مقدمة

بات من المسلَّم به أن اللغة مؤسسة تحقق التأقلم، والتواصل، وتعزز الذات الإنسانية، وتحدد ملامح الهوية الثقافية، لذا يتوجب علينا أن نتساءل كيف يُمكن اللغة العربية أن تنتفع من التقنيات الحديثة، وتواجه ما يطرحه عليها راهن الحضارة الإنسانية، ومستقبلها من تحديات، وكيف يتيسر لأبنائها مجاوزة المعضلات، والصعاب الكثيرة التي تمر بها حياة اللغة إبان تعاملها، وتفاعلها مع الوظائف التواصلية، وأثناء انفتاحها على اللغات العالمية. وينبغي التذكير في هذا الصدد بأن احتفال الأمة العربية، والعالم باللغة العربية من خلال اليوم الذي حددته اليونيسكو في تشرين الأول/أكتوبر 2012 عند انعقاد الدورة 190 للمجلس التنفيذي (18 كانون الأول/ديسمبر) من كل سنة يوماً عالمياً للغة العربية لم يأتِ اعتباطياً، فهو احتفاء له أبعاده، وخلفياته، ودلالاته العميقة، ومعانيه المتعددة، ولا ريب في أنه يؤكد المكانة العالمية التي تحظى بها اللغة العربية. وبناءً عليه فكل مؤسسة ثقافية، أو مؤسسة علمية معنية بالاحتفاء بهذا اليوم الذي يُذكّر بالاعتزاز باللغة العربية، ويُنبه إلى ضرورة التمسك بها، واستعمالها، ونشرها على أوسع نطاق، كما يدفعنا هذا اليوم إلى التفكير في التحديات، والمآزق، والمعضلات التي تحيط بلغتنا العربية، ويجعلنا نكثف الجهود للمحافظة على سمو مكانة اللغة العربية في مواجهة الهجمات الرامية إلى النيل منها، والتي يجب مواجهتها بالعمل على تطويرها، والحفاظ عليها لاحتواء علوم العصر، والتقنيات الحديثة؛ فسؤال اللغة العربية ليس أمراً مرصوداً في أساس التاريخ، وما يفرضه من مقتضيات، بل ينبري اليوم ليشكل قضية مركزية تستحق الدراسة، والبحث، والتأمل، لذلك تحث الجامعة العربية في كثير من توصياتها على الاهتمام باللغة العربية في المدارس، والجامعات، ووسائل الإعلام، وفي الشارع، والبيت، وتوصي بتأكيد الخصوصية الثقافية، وتعميق الاعتزاز بالهوية العربية، وفي طليعتها اللغة العربية الفريدة في نوعها، نظراً إلى قدرتها على استيعاب العلوم الحديثة، وتلبية أغراض الاتصال في الحياة من دون جعلها حكراً على أغراض محددة، فضـلاً عن دعم الجهود المبذولة، والهادفة إلى استخدام التقنيات الحديثة‏[1].

الإطار المنهجي والنظري: لا شك في أن الحديث عن مستقبل اللغة العربية، ومدى مواكبتها للعصر من مختلف الجوانب له دلالات متعددة، ورحبة جداً، ويُفهم من جوانب متنوعة، فالمستقبل عند بعض الخبراء لا يتجاوز مستوى اللغة الأدبية الرفيعة، وتطورها من حيث المعاجم، والتراكيب، والأنساق التعبيرية، وهو عند أهل السياسة شديد الصلة، ومرتبط بتعزيز الهوية الحضارية، والواقع الجغرافي، والسياسي، ومن بين مدلولاته عند أهل الفكر العلمي مدى قدرة اللغة العربية على النهوض بالواقع الثقافي، وتطوير الإبداع الفكري، وتنمية الجوانب الاجتماعية، والارتقاء بالمعرفة الإنسانية، والإسهام في الثقافة العالمية.

يجتهد البحث في رصد قضايا متعددة، ومتداخلة، تكتسي أهمية بالغة في زمننا الراهن، وتتصل بالإشارة إلى بعض التحديات التي تُواجه جهود تعزيز المُحتوى الرقمي العربي، والتنبيه إلى الآفاق المرجوّة من بعض الجهود العربية المتميزة. كما يعرض البحث عدة تجارب ناجحة تتصل بهذا الميدان، كما يرمي إلى إبراز وتحليل جُملة من القضايا العلمية الجادة، التي تكتسي أهمية استثنائية، وتتصل بسُبُل تعزيز المُحتوى الرقمي باللغة العربيّة، والنهوض به إلى آفاق رحبة، وواسعة جداً – في ظل وجود جملة من التحديات والتساؤلات العلمية والمعرفية المشروعة – خدمة للغتنا العربية التي تتسم بقدرتها على استيعاب العلوم الحديثة، وتلبية أغراض الاتصال في الحياة، من دون جعلها حكراً على أغراض محددة، وهو ما يُحتم على الدارسين ضرورة مناقشة هذا الموضوع، والنهوض بدعم الجهود المبذولة، والهادفة لاستخدام التقنيات الحديثة بالأبحاث، والدراسات المتتالية، والعميقة. لقد بدأت الدول العربية تمضي قدماً في توسيع نطاق الاتصالات بالشابكة (الإنترنت)، ولا يختلف اثنان في المكانة المرموقة التي تحظى بها اللغة العربية بين لغات العالم، فهي تحتل مكانة مشرقة بين مختلف اللغات العالمية، يتحدث بها أكثر من 422 مليون نسمة، وهي من بين اللغات الأكثر استخداماً في الشابكة، وهي اللغة المقدسة للأمة الإسلامية الموزعة في شتى الكور، والأصقاع، فهي اللغة الأم لسائر سكان الوطن العربي، واللغة الثانية في مختلف أقطار العالم الإسلامي، وتشير كثير من الدراسات إلى أنها ثالث لغات العالم من حيث اتساع نطاق انتشارها، وتوسع مساحة المناطق الموجودة بها، وهي إحدى اللغات الست المعتمدة بصفة رسمية في كتابة وثائق الأمم المتحدة، وقد اعترفت منظمة الأمم المتحدة باللغة العربية كلغة عالمية، ولغة تخاطب، في أروقتها منذ 18 كانون الأول/ديسمبر 1973، وعدتها لغة رسمية للجمعية العامة، وهيئتها، وقررت منظمة اليونسكو الاحتفال باللغة العربية في 18 كانون الأول/ديسمبر من كل عام، بمشاركة الدول العربية والإسلامية… واللغة العربية من أكثر اللغات انتشاراً في العالم، فهي، على الرغم من الأخطار المحدقة بالأمة العربية والإسلامية، تمتلك ثوابت البقاء، والديمومة، بشهادة المنصفين من العرب، والعجم، ولأن فيها مكامن القوة التي لا نجدها في اللغات الأخرى، إذ تتميز بقدرتها الفائقة على التعريب، واستيعاب الألفاظ من اللغات الأخرى بشروط دقيقة. وبحسب الدراسات العلمية الحديثة، فإن جميع اللغات في العالم لم تستمر، ولن تستمر أكثر من أربعة قرون، ثم تنقرض، وهذا هو الحد الأقصى للغات. لكن المتتبع للمسيرة البشرية عبر التاريخ يتأكد له بلا شك، أن اللغة العربية وحدها، عاشت الآن زهاء تسعة عشر قرناً، وستستمر في الحياة ما بقي القرآن الكريم جامعاً لها، ومحافظاً عليه، وهي أقدم اللغات التي ما زالت تتمتع بخصائصها، من ألفاظ، وتراكيب، وصرف ونحو، وأدب وخيال، مع قدرة عجيبة على التعبير عن مدارك العلوم المختلفة، وإذا أراد الباحث أن ينظر الآن في مسار حياة اللغة العربية، فإنه يُلفي أن حركتها عبر التاريخ لم تشذّ عن قوانين التطور التي تحتكم إليها الألسنة البشرية، وإنما خصوصيتها تكمن في أنها تطورت حتى بلغت وضعيتها الراهنة بامتثالها مجموعة من السمات، والخصائص الأساسية، وهي في المنظور اللساني الشرط الذي أمّن للعربية بقاءها على نحو وسط بين الحياة، والاستمرار من جانب، والتطور، والتجدد من ناحية ثانية. ويُمكن جمع هذه الخصائص في عدة معطيات، من بينها: الارتباط، والتعلق بالنص، ذلك بأن للنصوص قيمة مرجعية، ومركزية في تاريخ اللغات، وتحولات الشعوب من محطة إلى أخرى، فإذا اختلف الناس حول أمر من المنطوق، أو المكتوب، عادوا إلى النصوص المكتوبة للفصل في ما اختلفوا فيه، والثاني هو التطور الداخلي، حيث إن ارتباط اللغة العربية بالنص، والتطور الداخلي للغة هما عاملان يضمهما في العربية أمر يكتسي درجة عالية من الأهمية، وهو ما يسميه بعض العلماء باحتوائية الدين، واللغة، فالترابط بين اللغة العربية، والدين الإسلامي يؤول إلى أن المسلم يتعامل مع القرآن الكريم بوصفه نصاً متعالياً على الخصوصية العربية‏[2].

إن اللغة العربية تتميز بتاريخها العريق، وتراثها الزاخر، وتوصف بأنها أغنى لغات العالم، وقد ظلت على مر العصور والأزمنة لغة العلم، والفكر، والحضارة الإنسانية، وهي واحدة من أشهر اللغات السامية، دخلت مختلف مجالات الحياة الإنسانية، والعلمية، والثقافية، والحضارية، وقد عرفت تطورات، وتحولات كبيرة، وازدهرت منذ القدم نتيجة اهتمام العلماء، ومحاولاتهم المستمرة في معالجتها، ومعرفة أسرارها، وتوظيفها، واستخدامها في مختلف العلوم، فأساس بقاء اللغة الاستخدام، والاستعمال المتواصل، والتنمية، وقد أدّت دوراً مهماً في سلسلة التطور الحضاري، وقدمت عن طريق أبنائها المخلصين إضافات مضيئة، ومعلومات أصيلة أدت إلى تقدم العلوم في شتى مناحي الحياة البشرية؛ كيف لا وهي لغة شريفة مقدسة، لغة القرآن الكريم الذي أُنزل على أنبل بني البشر سيدنا محمد. وتتميز اللغة العربية بأنها غنية بمفرداتها، وتراكيبها، وجمال أساليبها، وأصالتها، وعراقتها، بل وقدسيتها؛ فهي ماضينا، وحاضرنا، ومستقبلنا المشرق، وهويتنا، وأصالتنا التي تساعد على وحدتنا، واستمرارنا، ووعاء يجمع شملنا في هذا العصر‏[3]. وقد شهد لها بالتفوق، والعالمية ثلة من الخبراء الغربيين المنصفين، حيث يُصرح الباحث اللغوي الفرنسي جون بيروفست، الذي يعمل أستاذاً لتاريخ اللغة الفرنسية بجامعة سيرجي بونتواز في دراسة جديدة صدرت هذه السنة (2018)، عن منشورات «بوان»، بعنوان: أجدادنا العرب بأن اللغة الفرنسية عامرة بالكلمات والمصطلحات ذات الأصول العربية، فهناك نحو 500 كلمة يستخدمها الفرنسيون في حياتهم اليومية من دون معرفة أصولها العربية؛ فالرحلات، وعمليات التبادل التجاري أسهمت أكثر فأكثر في إثراء القاموس اللغوي الفرنسي، وهو ينصح الفرنسيين بتعلم اللغة العربية، لما لها من رصيد كبير في قلب القاموس اللغوي الفرنسي‏[4].

أولاً: عالمية اللغة العربية ودورها ومكانتها

أعلن المفكر الإسباني كاميلو خوسيه ثيلا الحائز جائزة نوبل في الأدب سنة 1989، أن «أغلب اللغات ستنسحب من ساحات التعامل الكوني، وستتقلص في أحجام محلية ضيقة (أي دارجة)، ولم يبقَ من اللغات البشرية إلا أربع لغات قادرة على الحضور العالمي، وعلى التداول الإنساني هي: الإنكليزية، والإسبانية، والعربية، والصينية»، فاللغة الإنكليزية هي لغة التجارة، والاقتصاد، واللغة الإسبانية لغة المساحة الواسعة (أمريكا الوسطى، والجنوبية، إضافة إلى قسم من أوروبا تتحدث باللغة الإسبانية)، والعربية (وهي لغة الثقافة والحضارة العالمية)، واللغة الصينية وهي (لغة العدد الأكبر). وتزخر لغات الشعوب الإسلامية والغربية بآلاف الكلمات العربية، وبخاصة في مجال المصطلحات الدينية والحضارية. وقد رصد محمود نور الدين في كتابه معجم الألفاظ العربية في اللغة الفارسية، آلاف الكلمات العربية في اللغة الفارسية، ورصد سمير عبد الحميد في كتابه: معجم الألفاظ العربية في اللغة الأردية، ما يزيد على اثني عشر ألف لفظ عربي داخل اللغة الأردية، وكان تأثير اللغة العربية في اللغة التركية واضحاً، ليس في المصطـلحات الإسلامية فحسب، بل في كثير من الألفــاظ، والمصطلحات الثقافية والسـياسية والاقتصادية والاجتماعية»، والدليل على ذلك اختيار الشعب التركي للحروف العربية أداة للتعبير الكتابي بعد إسلامه، واستمراره على ذلك ردحاً من الزمن في عهود لاحقة، وامتد تأثير اللغة العربية في لغات الشعوب الإسلامية كافة، في مشارق الأرض ومغاربها، إذ تغلغلت في الهند، والصين، وباكستان، وبنغلاديش، وماليزيا، وإندونيسيا، وأفغانستان، وفي كثير من دول أفريقيا مثل: النيجر، ومالي، والسينغال، ونيجيريا، وغيرها.

وفي دراسة قيِّمة قام الباحث بها عبد الرزاق القوصي، بعنوان: «عالمية الأبجدية العربية» وجد أن (164 لغة) في العالم كتبت بالحرف العربي، ومن هذه اللغات: الأردية، والفارسية، ولغة البشتو، والجيلانية، والبرهومية، والبلوشية والدارية، والسندية، والبنجابية، والبلقية، والأذربيجانية، والواخية، وغيرها. كما أثرت في اللغات الأوروبية كالإنكليزية، والفرنسية، والألمانية، والبرتغالية، وبخاصة اللغة الإسبانية التي أثرت فيها تأثيراً كبيراً، فقد ذكر بعض الباحثين أن المفردات العربية التي دخلت في اللغة الإسبانية تقدر بنحو أربعين بالمئة من محتويات المعجم الإسباني‏[5].

إننا كثيراً ما نسمع في عصرنا الراهن أن لغتنا العربية غير قادرة على استيعاب الثقافات المعاصرة، وقاصرة عن مواكبة التطورات التقنية، والتكنولوجية في عصر الانفجار العلمي، فكيف أن العربية التي ظلت لغة الحضارة والتكنولوجيا طوال القرون الوُسطى تعجز عن استيعاب الثقافات في هذا العصر، ولماذا لم نجد أحداً من العلماء العرب القُدامى يشتكي من عجز اللغة العربية، فصدر العربية فسيح يتسع كل يوم لمصطلحات العلم، ومقتضيات الحضارة؛ وقد أثبتت اللغة العربية على مرّ العصور، وبما لا يقبل الشكّ، أنها قادرة على استيعاب ألفاظ الحضارة، والمصطلحات العلمية والفنية؛ «لقد كانت آخر العهد الأموي، وفي أوائل العصر العباسي وجهاً لوجه مع العلوم الإغريقية، والأدب الفارسي، والحكمة الهندية فما لبث العلماء برعاية الخلفاء، والوزراء، وكلّ غيور على دينه، ولغته أن نقلوا هذه الثقافات إلى العربية، وأثروا بها تراثهم اللغوي، والفكري، وجعلوا من حركتهم مثـلاً يُحتذى، ومن آثارهم الإبداعية أساساً للنهضة الغربية التي نُباهي بها اليوم. ولم تعترض سبيلهم العربية بل كانت خير عون لهم بما أوتيت من مرونة، ومن ثراء يُضرب به المثل»‏[6]. إن جميع القرائن تؤكد أن النهوض بلغتنا العربية في هذا العصر الذي عرفت فيه بعض التراجع هو أمر ممكن، و«انتشار اللغة العربية ليس مهمة صعبة إذا توافر لانتشارها الجهد اللازم واللائق، وبخاصة أن هناك العديد من الدول الإسلامية من الدول غير الناطقة بالعربية في كل من أفريقيا وآسيا إضافة إلى دول الاتحاد السوفياتي السابقة، والمناطق الإسلامية في الصين وتركيا ودول البلقان المسلمة، مثل البوسنة وألبانيا وكوسوفو، والعديد من دول أوروبا وأمريكا حيث تنتشر الجاليات الإسلامية، فسوف يُقبل كل هؤلاء على تعلم اللغة العربية كونها لغة القرآن الكريم، والدين الإسلامي الذي يحرصون على الالتزام به، ويفضلون أن يعرفوه عن اللغة الأصلية، إضافة إلى رغبتهم في فهم القرآن الكريم، والسيرة، والحديث النبوي، وكل ما يتعلق بالفقه الإسلامي. وهذا الرابط الأساسي بين الدين الإسلامي، واللغة العربية يجعل من نشرها في العالم أمراً ميسراً، ويؤسس كياناً لغوياً تتبعه مصالح اقتصادية، وقوة سياسية تتحول بها الدول العربية إلى كيان عالمي يأخذ مكانته بين الأمم، والتكتلات الكبرى في العالم اليوم»‏[7].

إن المسألة اللغوية تتبوأ أرفع المنازل، وأخطرها بين سائر المؤسسات البشرية، وقد ارتبطت اللغة دائماً بالمقدس، وتبدو اللغة العربية ذات وضع استثنائي من حيث البقاء، والديمومة، وتواصل استعمالها على نحو تصاعدي؛ ففي كل مرة يتضاعف عدد المقبلين على تعلم اللغة العربية، وهذا الأمر في حد ذاته يتطلب إنجاز دراسة مستقلة، يُكشف النقاب عن الأسباب الخفية من منظور علمي وصفي، وليس انطلاقاً من خلفية معيارية قائمة على الانتصار للسان العربي، فقد تضافرت في هذه اللغة المقدسة عدة أوضاع إبستيمولوجية أكسبتها خصوصية بين الألسنة البشرية، ويُمكن حصر ملامح هذه الخصوصية في ثلاثة معطيات تكتسي أهمية بالغة. المعطى الأول له صلة بوضع اللغة العربية داخل المشهد اللغوي الكوني؛ في حين أن الثاني تاريخي دياكروني، يتعلق باستثنائية اللغة العربية من حيث تعميرها بين غيرها من اللغات، حيث يقدر الدارسون عدد اللغات في عالم اليوم بين 5000 و6000 لغة. وتشير بعض الإحصاءات المقدمة من جانب المنظمات الدولية إلى أن لغة تموت، وينقرض استعمالها كلّ 14 يوماً تقريباً. أي أن 25 لغة تندثر كل سنة. وينبه بعض العلماء إلى أن نحو 600 لغة أخذت طريقها التدريجي نحو الاندثار، وهذا يؤدي إلى انقراض نحو نصف اللغات المتداولة اليوم‏[8].

يُقارن المستشرق المجري عبد الكريم جرمانوس بين العربية واللاتينية من حيث الحياة، والفاعلية، فيقول: «إنَّ في الإسلامِ سنداً هاماً للغة العربية أبقى على روعتِها وخلودها، فلم تنل منها الأجيال المتعاقبة، على نقيضِ ما حدث للغاتِ القديمة المماثلة كاللاتينية؛ حيث انزوت تماماً بين جدرانِ المعابد.. فالألماني المعاصر مثـلاً لا يستطيع أن يفهمَ كلمةً واحدةً من اللهجةِ التي كان يتحدث بها أجدادُه منذ ألف سنة، بينما العربُ المحدثون يستطيعون فهمَ آداب لغتِهم التي كتبت في الجاهليةِ قبل الإسلام»‏[9].

كما يُصرح هنتنغتون في كتابه صراع الحضارات بأن القول بعالمية اللغة الإنكليزية ما هو إلا وهم كبير.. وتابع يقول: إن اللغة الغريبة على 92 بالمئة من البشر في العالم لا يمكن أن تكون عالمية، بينما ارتفعت نسبة المتحدثين باللغة العربية ارتفاعاً مطرداً. فقد وضع هنتنغتون اللغة العربية في رأس جدول يبين نسبة المتكلمين باللغات الرئيسة في العالم، حيث كان عدد المتكلمين بها في ارتفاع مطرد، ففي عام 1958 كانت النسبة 2.7 بالمئة، وفي عام 1970 ارتفعت النسبة إلى 2.9 بالمئة، وفي عام 1980 ارتفعت النسبة إلى 3.3 بالمئة، وفي عام 1992 إلى 3.5 بالمئة، وهي نسب تتحدث عن نفسها بكل وضوح. في المقابل: يبدو الانخفاض واضحاً في نسبة المتكلمين بالإنكليزية في السنوات نفسها، فقد بلغت هذه النسبة 9.8 بالمئة سنة 1958، وفي سنة 1970 انخفضت إلى 9.1 بالمئة، ثم انخفضت عام 1980 إلى 7.7 بالمئة، وأخيراً انحدرت عام 1992 إلى 7.6 بالمئة، وعلى الرغم من قدم هذه الإحصاءات نسبيّاً، إلا أنها تحمل دلالات واضحة، وإشارات إيجابية، ومبشرة، فها هو أرنست رينان المفكر الفرنسي المعروف بحقده، وكراهيته، الذي لم يكن من أنصار الفكر العربي الإسلامي يوماً ما‏[10]، يرى أن من أغرب ما وقع في تاريخ البشر، وصعب حل سره.. انتشار اللغة العربية، حيث بدأت فجأة في غاية الكمال، سلسة أي سلاسة، غنية أي غنىً، كاملة لم يدخل عليها أي تعديل مهم، فليس لها طفولة، ولا شيخوخة، ظهرت في أول أمرها تامة، مستحكمة، ولم يمض على فتح الأندلس أكثر من خمسين سنة، حتى اضطر رجال الكنيسة إلى ترجمة صلواتهم للعربية، ليفهمها النصارى‏[11].

وإذا ما قارنّا بين اللغة العربية واللغات الأخرى، فسنجد أن الأبحاث العلمية تؤكد تفوق اللغة العربية، وتغلغلها في كل اللغات العالمية. وينبه الباحث عبد المجيد شوقي البكري في دراسة موسومة بعنوان: «أم اللغات وعلم الاشتقاق والمقابلات»، إلى أنه أجرى مقابلات واضحة مدة ما يزيد على عشرين سنة، وقد وفق إلى وجود 1650 كلمة قرآنية في 22 لغة من لغات العالم الحية‏[12]. والحقيقة التي لا يُمكن إنكارها هي أن اللغة العربية أفادت من الظروف، والتطورات الحديثة، والمعاصرة، فغدت مكتسبة الكثير من المرونة، والاتساع، والجمال. ولو أننا تأملنا الصحف العربية الصادرة في أوائل القرن العشرين، والصحف الصادرة اليوم لتعجَّبنا من غرابة الأسلوب في الصحف التليدة، ومن مرونة اللغة المعاصرة، وقدرتها الفائقة على التعبير عن الأحداث، والمشاعر، والأفكار المختلفة. فاللغة العربية تتصف بالمرونة، وبالرسوخ اللغوي، والعلمي، والتاريخي، وهذا ما يؤهلها للبقاء، وعدم الانقراض فيما هو آتٍ. فالمرونة اللغوية هي التي أكسبت العربية مواكبة علوم العصر، وتطوير الدراسات اللغوية التطبيقية، وغيرها بها، واستيعابها ما يتجدد، ويستحدث من مصطلحات، ومعارف بحسب حاجة النشاط البشري المستخدم بها‏[13]. ولم تعجز اللغة العربية عن العلوم الحديثة، إذ وضعت بالعربية معاجم كثيرة علمية دقيقة للعلوم الحديثة، نذكر من بينها:

– قاموس طبي عربي للدكتور محمود رشدي البقلي، صدر في باريس سنة 1869.

– معجم علمي يشتمل على أربعين ألف مصطلح طبي، من إنجاز الدكتور محمد شرف الطبي سنة 1926.

– المعجم العربي في العلوم الطبية والطبيعية للدكتور محمد شرف، صدر سنة 1929.

– معجم الفيزياء للدكتور جميل الخاني، ملحق بكتاب: القطوف الينيعة في علم الطبيعة، صدر سنة 1931.

– معجم الألفاظ والمصطلحات الفنية في فن الجراثيم، للدكتور أحمد حمدي الخياط، صدر بدمشق سنة 1934.

– معجم في أمراض الجملة العصبية، للدكتور حسني سبح، صدر بدمشق، سنة 1936.

– معجم في أمراض جهاز التنفس، للدكتور حسني سبح، صدر سنة 1937.

– معجم الألفاظ الزراعية للأمير مصطفى الشهابي، صدر سنة 1934.

ناهيك بما وضعته عدة مجامع لغوية عربية. فاللغة العربية هي أكثر اللغات اتساعاً، وما زالت في اتساع إلى اليوم، لأن مطالب الحياة تضطرنا إلى اشتقاق ألفاظ جديدة، ونحت أخرى من ثوب العربية الفضفاض. فاللغة العربية حفظت التراث الإنساني من الاندثار، وقادت العالم حضارياً، وأدبياً، وعلمياً، وفلسفياً طوال تسعة قرون‏[14]. لذلك فأهمية وقدرة اللغة العربية على استيعاب المختصرات والمصطلحات العلمية لا يُمكن إنكارها بالنظر إلى ما هو موجود في تراثنا التليد من ترميز واختصار يُمكن الإفادة منه، والاقتداء به، وهناك إمكانات هائلة في اللغة العربية تُساهم في نقل المصطلحات، وتوليدها تمنحها طاقة واسعة، ونفساً رحباً لاقتحام مختلف ميادين، ومجالات التقنيات الحديثة.

ثانياً: ضرورة الإفادة من التقنيات الحديثة
وتعزيز المُحتوى الرقمي

يجمع الدارسون – أو يكادون – على أن مستقبل اللغة العربية مرهون بمواكبة تحديات العصر، التي تنضوي تحت لواء امتلاك سلطة المعرفة بمفهومها الحداثي، وقوامها التقنيات الحديثة، وثورة المعلوماتية، والاتصالات بالدرجة الأولى؛ فعلاقة اللغة بهندسة الحاسوب متبادلة، حيث يستخدم الحاسوب لإقامة النماذج اللغوية، وتحليل فروعها المتنوعة، وهناك قائمة من تطبيقاتها في مجال اللسانيات على سبيل المثال، منها: الصرف الحاسوبي، والنحو الحاسوبي، والدلالة الحاسوبية، والمعجمية الحاسوبية، وعلم النفس اللغوي الحاسوبي، ولا شك في أن كل مجال من هذه المجالات يستدعي تطويراً للغات البرمجة، إذ ضمت بعض الدراسات اللسانية العربية محاولات متميزة لتطويع تقنيات الحاسوب باللغة العربية، وذلك بما ينسجم مع رسومها، ولمواءمة قواعد اللغة العربية، وخصائصها للحاسوب من جانب آخر. ولا ريب في أن ثمة تحديات كثيرة للحوسبة أمام اللغة العربية من النشر الإلكتروني، وأهمية تعريبه، إلى شمولية اللغة العربية بالحاسوب، وتطويره بما يتوافق مع اللغة العربية المعلوماتية، تمهيداً للتأمل في حوسبة المعجم العربي‏[15].

وتزداد أهمية وجود اللغة العربية على الشبكات الحاسوبية مع توجه المجتمع نحو مجتمع المعلومات، ونحو الاقتصاد الذي أساسه المعرفة، وهناك مؤشرات توضح المحتوى في لغة من اللغات، إذ ينتشر المحتوى الرقمي العربي على الإنترنت كانتشار أي لغة أخرى على مختلف المجالات، ومن بين المجالات التي يتوجب أن يزداد فيها المحتوى الرقمي العربي:

– الأعمال بما فيها مواقع الشركات، ودليلها، ودليل المصانع، والبنوك.

– النشر: وتندرج تحت إطاره المجلات، والدوريات العلمية، والإذاعات، والتلفزيونات.

– الحكومة الإلكترونية: وفيها مواقع الوزارات، والمؤسسات العامة، والبوابة الحكومية.

– العلم والتكنولوجيا: الجامعات، ومراكز البحوث.

– المكتبات مثل: الكتاب الإلكتروني، والصحة، والسياحة، والتسلية، وغيرها‏[16].

يُشكل المعجم اللغوي (المعجم الحاسوبي التفاعلي) ركيزة أساسة للتقدم المعرفي لدى الأمم، فقد غدا إحدى الأدوات المهمة في التعليم، والبحث العلمي، والتأليف، والترجمة، واكتساب المعرفة، ومن بين أهم الأسس والقواعد التي يُقام عليها المحتوى الرقمي العربي:

– تجميع المكتبات الوطنية، وتخزينها، حتى تصبح متداولة على نطاق واسع.

– تدوين كل ما له علاقة باللغة العربية، وتسجيله، بما في ذلك النصوص الأساسية للأدب العربي قديمه، وحديثه، والصور، والفيديوهات، ومختلف الوسائط المتعددة، والبرمجيات التفاعلية، والمعاجم العامة، والمتخصصة، وثنائية اللغة.

– تسجيل الوثائق، والملفات العامة، والخاصة.

– تسجيل مختلف المقتنيات في المتاحف العربية.

– تسجيل الدوريات، والمجلات، والصحف القيمة على اختلاف أنواعها‏[17].

ولا يُمكن في هذا الصدد صرف النظر عن المشروع العظيم الذي كان ينهض به العلّامة الجزائري عبد الرحمن الحاج صالح رئيس المجمع الجزائري للغة العربية، المتمثل بمشروع الإنترنت العربي، أو الذخيرة اللغوية للغة العربية منذ العصور القديمة، إلى أيامنا هذه، فقد ركز من خلال رغبته في تجسيد هذا المشروع على تكنولوجيات الاتصال الحديثة، ومدى إمكان توظيفها في خدمة اللغة العربية من خلال حوسبتها، فهو يرى أن الذخيرة العربية يُفترض أن تكون تمثيـلاً حقيقياً لاستعمالات العربية عبر سلاسل زمنية متتالية من خلال حصر جميع الألفاظ التي وردت في المعاجم العربية، واستعملت في المصادر العربية القديمة. فالمحتوى العربي الإلكتروني هو مدوّنة حية يتم الانطلاق منها في دراسة الظاهرة الدلالية، حيث إن مشروع «الذخيرة العربية»، يعُرف بأنه عبارة عن بنك آلي من النصوص العربية القديمة، والحديثة مما أنتجه الفكر العربي، فهو ديوان العرب في عصرنا، الذي سيكون آلياً أي محسوباً، وعلى شبكة الإنترنت، وهو بنك آلي أي قاعدة معطيات بحسب تعبير الاختصاصيين في الحاسوبيات، وهو بنك نصوص لا بنك مفردات، أي ليس مجرد قاموس، بل مجموعة من النصوص مندمجة حاسوبياً ليتمكن الحاسوب من المسح لكل النصوص دفعة واحدة، أو لجزء منها، كبيراً كان أم صغيراً أو نصاً واحداً وغير ذلك، فهذا المسح الآلي للنصوص (العجيب السرعة) هو شبيه بالمسح المؤدي إلى فهرسة الأعلام، والمفاهيم، وأسماء الأماكن، وغير ذلك من جهة، أي إلى استخراج كل هذا، وحصره وترتيبه مع شيء إضافي جديد، وهو استحضار سياقاته، وذكر المرجع الكامل الدقيق. ويزيد على ذلك الحاسوب الإحصاء، وتحديد تردد العناصر في النص الواحد، أو في أكثر من نص، للذخيرة صفة أخرى تمتاز بها عن غيرها، وهي أنها ذخيرة مفتوحة على المستقبل غير معّلقة مثل أكثر ما هو مكتوب فهي قابلة للزيادة، والتجديد للمعلومات العلمية، والتقنية، وفوق كل شيء قابلة لتصليح الأخطاء في كل وقت‏[18]. وبالنسبة إلى محتوى الذخيرة، فهي تنقسم إلى جانبين:

– ثقافي (علمي تربوي)، وجانب خاص باللغة العربية، وذلك بحسب توظيفها، ونوعية الأسئلة الملقاة عليها، إلا أن محتواها من النصوص يُهم الجانبين معاً.

فسيكون فيها في المرحلة الأولى والثانية (وربما تكفي الأولى بالنسبة إلى التراث):

– النص القرآني بالقراءات السبع وكتب الحديث الستة.

– أهم المعاجم اللغوية (الوحيدة اللغة والمزدوجة).

– الموسوعات الكبرى العامة العربية الأصل والمنقولة عن اللغات الأخرى.

– عينة من الكتب المدرسية والجامعية القيمة (الرائجة في الوطن العربي أو في بلد واحد).

– عينة من الكتب الخاصة بإكساب بعض المهارات (منها تعليم اللغة العربية) على الطريقة الحاسوبية.

– عينة من الكتب التقانية القيمة.

– عينة كبيرة من البحوث العلمية، والثقافية القيمة المنشورة في المجلات المتخصصة.

– عينة كبيرة من المقالات الإعلامية الصحافية والإذاعية والتلفزيونية والحوارات والمداخلات المنطوقة في اللقاءات العلمية وغيرها.

– أهم ما حُقّق ونُشر من كتب التراث الأدبية (والشعرية بخاصة) والعلمية، والتقنية من الجاهلية إلى عصر النهضة.

وحجم هذه النصوص هو – حتى في المرحلة الأولى – ضخم جداً، ويبرر أصحاب المشروع هذا الحجم الكبير جداً بضرورة التغطية الواسعة للاستعمال الحقيقي للغة العربية قديماً وحديثاً، لأنه يمثل أولاً اللغة الحية النابضة بالحياة في كل الوطن العربي، وثانياً أفكار العرب وتصوراتهم، وفنونهم، وعلومهم، وأحوال حياتهم الاجتماعية، والدينية، والسياسية، وبالتالي تاريخهم الاجتماعي وتطور كل ذلك عبر الزمن‏[19].

تجدر الإشارة أن العلّامة عبد الرحمن الحاج صالح يرى أنه لا بد من مضاعفة مردود البحث الاصطلاحي، وذلك من خلال مجموعة من الطرائق، والوسائل من بينها:

1 – الرجوع إلى الاستعمال الحقيقي، والتركيز على ما قد وضع من لفظ عربي لنفس المفهوم في جهة أخرى، أو بلد آخر.

2 – الحصر الكامل، والمستمر لما يضعه العلماء باستمرار من مصطلحات في سائر أقطار الوطن العربي.

3 – الرجوع إلى التراث العلمي العربي، ومحاولة مسحه مسحاً كامـلاً.

4 – الاعتماد على مدونة من النصوص العلمية، حتى يتراءى فيها الاستعمال الحقيقي القديم، والحديث للغة العربية، في كل ميدان من الميادين العلمية، وبذلك تكون المصدر الرئيس للبحث الاصطلاحي، واللغوي بصورة عامة، وتصبح مرجعاً موضوعياً.

5 – اللجوء إلى الوسائل التكنولوجية الحديثة، وتطوير التصور للعمل الاصطلاحي، وذلك بما يقتضيه العمل على الحاسوب.

6 – لا يتم الاكتفاء بترويج المصطلحات الجديدة فحسب، بل لا بد من التدخل، وذلك لنشرها على نطاق واسع بطرائق ناجعة، وعلى نطاق واسع.

7 – ضرورة خلق هيئة قومية تهتم بالإشراف على جميع الأعمال الاصطلاحية العربية، وذلك بالتخطيط، والمتابعة، والتقويم العلمي، والتنسيق، وتكون لها صلاحيات مشروعة لتحقيق هذه الأهداف، ويُسمح لها بالتدخل المباشر.

8 – السعي لاستثمار الثروة اللغوية التي تختص بها لغتنا العربية في أبنيتها، وجذورها‏[20].

تتركز مكونات منظومة ثقافة المعلومات من منظور عربي، من منظومات فرعية متنوعة من بينها:

– المنظومة الفرعية للتربية: وأساسها ثلاثية المعلم، والمتعلم، والمقرر التعليمي.

– المنظومة الفرعية للإعلام: وقوامها ثلاثية المرسل، والمستقبل، والرسالة الإعلامية.

– المنظومة الفرعية للإبداع: أساسها ثلاثية المبدع، والمتلقي، والعمل الإبداعي.

– المنظومة الفرعية للغة: وقــوامــها ثـلاثـيـة النحو (نظام القواعد)، والمعجم، والاستخدام اللغوي الذي يتمثل بالنصوص اللغوية، وتمثل اللغة‏[21].

وبما أننا نعيش في زمن العولمة، والمعلوماتية، والانفجار التكنولوجي والتقني، فإن أغلب الدارسين ينصحون باستثمار الوسائل التقنية الحديثة بغرض الارتقاء بتعليم اللغة العربية، وتعلمها، وتحسين طرائق تدريسها لحمل الناس على الاهتمام بها، فقد أُنتجت جملة من برامج الحاسوب التعليمية، التي تعود بالفائدة على تعلم اللغة الأم، كما يمكن أن تُساهم في تطوير، وتنمية اللغة لدى الطالب، وتُقدم تسهيلات تعين على سرعة التأليف، بحيث يمكن تزويد الحاسوب ببرامج لاكتشاف الأخطاء المطبعية، والإملائية. وقد تكون هناك برامج لتصحيح الأخطاء تصحيحاً فورياً.

ويرى بعض الخبراء أن للحاسوب قدرة كبيرة على تنمية اللغة عند الطفل، ويمكن أن يقدم خدمة كبيرة للغة العربية الفصيحة، ومن المسلّم به أن تعليم اللغة للأطفال لا بد من أن يتم وفق نماذج لغوية مرنة، ومنظمة على أساس التدرج اللغوي حيث يتم الانطلاق من الأكثر معيارية إلى الأقل معيارية، فيكون لدينا:

«1 – العربية المعيارية وهي الضابط الأعلى ومثلها لغة القرآن الكريم.

2 – العربية النمطية وهي لغة الأدب، والصحافة… إلخ.

3 – العربية تحت النمطية وهي لغة التواصل الشفوي (لغة اللقاءات الرسمية كالتدريس، والاجتماعات، والموائد المستديرة).

4 – عربية المتمدرسين، وهي اللغة المستعملة في وضعيات لارسمية بالمدرسة، بالمعهد وبالجامعة خارج قاعات الدراسة.

5 – اللغة العامية (الدارجة) وهي لغة الحي، والقرية، والمدينة»‏[22].

إن الحاسوب يُساهم في تنمية المقدرة اللغوية عند الطفل، إذ يستطيع التعامل مع الحاسوب قبل السنة الرابعة من العمر، وينمّي وعيه، ويقوي مداركه، ويزيد من حدة نشاطه، كما يوفر الحرية، وعدم الخضوع لنظام المدرسة، ويُساهم في اختياره للموضوع، ويطور الطفل بوساطة الحاسوب مهارته في القراءة، والكتابة، والفهم، والاستيعاب، والرسم، وإعداد البرامج، كما يعزز ذخيرته من خلال سماع العربية الفصيحة، وهي تؤدي إلى الأداء السليم، والجميل من طريق برامج تلاوة القرآن الكريم، وإلقاء الشعر، ويُساعد الحاسوب الطفل على التخلص من كثير من مشكلات النطق، والسلوك، كالتلعثم، والتردد، والارتباك، ويُقدم له مساعدة كبيرة على النطق الصحيح للأحرف اللثوية، والحروف القمرية، وبخاصة الجيم، والحروف الشمسية، ويُمكنه من قراءة الأعداد المكتوبة بالكلمات، وتطبيق كثير من القواعد، كما يعلمه فن الإلقاء، والخطابة، والمحادثة، وإجراء المقابلات، والحوار، ويوفر له قراءة سهلة، وواضحة ممتعة‏[23]. ومن بين البرامج الحاسوبية التعليمية المتعلقة باللغة العربية نذكر:

1 – برامج التدريب والتدريس الخصوصي

تهدف هذه البرامج إلى قيام الطلبة بتدريبات وممارسات تمت دراستها مسبقاً، مثل: تعلم المفردات اللغوية للغة الأم، حيث يقوم الحاسوب بتقديم السؤال للطالب، والطالب بعد ذلك يعطي الإجابة، ويقوم البرنامج بمقارنة إجابة الطالب مع الإجابة المخزنة فيه. ومن مميزات برامج التدريب والتدريس الخصوصي أنها تسمح بتقديم أسئلة متنوعة للطالب في موضوعات لغوية شتى، مثل: أسئلة الاختيار من متعدد، التي تتم بعد قراءة الجملة، واختيار رمز الإجابة الصحيحة، وأسئلة ملء الفراغ التي تقوم بتعليم الطلبة قضايا لغوية، من خلال حذف بعض الأحرف التي يكون لها تأثير في الجملة، وتكليف الطالب بتعويضها، مثل القول: أدخل حرف الشرط المناسب في الجملة التالية. وتهدف تمارين المزاوجة إلى تزويد الطالب بثروة لغوية كبيرة، وذلك من خلال التركيز على تعليم الطلبة معاني المفردات اللغوية من خلال عرضها في عمودين توضع الكلمات في العمود الأول، ومعانيها في العمود المقابل، ويقوم المتعلم بانتقاء المعنى المناسب لكل كلمة.

2 – برامج القراءة والاستيعاب

هذه البرامج يتم استخدامها من جانب بعض معلمي اللغة العربية في تعليم القراءة والاستيعاب، حيث يقوم برنامج الحاسوب بعرض مجموعة من الحروف، أو الكلمات، أو الجمل، وتكون مصممة بطريقة تسمح بزيادة سرعة القراءة، وحساب معدلها، وضبط مدى استيعاب الطالب لما قام بقراءته، والهدف من هذه البرامج قياس تحصيل أداء الطالب. ومن بين الأمثلة على هذا النوع: برنامج كشف النص المخفي، وهو برنامج يسمح للطالب بأن يتنبأ بالنص اللغوي المضمر، من خلال إظهار بعض الحروف في النص، ويكمل الطالب ما تبقى منها، وقد تكون هذه النصوص عبارة عن قطع أدبية شائقة نثرية، وشعرية. وأحياناً يكون تصميم هذه البرامج التربوية التعليمية على هيئة لعبة، وكلما تنبأ الطالب حصل على نقاط أكثر، وكلما طلب المساعدة من الحاسوب خسر مجموعة من النقاط، وذلك إلى غاية الكشف على النص المخفي‏[24].

ويُستفاد من الحاسوب في النشاط اللغوي بصور متعددة، يُمكن إبرازها في ثلاث صور رئيسة هي: الاستعمال العام، الذي من أهم مجالاته معالجة النصوص، أو تنسيق الكلمات، ويُقدم هذا النوع من البرمجيات إمكانات الكتابة، وما يتبعها من إجراءات تدقيقية مثل: التدقيق الإملائي، والتدقيق النحوي، والمساهمة في دقة التعبير المعجمي من خلال: معجم المترادفات، أو مكنز، وقد أسهمت هذه البرامج أكثر فأكثر في خدمة اللغة العربية، والكتّاب، والمترجمين، إضافة إلى دور الشابكة في نشر اللغة العربية عند استعمالها في نشر النصوص العربية الإعلامية، والعلمية، والأدبية، ومن بين الاستخدامات المتعددة للحاسوب الترجمة الآلية، أو الترجمة بمعاونة الحاسوب على الشابكة. ومنذ العقد السابع بدأ الشروع في استخدام الحاسوب في تعليم، وتعلم اللغات، ويتضمن ذلك تعليم عناصر اللغة ومهاراتها بصور مختلفة، إضافة إلى تصميم الاختبارات اللغوية، وتقديمها، والقيام بتقويمها. وهناك عدة برامج حاسوبية لتعليم العربية‏[25].

يذهب بعض الدارسين إلى أن اللغة العربية هي أكثر اللغات ملاءمة لنظام الحاسوب، ذلك بأن حروفها قابلة للتربيع، فهي الأكثر انسجاماً مع طبيعة الحاسوب من أي لغة أخرى في العالم، وإذا نظرنا إلى الدور الإيجابي للتقنية في خدمة اللغة العربية، فإننا نلمس ذلك من خلال ما وفرته من أدوات صوتية، ومرئية لتعليم مفردات اللغة العربية، وقواعدها، وكيفية «كتابتها، ونطقها، وكذا ما وفرته من المعاجم، والقواميس الإلكترونية، والمدققات النحوية، والإملائية عبر الإنترنت، فضـلاً عن برمجيات القراءة الضوئية للحروف العربية، والإملاء الآلي العربي، وتحويل النصوص العربية إلى أصوات ناطقة باللغة العربية…، فمع ما وفرته من أدوات عظيمة بكل أبعادها، إلا أنها قد أدت إلى اضمحلال نموذج التعلم الذي يقوم على التواصل وجهاً لوجه، حيث يكون هناك دور للحواس البشرية كافة…» ‏[26].

وهناك دعوات إلى حوسبة المنهاج اللغوي، بالنظر إلى ما يوفره من إمكانيات يُمكن استثمارها في مجال تعليم اللغات، إذ ينبغي التعجيل بردم الهوة بين نظم الحاسوب، واللغة العربية، من خلال المبادرة من قبل مؤلفي المناهج الدراسية إلى إشراك المهندسين في البرمجة الحاسوبية، من أجل صناعة محامل إلكترونية للمواد اللغوية‏[27].

ثالثاً: استنتاجات وتوصيات

بعد هذه الجولة مع الأطروحات، والتّحاليل، يوصي الباحث بما يأتي:

1 – الإفادة من التقنيات الحديثة، واعتماد طريقة مشابهة لطريقة الترميز القرآني للاشتقاق، ووضع أسماء للمصطلحات العلميّة، إذ يُمكن من خلال ذلك إرجاع المصطلح المستحدث، والجديد إلى سياقه في الميدان العلمي.

2 – استثمار الوسائل التقنية، والتّكنولوجية الحديثة في تعليم اللغة العربية، فلا ينبغي إهمال دورها، إذ هناك حاجة ضرورية إلى استغلالها في زمننا الراهن، حيث يُمكن أن تؤدي دوراً مهماً في النهوض بتعليم اللغة العربية. ولا بد من السعي إلى إنتاج برامج تقوم بهذه المهمة، ومن أبرز ما يتوجب الاعتماد عليه: الشابكة، والأفلام التعليمية، والأجهزة المتطوّرة كالألواح الإلكترونيّة والهواتف الذّكية؛ مع متابعة تطورات علم الحاسوب للإفادة منه، وتوظيفه في العملية التعليمية بطرائق متنوعة.

3 – ضرورة العناية بالمحتوى الرقمي العربي، ومخاطبة الجهات الرّسمية في الدول العربية لإثرائه، واعتماد مبادرات تخدم المحتوى الرقمي العربي، وتعزّز من شأن اللغة العربية في ميدان التقنيات الحديثة.

4 – إقامة علاقات وطيدة بين أقسام اللغة العربية، وعلم التربية والتّعليم، وعلوم الحاسوب، والتكنولوجيات الحديثة، وذلك بغرض تنسيق الجهود بين مختلف الدّارسين، مع استثمار المناهج المتوصل إليها، فلا بد من انفتاح مدرّسي اللغة العربية على تخصصات أخرى، وميادين علمية جديدة، والسّعي إلى خلق علاقة وشيجة بين تعليم اللغة العربية، والعلوم الأخرى مثل: تكنولوجيات الاتصال، والإعلام.

5 – تنسيق الجهود، وتوحيدها للنهوض بإثراء الذخيرة اللغوية المحوسبة على الشابكة، ومخاطبة الجهات الرسمية لتعزيز هذا المشروع العلمي الحضاري.

6 – ضرورة تلاقح الأفكار في تشخيص ما تواجهه اللغة العربية، من تحديات، ومعضلات، مثل: مواجهة الخطر الذي يهدد اللغة العربية العريقة، من لغات أخرى، كما يجب التمييز بين ما تتسع له العربية، وتقبله من عامياتها، وبين ما يُمثِّل اعتداءً على هويتها الممتدة في التاريخ.

7 – تركيز الاهتمام على المنطلقات والأسس الرئيسة التي تبنى من خلالها الأهداف التعليمية للغة العربية سواء أكانت عامة أم خاصة من خلال تحديد الحاجات التربوية للمتعلم، التي تنسجم، وتتمشى مع العصر الذي يعيشه، والمستوى الثقافي الذي هو عليه.

8 – العناية بأساليب تقويم تعليم اللغة العربية، والحرص على التكامل، والانسجام بين الجوانب النظرية والعملية في مناهج تعليم اللغة العربية، مع الإفادة من تكنولوجيا المعلومات، والتقنيات الحديثة.

9 – الحرص على صوغ برامج تعليمية تقنية حديثة تكون لها صلة عميقة بالبيئة التي يعيش فيها التلميذ، مع الاستعانة بوسائل الإيضاح، والفهم مثل: الرسومات التخطيطية، والصور، والأشكال البيانية، والمخططات، وهذا ما يُسهم في إيضاح المعاني، وتقريب دلالاتها إلى أذهان المتعلمين.

10 – الحرص على الانتقاء العلمي السليم للمادة النحوية، مع تطبيق طريقة الأنماط اللغوية التي تُسهم في تيسير عملية الوصف، وتساعد على اكتشاف أنواع مختلف التراكيب وسماتها، كما ينبغي التركيز على المنهج اللساني الوصفي في تعليم النحو العربي.

12 – العمل على أن تكون مناهج تعليم وتعلم اللغة العربية قائمة على تجارب دقيقة، ونتائج معمقة مستخرجة ومستنتجة من البحث والتجريب، وذلك بهدف ترقية وتحديث المقررات والبرامج الدراسية للغة العربية، إضافة إلى الارتقاء بالطرائق المعمول بها وتطويرها من مرحلة إلى أخرى، وفقاً لمتطلبات ومقتضيات العصر وحاجات المتعلمين.

13 – السعي إلى خلق تكامل بين مختلف العلوم والمعارف لترقيّة تعليم اللغة العربية، بحيث يتم تقويم استعمال اللغة العربية في المؤسسات التّعليمية التربوية في ظل الحقائق المكتشفة، والنتائج المستخلصة، ليس في علم واحد بل من خلال تضافر الجهود بين جملة من الباحثين المتخصصين في علوم متنوعة مثل: علم تدريس اللغات، وعلم اللسان التطبيقي، إضافة إلى الاعتماد على أسس ومفاهيم النظرية الوظيفية التي أكدت عدة دراسات نجاحها، كونها تُسهم في تيسير النحو والابتعاد به من التعقيدات والقيود المختلفة.

14 – تأليف لجان متابعة متخصّصة تحرص على إثراء المحتوى الرقمي العربي، مع استثمار اللّسانيات الحاسوبية في هذا الشأن، والإفادة من الباحثين المتميزين في هذا الميدان.

15 – تركيز الاهتمام على المعجم العربي من مختلف الجوانب، والحرص على توحيد المصطلحات المستحدثة في شتّى المجالات، مع تبادل الخبرات بين الجامعات، والمؤسسات لإثراء التّجارب.

خاتمة

إن صناعة المحتوى الرقمي الثقافي العربي، وتقويته في مختلف المجالات، أضحى ضرورة في سائر الجوانب. فالمحتوى هو الملك على حد تعبير الباحث المعروف في البرمجيات نبيل علي، حيث إنه أضحى المحرك الرئيس لاقتصاد المعرفة، وهو الذي يُوفر «معظم الوسائل الخاصة بزيادة إنتاجية عمالة المصانع، والمكاتب، والفصول، وصناعة الثقافة، ومن ثم، صناعة المحتوى الثقافي، الذي هو من أهم صناعات اقتصاد المعرفة، ومن أكثر تطبيقات المعلوماتية عائداً، وإن كان التركيز قد انصب حتى الآن على إرساء البنى التحتية الأساسية لمجتمع المعرفة. فقد أيقن الجميع أن المحتوى هو التحدي الحقيقي، فهو أهم مقومات هذا المجتمع بلا منازع، وزهو ساحة السباق الساخنة التي تشهد – من جانب – تنافساً شرساً بين الكبار للهيمنة على السوق العالمية لاقتصاد المعرفة، ومن جانب آخر نضالاً مريراً من جانب الدول النامية سعياً للحاق بركب مجتمع المعرفة الذي أصبح شعاره: (لحاق أو انسحاق)»‏[28]. ومن أبرز الرهانات المطروحة الآن أمام المجتمعات العربية، هو: رهان التنمية اللغوية، وما الطرائق التي ستتحقق بها، فمن منظور عربي، يمثل المحتوى الثقافي أهم فروع صناعة المحتوى، إذ إنه يشتمل على مجالات رئيسة متعددة: محتوى التعلم الإلكتروني، ومحتوى الإعلام الإلكتروني، ومحتوى التراث الثقافي الإلكتروني، ومحتوى الفنون الإلكترونية، ومحتوى دعم الحوار الثقافي، ومحتوى المنزل الإلكتروني، ومحتوى الجماعات المحلية الإلكترونية، ومحتوى الاحتواء الإلكتروني. ويتسم المحتوى الثقافي العربي – كما يرى الباحث نبيل علي – بعدة خصائص تُميزه من غيره، ومن أبرز هذه الخصائص: وفرة مصادر المعلومات، وشدة تنوعها، وتنوع فئات المستفيدين من حيث السن، ومستوى التعليم، واختلاف غايات البحث عن المعلومات الثقافية، وحاجة المعلومات الثقافية إلى طرحها في سياق حضاري أشمل، حتى تظهر جوانبه المعرفية، والإنسانية، وشدة الطلب على التقانات المتقدمة من أجل رقمنة مصادر المعلومات، ومعالجتها، وعرضها، ومعظم التطبيقات، وأدوات معالجة المحتوى، ووسائل توزيعه تتسم جميعها بكونها كثيفة اللغة، وهذا يقتضي معه اعتبار اللغة‏[29]، وحوسبتها مدخـلاً رئيساً في وضع استراتيجيات إرساء صناعة المحتوى الثقافي العربي. ولعل أبرز العوامل التي تُواجه مسيرة تطور المحتوى الثقافي، واللغوي العربي هي التطور المتسارع للإنترنت، وذلك بوصفها الوسيلة والأداة المثلى للتواصل الثقافي دون منازع، ومدى التقدم في تطوير أساليب معالجة مواد المحتوى عموماً، وأساليب معالجة اللغات الإنسانية حاسوبياً على وجه الخصوص‏[30]، ذلك بأن اللغة – في رأي الكثيرين – هي أساس، ومحور منظومة الثقافة.

كتب ذات صلة:

زمن الذكاء الاصطناعي: حوار ساخن بين إنسان آلي وإنسان عضوي

نحو استراتيجية عربية لصناعة المحتوى الرقمي