أن التطلع والفرجة في السينما لا يقتصران على النساء وأجسادهن، ولكنهما يطاولان الرجال وأجسادهم أيضاً بأشكال مشابهة ومختلفة، وذلك من خلال رصد العلاقة بين الفن والمجتمع، ودراسة الطبيعة الثقافية والفكرية والنفسية لهذا المجتمع، وتحليل صورة الرجل على الشاشة من خلال مجموعة من الأفلام تنتمي في معظمها إلى الأنواع الشعبية الناجحة تجارياً. فالكتاب يبحث في الدلالات الثقافية للنجوم الرجال وصورهم داخل الأفلام، والأنواع الفنية السينمائية التي تدور حول الذكر، والتي تتأثر بالتغيرات الاجتماعية السياسية. وهو أثناء ذلك يرصد الاستثمار الثقافي المعقد والكبير الذي أنفقته سينما هوليوود على مدار تاريخها في استعراض جسد الذكر. ويختبر من منظور واسع متعدد الرؤى، فرضية أن هذا الذكر في الثقافة الأمريكية – ومن خلال قصص أفلام هوليوود – ما هو إلا بناء صنعه المجتمع، وأن جسده قد تم تشييئه في الثقافة الاستهلاكية منذ العقد الأول من القرن الماضي. والدراسات الثلاث عشرة تشترك في انشغالها بمواضيع دائماً ما ربطتها نظرية الفيلم بالمرأة، وليس الرجل مثل: الفرجة، المازوشية، السلبية، التنكّر، والجسد في دلالته على الاختلافات العرقية والطبقية، وعلى الاختلاف بين الجنسين، وبين الأجيال.

الرجل منصفاً للمرأة

«أنا لم أنزل إلى ميدان العمل السينمائي لكي أنقذ البشرية أو لكي أُصلح الشأن السينمائي. نزلت إلى ذلك الميدان كي أُضاعف ثروتي. فبيع الجنس والعنف أسهل من بيع أي سلعة أخرى». هكذا اعترف جوزيف ليفين، أحد كبار المنتجين الأمريكيين. فالترفيه عبر الأكشن والعنف والجنس دائماً تجارة رابحة، وكثير من المنتجين في مصر لا يختلفون في توجهاتهم عن ليفين، باستثناء أنهم – خصوصاً في عصرنا الحالي – لا يتيحون الفرصة أمام السينما البديلة لتأخذ فرصتها إلى جوار سينما المقاولات التي يفرضونها بخلطتها المعروفة، والتي كثيراً ما يستغلون فيها جسد المرأة أسوأ استغلال.

رغم ما سبق، ورغم أن السينما المصرية والعربية لم تتعرّض للأبعاد الحقيقية لشخصية المرأة من الناحية الإنسانية، وظلت المرأة في خلفية الأحداث باستثناء بعض التجارب النادرة، في حين استحوذ الرجل على الأدوار الرئيسية، فإن السينما المصرية والعربية لم تقدّم في أغلب تلك الأفلام سوى صور مشوّهة عن المرأة، من خلال تكريس بعض الأفكار الخاطئة بشأن عقل وجسد المرأة. ورغم أننا لم نرَ، إلا في مشاهد تكاد تكون قليلة في نتاجات السينما العربية، نساء صاحبات قرار وتأثير، كما حدث في السينما الأمريكية، وسينما أوروبا الشرقية والغربية التي أظهرت نساءها بصورة لائقة بمكانتهنّ، في حين لم يتسنَّ للسينما المصرية أن تعيد الاعتبار إلى النساء العربيات اللواتي حاولن أن يكنّ ممثلات ومخرجات وكاتبات أو مناضلات، أو أن تعكس صورتهنّ في تجارب سينمائية تكلل بالنجاح. مع ذلك، ورغم أن الصورة السلبية طغت على الصورة الإيجابية التي حاولت ‏‏ظاهرياً إبرازها، فلا يمكن إغفال أنه في عام 1939 ظهر فيلم «العزيمة» لكمال سليم «والذي قدم أول ملامح واضحة للبنت المصرية في علاقتها بالواقع وقيود التقاليد، ووضعيتها، والمفروض عليها في مواجهة المفترض منها إنسانياً واجتماعياً، فالبطلة كانت تُمثل نموذجاً إيجابياً، وشجاعاً، له وجهة نظر واضحة في الحياة يسعى إلى تحقيقها .. وإن كانت البطلة تضطر في النهاية إلى تقديم التنازلات حتى لا تهبط إلى قاع المجتمع»[3].

كذلك لا يمكن إغفال الدور الذي أداه عدد من الرجال المبدعين في مجال الإخراج، وإنصافهم لشخصية المرأة الأمّ والزوجة المعطاء، رغم أنها ظهرت مستهترة أحياناً ليست بالقليلة، أو تحمل أفكاراً ذكورية أكثر من الرجال، أو تلك التي ظهرت كثيراً كامرأة ضعيفة مستكينة ومقهورة، كما حدث لبطلة فيلم «زينب» للمخرج محمد كريم، سواء في نسخته الأولى في بداية عهد السينما في مصر، والذي يُعدّ من أقدم وأهمّ الأفلام المصرية والصامتة في العام 1930، والذي أعيد تصويره ناطقاً عام 1952، والمستند إلى رواية محمد حسين هيكل. فرغم الصورة السلبية التي ظهرت بها المرأة، رغم ضعفها واستكانتها، يمكن اعتبار الفيلم من زاوية أخرى، نموذجاً سينمائياً يُبرز السلطة البطريركية ودورها في تحديد مصير المرأة في المجتمع. ففي الشريط السينمائي تُجبر زينب، التي ستموت بعد مرض ومعاناة طويلة، على الزواج من رجل لا تحبّه، وفقاً للتقاليد. إذاً، ومقارنة بالواقع التاريخي آنذاك، فإن الفيلم يكشف صوراً واقعية تنطق بحال المرأة ووضعيتها في تلك الفترة التاريخية في مصر.

ورغم أن بعض الدراسات – خصوصاً النسوية المتطرفة في نظرتها أو تلك المنحازة إلى المرأة – قد تشير إلى أنه: «لم تتعرض الأفلام المصرية المنتجة في المرحلة الملكية لوضع المرأة، إلا بشكل ضمني، وإن كان موضوعها هو استقطاب زواج المصلحة والحب الرومانسي الذي أتى في صلب فكرة تحرير المرأة. أما فترة الثورية الاشتراكية والقومية العربية، فطرحت تساؤلاتها على خلفية الأيديولوجيا السائدة في تلك المرحلة، فظهرت أفلام تناقش حرية المرأة الشخصية، وتعليم الإناث، وانضمام المرأة إلى القوة العاملة والحركة الوطنية، لكنها تحمل صوراً سلبية للمرأة»[4]. مع ذلك، في رأي كاتبة هذه السطور، يمكن لأي دراسة متأنية – تتحرّى الموضوعية – أن تكشف لنا عن جواهر ثمينة إذا تناولت صورة ودور المرأة، كما ظهرت في كثير من أفلام القطاع العام – شريطة أن تتخلص تلك الدراسة من الأفكار النسوية المتطرفة، والأحكام المسبقة النمطية، والقوالب الجاهزة في التعريفات والمفاهيم – وقطعاً ستكون هناك نتائج مدهشة، سواء في شقيها الإيجابي أو السلبي.

المرأة متمردة ومقهورة

على صعيد آخر، هناك نماذج أخرى للمرأة المتمرّدة التي تمتلك كثيراً من الجموح والانطلاق، كما في شخصية «شفعات» بطلة «شباب امرأة» لصلاح أبو سيف، وكذلك أفلام أخرى لصلاح أبو سيف، مثل «الطريق المسدود» في العام 1958، و«أنا حرة» في العام 1958، اللذين رأى فيهما النقاد اثنين من أهمّ الأفلام التي تعاطت مع هموم المرأة ومشكلاتها في الوطن العربي؛ فكلاهما تطرق إلى نظرة المجتمع إلى المرأة وإدانته لها من دون سبب، والمساواة التي تحتاج إليها المرأة في حقوقها مع الرجل. ثم جاء فيلم «دعاء الكروان» في العام 1959 لهنري بركات، وبطلته فاتن حمامة، ليدين جرائم الشرف ضد المرأة وانتهاك إنسانيتها، وذلك من دون أن نغفل نماذج فيلمية أخرى، مثل «شيء من الخوف» – «مراتي مدير عام» – «الحرام» – «الزوجة الثانية» – «صغيرة على الحب» – «البوسطجي» – «قنديل أم هاشم» – «عدو المرأة» – «ليل وقضبان» – وحتى «الناس والنيل». فمثلاُ فيلم «الحرام» المأخوذ عن رواية بالاسم ذاته ليوسف إدريس، والذي أخرجه هنري بركات، اختلفت الدراسات السينمائية والآراء النقدية بشأن تقييمه ونظرته إلى المرأة. فعلى سبيل المثال، اعتبرت فيولا شفيق أن ما جاء فيه من أفكار، خاصة بصورة المرأة ودورها «يخدم في حقيقة الأمر رؤية أبوية تضع المرأة في وضع خاضع لسلطة الذكر، نافياً إمكاناتها في التجاوز والتفاوض والكفاح»[5].

وتجاهلت شفيق أن فيلم «الحرام» كان تعبيراً عن واقع ملموس شديد القسوة تعيشه القرية المصرية، وأنه لأول مرة في تاريخ السينما المصرية يتم تسليط الضوء على عمال التراحيل من خلال هذه المرأة المطحونة المضطهدة والتي تُشكل رمزاً قوياً يُجسد معاناة الفلاح واستغلاله واستنزافه من السلطة في أبشع صورها. ويتناول فيلم «البوسطجي» مثلاً قضايا العرض والشرف ومعاناة المرأة التي كانت باستمرار ضحية لتلك المفاهيم والأعراف. أما فيلم «الزوجة الثانية»، فهو نموذج آخر يكشف بصورة شديدة الفنية الظلم الواقع على الفلاح المصري الفقير المسحوق، والذي يُرغم على تطليق زوجته وحبيبته وأم أولاده حتى يتزوج بها العمدة، وينجب منها ولداً يرث أملاكه بعد وفاته. لكن هذه المرأة الفلاحة القوية غير المتعلمة المُسلحة بإرادتها وعزيمتها وذكائها، تتقن فن المراوغة، وتنجح في حماية عائلتها وأسرتها، وتعويضهم عن كل ظلم وقع عليهم. ثم هل يمكن أن ننسى فيلم «شيء من الخوف» لحسين كمال، فهو – بالإضافة إلى بعده الرمزي، واعتبار فؤادة، بطلته، رمزاً لمصر – يُجسد أحد أهم الأدوار التي يمكن أن تؤديها المرأة، بقدرتها على تحرير نفسها من الخوف والقهر، بل وقيادة مجتمعها إلى التحرر هو أيضاً من الخوف ومقاومة الظلم والجبروت.

هذا إلى جانب ظهور نماذج سينمائية قليلة للمرأة القوية والمناضلة في سبيل حريتها، والتي تنتقل فيها المرأة من دائرة المطالبة بحقوقها إلى الدفاع عن وطنها. هنا لا بد من أن نذكر واحد من أقوى الأعمال التي تمجد دور المرأة في المجتمع، وهو فيلم يوسف شاهين «جميلة» (1958)، الذي يتناول نضال المجاهدة الجزائريّة جميلة بوحريد، ودورها في تحرير بلدها، في ظل تجسيد سينمائي مؤثر للاضطهاد والتعذيب الذي تعرّضت له جميلة، ذلك التعذيب الذي حرّمته كلّ القوانين الإنسانية والسياسية.

مزيد من الصور الإيجابية

عندما نتحدّث عن صورة المرأة – حتى في ظل الصورة السلبية التي ظهرت بها على الشاشة الفضية – يصعب أن ننسى تلك الصور الإيجابية التي رسمها عدد من المخرجين، مثل محمد خان في «أحلام هند وكاميليا»، وعاطف الطيب في «الحب فوق هضبة الهرم»، وفي «التخشيبة»، أو رأفت الميهي في «السادة الرجال»، وخيري بشارة في رائعة يحي الطاهر عبد الله «الطوق والأسورة» – أو داود عبد السيد في «يوم حلو ويوم مر» – وصولاً إلى يسري نصر الله في كثير من أفلامه ونظرته وتعامله مع المرأة، ورضوان الكاشف في «عرق البلح».

ولا يمكن أن ننسى هؤلاء الرجال المبدعين الذين كشفوا كمّ الظلم الواقع على المرأة، فمثلاً المخرج المصري سعيد مرزوق الذي اشتهر بإخراج الأفلام المثيرة للجدل، والتي أثرت بشكل مباشر في حياة المصريين، ومنها مثلاً تناوله لعالم المرأة المطلقة في مصر وعذاباتها، كما في شريطه السينمائي المعنون بـ «لا عزاء للسيدات» سنة 1977. كذلك من أهم أفلامه – والذي يعدّ من أهم الأفلام في تاريخ السينما المصرية أيضاً – فيلم «أريد حلاً» لفاتن حمامة عن قصة حسن شاه وموسيقى جمال سلامة، وهو الفيلم الذي تسبب في تعديل قانون الأحوال الشخصية وتحرير المرأة من بيت الطاعة. فهذا العمل «سيعتبر من أقوى أفلام السينما المصرية مناصرةً لحقوق المرأة من خلال تلك السيدة التي تسعى إلى الطلاق من زوجها بعد عشرين عاماً من زواج أليم، والعقبات القانونية والاجتماعية التي تقف في وجهها. والحقيقة أن مرزوق، مع «أريد حلاً» كان قد بات مرتبطاً كلياً بالسينما الراصدة للواقع الاجتماعي والساعية إلى تغييره»[6].

على صعيد آخر أكثر إنصافاً يأتي ما كتبته ماجدة موريس عن فترة الستينيات عندما تصبح المرأة رمزاً لمصر، مؤكدة أن «تعامل السينما مع صورة المرأة اتخذ أشكالاً أبعد وأعمق في علاقتها بالعمل السياسي وبالموروث الاجتماعي، وأن ذلك كان واضحاً في منظومة السلطة، كما استخدمت المرأة كرمز للوطن، كما في «القاهرة 30» و«ميرامار»، وإن كانت رمزية مقتبسة عن الأدب. كذلك قدمت سينما الستينيات صورة أخرى للمرأة أكثر إيجابية في اتجاه الدفاع عن المبدأ والعقيدة والحق، كما في «الناصر صلاح الدين»، و «وا إسلاماه» بين أعمال أخرى[7].

وإذا كانت فيولا شفيق ترى في موقع آخر من دراستها أن «الأم شغلت في الأفلام التقدمية موقعاً رمزياً سلبياً للغاية، بينما صورت بعض الأفلام الابنة على أنها ضحية التقاليد الرجعية الموروثة أو أنها حاملة شعار التقدم والمستقبل المرتبط بالحداثة، أصبحت الأم ترمز إلى أسوأ ما في موروث الثقافة والتقاليد المحلية، حيث يتم عن طريق تصويرها السلبي استنكار ورفض ثقافة المرأة الروحانية السابقة للحداثة، والتي تكمن في الطب الشعبي، وممارسات الزار، وغيرها، كما في «قنديل أم هاشم» لكمال عطية 1968‏[8]. لكن شفيق تجاهلت أن الفيلم كان تعبيراً عن واقع اجتماعي ومرحلة من تاريخ مصر، مثلما أسقطت – عمداً أو سهواً – أن فيلم «قنديل أم هاشم» – في وجهة نظري – يُريد أن يقول: إذا رغبت في تغيير المجتمع، فلتبدأ بالمرأة، فإذا لم تبدأ بها، وإذا لم تنجح في تغييرها، لن تنجح في تغيير المجتمع، ولن تستفيد من عصر العلم والتكنولوجيا.

وعلى العكس من رأي شفيق السابق، نجد موريس تؤكد أن «سينما الستينيات أعادت فتح ملفات القهر الاجتماعي الواقع على المرأة بشكل أكثر عمقاً ووعياً، بربطها بمنظومة الظلم الاجتماعي ككلّ في إطار المجتمع الطبقي، ورغم تفاوت الأدوار. لكن أدوار النساء في «الحرام» و«القاهرة 30» و«الزوجة الثانية» – من إنتاج القطاع العام – من أقوى وأكثر الأدوار النسائية اكتمالاً في تعبيرها عن الكل من خلال الجزء. كذلك إذا أضفنا «البوسطجي»، و«يوميات نائب في الأرياف»، و«بين القصرين» – كلها أيضاً من إنتاج القطاع العام – لاكتملت أمامنا بانوراما فريدة عن أوضاع المرأة، بدءاً من عصر سي السيد وما بعده. ثم هناك أفلام أخرى مالت إلى السخرية مثل: «مراتي مدير عام»، و«الأيدي الناعمة»، فهما رغم ميلهما إلى السخرية والمرح، قدما المرأة من منظور جديد يناصرها، ويدعو إلى إعادة النظر في أوضاعها السائدة»[9].

فاتن وصور المرأة

وأخيرا قبل أن نختتم كلامنا على المرأة، لا بد من أن نتذكر فاتن حمامة، الوجه الشامخ للمرأة في السينما المصرية، فقد حملت قضاياها وعبّرت عنها بصدق، وبعفوية وتلقائية. فاتن حمامة التي تنوّعت أدوارها، وكسرت الصورة النمطية للمرأة، قدمت الشخصية الناعمة من دون ابتذال، والمرأة الراقية من دون ابتعاد عن الواقع. وعندما أصبحت فاتن سيدة الشاشة العربية، صارت قادرة على اختيار أدوارها والتفكير فيها جيداً، وتدرّجت في أدوارها من البراءة التي تميز بها وجهها إلى الأدوار الواقعية، كما في «أريد حلاً» لسعيد مرزوق الذي جسدت فيه دور امرأة معاصرة تحاول أن يعاملها القانون بالمساواة مع الرجل، أو كما فعلت عندما جسّدت دور الأم المعيلة، وهو يبدو بقوة في عملين: الأول «إمبراطورية ميم»، حيث مثلت دور الأم المسؤولة عن عائلتها الكبيرة العدد في ظل غياب الأب، والثاني «يوم حلو يوم مر» لخيري بشارة، وفيه أدت دور أرملة من عصر الانفتاح بمبادئه المتقلبة التي زادت من الأعباء الثقيلة التي تحملها كامرأة، كما يصعب نسيان دورها في «أرض الأحلام» مع داوود عبد السيد.

أما أفلامها عن حقوق المرأة في فترة مبكرة، فنذكر منها أيضاً فيلم «الأستاذة فاطمة» الذي مثلت فيه دور طالبة كلية الحقوق من عائلة متوسطة تؤمن أن للنساء دوراً يوازي دور الرجال في المجتمع. لذلك يمكن للمرء أن يستوعب تماماً كيف تحوّلت فاتن حمامة، مع الوقت، ومرور السنوات، وتراكم الخبرات، إلى امرأة تعبّر عن كل النساء، هي التي كانت تقول: «في كل دور أدّيته امرأة أعرفها، ولا أعني أني أعرفها شخصياً، بل أعني أنها قريبة مني، أحس بوجودها فيّ».

وأخيراً، ونحن نختتم هذه الدراسة، يمكننا أن نقول: قطعاً هي معادلة صعبة أن تكون الأنثى حاضرة بجمالها وعقلها في تجاربنا السينمائية العربية، لكن تلك المعادلة ليست مستحيلة.