«لا يبدع الخائف»

(زويل، 2005: 166).

لم تكن الحريات الأكاديمية في يوم من الأيام في المنطقة العربية ذات أهمية، وذلك بحكم انحدارها من الحرية العامة التي افتقدها المجتمع. وبما أن الأنظمة العربية هي بالغالب دكتاتورية، فلقد أملنا أن تخلق الانتفاضات العربية بيئة جديدة محفزة للتفكير الحر ورفع درجة استقلال الجامعات. ثمة بعض التطورات الإيجابية الآتية من تونس؛ وأخرى سيئة من سائر أنحاء المنطقة بدرجات متفاوتة.

بادئ ذي بدء أعني بالحريات الأكاديمية حرية التفكير وابتكار الأفكار الجديدة؛ حرية التعبير عن الأفكار من خلال التدريس والمؤتمرات والبحث والمطبوعات؛ حرية التظاهر ضد المؤسسة التعليمية الحكومية؛ حرية وضع قواعد وتنظيم إدارة الجامعة بدون تدخل الحكومة والأمن، وحماية الجامعة من التدخل الحكومي أو من تدخل أفراد أو جماعات تابعة للحكومة أو مناهضة للحكومة. في هذا المقال سأكتفي بتناول بعض أوجه كسوف الحريات الأكاديمية من خلال أمثلة. وخير دليل على بهتان الحريات الأكاديمية هو الطريقة التي تتم فيها دراسة هذه الحريات في الجامعات. فقد وجدنا كثيراً من الدراسات «الأكاديمية» – انظر على سبيل المثال (أبو حيمد، 2007) – التي تستطلع رأي أعضاء هيئة التدريس بحيِّز هذه الحريات وتستخدم قياسات إحصائية، بحيث أخفى الرقم الإحصائي حجم مأساة ضعف هذه الحريات، وغالباً من دون أمثلة ومن دون استخدام الحس العام أو الملاحظة المنهجية والإثنوغرافيا. وظهرت المقالات الصحافية وتقارير بعض منظمات حقوق الإنسان وبعض السيَر الذاتية (عبد الله، 2014؛ إبراهيم، 2013) أنها المرجع الوحيد على توصيف وتحليل حالة الحريات الأكاديمية. الفشل الأكاديمي نفسه لاحظه توماس بيكتي (Piketty, 2014) في كتابه الشهير حول الرأسمالية في القرن الواحد والعشرين الذي وجد في أونوريه دي بلزاك وجين أوستين أحسن مراجع لفهم التوزيع اللامتكافئ والميراث في فرنسا وإنكلترا القرن التاسع عشر، مقارنة بكارل ماركس والاقتصاديين آنذاك.

أبدأ من الخليج، حيث لا يحصل بعض الذين اختيروا للتدريس في الجامعات بالحصول على إذن العمل بسبب اعتبارات سميت «سياسية». ولكن تفحصت في هذا الصيف هذه الظاهرة فوجدت أن كل شيعي لبناني أصبح ضحية في قائمة بـ «صيد الساحرات» طالت وتشعّبت. وليس صحيحاً أن الاعتبارات سياسية بل هي محضة طائفية. فالأستاذتان اللتان تم رفض فيزة عملهما هما مناهضتان، من خلال كتاباتهما لأجندة حزب الله السياسية والاجتماعية؛ إذاً ذنبهما الوحيد أنهما «شيعة». وما أعجب له كيف يمكن أن يفتقد تصنيف الدول للجامعات العربية أي معيار يتعلق بالحريات الأكاديمية. وللتذكير حازت بعض الجامعات السعودية والإماراتية ترتيباً عالياً. وكيف يمكن للجامعات «الراقية»، أي فروع الجامعات الأجنبية المنزلة مظلياً من دون مفاوضة شروط ممارسة حريتها الأكاديمية، أن تكون في بلاد لا تضمن الجامعة تعيين من تختارهم؟ نعم، تقوم السلطات الأمنية هناك بممارسات بيو – بوليتيكية وتمييزية ضد جنسية وطائفة معينتين. وللمعلومات مارست الإمارات وقطر والكويت استراتيجيات علامات تجارية راقية (Branding Strategies) في التعليم العالي واستجلبوا كثيراً من الجامعات الأمريكية والفرنسية وغيرهم، ومن السابق لأوانه أن نعرف مدى قدرة هذه الفروع على خلق فضاء يحفز نشر ثقافة الحريات وأن لا يكون رهينة لمجتمعات تقضم السلطات الحكومية أو الدينية المحافظة المتطرفة من هذه الحريات.

أما في لبنان، فيعرقل وزير العمل تعيين أي موظف فلسطيني في الجامعات الخاصة (هناك أمثلة كثيرة من الجامعة الأميركية في بيروت) أو حتى أكاديمي سوري، وهذا مخالف للقوانين التي أقرها البرلمان اللبناني في شهر آب/أغسطس 2010، ومخالف لأعراف احترام حرية الهيئة التدريسية لاختيار أعضائها حسب الكفاءات فقط. بينما استقبلت جامعات أمريكا اللاتينية الأكاديميين التشيليين بعد إغلاق الديكتاتور بينوشيه أقساماً كثيرة للعلوم الاجتماعية في الجامعات التشيلية، لم نسمع عن استقبال الجامعات العربية للأساتذة السوريين، وعندما تفتح جامعة مثل الجامعة الأميركية في بيروت أبوابها لحفنة قليلة (ستة أساتذة وباحثين) يمنع وزير العمل اللبناني إعطاءَهم إجازة العمل.

والموضوع لا يتعلق فقط بالتعيينات الأكاديمية، لقد قامت السلطات القطرية بحماية نفسها من الشخصيات المحافظة السياسية والدينية عن طريق الطلب من الفروع القطرية للجامعات الأجنبية بتدريس المنهج نفسه المعتمد من قبل برنامجهم في مقر الجامعة. وفي مقابلة أجريت مؤخراً، مع رئيس جامعة كارنيجي ميلون قال إن قطر ذكرت أن السلطات القطرية هي المسؤولة عن المناهج الدراسية في الجامعة. والقضية الكبرى التي على المحك إذاً هي: إلى أي مدى يؤثر غياب حرية التعبير في هذه البلدان في هذا النموذج الناشئ؟

في السعودية، يَعتبر أحمد (العيسى، 2010)، وهو رئيس سابق لجامعة سعودية، أن هناك «الطلاق البائن» بين الجامعة وتيارات الفكر والثقافة، والذي يرى سببه في «التوجس المبالغ فيه لدى المسؤولين في الجامعات، ولدى المسؤولين في وزارة التعليم العالي، من منح الجامعات فرصة الانفتاح على قضايا المجتمع وإطلاق الحريات في مناقشة القضايا الحساسة؛ فحرصوا على ألّا يكون للجامعات موقف من هذه القضية أو تلك». ويظهر ذلك جلياً عندما قمنا بتحليل مضمون للموضوعات المتناولة في المجلات الأكاديمية السعودية. فعضو هيئة التدريس هو رهينة ضوابط معينة تحدد فكره وحركته. إذ لا يجوز لعضو هيئة التدريس حضور المؤتمرات والندوات إلا ضمن ضوابط معينة منها: وجود علاقة بين موضوع المؤتمر وتخصص عضو هيئة التدريس أو طبيعة عمله، إضافة إلى ضرورة توصية مجلس القسم والكلية وموافقة مدير الجامعة إذا كان المؤتمر داخل المملكة، أما المؤتمرات الخارجية فلا بد من موافقة رئيس مجلس الجامعة بناء على توصية مجلس القسم والكلية وتأييد مدير الجامعة (عزت، 2011). وبينما كانت كثير من الجامعات تفتح أبوابها لمحاضرين زائرين، أصبح من الصعب جداً استقبال حتى ضيف محاضر في صف من دون أخذ موافقة أمنية، كما الحال في الإمارات ومصر.

في مصر أغلقت بعض الجامعات أبوابها بوجه أي محاضر يمكن أن يكون معارضاً لسياسة الحكومة؛ وهناك كثير من الأمثلة حول ذلك. وبعدما أن تم انتخاب رؤساء الجامعات في عهد الرئيس محمد مرسي لأول مرة بتاريخ هذه الجامعات، تم إقالتهم وتعيين موالين للحكومة. ويبين أبو الغار أن الدولة المصرية تستخدم ثلاث أدوات لقهر الجامعة وهي (أبو الغار، 2005): أولاً، استخدام الشرطة داخل الحرم الجامعي، وثانياً، تعيين أساتذة موالين للحكومة في كل المناصب الإدارية العليا، وثالثاً، سلسلة من القوانين واللوائح المقيدة للحريات الأكاديمية. ورغم أن ذلك قبل الثورة فإن ذلك لم يتغير بعد[1]. فقد أصدر الرئيس السيسي مرسوماً رئاسياً في 15 كانون الثاني 2015 يسمح بفصل أساتذة الجامعات إذا مارسوا أي نشاط سياسي داخل حرم الجامعة.

أما في ما يتعلق بإقامة الاتحادات أو الجمعيات الطلابية المنتخبة فهناك توجس تقليدي ورسمي من السماح فيها في معظم البلدان العربية، ولعل لبنان، تونس، المغرب ومصر والسودان هم الاستثناء.

أخيراً، لا يمكن إلا أن أقول إنه بدون الحريات الأكاديمية لا يمكن لملكة الإبداع أن تقدح، ولن تكون الجامعة مركزاً للتجديد، وإثارة حافز الابتكار. فمنذ القرون الوسطى أنشئت الجامعة باعتبارها حيزاً استثنائياً امتدادياً (Extra-territorial Space of Exception)، بمعنى أن قوانين الدولة لا تنطبق بالضرورة عليها، ما يمنحها حرية انتقاد المجتمع المحيط بما في ذلك السلطة الكنسية، ولكن لم تفقد هذه الجامعات الاتصال بالمجتمع والتجاوب مع احتياجاته. وحافظت الجامعة على هذه الوضعية حتى الآن. فهل يمكن للجامعات العربية أن تخلق مثل هذا الحيِّز؟

لقد أصبح الهامش الضيِّق للحرية الأكاديمية في المنطقة العربية في أحسن أحوالها مجرد «حرية مهنية» يرتبط بما هو فني أو خاص بتسيير العمل الأكاديمي داخل الجامعات، وبذلك فقدت الجامعة كثيراً من عوامل قوتها التربوية والأخلاقية، وﺃﺻﺒﺤت الموافقة ﺍﻷﻣﻨﻴﺔ شرطاً من شروط التعيين أو الترقي أو السفر ﻷﻋﻀاء الهيئة التدريسية في ﻣﻬﻤﺔ ﻋﻠﻤﻴـﺔ في الخارج. وهكذا يجب البحث عن جذور الدولة الداعشية ليس فقط في الفهم المتطرف للدين ولكن بثقافة نشرتها الدولة – الوطنية العربية الاستبدادية منذ أمد طويل وحتى يومنا هذا.