مقدمة:

تقارب مفاعيل التنمية الاقتصادية حدود تشبيك علائقي متبادل بين المجتمع والتعليم، إزاء استلال الأخير معولاً حيوياً لأس التقدم والنهضة والنمو والترقي، ورفد الكوادر البشرية المؤهلة في عجلة الحراك التنموي، مقابل تماهي التنمية، بشتى أبعادها، مع مفاهيم العدالة والديمقراطية والاستقرار والاستقلال الفردي والمجتمعي معاً.

ويلامس «تكييف» متلازمة «التعليم/التنمية الاقتصادية» لتحقيق التغيير المجتمعي، مؤثرات داخلية تدخل في حساب التحولات الاجتماعية وطبيعة النسق المعرفي السائد والسياسات الرسمية للدولة، وأخرى خارجية تنبع من البيئة المحيطة، إقليمياً ودولياً، بما يصيب أيضاً هيكلة النظام الدولي القائم، بوصفها، جميعاً، عوامل تتضافر، دعماً أم ضداً، لتحديد المتغيرات الجارية داخل النظام السياسي نفسه، وتشكيل صيرورتها واتجاهاتها.

وتتناوب أبعاد التنمية في سلم الأقدمية عند منظريها، إذ يجد بعضهم أن التنمية الاقتصادية عامل مساعد أو جوهري لتحقيق التنمية في المجالات الاجتماعية والسياسية، إن لم تكن العامل الوحيد‏[1]، بينما يقدر آخرون بأن «التنمية السياسية مقدمة للنمو الاقتصادي والتغيير والتحديث وبناء الديمقراطية وإقامة المؤسسات»‏[2]، وذلك في منحى يأخذ بناصية التكامل المتعدد الأوجه للتنمية المجتمعية.

ويعد التعليم بالنسبة إلى المجتمعات الرازحة تحت الاحتلال أداة فاعلة لتشكيل الوعي السياسي الجمعي، الذي يدخل في صلب حراك المطالبة بحقوق التحرير وإنهاء الاحتلال وتقرير المصير، مثلما يشكل حجر الرحى لتأطير حالة ذهنية مقاومة للمحتل ومضادة للاستكانة والظلم ومردفة بوحدة وطنية مناهضة لممارسات التغييب والإلغاء والارتضاء بواقع الاحتلال، فضـلاً عن كونه، إلى جانب عناصر حيوية أخرى، أداة تحسين الظروف الاجتماعية والاقتصادية، بما يسهم في تعزيز الصمود والتثبيت الوجودي في الأرض والوطن، استعداداً لمرحلة ما بعد الاستقلال وإقامة الدولة المستقلة.

وإذا كانت عملية التطور التعليمي والاستفادة من مخرجاتها ضمن سياق أهداف التنمية الاقتصادية في المجتمع المحتل تجد منعة معتبرة من قبل السلطات المحتلة للحؤول دون النهوض التعليمي وتحقيق النمو الاقتصادي والاستقلالية، لضمان الإبقاء على حالة التبعية لها في مختلف المجالات، فإن الأزمات الحادة التي يخلقها الاحتلال قد تصيب مواطن الهوية والوعي السياسي الوطني وتكامل النسيج الداخلي وقدرة السلطة «الشرعية» على التغلغل بخدماتها وسلطتها في مفاصل المجتمع‏[3]، حتى وإن أُجبر الاحتلال، تحت وطأة تكلفة المقاومة، على منح المجتمع المحتل حكماً ذاتياً معنياً بالشؤون المدنية للسكان خلا السيادة، وذلك لتقويض السعي أو المطالبة بكيان سياسي مستقل.

ويحضر ذلك جلياً في سياسة الاحتلال الإسرائيلي ضد الأراضي الفلسطينية المحتلة، ولا سيَّما القدس المحتلة (موضع الدراسة)، عبر تجاوز أس بحثها ضمن قضايا الوضع النهائي التفاوضي، الممتد منذ العام 1991، تجاه تعميق الخلل القائم لمصلحته، وفرض الوقائع المغايرة في مخرجات عملية التسوية السلمية، غداة تقويض ركائز «حل الدولتين»، وقضم المساحة المخصصة لإقامة الدولة الفلسطينية المنشودة ضمنها، واستلاب القدس من مطلب التقسيم، في ظل الانحياز الأمريكي له، وضعف الدعم العربي – الإسلامي للقضية الفلسطينية، والانقسام الفلسطيني، الممتد منذ العام 2007، الذي يلحق الضرر بالمشروع الوطني.

وتستل إجراءات الاحتلال من البعدين التعليمي والاقتصادي سنداً للتغلغل بين مفاصل المجتمع المقدسي المقاوم، عبر خلخلة النظام التعليمي ومنع مساعي تحسينه وانتشاره، ومحاولة «كيّ» الوعي الجمعي بالتجهيل والإغراق في إرهاصات الوضع الاقتصادي المتدهور على حساب المطالبة الحقوقية، ضمن سياق مخطط عزل القدس عن بقية أراضي الضفة الغربية المحتلة، وتشتيت نسيجها المجتمعي وتقطيع أوصالها بجدار الفصل العنصري والحواجز العسكرية، وتفريغها من مواطنيها، بهدف تهويدها وطمس هويتها ومعالمها العربية – الإسلامية، تحت مزاعم «العاصمة الأبدية والموحدة لدولة إسرائيل».

ويسعى الاحتلال، من خلال ذلك، إلى «رسم» مصير القدس بسياسة «استباقية» بديلة من «الوضع النهائي» وليس حـلاً يدرج في إطار تسوية شاملة للصراع العربي – الإسرائيلي، بصفته أحد مخرجاته التفاوضية التي من المفترض أن تقود إلى إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشريف.

وفي ضوء ما سبق؛ تحاول هذه الدراسة البحث في تساؤل رئيسي حول «تأثير توظيف البعدين التعليمي والاقتصادي ضمن المشروع الإسرائيلي ضد القدس المحتلة، في مصير المدينة المحتلة ومعادلة الصراع العربي – الإسرائيلي». وينبثق من ذلك تساؤلات أخرى فرعية تدور حول: موقع قطبَي التعليم والاقتصاد في المخطط الإسرائيلي ضد القدس المحتلة، وسبل تجييرهما لخدمة مشروعه التهويدي، ومواطن انعكاساته على واقع المدينة المحتلة ومصيرها، وعلى القضية الفلسطينية والصراع العربي – الإسرائيلي، في ضوء محددات عدوان الاحتلال المتواصل، والمقاومة الفلسطينية المضادة، والموقف الفلسطيني والعربي والإسلامي، المعلن، باعتبار القدس عاصمة الدولة الفلسطينية المنشودة، وقرارات الشرعية الدولية، فضـلاً عن مفاعيل الدور الأمريكي.

أولاً: البعد التعليمي في المشروع الإسرائيلي

تشكل العملية التعليمية أحد المعاول الإسرائيلية المعتبرة لطمس الهوية العربية – الإسلامية في القدس المحتلة، وضرب الهدف الوطني الفلسطيني في التحرير وتقرير المصير وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشريف.

وقد تأثر القطاع التعليمي، أسوة بالقطاعات الحيوية الأخرى، بالمفاصل التاريخية الحاسمة للقضية الفلسطينية؛ حيث نجم عن العدوان الإسرائيلي في العام 1948 استيلاء الاحتلال على 78 بالمئة من فلسطين التاريخية، بما فيها الجزء الغربي من القدس، بينما تم وضع جانبها الشرقي مع بقية أراضي الضفة الغربية تحت الإدارة الأردنية حتى العدوان الإسرائيلي في العام 1967، وبهذا أُتبع الطلبة الفلسطينيون فيها للنظام التعليمي الأردني، بينما أنشئت خلال تلك الفترة عدة مدارس، بلغ عددها 82 مدرسة، 29 منها حكومية و44 خاصة و9 تابعة لوكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين «الأونروا»، عملت تحت الرقابة المباشرة لوزارة التربية والتعليم الأردنية وحسب قانون التعليم الأردني لعام 1964 الذي حدد المراحل التعليمية، معتبراً التعليم الإلزامي أساسياً ومجانياً، مغطياً التعليم الابتدائي (من الصف الأول حتى السادس)، والتعليم الإعدادي (من الصف السابع حتى التاسع)، بينما لم يعتبر المرحلة الثانوية (الصف العاشر – الثاني عشر) فترة إلزامية‏[4].

بيد أن الاحتلال بادر إبان عدوانه في العام 1967 واستيلائه على بقية أراضي الضفة الغربية بما فيها شرقي القدس، إلى إلغاء العمل بقانون التعليم الأردني ووضع التعليم الابتدائي تحت رقابة وزارة المعارف الإسرائيلية، والتعليم الثانوي تحت رقابة بلدية الاحتلال في القدس، وإغلاق مكتب التعليم في محافظة القدس، واعتقال عدد من مسؤوليه، مقابل السماح للمدارس الخاصة، المحلية والأجنبية، بإدارة شؤونها، شريطة خضوعها لضغوطه، ولا سيَّما المتعلقة منها بالمناهج‏[5].

تزامن ذلك مع مساعي تطبيق المنهاج الإسرائيلي، الذي تم فرضه في مدارس شرقي القدس الثانوية الخاضعة لسيطرته، بهدف طمس الشعور الوطني والقيم العربية الفلسطينية الأصيلة، مصحوبة بإجراءات عقابية، مثل إغلاق المدارس والطرد والاعتقال، ضد مقاومة الفلسطينيين الموحدة لإحباط محاولات تهويد التعليم، تحت مظلة لجنة المدارس الخاصة، المؤلفة من مدارس الأوقاف وتلك التابعة للجمعيات ومجالس الأمناء والكنائس والأديرة والمدارس الخاصة الأهلية والأجنبية، التي واصلت تدريس المنهاج الأردني، وأدّت دور المرجعية التعليمية عبر ارتباطها بدائرة شؤون الأرض المحتلة في الأردن.

كما امتنع الفلسطينيون عن إرسال أطفالهم إلى المدارس الحكومية مقابل إلحاقهم بالمدارس الخاصة، حيث كان المنهاج الأردني لا يزال معمولاً به، ما أدى إلى انخفاض عدد طلبة المدارس الرسمية التابعة لسلطات الاحتلال، في المراحل الابتدائية والإعدادية والثانوية خلال الفترة 1966 – 1972، مقابل اكتظاظ المدارس الخاصة بالطلبة وازدهار فكرة إيجاد مدارس بديلة للعرب، تبنتها جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية وبدأت تنفيذها سنة 1968 – 1969 بدعم من الحكومة الأردنية التي استمرت في دفع رواتب المدرِّسين الذين عملوا معها قبل الاحتلال، بينما غطت جمعية المقاصد رواتب المدرسين الجدد‏[6].

وفي ظل مقاومة أهالي القدس تطبيق المنهاج الإسرائيلي، وبالتالي الفشل الذي مُنيت به المدارس الحكومية آنذاك، تم اعتماد ما عرف بـ «المنهاج الموحد»، الذي أضاف إلى المنهاج الإسرائيلي المطبق في المدارس الإسرائيلية، أجزاء من المنهاج الأردني في المدارس الثانوية، إلا أنه تسبب في تنامي الضغوط على الطلبة وزيادة عدد الساعات الصفية الأسبوعية، وهو ما أثر سلباً في تحصيلهم العلمي، واستمرار انخفاض الانتساب إلى المدارس الحكومية.

وقد أعيد تطبيق المنهاج الأردني في القدس على مراحل: الثانوي في العام 1973؛ الإعدادي في العام 1978؛ والابتدائي في العام 1981، مع تغيير بعض مضمونه، لجهة إزالة فلسطين عن الخريطة من كتب التاريخ والإنسانيات، واستخدام الأسماء العبرية للأماكن، مثل «يروشلايم» و«يهودا والسامرة»، تزامناً مع فرض تدريس مادتي اللغة العبرية و«مدينة إسرائيل»، على المدارس، ومنع استيراد الكتب من البلدان العربية‏[7].

ومع تأسيس السلطة الوطنية الفلسطينية، في العام 1994 بموجب اتفاق «أوسلو»، تسلمت وزارة التربية والتعليم العالي الفلسطينية، التي تغير اسمها في العام 1996 إلى وزارة التربية والتعليم بعد إنشاء وزارة مستقلة للتعليم العالي، مسؤولية التعليم بمختلف مستوياته في الضفة الغربية وقطاع غزة، باستثناء القدس، حيث تسلّمت مدارس الأوقاف فقط، أما المدارس الخاصة ومدارس وكالة الغوث الدولية فقد تبنت الرؤية العامة الفلسطينية، رغم انتفاء ما ينص بتبعيتها القانونية للسلطة الفلسطينية.

في حين ظل المنهاج الأردني يدرَّس في مدارس الأوقاف والمدارس الفلسطينية الخاصة ومدارس وكالة الغوث شرقي القدس، أما في مدارس المعارف والبلدية فقد حذفت سلطات الاحتلال شعار السلطة الفلسطينية عن أغلفة الكتب وفرضت تدريس اللغة العبرية وتاريخ «إسرائيل»، وشوهت الحقائق الجغرافية والتاريخية ومتعلقات العقيدة الإسلامية والإرث العربي الحضاري داخل المنهاج. وعلى الرغم من محاولة الوزارة الفلسطينية دعم مدارس شرقي القدس، إلا أنها تصطدم، دوماً، بتحديات قطاع التعليم الناجمة أساساً عن سياسة الاحتلال الرامية إلى بسط السيطرة عليه وتطويعه في خدمة مصالحها التهويدية.

ووفق المعطيات الفلسطينية للعام الدراسي 2013 – 2014؛ يوجد في محافظة القدس 230 مدرسة، باستثناء المدارس التي تشرف عليها وزارة المعارف والبلدية الإسرائيلية، تضم 68,661 طالباً وطالبة، منهم 32,969 طالباً و35,692 طالبة‏[8].

1 – القوانين الناظمة للتعليم في القدس المحتلة

تفتقد العملية التعليمية في القدس المحتلة مرجعية موحدة؛ فمن جهة فرضت سلطات الاحتلال نفسها من خلال مدارس المعارف والمدارس البلدية وممارسة التضييق على الأخرى، ومن جهة ثانية فإن الوزارة الفلسطينية لا تدير فعلياً إلا مدارس الأوقاف، بينما تحظى بتعاون مدارس «الأونروا» مع توجهاتها، أما المدارس الأهلية والخاصة فإنها مختلفة الانتماءات والتوجهات؛ فمنها ما يتعاون مع الوزارة الفلسطينية، ومنها ما يكتسب دعم سلطات الاحتلال، ومنها ما يتمتع بالاستقلالية أو يتبع هيئات عربية أو دولية أو دينية مختلفة.

ويحتكم النظام التعليمي في القدس لقانون التعليم الأردني لعام 1964، وقانون التعليم الإسرائيلي شرقي القدس وفي ضواحيها التي أدرجت ضمن حدود بلدية الاحتلال، ويتفرع منه: قانون التعليم الإلزامي لعام 1949، الذي يحدد مسؤولية التسجيل الإلزامي على عاتق أولياء الأمور مقابل إناطة مسؤولية توفير التعليم المجاني للدولة، بالإضافة إلى قانون الدولة للتعليم لعام 1953، الذي اعتمد تقسيم المدارس إلى ثلاث فئات: مدارس عامة تابعة لسلطة الاحتلال، ومدارس دينية تابعة لسلطة الاحتلال، ومدارس مستقلة، في حين يُعنى قانون الإشراف المدرسي لعام 1969 بشرقي القدس تحديداً، عبر توسيع سلطة إشراف وزارة المعارف الإسرائيلية لتشمل المدارس الحكومية والأهلية إدارياً ومنهجياً معاً‏[9]. إلا أن الاحتلال يمارس تمييزاً فاضحاً بين مدارس غربي القدس وشرقيها، على مستوى الميزانيات المخصصة، وتطبيق قانون التعليم الإلزامي، والمرافق والتجهيزات وكفاءة الجهاز التعليمي.

وقد صيغت أهداف التعليم الرسمية للحكومة الإسرائيلية بموجب قانون التعليم لعام 1953 الذي يستهدف تثقيف الناشئة اليهود على «قيم الحضارة الإسرائيلية والإنجازات العلمية والإخلاص للدولة ووحدة شعب إسرائيل»، وزرع «حب دولة إسرائيل والعمل من أجلها والحفاظ على كيانها»، وتعميق الشعور «بعدالة صراع الشعب اليهودي العائد إلى وطنه التاريخي على تجديد وجوده القومي في البلاد»، بصفته «شعب الله المختار الموجود في أرض الميعاد»، مقابل محو الوجود الفلسطيني في فلسطين وتغييب المقاومة والنضال ضد الاحتلال من أجل الاستقلال‏[10].

في حين رهن الاحتلال موافقته على تطبيق المنهاج الأردني للمرحلة الابتدائية في مدارس شرقي القدس الرسمية الخاضعة لسلطاته، بموجب التعليمات الصادرة في 1/9/1981، باقتصار تدريس منهاج الضفة الغربية الأردني، بالإضافة إلى اللغة العبرية، على المرحلة الابتدائية الرسمية، وفق حصص دراسية محددة، والاشتراط، لتطبيقه تدريس اللغة العبرية وكتاب دولة إسرائيل وتعديل كتب أدبيات العلوم الإنسانية من خلال استبدال اسم «إسرائيل» في الخرائط الجغرافية وفي المنهاج بفلسطين، بهدف محو اسمها من الوجود، وإحلال كلمة «أورشليم» مكان القدس باعتبارها «العاصمة الموحدة والأبدية» للكيان الصهيوني، واعتماد المسميات العبرية بدلاً من العربية، للمواقع الجغرافية والأثرية، وطمس الآثار العربية – الإسلامية مقابل إبراز آثار يهودية مزعومة، واختلاق مسميات عبرية للكثير من المواقع العربية الإسلامية بزعم أنها ذات أصول عبرية‏[11].

وتواجه المدارس التابعة للسلطة الفلسطينية، فتواجه عدة صعوبات، كونها تتبع أساساً لسلطة تحت الاحتلال، لا تملك أي سلطة فعلية داخل مدينة القدس، في ظل تضييق الاحتلال عليها وسعيه للسيطرة على القطاع التعليمي.

2 – التحديات

تدخل الإشكاليات الحادة التي يشهدها القطاع التعليمي في القدس المحتلة ضمن مخطط الاحتلال الإسرائيلي الرامي إلى تهويد المدينة المحتلة، عبر سن القوانين العنصرية واعتماد الإجراءات النافذة لإحكام السيطرة عليه وضرب مسار تطوره وتقدمه، وطمس هويته الفلسطينية العربية. ويتمثل ذلك في الجوانب التالية:

أ – عمد الاحتلال، منذ العام 1967، إلى تهويد التعليم في مدارس شرقي القدس، قانونياً وإدارياً وعملياً، من خلال: إلغاء منظومة القوانين الأردنية الحاكمة للتربية والتعليم، وأبرزها قانون التربية والتعليم الرقم 16 لعام 1964؛ ووضع المدارس الحكومية الابتدائية والإعدادية تحت سيطرة وزارة المعارف الإسرائيلية؛ وإغلاق مكتب التربية والتعليم لمحافظة القدس؛ وإخضاع المدارس الأهلية والخاصة للقانون الرقم 564 لعام 1968 الذي يخوله بسط نفوذه وإشرافه عليها وإلحاق المدارس العربية إدارياً ومنهجياً بأجهزة وزارة المعارف الإسرائيلية‏[12]، وإصداره أمراً عسكرياً في العام 1980 يمنح الحاكم العسكري صلاحيات واسعة في جامعات الضفة الغربية وقطاع غزة‏[13]، وذلك بهدف طمس الهوية العربية الفلسطينية وإحكام السيطرة الكاملة على القدس وقطع صلتها بالمحيط الفلسطيني.

شملت السيطرة الإسرائيلية عناصر التدخل في مناهج التعليم بالمدارس العربية وحذف أي إشارة معادية للحركة الصهيونية‏[14]، ومنع تداول الكتب التي تتحدث عن الفكر الإسلامي والمجتمع العربي في فلسطين، وعرقلة تنظيم الأنشطة المدرسية، أو منعها، من اجتماعات وفعاليات ثقافية ورياضية، وإغلاق المدارس والجامعات ولجوء جيش الاحتلال إلى استخدام القوة لقمع أي محاولة اعتراض من قبل الطلبة‏[15].

ب – تؤثر الظروف الاجتماعية والاقتصادية القاسية التي يعيشها المقدسيون تحت الاحتلال في مسار القطاع التعليمي، ما يؤدي إلى بروز ظواهر سلبية، مثل ارتفاع نسبة التسرب المدرسي وانخفاض منسوب الالتحاق ومستوى التحصيل العلمي ومغادرة الطلبة صفوفهم الدراسية صوب الالتحاق مبكراً في سوق العمل.

وقد أقعدت سياسة الاحتلال العنصرية نحو 10 آلاف طالب مقدسي عن الدراسة، من إجمالي 93 ألف طالب يتلقون تعليمهم في مدارس شرق القدس، وأنهت مسار التعليم الثانوي لنحو 40 بالمئة منهم للالتحاق مبكراً بسوق العمل إزاء الوضع الاقتصادي الخانق، الذي أوجد نحو 95 ألف طفل مقدسي تحت خط الفقر‏[16].

ج – غياب المرجعية الموحدة: يمثّل تعدد المرجعيات المشرفة على التعليم في القدس أحد أبرز المشاكل التي تواجه القطاع التعليمي، في ظل وجود 42 مدرسة تابعة لدائرة الأوقاف الإسلامية، وتضم نحو 600 – 700 من الكادر التعليمي، وتستوعب 12 بالمئة من الطلبة تقريباً، مقابل المدارس الخاصة، ومنها الكنسية ومدارس الأوقاف الشرعية والجمعيات وغيرها، التي تعود إلى الملكية الفلسطينية وتستوعب قرابة 20 بالمئة من الطلبة المقدسيين، بينما تقع الإشكالية الكبرى في استيعاب أغلبية الطلبة داخل المدارس التابعة للبلدية والمعارف الإسرائيلية، التي تسعى لإحلال مناهجها المحتلة مكان المنهاج التعليمي الفلسطيني، بهدف طمس الهوية الوطنية وضرب الانتماء العربي – الإسلامي‏[17]. وتقود تلك الإشكالية، بطبيعة الحال، إلى غياب الرؤية الفلسفية أو الاستراتيجية التربوية الموحدة التي يجب تبنيها في المدارس لصالح فتح المجال واسعاً أمام الاحتلال للتدخل في تربية النشء وتوجيهه في خدمة مصالحه وأهدافه التهويدية.

د – معركة مضادة للمنهاج الإسرائيلي: يخوض الكادر التعليمي في القدس المحتلة معركة شرسة ضد نفاذ مخطط فرض المنهاج التعليمي الإسرائيلي، ولا سيّما بعدما تمكن الاحتلال من تطبيقه في 6 مدارس تابعة له، بينما يسعى من خلال تقديم المساعدات المالية للمدارس الخاصة إلى التغلغل في جوهر الفلسفة التعليمية وإدخال المفاهيم الصهيونية العنصرية بين ثنايا المناهج نفسها، وتحريف المناهج الفلسطينية لجهة إلغاء كل ما له علاقة بقضايا «النكبة» و«النكسة» ومجازر الاحتلال وجرائمه ضد الشعب العربي الفلسطيني، مقابل تمرير الرواية الصهيونية في فلسطين المحتلة.

هـ – ضعف البنى التحتية: وتتمثل بضعف الإمكانات اللازمة لتوفير المستلزمات والأدوات المدرسية، والأبنية المستأجرة، والنقص في الكادر التعليمي بمختلف المجالات، ولا سيّما مواد اللغتين العربية والإنكليزية والرياضيات، عدا معاناة 41 بالمئة من مدارس شرقي القدس النقص في الغرف الصفية أمام الحاجة إلى 1300 منها‏[18]، ما يقود إلى مشكلتي الاكتظاظ الطلابي وحرمان بعض الطلبة الالتحاق بالمدارس نتيجة غياب مقاعد شاغرة، مما يؤثر سلباً في أدائهم الدراسي وتحصيلهم العلمي.

وتلقي مشكلة ضعف الإمكانات المادية وصعوبة الحركة بظلالها السلبية على تنظيم الأنشطة الاجتماعية والسلوكية اللامنهجية، رغم أهميتها في توعية الطلبة بتحديات خطيرة تعصف في أوساطهم المقدسية، ولا سيَّما الإدمان والمخدرات والاستخدام غير المسؤول لشبكة التواصل الاجتماعي، إلا أن كثيراً منها لا يجد طريقه للنفاذ بسبب العراقيل الإسرائيلية‏[19].

و – التسرب المدرسي: تسببت سياسة الاحتلال العدوانية في ارتفاع نسبة التسرب من المدرسة بين صفوف الطلبة المقدسيين إلى حوالى 50 بالمئة، بهدف استيعابهم في سوق العمل الإسرائيلي بأيادٍ عاملة رخيصة، وتشجيع تغلغل المظاهر السلبية بين صفوفهم الشابة، التي تشكل نحو 55 بالمئة من المجتمع المقدسي، مثل تعاطي الكحول والمخدرات‏[20].

ز – الحواجز العسكرية وجدار الفصل العنصري: يضطر 20 ألف طالب مقدسي لاجتياز الحواجز العسكرية يومياً من أجل الالتحاق بمدارسهم في الجانب الآخر من مدينتهم المحتلة، بعدما طردهم الاحتلال الإسرائيلي، مع زهاء 90 ألف فلسطيني، خارج جدار الفصل العنصري، بينما تعد الفتحات الضيقة في عمق الجدار المسلح بمثابة «طاقة» الطريق اليتيمة بالنسبة إلى مئات من «المطرودين» منهم لشق معاناتهم تجاه مسقط رأسهم، من أجل تجنب ساعات الانتظار الطويلة عند الحواجز وعذابات التفتيش المضنكة على يد الاحتلال، إن حالفهم حظ المرور.

وقبل فترة ماضية كان عدد هؤلاء الطلبة مخيفاً، إلا أن سياسة الاحتلال في تعميق المتغيرات القائمة أدت إلى استيعاب نحو 12 ألفاً منهم في مدارس «المقاولات» التي بناها الاحتلال في المناطق الواقعة خارج الجدار، لإيجاد هجرة معاكسة من داخل المدينة المقدسة إلى خارجها، ولأجل تحسين صورته القبيحة أمام المجتمع الدولي وضغوط منظمات حقوق الإنسان التي شنت حملة مضادة ضده، ولكن الوقائع المفروضة على الأرض لا تخدمه كثيراً في هذا الشأن.

بينما امتدت تأثيرات الجدار العنصري والحواجز العسكرية، المتنقلة والثابتة، صوب إرباك العملية التعليمية وعرقلة مسارها، من خلال تقييد حركة وصول الطلبة والمعلمين إلى مدارسهم، وتوقيفهم واحتجازهم مدة طويلة لتفتيشهم وتعريضهم لسياسات إسرائيل العدوانية أو منعهم من الدخول إلى المدينة أحياناً، ورفض منح التصاريح اللازمة لهم، وبالتالي عدم انتظام الدوام أو التسرب منه‏[21].

 

ثانياً: البعد الاقتصادي في المشروع الإسرائيلي

استل الاحتلال في القدس المحتلة، ولا يزال، مخططاً ممنهجاً لعزلها عن بقية أراضي الضفة الغربية، وضرب حركتها التجارية مقابل إبقاء طوق الهيمنة حول قطاعاتها الاقتصادية والاجتماعية الحيوية، وحرمان السلطة من عائداتها السياحية، والتضييق على مواطنيها، بشتى الوسائل، صوب حملهم على مغادرتها ضمن إطار سياسة «التهجير الطوعي»، سبيـلاً لتهويدها وتفريغها من أهلها وإحلال المستوطنين مكانهم، وإسقاطها من مطلب التقسيم.

وقد أنتج ذلك وضعاً اقتصادياً واجتماعياً مأزوماً؛ حيث بلغ معدل البطالة في محافظة القدس في العام 2013 نحو 23,6 بالمئة، أما في فلسطين فبلغ معدلها 27,0 بالمئة، منها 22,4 بالمئة في الضفة الغربية و35,7 بالمئة في قطاع غزة‏[22]، في حين يعيش حوالى 75.3 بالمئة من مواطني شرقي القدس و82.2 بالمئة من الأطفال تحت خط الفقر، وفق معطيات العام 2014، ما يعكس سياسة الإفقار التي تعتمدها سلطات الاحتلال ضد القدس المحتلة‏[23].

ويسعى الاحتلال لفك ارتباط الاقتصاد المقدسي مع مناطق السلطة الفلسطينية وإلحاق تبعيته بالاقتصاد الإسرائيلي، من خلال فرض القيود على الحركة والتنقل التي تعد أحد المعوقات الرئيسة للنمو الاقتصادي والتنمية، بما تسفر عن تحديات فصل التجمعات الفلسطينية البينية وعرقلة وصول المواطنين إلى أراضيهم ومشاريعهم وأماكن عملهم وزيادة الاعتماد على الخدمات الاجتماعية الأساسية المقدمة من سلطات الاحتلال والمساعدات الدولية، الأمر الذي أدى إلى تكبيد الاقتصاد المقدسي خسائر فادحة وركوداً خانقاً، نتيجة عزل المدينة المحتلة عن أسواقها الطبيعية ومحيطها المجتمعي، وضمور كونها تقليدياً المركز التاريخي، والاقتصادي، والديني، والثقافي للأراضي الفلسطينية المحتلة‏[24].

وزاد جدار الفصل العنصري ثقل التحديات المضادة للنمو الاقتصادي المقدسي، إزاء عزل التجمعات السكانية عن مركز نشاطها المتمثل بالقدس وتحديد تدفق الدخل وإلحاق الضرر الجسيم بالمقدسيين بخسارة مباشرة للمداخيل تتجاوز قيمة مليار دولار، مرشحة للزيادة إلى نحو 194 مليون دولار سنوياً‏[25].

وتبعاً لذلك؛ أصيب قطاعا التجارة والسياحة بضربة قاصمة جراء قيود الحركة من القدس المحتلة وإليها، وهو ما تسبب في إفلاس وإغلاق زهاء 250 مؤسسة اقتصادية، أو «هجرتها» الداخلية صوب رام الله ومناطق السلطة الوطنية الأخرى، وسط تنامي معدلات الفقر والبطالة وانخفاض مستوى الدخل وشظف الظروف الحياتية.

وقد شهدت القدس عزوف القطاع الخاص عن الاستثمار فيها، أو بمحيطها، خلا المبادرات والجهود الفردية، إزاء رزمة الضرائب والرسوم المفروضة قسراً على التجار ورجال الأعمال المقدسيين وفق الأنظمة والقوانين الإسرائيلية، مثل قانون الضرائب العامة والضرائب البلدية، التي ترهق المواطن والتاجر المقدسي معاً، والتي يتصدرها تسعة أنواع من الضرائب؛ مثل الدخل، المشغل، الرفاه، القيمة المضافة، الآرمات التجارية، الأملاك، التأمين الوطني، التأمين الصحي، صندوق التقاعد والتوفير والتعويض الإجباري، حيث يقتطع إجمالها بين 40 و55 بالمئة من دخل التاجر‏[26].

ورغم ما تشكله السياحة من مورد رئيسي لما نسبته 40 بالمئة من اقتصاد مدينة القدس المحتلة، إلا أن إسهامها في الناتج الإجمالي الفلسطيني لا يتجاوز حالياً 4 بالمئة فقط، نتيجة سياسة الاحتلال العدوانية في إغلاق مدن الضفة الغربية ووقف حركة السياحة المحلية للقدس، وفرض القيود القانونية والمالية الثقيلة، والسيطرة على جزء معتبر من الموارد السياحية والتحكم فيها، ورفض منح التراخيص اللازمة لإنشاء أو توسعة الفنادق، مقابل توجيه السياح الأجانب إلى الفنادق المقامة داخل الكيان الصهيوني وتلك الكائنة في الشيخ جراح وباب الخليل، الأمر الذي أدى إلى تناقص عدد الفنادق العربية منذ العام 1967 من 40 إلى 29 فندقاً‏[27]، حيث يعد القطاع السياحي من أبرز القطاعات الفلسطينية عرضَة للتهويد، أمام اعتماد حكومة الاحتلال على الأدلّاء السياحيين اليهود في تسويق المزاعم الصهيونية وتحريف التاريخ العربي والإسلامي للمدينة المقدسة.

وأردفت سلطات الاحتلال إجراءات تهويد شرقي القدس بإغلاق المؤسسات الوطنية الفلسطينية، التي بلغ عددها نحو 88 مؤسسة، منها 32 بشكل متواصل، منذ العام 2011 حتى الآن، و56 بشكل جزئي، بينما أجبرت 33 مؤسسة على نقل مكاتبها وأنشطتها إلى الضفة الغربية المحتلة‏[28]، وذلك بهدف حرمان المواطنين المقدسيين حق تلقي الخدمات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والتربوية والطبية والخدماتية ولإجبارهم على مغادرة مدينتهم.

كما اعتمدت آلية لتجميد البناء السكني من أجل الحد منه وإعاقة تطوره، عبر سياسة مصادرة الأراضي واقتطاع مساحات شاسعة منها، تحت مسميات «المناطق الخضر» والشوارع غير المنظمة، والسماح للفلسطينيين بالبناء ضمن مساحة لا تتجاوز 13 بالمئة فقط في إطار حدود ما يسمى بلدية الاحتلال في القدس، شريطة نيل الموافقة المسبقة، بعدما استولت على 87 بالمئة من مساحة القدس المحتلة لأغراض الاستيطان، منها مصادرة 35 بالمئة تحت ذريعة «المصلحة العامة» وأكثر من 52 بالمئة من الأراضي التي أصبحت «مناطق خضر» أو شوارع أو مناطق غير منظمة‏[29].

ويرزح معظم مواطني شرقي القدس تحت وطأة الضائقة السكنية، أمام رزمة القوانين والأنظمة الإسرائيلية المعرقلة للحصول على رخصة بناء، والتكاليف الباهظة لنيلها، وإجراءات هدم المنازل، ما يجعل المدينة المحتلة بحاجة إلى نحو 20 ألف وحدة سكنية لسد العجز المتراكم خلال السنوات السابقة‏[30]، رغم سياسة الاحتلال التي لا تسمح بإصدار أكثر من 200 رخصة سنوياً، مقابل زيادة سكانية طبيعية تتطلب منح التراخيص لنحو 1500 منزل سنوياً‏[31].

بيد أن ندرة مساحة الأراضي الناجمة عن المصادرة الإسرائيلية المتوالية وتفتيت الملكية وسطوة «حارس أملاك الغائبين»، قد دفعت بخمس المقدسيين للعيش ضمن مبانٍ غير قانونية عرضة للهدم في سبيل الحفاظ على هويتهم المقدسية، فتكون النتيجة إما الهدم ودفع الغرامات الباهظة، وإما إرغام كثير منهم على الهجرة تجاه الأطراف خارج مركز ما يسمى «حدود بلدية القدس»، ما يوقعهم في النهاية تحت طائلة العقوبات وفقدان الهوية المقدسية، عدا الاضطرار إلى العيش في مساكن قديمة غير ملائمة تفتقد البيئة الصحية المناسبة والخدمات العامة والبنية التحتية المواتية، إزاء عدم ربط كثير منها بشكة الصرف الصحي، مقابل حاجة زهاء 50 بالمئة من شبكة المياه تقريباً إلى التأهيل.

وتعد سياسة هدم المنازل من إجراءات الاحتلال الرامية إلى التضييق على المواطنين المقدسيين، عبر ذريعتي البناء بدون ترخيص أو تنفيذ العقوبات الجنائية. وقد بلغ عدد المنشآت المهدمة عام 2014 نحو 214 منشأة، تشمل منازل ومتاجر وحظائر مواشٍ هدمتها جرافات الاحتلال أو ألزمت أصحابها بهدمها ذاتياً، بينما بلغ عدد المنازل المهدمة نحو 87 منزلاً ما أدى إلى تشريد 196 فلسطينياً‏[32].

وعادة ما يصحب ذلك سحب الهويات المقدسية أو بطاقات الإقامة الزرقاء، التي تعد إحدى وسائل الاحتلال لتغيير الميزان الديمغرافي في المدينة المحتلة. وقد سحب الاحتلال منذ العام 1967 حتى العام 2013 نحو 14,309 بطاقات، منها 241 هوية خلال عامي 2012 و2013‏[33].

وتبعاً لذلك؛ فقدَ آلاف المواطنين المقدسيين حق «إقامتهم» في مدينتهم المحتلة، بناء على الحدود الإدارية للقدس من وجهة نظر الاحتلال، وعليه يعتبر الفلسطينيون الذين يقيمون في ضواحي القدس فاقدي حق الإقامة، أسوة بحال المواطنين المقدسيين الذين يقيمون في باقي محافظات الوطن، إضافة إلى الطلبة الذين يتلقون تعليمهم خارج فلسطين، وأولئك الذين يقيمون بشكل مؤقت في الخارج، كما أقدمت سلطات الاحتلال، مؤخراً، على خطوة تستهدف تفريغ القدس من أهلها، عبر تحويل بطاقات الهوية الخاصة بالمقدسيين إلى «هويات مؤقتة»، تنتهي صلاحيتها عقب انقضاء سقفها الزمني المحدد لتصبح بعدها بحاجة إلى تجديد‏[34].

ولا يختلف وضع القطاع الصحي عن سابقيه، حيث أدت سياسة الاحتلال إلى تقديم الحد الأدنى من الخدمات الصحية للمقدسيين وتراجع نسبة الخدمات في المستشفيات المقدسية من 69 بالمئة إلى أقل من 20 بالمئة، ما أدى إلى عجز مالي خانق يشكل خطراً حقيقياً على صمود المؤسسات الطبية المقدسية‏[35].

وعلى الرغم من أن البنية التحتية في المدينة المحتلة تدخل في نطاق مسؤولية سلطة الاحتلال، إلا أن البلدية لا ترصد أكثر من 12 بالمئة من ميزانيتها العامة لها، ما تسبب في تعرُّض قطاع البنى التحتية للتآكل والانهيار، وتفاقم مشكلة انقطاع المياه ولا سيَّما في الأحياء المقدسية الواقعة خلف الجدار العنصري، التي تتنصل بلدية الاحتلال من تحمل مسؤوليتها حيالها بذريعة أمنية‏[36].

ثالثاً: القدس المحتلة في ضوء محركات التهويد الإسرائيلي

لما كان «واقع» المدينة المقدسة مغرَقاً بمعاول الاستيطان والتهويد والانتهاك، التي نشطت عقب العام 1967، فإن مسألة «تكييفه» مستقبـلاً تمثل الوجه المقابل لمخطط فرض الوقائع المغايرة، المفتعلة مسبقاً، في مخرجات عملية التسوية السلمية. وسيتم التوقف هنا عند الملاحظات التالية:

أولاً، على الرغم من تبني منظمة التحرير مطلب إقامة الدولة الفلسطينية على الأراضي المحتلة سنة 1967 وعاصمتها القدس الشريف، إلى جانب الكيان الإسرائيلي، وإرجاء قضايا الوضع النهائي إلى المرحلة النهائية وفق «أوسلو»، الذي كان يفترض انتهاء مرحلته الانتقالية في العام 1999، غير أن ذلك كله كان يجابَه إسرائيلياً بتصعيد العدوان ضد الشعب الفلسطيني.

وكان يشجع الاحتلال على ذلك انتفاء اختلافاتٍ حقيقية بين أحزابه، بمختلف توجهاتها اليسارية واليمينية والدينية، تجاه القضية الفلسطينية، حيث ترفع مجتمعة «لاءات» العودة إلى حدود حزيران/يونيو 1967، وتقسيم القدس، وحق العودة، ووقف الاستيطان، مقابل اشتراط الاعتراف بـ «يهودية الدولة» لبلوغ اتفاق نهائي للتسوية السلمية، بما يمس جوهر القضية الفلسطينية، وركائز المبادرة العربية للسلام، التي لم يتعاطَ معها. ويحضر هذا الموقف الإسرائيلي الثابت، مع «تكييف تكتيكي» لمخرجاته أحياناً طبقاً للمرحلة، في متوالية الأطر التي عقدت للتسوية‏[37]، وتطويعها تجاه تعميق الخلل القائم في الأراضي المحتلة لمصلحته، مما أنتج مساراً تفاوضياً ممتداً، منذ العام 1991، لم يحقق، حتى الآن، نتائج ملموسة.

ثانياً، تحظى قضية القدس، أسوة بقضايا الصراع العربي – الإسرائيلي الأخرى، بإجماع الداخل الإسرائيلي، تحت مزاعم اعتبارها «العاصمة الموحدة والأبدية لإسرائيل»، انبثاقاً من معتقدات دينية يهودية ومضامين نصية توراتية وتلمودية.

ثالثاً، لم يخرج الموقف الإسرائيلي من الكيان الفلسطيني المستقبلي عن إطار حكم ذاتي معني بشؤون السكان المدنية والحياتية، خلا الأمن والسيادة الموكولتين للاحتلال. ورغم أن بعض اليسار الإسرائيلي يزعم علناً تصالحه مع فكرة إقامة دولة فلسطينية، إلا أنه يرفض تقديم تنازلات تتعلق بالأراضي المحتلة اللازمة لإقامة الدولة، وسط تغييرات مستحدثة فيها لا يمكن أن تؤدي معها إلى دولة.

ومع تسارع وتيرة الحركة الاستيطانية واستمرار بناء جدار الفصل العنصري، رغم قرار محكمة العدل الدولية الصادر في 9/7/2004 القاضي بهدمه وتعويض الفلسطينيين المتضررين به، فإن ثمة تساؤلات تثار حول إمكان قيام دولة فلسطينية متصلة جغرافياً على ذات الأرض المحتلة عام 1967، التي لا تتجاوز مساحتها أصـلاً 22 بالمئة من أرض فلسطين التاريخية.

رابعاً، لم تستكن مساعي الاحتلال في خلق وقائع مغايرة في القدس المحتلة تؤدي إلى تهويدها وطمس هويتها الفلسطينية العربية والإسلامية، وإحداث تغيير فادح في معالمها؛ إزاء تطويق 15 مستوطنة ضخمة، تضم زهاء 200 ألف مستوطن، للمدن والقرى والبلدات العربية فيها، عبر امتدادها على ثلث مساحة الأراضي التي تمت مصادرتها منذ عام 1967، وتقطيع أوصال أحيائها بثماني بؤر استيطانية يقيم فيها ألفا مستوطن بين منازل المواطنين المقدسيين، و«مزاحمة» نحو 4 آلاف مستوطن يهودي، ضمن أربع كتل استيطانية و56 وحدة استيطانية، لنحو 33 ألف مواطن فلسطيني داخل البلدة القديمة، التي لا تتجاوز مساحتها الكيلومتر المربع الواحد، والتفاف الجدار العنصري حول القدس بطول 142 كم، مسنوداً بنحو 12 حاجزاً عسكرياً لتعقيد حياة المقدسيين وفصلهم عن نسيجهم المجتمعي الفلسطيني‏[38].

وتفيد معطيات «مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات»، ومقره بيروت، بفقدان محافظة القدس 90 بالمئة من أراضيها عند استكمال بناء الجدار العنصري، وعزل 617 موقعاً مقدساً وأثراً حضارياً عن محيطها العربي والإسلامي‏[39]، متسبباً في عزل 18 قرية وبلدة فلسطينية عن المدينة المحتلة، وطرد أكثر من 100 ألف مواطن مقدسي خارج الجدار، مهددين بسحب هوياتهم ومحرومين بلوغ مدينتهم وأماكن عملهم ودراستهم، ومستهدفاً ضرب النسيج المجتمعي الفلسطيني، وتشتيت العائلات المقدسية وفصلها عن بعض، وعرقلة الوصول إلى الأماكن الدينية المقدسة‏[40].

كما يستهدف تطبيق قانون ما يسمى «أملاك الغائبين» العنصري على مالكي العقارات في القدس المحتلة، الصادر مؤخراً، استلاب 13 بالمئة من مساحتها المتبقية بيد الفلسطينيين ومصادرتها لأغراض الاستيطان، وذلك بعدما استولى على 87 بالمئة من أراضيها، حيث يعني القانون أن كل فلسطيني يملك أرضاً في القدس المحتلة، ولكنه يسكن في أراضي الضفة الغربية أو الأردن، أو خارج الوطن المحتل، تؤول أرضه إلى «حارس أملاك الغائبين»، بما يشكل تطويراً للقوانين الإسرائيلية العنصرية.

يتمشّى ذلك مع مخطط 2020 الإسرائيلي لتفريغ القدس من مواطنيها، وخلق واقع سياسي اجتماعي اقتصادي ديمغرافي جديد لا يتجاوز فيه عدد المواطنين الفلسطينيين العرب نسبة 12 بالمئة فقط، بينما يصل عددهم، حسب الأرقام الفلسطينية، إلى نحو 404,165 فرداً في محافظة القدس‏[41]، مقابل مليون مستوطن يهودي في القدس المحتلة، بجانبيها الغربي والشرقي معاً.

خامساً، رغم مخالفة الاحتلال قرارات الشرعية الدولية المطالبة بإزالة الاحتلال والمقرة «بعدم شرعية ولاقانونية» الإجراءات التي ينفذها في الأراضي المحتلة العام 1967، بما فيها القدس، فهو يتجاوز البعد الأممي صوب المضي في نمط عدوانه الثابت ضد الشعب الفلسطيني، مستنداً في ذلك إلى الانحياز الأمريكي له، وحالة الانفصام الحاد بين القول والفعل التي تعتري المواقف الغربية عموماً تجاه الكيان الإسرائيلي، وضعف الدعم العربي والإسلامي للقضية الفلسطينية، والانقسام الفلسطيني، الممتد منذ العام 2007، الذي يلحق الضرر الفادح بالمشروع الوطني.

سادساً، إذا كانت الطبيعة الاستعمارية الاستيطانية الإحلالية للحركة الصهيونية هي التي فجرت الصراع في المنطقة، فإن حقوق الشعب الفلسطيني التي تعرضت للاعتداء والسلب والانتهاك تُعد بمنزلة الوجه الآخر لهذا الصراع، حيث شكل التنكر المستمر لهذه الحقوق، وبخاصة حقه في العودة وتقرير المصير، تزامناً مع سياسة الاستيطان والتهويد والقتل ومصادرة الأراضي، عقبة أمام محاولات التسوية السلمية، مثلما شكل النضال الذي لم ينقطع من أجل دحر الاحتلال واسترداد ما سلب ونيل الاستقلال، عامـلاً رئيسياً من عوامل تأجج الصراع واستمراره.

خاتمة

يمثل هدف تقويض ركائز التنمية المجتمعية الفلسطينية، سعياً إسرائيلياً محموماً لتنفيذ مخطط تهويد القدس المحتلة، وطمس هويتها العربية والإسلامية، وتفريغها من مواطنيها، ورسم مصيرها المسبق كـ «عاصمة أبدية وموحدة لإسرائيل»، وذلك ضمن سياق المشروع الصهيوني الأشمل في فلسطين المحتلة.

ويستل الاحتلال الإسرائيلي من معوَلي التعليم والاقتصاد في القدس المحتلة قاعدة للتحرك المضاد؛ في محاولة «يائسة» منه لضرب الوعي السياسي الجمعي المطالب بحقوق التحرير وإنهاء الاحتلال وتقرير المصير، وكـيّ الإدراك الوطني المؤطر لحالة مقاومة المحتل ومناهضة الظلم والقهر، وهدم أعمدة النهوض التعليمي والنمو الاقتصادي لكسر أسانيد الاستقلالية وضمان إبقاء التبعية له، فضـلاً عن مسعى «التغلغل» بين مفاصل المجتمع المقدسي المقاوم، وزعزعة إرادته وصموده، وحمله على الهجرة «الطوعية» من وطنه، بغية إحلال مستوطنيه مكانهم.

بينما يقف الاستيطان وجدار الفصل العنصري وهدم المنازل وانتهاك المقدسات الدينية، الإسلامية والمسيحية، في مصافّ أبرز مفردات مخطط «التهويد» الإسرائيلي، الذي يستكمل فيه الاحتلال معادلة «التشريد/التوطين»، أسوة بطرد زهاء 100 ألف مقدسي خارج مدينتهم في الفترة الأخيرة، مستفيداً من إرهاصات الأحداث والمتغيرات الجارية في النظام الإقليمي العربي، منذ زهاء الخمس سنوات تقريباً، وإنشغال دوله بقضاياها الداخلية، للمضي في ما يعتقده فعـلاً عدوانياً بعيداً من ضغط المساءلة والمحاسبة، في ظل الانحياز الأمريكي للاحتلال، وضعف الدعم العربي والإسلامي للقضية الفلسطينية.

وأمام إرادة الصمود والثبات الفلسطينية، مقابل عنصرية الاحتلال الاستيطاني الاستعماري الإحلالي، فإن معركة تحرير الوطن والإنسان الفلسطينيين، في إطار الصراع العربي – الصهيوني، لن تحسم قريباً بتسوية «ما»، مهما كان شكلها ونطاقها، نظير عجزها عن حل الصراع أو إنهائه، وانتفاء قدرتها على إنهاء جوانب الظلم التاريخي الذي لحق بالشعب الفلسطيني؛ أما «الاتفاقيات» المجزوءة فإنها تعمل فقط على ترحيل قضايا المرحلة النهائية إلى وقت زمني آخر، خلا تغيير نمط تفاعلات وإدارة الصراع بوسائل وأساليب أخرى.

ويزيد منه أن اضطرار الاحتلال، تحت وطأة ضغوط دولية وعربية مفترضة، إلى الانسحاب من الأراضي المحتلة في العام 1967، والقبول بدولة فلسطينية مستقلة ضمنها، وإزالة المستوطنات، وحق العودة، حسب المبادرة العربية للسلام، أمر مشكوك فيه، ليس فقط بسبب المنطلقات الفكرية والمرتكزات الصهيونية التي يقوم عليها الكيان الإسرائيلي، وإنما، أيضاً، لأن القبول بها يحمل نذر زواله، عدا كونه غير مستعد للتوصل إلى تلك التسوية أو تقديم أي مقابل بشأنها، إزاء المشهد الإقليمي العربي الراهن.

بذلك؛ فإن مسعى تغيير المعادلة القائمة في الوطن المحتل يعتمد أساساً على استمرار المقاومة الفلسطينية، بشتى أشكالها، أسوة بما حدث منذ مطلع شهر تشرين الأول/أكتوبر 2015، حتى اليوم، حينما انتفض الشبان الفلسطينيون، وغالبيتهم من جيل ما بعد «أوسلو»، ضد جرائم الاحتلال وعدوانيته، في القدس وعموم فلسطين المحتلة، بعيداً من أي تنظيم أو فصيل، من أجل الدفاع عن الوطن والأرض المحتلين، وإنهاء الاحتلال، والتحرير وتقرير المصير، وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس المحتلة، وحق عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم وأراضيهم، وفق الأهداف المرسومة في الحراك الوطني.

بيد أن وحدة ميدان المنتفضين، والممثلين، بطبيعة الحال، لنسيج مجتمعي غني بتباين تياراته وتوجهاته من القوى والفصائل الوطنية، لا تنعكس سياسياً؛ في ظل الانقسام الفلسطيني، الممتد منذ العام 2007، وعدم تحقيق المصالحة والوحدة الوطنية، ما أدى إلى افتقاد الحراك الشعبي الشبابي قيادة سياسية تنظيمية موحدة، واستبدالها بتحركات فردية وأدوات مقاومة بسيطة في طبيعتها ولكنها قاطعة في عدالة حقها وهدفها الوطني الجمعي.

لذا؛ لن يكون غريباً قيام هذا الحراك بتنصيب قيادته السياسية بنفسه، بعيداً من القيادات السياسية للقوى والفصائل الفلسطينية، من أجل استمرار انتفاضته، بعدما سئم انتظار ما لن يأتي بالمصالحة، في الأفق القريب على الأقل، ونظير ما يجده من التجاهل الدولي للقضية الفلسطينية، وضعف الدعم العربي والإسلامي، وتراكم الأزمات في الساحة الفلسطينية من دون معالجتها جدياً، وغياب الأفق السياسي نتيجة التعنت الإسرائيلي.

ولأن الصراع عربي – صهيوني، في الأساس، والمعركة لا تخص الشعب الفلسطيني وحده، فإن ذلك يتطلب دعماً عربياً وإسلامياً، معنوياً ومادياً، لحماية القدس المحتلة وتثبيت صمود مواطنيها في أرضهم، وإسناد القضية الفلسطينية، مثلما يستدعي، أيضاً، إنهاء الانقسام الفلسطيني وترتيب البيت الداخلي ووضع استراتيجية وطنية موحدة لمواجهة عدوان الاحتلال.

 

قد يهمكم أيضاً  المشروع الصهيوني: قرن جديد من الصراع

#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #القدس #الاحتلال_الاسرائيلي #المناهج_التعليمية_في_القدس #البعد_التعليمي_للمشروع_الاسرائيلي #الصهيونية #التعليم_في_القدس #تهويد_القدس #البعد_الاقتصادي_للمشروع_الصهيوني #دراسات