مقدمة

يُعدّ التعليم أحد أهم ركائز عملية التنمية ونهضة المجتمع وتقدمه؛ وهو يزداد أهمية في السياق الفلسطيني المُستعمَر لكونه أداة لحفظ الهوية الوطنية وأداة للمقاومة والتحرر من الاستعمار، في حين يعتبر من منظور طبقي ونسوي عاملاً مهماً للحراك الاجتماعي ولانعتاق الفئات الفقيرة والمهمشة وبخاصة النساء. يسهم تبنّي السلطة الفلسطينية سياسات الليبرالية الجديدة تحت ضغط المؤسسات الدولية المعولمة في تردي أوضاع قطاع التعليم، وبصورة أكثر حدة من غيرها من دول العالم، نظراً إلى تشابك وخضوع هذه السياسات للهيمنة البنيوية للاستعمار الصهيوني. تناقش هذه الدراسة الملامح الأساسية لهذه السياسات: تدني مخصصات قطاع التعليم والدعم الحكومي له، خصخصة التعليم وتسليعه والانفتاح على سوق التعليم التجاري العالمي، وتمييع شروط الحماية الاجتماعية للعاملين في القطاع التعليمي. أما تأثيرها المدمر في قطاع التعليم الفلسطيني، وتجاهلها لحقيقة أننا ما زلنا نعيش في مرحلة تحرر وطني تستوجب تبني سياسات تقوم على أسس مختلفة، فسيكون موضع اهتمام النقطة الثالثة في الدراسة. وتتطرق الدراسة أخيراً لبعض إمكانات وخيارات التصدي لمثل هذه السياسات.

أولاً: الليبرالية الجديدة والتعليم عالمياً

كان من أحد أهم منجزات مرحلة التحرر الوطني في إثر الحرب العالمية الثانية، تبني سياسات التعليم المجاني للجميع من أجل حياة أفضل للفرد وللمجتمع. ولكن مع دخول النظام الرأسمالي العالمي أزماته الاقتصادية خلال سبعينيات القرن الماضي وثمانينياته في عهدي تاتشر وريغان، اتجه النظام لتبني سياسات ليبرالية جديدة، تضمنت تقليص تدخل الدولة في الاقتصاد، وخصخصة القطاع العام، وإطلاق حرية السوق، في حين فُرضت هذه السياسات لاحقاً على العديد من دول العالم من قبل المنظمات المالية الدولية مثل البنك الدولي كشرط مسبق للحصول على التمويل اللازم للخروج من أزماتها الاقتصادية.

لم تقف نظرية حرية السوق التي تبناها المحافظون الجدد عند حدود الاقتصاد، فانقضت على سياسات الرفاه الاجتماعي وطاولت التعليم كأحد أهم مكونات قطاع الخدمات، حيث تخلت الدولة عن مسؤولياتها تجاه تطويره ودعمه، بحجة عدم القدرة على تحمل نفقات وأعباء الطلب المتزايد على الخدمات التعليمية[1]. وأُعطي القطاع الخاص دوراً أكبر في قطاع التعليم، وبخاصة تعليم ما قبل المدرسة والتعليم الجامعي، بحجة خفض تكلفته على ميزانية الدولة، ومعالجة ترهل التعليم العام وتردّيه، وزيادة فعاليته وكفاءته، والأهم تحسين جودته لزيادة تنافسية الاقتصاد المحلي في الاقتصاد العالمي والاندماج في عملية العولمة[2].

وخلال العقدين الأخيرين ومع تسارع عملية العولمة، وتأسيس منظمة التجارة العالمية (1994)، فتحت اتفاقيتها الغاتس (General Agreement for Trade and Services (GATS)) المجال أمام رأس المال للاستثمار والاتجار في التعليم خارج الحدود الوطنية دون قيود أو شروط، بما ساهم في تعزيز هرمية التعليم، وتعميق الاستقطاب الطبقي، وضرب أسس العدالة الاجتماعية.

يشير هيل على سبيل المثال إلى أن عائدات الاستثمار في التعليم وتسليعه وتحويله إلى صناعة قابلة للتداول في بريطانيا، وصلت خلال التسعينيات إلى حوالى 240 بالمئة من قيمة الاستثمار، بينما لم تتجاوز عائدات الاستثمار في بورصة لندن 65 بالمئة من قيمة الاستثمار؛ وتشير بعض المعطيات من عام 2004 إلى أن التسليع الحالي للتعليم غير المكتمل بعد، يولّد فعلاً 365 مليار دولار سنوياً في العالم بصورة مباشرة عبر إدارة وتملّك وسيطرة رأس المال الوطني والشركات العابرة للقوميات على المؤسسات التعليمية من مدارس وجامعات، وعبر خلق وإنتاج قوى عاملة مرنة وبمهارات محدودة قادرة على تلبية الحاجات المتغيرة للسوق العالمي الرأسمالي، وخاضعة أيديولوجياً لمتطلبات المؤسسات الرأسمالية عبر تعزيز النزعة الفردية التنافسية، وتقبّل عدم المساواة باعتبارها أمراً طبيعياً، وأنه لا بديل من الرأسمالية[3].

عربياً، لم تكن أنظمة التعليم العربية بمعزل عن التحولات العالمية، وإن بتفاوت؛ فوفقاً لزيتون، دفع «المزج بين العولمة وفكر الليبرالية الاقتصادية الجديدة»، وتمثلاتها في اتفاقية منظمة التجارة العالمية (الغاتس)، باتجاه خصخصة التعليم وتعزيز الأبعاد التجارية والسلعية في قطاع التعليم حتى في الدول العربية التي لم تلتزم الاتفاقية. مثلت تجارب دول الخليج العربي الغنية النموذج الأشد للانغماس العربي في أنماط الاتجار في خدمات التعليم العابر للحدود، حيث أتاحت المجال أمام الاستثمارات الأجنبية لفتح فروع لجامعاتها ومؤسساتها التعليمية، بكامل الكادر الإداري والأكاديمي الأجنبي. وانخرطت سائر الدول ضمن أنماط أخرى لتجارة التعليم مثل اتفاقيات التعاون، والتآخي، ولكن بالأغلب على أسس مختلة تميل إلى مصلحة الدول الأجنبية الغربية، وكان أكثرها انتشاراً انتقال الطلبة للدراسة في الخارج التي باتت تشكل مصدر دخل مالياً وبشرياً مهماً للدول الغربية[4].

ثانياً: لبرلة التعليم وخدماته
في السياق الفلسطيني المُستعمَر

لفحص مدى الاندماج في سياسات الليبرالية الجديدة في السياق الفلسطيني، وماهية هذه السياسات وآثارها في قطاع التعليم والمستفيدين منه، لا بد من دراسة ذلك بارتباطه بواقع المجتمع وخصائصه وظروفه الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والتاريخية. اتسم التعليم الفلسطيني تاريخياً بتعدد جهات إدارته وبغياب الرؤية التعليمية الوطنية والتنموية. ساهم خضوع فلسطين الطويل لهيمنة القوى الاستعمارية المختلفة، وغياب سلطة سياسية معنية بتطوير التعليم العام في بداية القرن الماضي، في تفعيل دور البعثات التبشيرية الدينية في تأسيس التعليم الخاص. وبعد حرب عام 1948 بين العرب والحركة الصهيونية الاستعمارية وتأسيس ما يسمى «دولة إسرائيل»، تشظت إدارة التعليم الفلسطيني فتولّت وكالة غوث وتشغيل اللاجئين (الأونروا) مسؤولية تقديم خدمات التعليم الإعدادي لأبناء اللاجئين الفلسطينيين في مخيمات اللجوء في الداخل والخارج، في حين هيمن الاحتلال على مناهج التعليم في الأراضي التي سيطر عليها، وساد التعليم الأردني في الضفة الغربية، والتعليم المصري في قطاع غزة.

بعد استعمار ما تبقى من فلسطين عام 1967، شكل التعليم ومناهجه ساحة للصراع بين الكيان الصهيوني المستعمِر والفلسطينيين المستعمَرين، حيث عمل الكيان الصهيوني من خلال الإدارة المدنية، على الحد من تطوير قطاع التعليم إلا في أدنى مستوياته، وبما يضمن مصالحه الاقتصادية[5]، ويمنع تشكيل الهوية الوطنية الفلسطينية.

لتحقيق ذلك، مارس الاستعمار سياسات قمعية ضد المؤسسات التعليمية، وطلبتها وكادرها التعليمي، مستخدماً قوته العسكرية والسياسية والقانونية، فأغلق المؤسسات التعليمية لفترات عديدة، واعتقل الآلاف من الطلبة والمدرسين المقاومين للاستعمار وسياساته. وفي إطار المقاومة الفلسطينية للهيمنة الصهيونية تحملت منظمة التحرير الفلسطينية مسؤولية تأسيس ودعم مؤسسات التعليم العامة، وبخاصة التعليم ما قبل المدرسي والتعليم الجامعي، حيث وفرت تعليماً شبه مجاني في فترة الثمانينيات[6].

في إثر توقيع اتفاقية أوسلو في 13/9/1993 بين منظمة التحرير الفلسطينية والكيان الصهيوني، نُقلت صلاحيات إدارة وتمويل قطاع التعليم إلى السلطة الفلسطينية في كل من الضفة الغربية وقطاع غزة، باستثناء المؤسسات التعليمية في القدس الخاضعة للسيطرة الاستعمارية المباشرة. وباتت السلطة الفلسطينية تُشرف على نحوٍ غير مباشر على المؤسسات التعليمية الخاصة وتلك التي تديرها الأونروا. عموماً، طرأ تحسن كبير على بعض المؤشرات الكمية التعليمية من ارتفاعٍ في نسب الالتحاق بالتعليم بكل مراحله، والتحسن في بنيته التحتية، وتقليص فجوة النوع الاجتماعي مقارنة بالفترة السابقة[7]. لكن التحسن في المؤشرات الكمية لا يعني بالضرورة تطور نوعية التعليم وجودته، أو المعرفة المنتجة ومدى العدالة الاجتماعية في الوصول إليه والحصول عليه، كما سيُوضح لاحقاً.

بعد فرض الحصار الإسرائيلي الشامل على قطاع غزة في إثر نجاح حركة حماس في الانتخابات التشريعية عام 2006، وبفعل الانقسام بين حركتي فتح وحماس، تعمق تشرذم التعليم الفلسطيني حيث تشرف حكومة حماس على التعليم في قطاع غزة، بينما تتولى السلطة الفلسطينية إدارة التعليم في الضفة الغربية.

علاوة على ذلك، تذبذبت إدارة النظام التعليمي الفلسطيني وفقاً للحالة السياسية والتمويلية، وهو ما أثر سلباً في التخطيط الاستراتيجي لقطاع التعليم ومضامينه وسياساته. لم تقرّ وزارة التربية والتعليم منذ تأسيسها سوى خطتين خمسيتين، وما زال مشروع قانون التعليم العام قيد الأدراج. بينما تعثرت محاولات وزارة التعليم العالي في إقرار خططها التطويرية، بسبب التقلبات الحكومية والوزارية، من دمج وفصل لوزارة التربية والتعليم ووزارة التعليم العالي، وتذبذب التمويل الخارجي[8]، غير أن خطط التنمية الفلسطينية لم تتطرق أصلاً لتطوير التعليم العالي[9].

الأهم هو تشابك استمرار الهيمنة الاستعمارية الإسرائيلية والحصار المفروض على الأراضي الفلسطينية والفلسطينيين، وافتقار السلطة الفلسطينية لمقومات الاستقلال والسيادة، وهو ما يزيد من خضوعها لاشتراطات الممولين بمن فيهم أدوات العولمة من مؤسسات دولية، وبالنتيجة تعزَّز تأثير السياسات الليبرالية الجديدة، كاحتجاز الكيان الإسرائيلي، على سبيل المثال، للضرائب الفلسطينية، وهو ما أسهم في تفاقم العجز المالي للسلطة التي عملت بدورها على حل أزماتها الاقتصادية والمالية المتأصلة في بنيتها المشوّهة على حساب الطبقة العاملة والفقراء، من خلال فرض الضرائب المرتفعة، وتقليص مخصصات قطاع الخدمات بما فيها التعليم.

تؤكد المراجعة النقدية لبعض وثائق السلطة الفلسطينية في وزارتي التربية والتعليم والتعليم العالي، أن السلطة الفلسطينية تسير باتجاه تعزيز السياسات الليبرالية الجديدة في القطاع التعليمي تحت تأثير وضغط المؤسسات المالية الدولية والدول المانحة والمتضافرة أصلاً مع توجهات ومصالح القوى الليبرالية المهيمنة في السلطة الفلسطينية، دون الأخذ بعين الاعتبار خصوصية الحالة الفلسطينية المستعمَرة.

على سبيل المثال، تنظر وزارة التعليم العالي[10] إلى التعليم كسلعة للتداول في السوق، حيث تؤكد أهمية مرونة نظام التعليم العالي ليكون قادراً على التكيف ليس فقط مع متطلبات السوق المحلية بل أيضاً مع متطلبات السوق الإقليمية والعالمية. ومع أنها تفترض أن التعليم متاح للجميع لكنها لم تحدد سُبل توفيره للفقراء والمهمشين في ظل هدف تعدد مصادر تمويله الذي يُعفي الحكومة من المسؤولية الحصرية في تمويله، ويتطلب إشراك القطاع الخاص في تقديمه، كما يتيح الفرصة للجهات الأجنبية للاستثمار فيه دون قيود.

يرصد القسم التالي بعض السياسات الليبرالية الأساسية التي مست جوهر التعليم والعملية التعليمية في فلسطين بمنظور نقدي، ويتناول ثلاثة منها:

1 ـ تدني دعم السلطة الفلسطينية لقطاع التعليم

شرّعت السلطة الفلسطينية بعد تأسيسها بعض القوانين التي توفر نوعاً من الخدمات الاجتماعية المجانية، تتضمن مواد قانونية تنص على مجانية التعليم وأنه حق إنساني لجميع المواطنين؛ فقد نص البند الأول من المادة الرابعة والعشرين من القانون الأساسي المعدل لعام 2003 على أن «التعليم حق لكل مواطن، وإلزامي حتى نهاية المرحلة الأساسية على الأقل ومجاني في المدارس والمعاهد والمؤسسات العامة». كما نصت المادة الثانية من قانون التعليم العالي الرقم 11 لسنة 1998 على أن «التعليم العالي حق لكل مواطن تتوافر فيه الشروط العلمية والموضوعية المحددة في هذا القانون والأنظمة الصادرة بمقتضاه».

لكن مراجعة سياسات وممارسات السلطة الفلسطينية الفعلية تشير إلى اتجاهها للتخلي عن التزاماتها تجاه مجانية التعليم، وهو ما يمس مبدأ العدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص، حيث ترفض السلطة تحمل مسؤوليات مجانيته في التعليم ما قبل المدرسي، ويُلزم الطلبة بتحمل تكلفة التعليم الجامعي، وتتراجع مكانة قطاع التعليم أيضاً على سُلم أولوياتها مقارنة مع القطاع الأمني، حيث تتدنى مخصصات النظام التعليمي بكل مستوياته، وبخاصة التعليم الجامعي.

وتشير بيانات الموازنة الفلسطينية إلى أن مخصصات قطاعي التعليم العام والعالي في عام 2011 وصلت إلى نحو 18 بالمئة من ميزانيتها فقط، مقابل ما يزيد على 30 بالمئة لقطاع الأمن، مع العلم أن معظم مخصصات التعليم يُنفَق على الرواتب، وجزئياً على تطوير البنية التحتية من بناء وصيانة للمدارس.

وفي الوقت الذي يخصص فيه الكيان الصهيوني ما يقارب 18 بالمئة من موازنته للتعليم العالي وتشجيع البحث العلمي، فإن الإنفاق الحكومي على التعليم العالي لم يتجاوز 0.05 بالمئة من ميزانية السلطة الفلسطينية. علاوة على ذلك، تتقاعس السلطة عن دفع هذه المخصصات لدى دخولها في أي أزمة مالية. مع العلم بأن التعليم العالي لا يزال يحظى بدعم الدولة المباشر أو غير المباشر، حتى في أعتى الدول المعتنقة والمروّجة لسياسات الليبرالية الجديدة.

وتستخدم السلطة الفلسطينية مفاهيم الليبرالية الجديدة مثل اللامركزية والمشاركة المجتمعية في إطار سعيها لإقناع المجتمع بضرورة تقليص دورها وتوفير مساحة أوسع للقطاع الخاص حيث تفترض أن المنافسة سوف توفر جودة أعلى للتعليم.

2 ـ خصخصة التعليم وتسليعه

جاء عدم التزام السلطة الفلسطينية بتحمل مسؤولياتها الأساسية تجاه قطاع التعليم، وتدني مخصصاته المالية، متلازماً مع توجهها لزيادة دور القطاع الخاص، وتحريره من القيود عبر تشريعات واستراتيجيات وسياسات مختلفة. لقد أكدت مسودة دستور دولة فلسطين لعام 2003 على حرية التعليم الخاص، أما القانون الأساسي الفلسطيني المعدل لسنة 2003 فأشار ضمناً إلى وجود التعليم الخاص، وأن هناك إشرافاً حكومياً عليه[11]، في حين أعطى قانون التعليم العالي الفلسطيني الصادر عام 1998‏[12] للقطاع الخاص حرية إنشاء الجامعات الخاصة. وأصدرت السلطة بضغط من المؤسسات الدولية قانون تشجيع الاستثمار في فلسطين (الرقم 1) لعام 1998، لفتح المجال أمام القطاع الخاص، والأهم أمام المستثمرين الأجانب للاستثمار في جميع المجالات، بما فيها التعليم وإن لم يحدده بصورة مباشرة[13]، مع تسهيلات وإعفاءات مختلفة، دون مراعاة لما قد يتركه هذا القانون من تأثيرات في الواقع الفلسطيني المشوّه والهش.

ساهم تشجيع السلطة للقطاع الخاص على الاستثمار والاتجار بالتعليم كغيره من السلع في انتشار مؤسسات التعليم الخاص، حيث تشكل مؤسسات التعليم المدرسي الخاصة حالياً نحو 13.5 بالمئة من مجموع مؤسسات التعليم المدرسي في العام الدراسي 2012/2013، مقابل 10 بالمئة في العام الدراسي 1995/1996، وارتفعت نسبة الطلبة فيها إلى نحو 8.7 بالمئة من مجموع الطلبة الملتحقين في التعليم العام، مقابل 6 بالمئة فقط للسنوات الدراسية ذاتها[14]. وبلغ عدد مؤسسات التعليم العالي الخاصة 16 مؤسسة من أصل 49 مؤسسة تعليم عالٍ مرخصة، هذه الأرقام تُعد مؤشراً أولياً على أن هناك خطوات عملية قد بدأت بتفويض القطاع الخاص لقيادة قطاع التعليم.

وسمحت السلطة الفلسطينية، في سياق سعيها لتخفيض إنفاقها على التعليم، للجامعات باستدخال أنظمة جديدة للتعلم مثل نظام التعليم الموازي، وشجعت على تأسيس نظام التعليم المفتوح الأقل تكلفة.

امتدت سياسات الليبرالية الجديدة لتشمل العديد من مؤسسات التعليم العالي العامة والأهلية، فتبنت بعض تلك السياسات سواء كان ذلك طواعية لاعتبارات فكرية وأيديولوجية لدخول حلبة المنافسة العالمية، أو قسراً لاعتبارات مرتبطة بعجزها المالي. في هذا الإطار تبنت الجامعات سياسات تسهم في تقليص النفقات من ناحية وزيادة الدخل من ناحية أخرى، وهو ما يزيد مخاطر تحول خدماتها التعليمية إلى مجرد سلعة تجارية ويجردها من أهدافها الأكاديمية والثقافية والتنموية. طبقت الجامعات قرار السلطة الفلسطينية المتعلق بالتعليم الموازي، لزيادة دخلها المادي دون الأخذ بالاعتبار نوعية الطلبة المقبولين، وراحت إحدى الجامعات الخاصة تفرض رسوماً متصاعدة كلما تدنّى معدل الثانوية العامة للطلبة وزادت تكلفة الساعة الدراسية. ومع بداية كل عام دراسي يتم رفع قيمة الرسوم الجامعية في أغلب الجامعات. وتبنت الجامعات سياسات خصخصة خدماتها المساندة مثل تضمين المقاصف للقطاع الخاص، وخصخصة خدمات الطباعة والتصوير المقدمة للطلبة. كما عملت بعض الجامعات على تقليص عدد حصص النقاش الصفّية وزيادة العمل بنظام المحاضرات العامة لخفض الكادر الأكاديمي، وبالتالي النفقات. والأخطر من ذلك أن بعض الجامعات تتجه حالياً لإعادة هيكلية مؤسساتها، والدمج بين بعض الدوائر والتخصصات؛ وليس واضحاً بعد إن كان الدمج يتم على أرضية تقليص نفقات الجامعة أم أن البُعد المعرفي سيُؤخذ بعين الاعتبار أيضاً.

على غرار العديد من دول العالم الثالث، وفي إطار التقسيم العالمي للعمل ونُظم التعليم بات مطلوباً من السلطة الفلسطينية تكييف نظامها التعليمي والتحول من التركيز على التعليم الأكاديمي العالي ـ المحتكر للمؤسسة الرأسمالية العالمية ـ إلى التعليم الأساسي والمهني والتعليم المتوسط لإنتاج وتأهيل أيدٍ عاملة ذات تأهيل متدنٍّ ومتوسط رخيصة الثمن لتلبية حاجات الأنشطة الاقتصادية المرتبطة بحلقات السوق العالمي. من هنا بدأت السلطة الفلسطينية، وبتوجيه من المؤسسات المالية الدولية الداعمة لها، بتطوير استراتيجيات وسياسات تعليمية جديدة بذريعة رفع قدرتها التنافسية في الاقتصاد المعولم والمتجه نحو ما يسمى «اقتصاد المعرفة». ورغم ضآلة الموارد المالية لوزارة التربية والتعليم، تشير المعطيات إلى أن السلطة الفلسطينية قد بدأت في إحداث تغيير في نوعية تخصصات التعليم المتوسط، بتعزيز وتضخيم التعليم التقني والتعليم المهني، من خلال زيادة عدد المعاهد والكليات المتوسطة المتخصصة في هذه المجالات، ومضاعفة أعداد طلبتها. ويأتي ذلك على حساب تطوير تخصصات العلوم الاجتماعية والإنسانية والتخصصات التي تتعامل مع قضايا وهموم المجتمع، وتسهم في بناء اقتصاد محلي مستقل عن الكيان الصهيوني؛ فمثلاً، تُهمّش السياسات التعليمية التعليم الزراعي الذي يُفترض أن يحتل مكانة مركزية في سياق صراعنا مع الاستعمار، حيث لا يتجاوز عدد المؤسسات المختصة في التعليم الزراعي المدرستين.

على صعيد آخر، يشهد النظام التعليمي الفلسطيني بمراحله المختلفة انفتاحاً على التعليم العابر للحدود والاتجار به، وإن كان الوضع السياسي وخضوع السلطة الفلسطينية للهيمنة الاستعمارية الإسرائيلية ولشروط اتفاقية أوسلو وبروتوكول باريس الاقتصادي 1994، يحد من انفتاحه الواسع على السوق العالمي للتعليم. إضافة إلى أن تدهور الأوضاع الاقتصادية وتدني مستويات المعيشة والفقر وصغر حجم سوق الطلبة لا يشكل عامل جذب للجامعات الغربية لإقامة فروع في فلسطين كما في تجارب دول الخليج العربي الغنية. من هنا برزت محاولات للقطاع الخاص الفلسطيني للاعتماد على الاستشارات الغربية للاستثمار في مجال التعليم، مثل نموذج جامعة جنين الأمريكية، التي أقيمت برأس مال فلسطيني «بالتعاون» مع جامعة ولاية كاليفورنيا في ستانسلوس التي قدمت «النصح في مجال وضع الخطط الأكاديمية وكيفية تنفيذها»، كما تفيد الصفحة الإلكترونية للجامعة.

كما تنخرط بعض الجامعات الفلسطينية في علاقات «تعاون» مع جامعات أجنبية بدعم من الاتحاد الأوروبي مثل الجامعة الافتراضية المتوسطية (Mediterranean Virtual University) التي تشارك فيها جامعتا بيرزيت والجامعة الإسلامية وبعض الجامعات العربية؛ إضافة إلى أشكال أخرى من التبادل المعرفي عبر الشبكة العنكبوتية مثل حلقات النقاش عبر الفيديو كونفرنس[15]، والتبادل الطلابي والكادر الأكاديمي لفترات قصيرة، في حين تدعم مؤسسات غربية أنشطة بحث علمية مثل مؤسسة فورد الأمريكية، والنرويج وكندا، تتناسب ورؤيتها وبرامجها. المسألة الأساسية هنا، أنه حتى الآن لا يوجد تقييم حقيقي حول نوعية ومضمون علاقات التعاون والشراكة بين الجامعات الفلسطينية والجامعات الأجنبية، والتعليم التجاري العابر للحدود عموماً. لكن واقع ضعف النظام والمؤسسات التعليمية المحلية، سيفضي إلى اختلال العلاقة بين الطرفين لمصلحة المؤسسات الغربية وخضوع هذه المؤسسات لإملاءات ومصالح الجامعات ومؤسسات التمويل الأجنبية، إضافة إلى محاذير تتعلق بإمكان استخدام التعاون الأكاديمي الدولي كشرط للتطبيع مع المؤسسات الأكاديمية والبحثية الإسرائيلية وضرب المقاطعة الأكاديمية العالمية المفروضة عليها.

ويعُد سفر الطلبة للدراسة في الخارج النمط الأكثر انتشاراً للإتجار بالتعليم في فلسطين، الذي بات يُنظر إليه كسلعة مهمة لزيادة دخل الجامعات الغربية في إطار علاقتها مع الدول النامية. وقد وصل عدد الطلبة الفلسطينيين الدارسين في الخارج في عام 2008 إلى 9596، ممثلين نحو 5.3 بالمئة من إجمالي طلبة التعليم العالي في فلسطين[16]. وتعتبر هذه النسبة متواضعة جداً مقارنة مع غيرها من الدول. وعلى الرغم من أهمية الدراسة في الخارج من أجل النهوض بمستوى التعليم والبحث العلمي في الجامعات والتنمية الوطنية الشاملة، إلا أنها قد تفقد هذه الأهمية إذا ما استقر هؤلاء الطلبة في الخارج، بسبب عدم توافر البيئة المناسبة من أجل عودتهم للمساهمة في بناء مجتمعهم. وما زال مستوى النظام التعليمي الفلسطيني قاصراً عن اجتذاب الطلبة الأجانب، حيث تقل كثيراً نسبة الأجانب الدارسين في فلسطين.

أما على مستوى التعليم المدرسي وما قبل المدرسي، فيلاحظ تزايد انتشار المدارس التي تتبنى نظم التعليم الغربية والتدريس بلغات أجنبية، وبخاصة بعد عودة العديد من العائلات الفلسطينية التي كانت تقيم في الدول الأجنبية، ولا يستطيع أبناؤهم الدراسة باللغة العربية؛ في حين تُقبل أُسَر النخبة الاقتصادية والسياسية على تعليم أبنائها في هذه المدارس لضمان مستوى أعلى للدراسة ومستقبل مختلف.

3 ـ تمييع شروط الحماية الاجتماعية للعاملين في قطاع التعليم

أعطت السلطة الفلسطينية إدارات المؤسسات التعليمية الخاصة حق تحديد أجور العاملين فيها، وشروط وظروف العمل التي توفرها تلك المؤسسات. وظهرت أنماط جديدة لعلاقات العمل، مثل ظاهرة العقود الخاصة والعمالة الجزئية، لضمان خفض نفقات التعليم العام وزيادة أرباح التعليم الخاص.

والأهم أن هذه الظاهرة لم تعد تقتصر على القطاع الخاص بل باتت تشكل أحد أشكال التعاقد التي يستخدمها القطاع الحكومي، ووكالة غوث وتشغيل اللاجئين في التعليم المدرسي، إضافة إلى مؤسسات التعليم العالي العامة. وتنبع إشكالية هذا النوع من التعاقد مما يترتب عليه من حرمان العاملين في هذا القطاع الحقوق الاجتماعية المتعلقة بالحد الأدنى للأجور، والتقاعد، وصندوق التوفير وأحياناً التأمين الصحي، وغيرها من الحقوق.

ثالثاً: آثار السياسات اللبرالية الجديدة من منظور وطني طبقي ونوع اجتماعي

أفضت السياسات السابقة وتشابكها إلى آثار سلبية عميقة في عملية التعليم والطلبة والعاملين في قطاع التعليم بمختلف مستوياته. تركز المقالة على نقاش ثلاثة جوانب مهمة من هذه الآثار وهي:

1 ـ هرمية تعليمية، وتمايز طبقي ونوع اجتماعي

أفضى تبنّي السلطة للسياسات الليبرالية وسماحها للقطاع الخاص بالاستثمار دون قيود في قطاع التعليم بمراحله المختلفة ودون مراعاة للظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، إلى ظهور نوعين من التعليم في القطاع الخاص.

يسعى النوع الأول لتحقيق أقصى مستوى من الربح بغض النظر عن نوعية وجودة التعليم المقدم. وغالباً ما يُقبل الطلبة المقتدرون مادياً على هذا النوع من التعليم بسبب تدني تحصيلهم العلمي في الشهادة الثانوية العامة الذي يحول دون التحاقهم في الجامعات العامة والخاصة المتميزة.

أما النوع الثاني فيقدم تعليماً نخبوياً عالي المستوى يتواءم ومتطلبات السوق واشتراطات العولمة (اعتماد اللغات الأجنبية والقدرة على استخدام التكنولوجيا، وتبني الفكر والقيم الليبرالية)، ولكن مع تكلفة مرتفعة لا يتحملها سوى أبناء الطبقة البرجوازية المتحالفة مع الشرائح المتنفذة في السلطة الفلسطينية.

كما أن توجه الجامعات العامة إلى تسليع التعليم من خلال تبني نظام التعليم الموازي عالي التكلفة، وفرض رسوم مرتفعة على الطلبة، وخصخصة باقي الخدمات التعليمة أدى إلى توسيع الهوة الاجتماعية والطبقية في المجتمع وبين الطلبة. ففي ظل الارتفاع غير المسبوق في نسب البطالة والفقر والضرائب المرتفعة في المجتمع الفلسطيني لم يعُد بمقدور أسرة يعيلها شخص واحد تعيش على حد أدنى للأجور لا يتجاوز 350 دولاراً شهرياً، ودون خط الفقر[17]، تحمّل تكلفة التعليم المتزايدة حتى في الجامعات العامة. ونظراً إلى غياب أنظمة الدعم المساندة الفاعلة يُحرم الطلبة الفقراء من أبناء العمال والفلاحين الدخول إلى مؤسسات التعليم العالي. وفي الوقت ذاته، ينال أبناء الطبقة الرأسمالية، وإن لم يحققوا المعدلات التي تؤهلهم للالتحاق بالتعليم الجامعي، فرصة دخول الجامعة واختيار التخصصات المطلوبة في سوق العمل، على حساب أبناء الفقراء الأكثر تفوقاً منهم. وتقوم بعض الجامعات بحرمان الخريجين شهادتهم كوسيلة ضغط على الطلبة لتحصيل الرسوم المتراكمة عليهم، وبالتالي تقيد فرصهم في الالتحاق في سوق العمل.

أما على صعيد التعليم المدرسي فيلاحظ أن هناك مستوى عالياً من التمايز المعرفي والمكانة التعليمية بين الطلبة الملتحقين بالتعليم الخاص مثل مدارس اللغات المرتفعة التكلفة، وطلبة التعليم الحكومي العام، حيث يحتل التعليم الخاص النخبوي قمة الهرم التعليمي؛ إضافة إلى التمايز الطبقي والنوع ـ اجتماعي وحتى المناطقي، حيث يقدم القطاع الخاص التعليم النخبوي العالي الجودة لأبناء الطبقة الرأسمالية والأغنياء وحلفائهم في المناصب السياسية الرفيعة القادرين على دفع تكلفة هذا النوع من التعليم.

أما أبناء الطبقات الفقيرة من العمال والفلاحين فيحصلون على خدمات التعليم المتدني والأقل تكلفة الذي توفره السلطة، الأمر الذي يؤثر لاحقاً في فرصهم المستقبلية لاستكمال التعليم العالي. وقد يُحرَم الطلبة الأشد فقراً التعليم تماماً، وبخاصة أبناء المناطق الريفية والفتيات. ولكن يبقى التعليم المدرسي أقل إقصاءً من باقي مراحل التعليم كما وضحت الفقرة السابقة حول التعليم العالي. كما أن تخلي السلطة الفلسطينية عن مسؤولياتها تجاه مجانية خدمات التعليم ما قبل المدرسي من حضانات ورياض أطفال، يجعلها بعيدة من متناول يد أبناء الفقراء، وخصوصاً الفتيات، ويحرم الأطفال حقهم في تطوير وتنمية قدراتهم.

كان لسياسات السلطة الفلسطينية المرتبطة بالتعليم بصماتها السلبية على النوع الاجتماعي في قطاع التعليم، حيث تميل الأسرة إلى تدريس البنات في التعليم العام الحكومي والتعليم المحلي الأقل تكلفة وجودة. وقد يفسر هذا أسباب انتشار ظاهرة تفوق عدد الفتيات على عدد الذكور في أغلب المؤسسات التعليمية الحكومية والعامة في جميع المراحل التعليمية، بينما تقل نسبتهن في المؤسسات التعليمة الخاصة والمرتفعة التكلفة، وكذلك في التعليم الموازي، وفي التعليم خارج فلسطين. وتتدنى نسبة التحاق الفتيات في الفروع والتخصصات التقنية والمهنية المدرسية والمتوسطة والمرتبط أصلاً بفرص عمل أفضل، بسبب ارتفاع تكلفة تأسيس مدارس ومعاهد منفصلة خاصة بالفتيات تتهرب السلطة من مسؤولية تمويلها؛ فمثلاً تُحرم الفتيات بالأغلب من التعليم الزراعي، مع أن النساء الفلسطينيات العاملات في القطاع الزراعي يمثلن نحو ثلث القوى العاملة النسائية.

ويحد عدم توافر التعليم ما قبل المدرسي المجاني من مشاركة النساء في سوق العمل، إذ إن حرمان النساء الخدمات المساندة لرعاية الأطفال تحت عمر المدرسة المجانية أو قليلة التكلفة، في ظل استمرار ارتفاع نسب الخصوبة في فلسطين، يثقل كاهل النساء ويزيد أعباء عملهن الرعائي المنزلي غير المدفوع الأجر، على حساب فرصتهن في العمل المدفوع الأجر. وبينما شكل ارتفاع تكلفة التعليم عاملاً مهماً في استنزاف المدخرات والأصول المادية للأسرة خلال سعيها لتعليم أبنائها، تحملت النساء عبئاً أساسياً فيه مثل بيع ذهبهن والاستدانة من الآخرين، واضطرت بعضهن إلى الانخراط في الاقتصاد غير الرسمي كملاذ أخير لإرسال بناتهن للتعليم حتى لا تكون حياتهن كحياة أمهاتهن[18].

2 ـ تردي التعليم وتفريغه من مضمونه الفكري والنقدي والسياسي

تفضي السياسات الليبرالية الجديدة إلى إفراغ التعليم الفلسطيني من مضمونه التنموي والتحرري والمقاوم للاحتلال والاستغلال، ومن المضمون المعرفي الإبداعي والنقدي. لقد بات النظام والمنهج التعليمي الفلسطيني بصورة عامة مشبعاً بأفكار الليبرالية الجديدة التي تُعلي قيمة الربح، وقيم الأنانية، والمنافسة، والفردية.

وفي الوقت ذاته، بدأت بعض الجامعات في إحداث تغييرات جدية في طبيعة ونوعية المساقات التعليمة، والتخلي عن تلك التي تتيح للطلبة فرصة أوسع لتعميق معرفتهم الإنسانية والفكرية، وتطوير قدرتهم النقدية للنظريات والتوجهات الفكرية العالمية. أشارت أيلين كتاب[19] على سبيل المثال، إلى أن جامعة بيرزيت قامت بتقليص مساقات الدراسات الثقافية من أربعة مساقات إجبارية لجميع الطلبة إلى مساقين فقط. إضافة إلى أن المراجعة السريعة لمضامين مساقات كليات التجارة تؤكد أنها تتجه لتعزز أسس ومفاهيم وقيم السوق الحرة كأساس لإدارة وتحليل الاقتصاد المحلي على حساب تدريس نماذج اقتصادية أخرى تقوم على العدالة الاجتماعية. علاوة على خضوع السلطة الفلسطينية وسياساتها التعليمية للتدخل الإسرائيلي الفاعل في مراقبة العملية التعليمية والمناهج التعليمية، والتأكد من خلوها من كل ما يحرض ضدها، وما يؤكد النضال والهوية الوطنية الفلسطينية. فغُيّبت جغرافية وتاريخ فلسطين التاريخية استجابة لضغوط مؤسسات الدعم والتمويل الخارجية التي تسعى لحماية الكيان الصهيوني، أو كما تؤكد دراسة آيات حمدان ضمان عدم خلق «ثقافة معادية»[20].

كما أدى عدم تخصيص موازنات كافية للبحث العلمي في الجامعات إلى تردي مستوى البحث العلمي كماً ونوعاً، وإلى تراجع الأبحاث الإنسانية والاجتماعية المرتبطة بمصالح وحاجات وتنمية المجتمع المحلي، وتزايدت مخاطر ارتهان الإنتاج الفكري بالتمويل الخارجي، حيث غالباً ما يتم تحديد مشاريع الأبحاث الجامعية وفقاً لأجندات مؤسسات التمويل المرتبطة أصلاً بتوجهات السوق العالمية، والثقافة والتوجهات الفكرية الغربية. ويهدد تبني بعض المؤسسات التعليمية النخبوية اللغة الأجنبية بتقويض اللغة العربية كرمز للثقافة والهوية الوطنية.

إلى ذلك، فإن اكتظاظ الصفوف المدرسية والجامعية، وتوجه الجامعات لتبني نظام المحاضرات العامة على حساب حصص النقاش الصفي، وكذلك التعليم عن بُعد، يحرم الطلبة حقهم في النقاش والتعبير عن أنفسهم، ويحد من إمكانية تنمية قدراتهم النقدية ويعزز أسلوب التلقين في المؤسسات التعليمية. وقد يفسر ذلك انتشار ظاهرة الدروس الخصوصية بين طلبة المدارس وطلبة الثانوية العامة بشكل خاص، حيث لم يعد بمقدور المدرس تقديم المادة الدراسية بمستوى وكفاءة كافية في الصف. كما أن استدخال التعليم الموازي في التعليم الجامعي دون أي اعتبار للمستوى الأكاديمي للطلبة المقبولين لديهم، قد يفضي بالنهاية إلى تردّي المستوى التعليمي الجامعي.

وفي إطار نظام التعليم المفتوح والتعليم عن بُعد ازدادت مخاطر تهميش دور المؤسسة التعليمية والمعلم في توفير الخدمات التعليمية، وما قد يتركه من تأثير سلبي في مستوى التحصيل الأكاديمي للطلبة ونوعية التعليم الذي يتلقونه، وخصوصاً أن نظام التعليم المدرسي يعاني ضعفاً شديداً في مجال تنمية مهارات وقدرات البحث العلمي لدى الطلبة. علاوة على تدني الإمكانات المادية والمعرفية باستخدام التكنولوجيا الحديثة التي يعجز الفقراء والمهمشون عن امتلاكها. وقد تُعرّض أمن الطلبة والبلد للخطر نظراً إلى اعتماد التعلم عن بُعد على استخدام وسائل التكنولوجيا وبرامج المعلومات التي يهيمن الكيان الصهيوني على عملية توفير معظمها، وبالتالي مراقبتها وتجييرها في ما يخدم مصالحه.

وهناك إشكالية تَسارُع وتيرة تركيز السلطة على بعض التخصصات التقنية والمهنية المتوسطة، دون دراسة حقيقية لمدى انسجام وملاءمة هذه التخصصات للمتطلبات والحاجات الحقيقية للاقتصاد والمجتمع المحلي، في حين ما زالت جهودها ضعيفة جداً في مجال تطوير التعليم الزراعي الذي يشكل بُعداً أساسياً في سياق صراعنا على الأرض مع الاستعمار. والأهم أن الزراعة يمكن أن تشكل العمود الفقري للتنمية المستقلة. إضافة إلى أنه من غير الواضح ما إذا كان بالإمكان أصلاً توظيف مثل هذه التخصصات لتلبية حاجات الأنشطة الاقتصادية المرتبطة بحلقات السوق العالمي في ظل ضعف السلطة الفلسطينية، وخضوع وتبعية الاقتصاد الفلسطيني للهيمنة الاستعمارية، ولمؤسسات العولمة المالية الدولية والفكر الليبرالي الجديد. لقد حد الحصار والهيمنة الاستعمارية الصهيونية من قدرة الفلسطينيين والاقتصاد الفلسطيني على الانخراط في أنشطة الاقتصاد العالمي، أو استقطاب استثمارات الشراكات المتعددة الجنسيات والعابرة للحدود، والتي تتطلب مهارات تقنية ومهنية متوسطة، وإن كان الاستعمار يحاول أن يحل مكان تلك الشركات.

3 ـ تحول في القيم الاجتماعية للتعليم والمتعلمين

تتقاطع الحالة الفلسطينية مع الوضع العالمي، وإنْ بصورة أكثر حدة بسبب سياسات وهيمنة الاستعمار، في تقهقر شروط الحماية الاجتماعية للعاملين في قطاع التعليم، إضافة إلى التمييز ضدهم في الوظيفة العمومية، مقارنة بغيرهم من العاملين في القطاعات الأخرى. وتقل رواتب العديد من حملة الدكتوراه في الجامعات عن رواتب حملة البكالوريوس والماجستير العاملين في المنظمات غير الحكومية وفي مشاريع السلطة الفلسطينية الممولة من الخارج. ويلاحظ في الآونة الأخيرة انتشار أنماط جديدة لعلاقات العمل، كظاهرة العقود الخاصة التي تجدد سنوياً، والعمالة الجزئية عوضاً من العمالة التامة، في أغلب المؤسسات والمراحل التعليمية، وبصورة خاصة في مؤسسات التعليم الخاص. ويحرم المعلمون وفقاً لنظام العقود الخاصة والجزئية المجحف امتيازات التوفير والتأمين الصحي وغيرها من الامتيازات الممنوحة للموظفين والمدرّسين المنتظمين في التعليم الحكومي والجامعات، إضافة إلى فرض مستوى متدنٍّ من الأجور نتيجة المنافسة بين مكونات العرض ومحدودية الطلب.

علاوة على ذلك ساهمت التغيرات الاقتصادية العالمية والهيمنة البنيوية الاستعمارية في إحداث تغيرات جوهرية في بنية الاقتصاد الفلسطيني، ولا سيَّما نوعية وحجم فرص العمل التي باتت لا تتماشى مع مخرجات النظام التعليمي الفلسطيني، وأدت إلى ارتفاع نسب البطالة في صفوف الخريجين، وبخاصة الفتيات. لقد ظهرت قطاعات جديدة في صفوف الذكور لا تولي التعليم أهمية كبيرة، حيث لم يعد التحصيل العلمي التقليدي قادراً على تحقيق طموحاتهم في ظل هيمنة القيم الليبرالية الجديدة، في حين انتشرت ظاهرة ارتفاع نسبة الفتيات الملتحقات في التعليم الجامعي مقارنة بمثيلاتها بين الذكور، نظراً إلى ارتباط التحاقهن في سوق العمل المقسم أصلاً على أساس الجنس بامتلاك مستوى تعليمي مرتفع. وبرزت أيضاً ظاهرة انسحاب الذكور من العمل في قطاع التعليم، بسبب تقهقر جدواه الاقتصادية والاجتماعية لتحل العمالة النسائية مكانهم[21].

وتُنتهك استقلالية المؤسسات التعليمية والحريات الأكاديمية، ويخضع العاملون في القطاع التعليمي للمراقبة من قبل الأجهزة الأمنية وإدارة المؤسسات التعليمية، سواء كانت سلطة حماس في قطاع غزة، أو سلطة فتح في الضفة الغربية، ناهيك بالانتهاكات الاستعمارية الصهيونية بحق الطلبة والمعلمين على حد سواء. كما يواجه اتحاد نقابة المعلمين في القطاع العام وكذلك المدارس الخاصة ضغوطاً حكومية كبيرة للتخلي عن دوره النقابي، وكثيراً ما تُغلَّب المصلحة الفئوية للتيار السياسي المهيمن على النقابة على حساب مصلحة المعلمين.

رابعاً: إمكانية مقاومة سياسات الليبرالية الجديدة

السياسات الليبرالية الجديدة والاستعمارية ليست قدراً مفروضاً علينا لا يمكن الفكاك منه أو مقاومته، لمصلحة فلسفة تعليم نقدية، تنموية، تحررية، مقاومة تقوم على العدالة الاجتماعية. ولنا في تجاربنا السابقة نماذج متنوعة للمقاومة يمكن تمثله بهذه الفترة. لقد دعمت منظمة التحرير الفلسطينية والقوى الوطنية تطوير الكليات إلى جامعات وطنية خلال سبعينيات القرن الماضي مثل جامعات بيرزيت وبيت لحم والنجاح، وشجعت تأسيس مجلس التعليم العالي، ما فتح المجال أمام أبناء الفلاحين والفقراء للالتحاق بالجامعات، وخلق كادراً أكاديمياً وبحثياً ورموزاً قيادية متميزة. وشكلت الحركة الطلابية، وفي مقدمها طلبة الجامعات، مكوناً أساسياً من مكونات الحركة الوطنية الفلسطينية، ومقاومة الاستعمار. واجه الفلسطينيون خلال الانتفاضة الأولى، أعتى المحاولات «الإسرائيلية» للهيمنة والسيطرة على التعليم الفلسطيني عندما أغلق الكيان الصهيوني جميع المؤسسات التعليمية، فابتدعوا التعليم الشعبي لضمان استمرارية التعليم، وعدم تجهيل جيل كامل من الفلسطينيين، بالرغم من بعض نواقصه.

وخاضت الحركة الطلابية نضالات مطلبية، حيث نجحت، في جامعة بيرزيت خلال مرحلة السبعينيات مثلاً، في تأميم مقصف الجامعة ليديره مجلس الطلبة لصالح الطلبة من أبناء الشرائح الفقيرة من عمال وفلاحين. وتمكنت تلك الحركة من الضغط على إدارة الجامعة لتبنّي سياسة تعريب المناهج الدراسية، وتوسيع حركة ترجمة الكتب الأساسية. وتحت ضغط الحركة الطلابية، والكادر الأكاديمي التقدمي تبنت جامعات مثل جامعة بيرزيت تدريس مساقات ثقافية وأكاديمية تعالج توجهات فكرية متعددة تعزز الفكر التقدمي والنقدي والإيجابي في الثقافة المحلية.

حالياً تطالب عدة مؤسسات مجتمعية بتوفير التعليم المجاني للجميع ورفع سن التعليم الإلزامي، وينفذ العاملون في القطاع التعليمي سلسلة من الإضرابات للمطالبة بحقوقهم النقابية، في حين تخوض الحركة الطلابية في الجامعات إضرابات متكررة مع بداية كل عام لرفض رفع الأقساط، وهو ما يؤكد استمرار المقاومة ورفض الانصياع لسياسة الأمر الواقع.

ختاماً؛ تخلص هذه الدراسة إلى أن السير الحثيث للسلطة الفلسطينية والنظام التعليمي والمؤسسات التعليمية الفلسطينية باتجاه تكريس سياسات الليبرالية الجديدة لخدمة مصالح الجهات المتنفذة في السلطة الفلسطينية، والخاضعة أصلاً لشروط المؤسسات المالية الدولية والدول الداعمة لها، وللهيمنة الاستعمارية، يُفضي إلى آثار تدميرية في النظام التعليمي الفلسطيني والمستفيدين منه. ومن هنا بات من الضروري التوجه لبناء نظام تعليمي عام مجاني يقوم على أسس تقدمية وتنموية، وتحررية وتمكينية للنساء أيضاً، في إطار بيئة مقاومة لوجود الاستعمار الإسرائيلي، ونظام سياسي يهدف إلى تحقيق العدالة الاجتماعية لكل مواطنيه باعتبارها ضرورة اجتماعية، نقيضة للسياسات الليبرالية الجديدة التي تقوم على حرية السوق وعلى الاتجار بالتعليم وتسليعه. ليصبح التعليم بحد ذاته محوراً أساساً لتشكيل الهوية الوطنية والتنموية، ولتمكين الفلسطينيين من مواجهة الهيمنة الاستعمارية، وما خلقته من تشوّه على البنية الاقتصادية والاجتماعية الفلسطينية، ومعالجة الآثار الاجتماعية السلبية للسياسات الليبرالية الجديدة وما كرّسته من تمايز طبقي ونوع ـ اجتماعي. ولن يتأتى ذلك كله إلا في إطار حاضنة عربية ودولية تقوم على الأسس التنموية التقدمية ذاتها.

كتب ذات صلة:

فلسطين: أربعة آلاف عام في التربية والتعليم

التجارة بالتعليم في الوطن العربي – الإشكاليات والمخاطر والرؤية المستقبلية

التعليم في الوطن العربي في ظل العولمة وثقافة السوق