– 1 –

لم تكن حركة الاحتجاج التشرينية في العراق مفاجئة أو بلا مقدمات، بل كانت امتداداً لأزمة الحكم المستفحلة منذ عام 2003، المتمثّلة بنظام المحاصصة والتقاسم الوظيفي وفق ما سمّي «المكوّنات» كما ورد في الدستور، الذي يوجد بموازاته مرجعيات ما قبل الدولة وما دونها لتنافسه أو تعلو عليه أحياناً، ناهيك بالفساد المالي والإداري والسياسي الذي أصبح يزكّم الأنوف، واستشراء ظواهر العنف والإرهاب.

على الرغم من مرور أسابيع على حركة الاحتجاج فإن الطبقة السياسية الحاكمة وأحزابها لم تدرك حقيقة ما يجري على الأرض، وكأنها تعيش على كوكب آخر. وقد يكون رهانها أن باستطاعتها، مع مرور الوقت وزحف فصل الشتاء حيث البرد القارس في الساحات، تجويف الحركة وتسويف مطالبها بالوعود حتى إجهاضها، علماً أن حركة الاحتجاج التشرينية تختلف عمّا سبقها، وهي أقرب إلى استفتاء شعبي بفشل العملية السياسية، التي لا بدّ من استبدالها وتغييرها، بعد وصولها إلى طريق مسدود. لذلك فإن أي إصلاحات فوقية أو تجميلية، ستكون غير مجدية، لأن الشارع يعدّها مجرد ترقيعات لا تمسّ جوهر النظام السياسي ما بعد الاحتلال، بل إنها ستُدخِل العراق في أزمة جديدة، بدلاً من إخراجه من أزمته، ذلك بأن الأزمة الراهنة هي أزمة استثنائية بكل معنى الكلمة، ومثل هذا الوضع الاستثنائي يتطلّب حلولاً استثنائية.

لكن، على الرغم من اعتراف رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء والكيانات والأحزاب المشاركة في العملية السياسية بعمق الأزمة، فإن الحلول التي تضعها هذه الأطراف لا ترتقي إلى «فقه الضرورة»، بل لا تزال تتشبث بفقه الواقع حفاظاً على مواقعها، وإلّا كانت قد استجابت للمطالبات الشعبية باستقالة الحكومة.

– 2 –

بغض النظر عن النتائج، ستسجل الذاكرة العراقية المستقبلية أن حركة الاحتجاج التشرينية هي واحدة من المحطات المهمة في تاريخ العراق، تُضاف إلى ما سبقتها من محطات، سواءٌ حققت أهدافها أم لم تحققها، بتراجعها أو انتكاسها أو إجهاضها، لأسباب موضوعية أو ذاتية، داخلية أو خارجية، ولا سيّما في ظل عدم تبلور قيادة واضحة ومعلومة، فضـلاً عن عدم تبلور رموز لها، ناهيك بعدم وجود برنامج سياسي واقعي ممكن التطبيق ومتفق عليه. وأحياناً تختلط الرغبات بالإمكانات والإرادات، لكنها بلا أدنى شك ستترك بصمة متميّزة ولا يمكن محوها من الذاكرة العراقية، لما مثلته من جرأة غير معهودة وحيوية نادرة وتصاعد وتلقائية زعزعت منظومة الحكم وخلخلت أركانه وأربكت القوى الإقليمية والدولية، ولا سيّما بتجاوزها الانقسامات الطائفية والمذهبية وبفعل التضامن الداخلي الذي عاشته منذ اندلاعها.

وهكذا، سيكون عراق ما قبل تشرين الأول/أكتوبر هو غير عراق ما بعده، ومرّة ثانية أقول من دون أوهام أو إسقاط الرغبات على الواقع، بأن ما حصل سيترك أثره القريب أو البعيد في مستقبل العراق بكل تضاريسه ومنعرجاته، بمعنى أنه سيكون محطّة توقف ومراجعة وتغيير لمسارات واتجاهات، لأنه لم يعد ممكناً الاستمرار بما هو قائم، حتى وإن لم تحقق الحركة أهدافها.

إن الأحداث الكبرى حتى وإنْ أخفقت أو انكسرت، فهي ستؤثر في ما بعدها. ومثل هذا حصل في تاريخ العراق المعاصر؛ فقد غيّرت ثورة 14 تموز/يوليو 1958 وجه العراق ونظام حكمه من ملكي إلى جمهوري، وهي كانت نتاج تراكم كمّي لعدد من الوثبات والانتفاضات التي سبقتها.

ويمكن القول أيضاً إن عراق ما قبل 11 آذار/مارس 1970 هو غير عراق ما بعده بالنسبة إلى القضية الكردية والاعتراف بحقوق الشعب الكردي، ولا سيّما بالحكم الذاتي وإقرار ذلك دستورياً. ولم يعد ممكناً، حتى حين حدث التراجع عن مضمونه وجوهره، العودة إلى الماضي، لأن حقوق الشعب الكردي أصبحت أمراً واقعاً وملموساً، وهو ما تجسّد لاحقاً في إقرار «النظام الفدرالي».

وعراق ما بعد الاحتلال الأمريكي وقيام عملية سياسية هو غير عراق ما قبل الاحتلال في ظل نظام شمولي واحدي إطلاقي، إذ أصبح بحكم الأمر الواقع تعددياً متنوّعاً بموجب الدستور رغم احتواء الأخير على الكثير من المثالب والثغر والعيوب والألغام، ولم يعد النظام مركزياً، بل أصبح لا مركزياً، وتحوّلت الدولة من دولة بسيطة إلى دولة مركبة.

– 3 –

تمتاز هذه الحركة الاحتجاجية بالسلمية والوطنية العابرة للطوائف، وهي تعبر عن الهويّة العراقية الجامعة، وبدأت في أكثر المناطق شعوراً بالخذلان والخيبة، بعدما حاولت الأحزاب الحاكمة فرض سطوتها باستغلال الدين والشحن الطائفي، فجاءت هذه الحركة الاحتجاجية لتؤكد فقدان الثقة بالعملية السياسية ككل، ولتضعضع آخر ما تبقى من «شرعية الحكم والحاكم»، ولا سيّما بعد ما اضطر الأخير إلى اللجوء إلى القمع العلني والمكشوف.

لكن الأمر ربما يحتاج إلى وقت وتراكم وأداء حسن وقيادات جديدة تنبثق من داخل حركة الاحتجاج، ورؤية تشارك فيها النقابات والاتحادات وهيئات المجتمع المدني، لكن استمرار الوضع على ما هو عليه سيكون عسيراً، ولا سيّما بانسداد الآفاق.

ولكي يكون البديل مقبولاً، لا بدّ من أن يحظى برضا الناس من جهة، ويستجيب لتوازن القوى من جهة ثانية، سواء تمكنت الحركة من فرض مطالبها بقوة الشارع، أم تأجل الأمر إلى حين. ولكن التفكير بعقلانية وتدرّج في تحقيق المطالب مسألة في غاية الأهمية، وقد تحتاج المسألة، على تعقيداتها وصعوباتها، إلى عقد مؤتمر وطني جامع تشارك فيه جميع القوى من دون عزل أو إلغاء أو تهميش، لمعالجة الوضع بصورة عاجلة، ولا سيّما بتشخيص مشكلات الحكم المزمنة والمعتقة وتحديد سقوف زمنية لذلك، تبدأ مما هو ممكن وواقعي وراهن، ثم تُستكمل في إطار خطط متوسطة وطويلة المدى؛ فالأوضاع الاستثنائية التي يعانيها العراق تتطلب حلولاً ومعالجات استثنائية جريئة للخروج من الأزمة، استجابة لفقه الضرورة.

– 4 –

ويبقى هناك سؤال ملح اليوم، وهو يتألف من شقين: الأول، هل ستستمر حركة الاحتجاج بنفس الزخم والمدى، والإصرار على المضي في الطريق السلمي، وبعدم السماح باللعب بمسارها؟ والثاني، هل ستضطر الحركة إلى اللجوء إلى العنف كرد على عنف السلطة؟ من دون تكهنات مسبقة، ولكن برؤية استشرافية متواضعة، وبإجراء مقارنة بتجارب أخرى؟ وبالنظر في الوقائع التاريخية، يمكن القول إنه لا يمكن للنظام والحكومة الحالية الاستمرار إلى ما لا نهاية في إراقة الدماء وفي الاستخفاف بحياة المواطنين، وذلك سيكون تفريطاً بلا حدود بالمصالح الوطنية العليا، ولا سيّما إذا ما استمرّت حركة الاحتجاج بالفاعلية نفسها وبالتحدّي نفسه، وإذا تشبّث النظام بمواقعه، فهذا سيعني المزيد من إراقة الدماء والمزيد من الضحايا، ناهيك بتعطل التنمية ومصالح الناس.

وحين نقول إن من الصعوبة بمكان استمرار العملية السياسية على ما هي عليه، فإن ذلك ينطلق من معايير تتعلّق بالشرعيّة، فأساس أي شرعيّة هو رضا الناس، وهذه أصبحت مفقودة، ثم هناك شرعية الإنجاز وهذه غائبة تماماً، أما شرعية صندوق الاقتراع فهي أمرٌ مشكوك فيه بسبب المقاطعة والتزوير، فضـلاً عن انخفاض مستوى المعيشة والفشل في إنجاز متطلبات الحد الأدنى للحياة الكريمة، ناهيك بفقدان الأمن والأمان، وتبديد أموال البلد لحسابات خاصة.

يُضاف إلى ذلك استخدام العنف وسقوط مئات القتلى وآلاف الجرحى، وهو أمر يسقط الشرعية عن الحاكم، وخصوصاً أن التظاهرات كانت سلمية ومدنية، وإن صاحبها بعض ردود الفعل، لكن مهمة الدولة هي حماية المواطنين وممتلكاتهم وحفظ النظام والأمن العام وفقاً لحق التظاهر السلمي القانوني والمشروع وحق التعبير عن الرأي.

ومن واجبات أي دولة ووظائفها هي حماية سيادة البلد التي لا تزال مجروحة، فالعراق يقع بين قطبين أساسيين متصارعين أحدهما إقليمي وهو إيران التي لها نفوذ واسع؛ في حين أن القطب الثاني عالمي وهو ممثل بالولايات المتحدة ونفوذها الدولي بوجه عام، حيث توجد عدّة قواعد عسكرية أمريكية في العراق ويدخلها ويخرج منها المسؤولون الأمريكان من دون أي اعتبار للسيادة العراقية.

ومن الإصلاحات الملحّة والمطلوبة سياسياً تعديل أو سن قانون جديد للانتخابات، علماً أن هذه المسألة مطروحة على مجلس النواب الحالي، وكذلك تغيير الهيئة المستقلة المشرفة على الانتخابات، إضافة إلى حزمة من القوانين المطروحة عليه التي تضمنتها دعوة الإصلاح بما فيها إحالة مسؤولين إلى القضاء متهمين بالفساد.

إن البدء بعملية التغيير تحتاج إلى مسار طويل وربما معقد أيضاً، ولكن قطاره إذا ما بدأ بالسير، حتى وإن كان بطيئاً، فإن سكته صحيحة ومختلفة عن السكّة السابقة، وهو بداية لإصلاحات أخرى ضرورية وأساسية تتعلق بتحسين الوضع المعيشي والخدمات الصحية والتعليمية وإيجاد فرص عمل وحل مشكلات الكهرباء والماء الصافي وبناء وحدات سكنية ملائمة، ناهيك بوضع أسس لاستعادة هيبة الدولة ومرجعيتها التي ينبغي أن تكون فوق جميع المرجعيات، بما يعزز المواطنة ومبادئ المساواة والعدالة والشراكة ويضع ضوابط صارمة لوقف التمييز والشحن الطائفي، وقد تحتاج هذه السلّة من الإصلاحات إلى عامين أو ثلاثة أعوام على الأقل، لتهتدي إلى طريق التنمية المستدامة بكل جوانبها.

 

قد يهمكم أيضاً  عن الديمقراطية في بلاد العرب

#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #العراق #الوضع_في_العراق #المظاهرات_في_العراق #أزمة_الحكم_في_العراق #احتجاجات_العراق #مقالة