توطئة

مبادرة مركز دراسات الوحدة العربية في طرح هذا الموضوع الشامل لأزمات وتحديات الأمة العربية فكرة رائدة تستحق الإشادة. فهذا ديدن هذا المركز الذي ظل يمثّل شعلة متّقدة من الفكر والثقافة ومنبرًا محترمًا لتفاعل العلماء والخبراء والباحثين في شتى المجالات ومن مختلف الاتجاهات الفكرية والسياسية. كما ظل المركز يسهم في تكوين حركة الوعي في الوطن العربي وأسهم في بلورة الكثير من المفاهيم والاتجاهات التي تغذي مسيرة الفكر والمعرفة عبر الأجيال[1].

يمكن أن يكون مدخلنا لهذا الموضوع بطرح أسئلة عامة:

– هل تراكمت الأزمات السياسية في الوطن العربي وتحولت إلى تحديات تعيق التنمية السياسية والتحول الديمقراطي وتعيق النهضة بصورة عامة؟

– ما هو دور الفكـر السياسي العربي في تراكم الأزمات أو عدم التصدي لها؟ وكيف يمكن معالجة الخلل في البنية السياسية والتمهيد للتغيير السياسي الإيجابي؟

هذه وغيرها من الأسئلة في هذا المقال تعَدّ أسئلة متعلقة بمشكلات/إشكالية التغييـر السياسي في سياق غير غربي.

أولًا: أبرز الأزمات/التحديات في الوطن العربي

تتجلى التحديات في الوطن العربي في هيئة أزمات محددة. الملاحظ أن معظم – إن لم يكن كل – البلدان العربية تعاني أزمات متشابهة. وهي أزمات بنيوية في أغلبها. ولكن تدور كل هذه الأزمات في محور السياسة، بمعنى أنها أزمات ترتبط بالسياسة، أو تمثّل السياسة المحرك الأساسي لها، أو هي تجليات للأزمات السياسية. وهذه الأزمة/الأزمات السياسية هي بدورها، في التحليل النهائي، تعكس أزمة الفكر السياسي في الدول العربية، أو كما يرى محمد عابد الجابري، في «العقل السياسي العربي».

تشخيص هذه التحديات في المجال السياسي يمكن تلخيصها في أزمات محددة، ثم اقتراح أسئلة لعلها تكوّن مفاتيح للمعالجة أو مقترحات مبدئية للحلول. من أبرز هذه الأزمات/التحديات:

– أزمة القيــادة.

– أزمة الشـــرعيـة.

– أزمة الهــويـــــة

– أزمة الأخـلاق.

– أزمة (دور) الفكر السياسي العربي.

أولًا: أزمـة القيـادة

بعيدًا من الجدل حول مَــن الذي يقـــود التغيير: الشعوب أم القادة؟ يمكن على الأقل الإشارة هنا إلى أن التاريخ يحدثنا عن الكثير من القيادات التي نهضت ببلدانها؛ مثل بسمارك وهتلر في ألمانيا، ونابليون بونابرت في فرنسا، وستالين في روسيا؛ وفي عصرنا الراهن مهاتير محمد في ماليزيا وأردوغان في تركيا وغيرهم. منذ الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر لم يظهر قائد كاريزما يتمتع بالشخصية القيادية وبالخطاب السياسي القومي/الأممي. فأصبح العرب مختلفين ومنقسمين على مستوى الدولة القطرية ناهيكم بتطلعات للوحدة أو القومية العربية الجامعة (Pan-Arabism).

هنالك جانب مهم من أزمة القيادة، وهي قدرة الشخص الذي يصل إلى السلطة على التجرُّد من الانتماء أو الانحياز الأيديولوجي والسياسي والعرقي والجهوي ولو حتى ظاهريًا… وأعني بـ«ظاهريًا» من ناحية السلوك السياسي والخطاب والسياسات حيث ترسم له هذه الخصائص صورة القيادة الوطنية المحايدة ويلتف الجميع حوله كونه يقف على مسافة واحدة عنهم جميعًا فعلًا وليس قولًا.

تعاني نخبنا القيادية الكثير من النواقص والسلبيات؛ فهي أسيرة لبيئة/تربية أبوية (Patriarchal). ويترتب على ذلك إسقاطات سلبية على الرؤية والسلوك السياسي؛ فمن الطبيعي أن مثل هذه النخب القيادية تتسم بعدم الموضوعية نتيجة لتأثير الولاءات العشائرية والقبلية والعنصرية والإثنية والجهوية وغيرها من العصبويات والخلفيات الاجتماعية التي تؤثر سلبًا في تفكير القائد/الزعيم (صانع السياسة ومتخذ القرار). يترتب على ذلك أيضًا غياب الرؤية السياسية والتفكير الاستراتيجي والإرادة السياسية لأنه مقيّـد بأجندة/ضغوط العشيرة والقبيلة وغيرها من الانتماءات دون الوطنية. وعلى المستوى الجمعي يتجلى التأثير في غياب المؤسسية مع سيادة روح الفردانية أو الشخصانية.

كذلك لهذه الخلفيات والمرجعيات الاجتماعية/التربوية التقليدية إسقاطات سلبية على السلوك السياسي تتمثل بالأنانية وتعظيم المصالح الشخصية. وتقدم حركات دارفور أقوى دليل إمبيريقي لصحة هذه الفرضية. فمع وجود قضية واحدة لكل نخب دارفور (الظلم/التهميش/الإقصاء) من طرف واحد هو السلطة المركزية إلا أن هذه الحركات – التي بدأت بحركتين فقط (حركة تحرير السودان والعدل والمساواة) – تشظتا في بضع سنين إلى أكثر من 30 حركة معارضة مسلحة؛ فكل واحد من العناصر القيادية يطمح إلى أن يكون قائدًا لذلك يتم الانشطار لكي يصبح هو رئيسًا للجناح المنشق، حتى إن معظم الحركات المنشقة تحمل كل واحدة منها اسم مَـنْ قاد الانشقاق. (هذه النقطة ترتبط أيضًا بأزمة الأخلاق)[2].

ثانيًا: أزمة الشرعية

يمكن القول إن الشرعية هي الوجه الآخر للديمقراطية؛ فحين يكون النظام شرعيًا – أي وصل إلى السلطة بطريقة ديمقراطية ونال رضاء الشعب – يكون قد اكتسب القبول والطاعة والولاء. وهذا يعني أن الجميع يندمجون في العمل الوطني ويتمثّلون الروح الوطنية ويتحقق الاستقرار. ومن مظاهر عدم الشرعية حين لا يكون النظام السياسي محل إجماع من النُّخـب ورضاء الشعب. والشرعية هي صفة يجب أن «تلازم أي نظام سياسي كي يكون مؤهلًا لممارسة الحكم، وهي تقوم على جانبين: الأول شكلي يتمثل بدستورية (مشروعية) السلطة، أي إقامتها وممارستها وفق قواعد الدستور؛ والثاني جانب موضوعي يتمثل بقناعة ورضا أفراد المجتمع بهذه السلطة. وهذان الجانبان لا ينفصلان عن بعضهما البعض»[3].

تنظر الجماعات إلى النظام السياسي على أنه شرعي أو غير شرعي بقدر ما تتناسب قيمه الاجتماعية والأخلاقية والدينية مع قيمها. وقد ترتبط الشرعية بأشكال متعددة من المنظمات والمؤسسات السياسية (الأحزاب، البرلمان…). وترتبط بطريقة الوصول إلى السلطة ثم كيفية ممارستها. الملاحظ أن كثيرًا من الأنظمة تلجأ لتلفيق الشرعية إما بتبريرات دينية (الحكومات الثيوقراطية وبعض الملكيات) وإما بمسوغات حفظ الأمن والاستقرار (الشموليات والدكتاتوريات العسكرية).

ومن المفارقات أن بعض البلدان العربية التي تفتقر أنظمتها إلى الشرعية تقدم نفسها في الخارج بوصفها تسير في خط العلمانية وتتبنى التقدم الحداثي في محيط عربي محافظ ومحكوم بالمواريث الدينية، في حين هي  لا تتورع – في الداخل – عن الاستحواذ على الدين ومؤسساته، وتدعي تمثيله والنطق باسمه إلى الحد الذي تصادر فيه مجالات التعبير الديني والثقافي الحــر المستقل عن الدولة[4]. وترتبط أزمة الشرعية في البلدان العربية بافتقارها إلى ثلاثية: القانون، والمرجعية، والقبول. غياب الشرعية أسفر عن أغلب الأزمات السياسية والاجتماعية – مقرونة بعوامل أخرى مثل أزمة الهوية.

ثالثًا: أزمة الهوية

ترتبط أزمة الهوية في كثير من البلدان (السودان نموذجًا) بفشل النخبة في حسن إدارة التنوع، والدليل على ذلك أن كثيرًا من البلدان أكثر تعددًا وتنوعًا (من السودان مثلًا) نجحت نخبها في حسن إدارة التنوع وفي تكوين هوية وطنية جامعة تقوم على مبدأ المواطنة المتساوية بغض النظر عن اللون أو الجنس أو الدين أو العرق. من أمثلة تلك البلدان: أمريكا والهند ونيجيريا. في السودان فشلت القيادات الحاكمة في التعامل مع مكونات الدولة السودانية بحياد، وانحازت لبعضها سواء كان من خلال الخطاب أو السياسات أو الفرص والتنمية والخدمات فترسخت صورة السياسي المنحاز سياسيًا أو عرقيًا أو جهويًا وهو ما فجَّـــر الشعور بالغبن والإحساس بالظلم على مستوى الأفراد والجماعات والمناطق فتفجّـرت الحروب وتم استنزاف الموارد وعرقلة التنمية وإفقار الشعب.

من أكبر التحديات التي تواجه بناء الديمقراطية هي سيطرة الهويات الصغرى على بنية الدولة. فلا يمكن الحديث عن بناء ديمقراطي من دون وجـود دولة متماسكة ومستقـرة تتمتع بهوية وطنية جامعة تدعم الاستقرار اللازم لادخال الديمقراطية فيها حيث تؤكد ذلك التجربة الأوروبية التي تبلورت واستقرت فيها الدولة-الأمة، الدولة المركزية الحديثة، ثم تحولت تدريجًا إلى دول ديمقراطية. لذلك يتولّـد التخوف من أن كثيرًا من البلدان العربية لا تحتمل الديمقراطية الليبرالية/التعددية لأن «التعدديات العصبية المترسبة لم تنصهر بعد في بوتقة الدولة الحديثة والمجتمع الحديث. وهذا النوع القديم من التعددية سرعان ما يطغى على التعددية الديمقراطية ويحل محلها بشكل يتجاوزها إلى ما يشبه الفوضى أو الحرب الأهلية»[5]. وقد أدى صراع الهويات في السودان إلى انفصال جنوبه في عام 2011.

ويُلاحظ أن بعض السلطات الملوكية في عدد من البلدان العربية التي «تقوم على عصبيات قديمة، استولت من خلال الجيش على الدولة وتحكمت في المجتمع تحت غطاء المفردات والشعارات العصرية، بينما ما زالت تقوم فعلًا على التضامن بين أبناء النسب والطائفة والمنطقة والعشيرة»[6]. وفي تحالف بين شبكة زبونية من ضباط الجيش وكيانات طائفية وتقليدية تشكلت دولة نيوبتريمونيالية. والسؤال المهم هنا: كيف يمكن «تفكيك» هذه النيوبتريمونيالية في البلدان العربية؟

رابعًا: أزمة الأخلاق

يسبب عدم توافـر الأخلاق، التي تمثل قاعدة للالتزام الوطني ورافعة للمصلحة العامة، خللًا كبيرًا في تفكير القائد وفي سلوكه السياسي، وتضطرب عنده معايير ترتيب الأولويات (الأجندة) وتتراجع المصلحة العامة وتحل مكانها المصلحة الذاتية أو الشخصية والمصلحة الحزبية أو القبلية أو الجهوية أو حتى مصلحة مجموعته/جماعته التي جاءت به إلى السلطة – انتخابًا أو انقلابًا. وهنا مسألة ترتبط ببنية العقل السياسي حيث يبدو أن سلوكنا (السياسي) لا تحدده الأخلاق أو المبادئ أو العقيدة، بل تحدده القبيلة أو العشيرة أو الطائفة. إضافة إلى ذلك فإن الاختيار للوظيفة العامة يقوم على معايير غير موضوعية (أو غير عادلة) حيث لا يتم بمعيار الكفاءة، بل بالمعايير الأخري (ترضيات سياسية، موازنات، محسوبية/مجاملات بحكم القرابة، علاقات عنصرية/قبلية/جهوية…) وكلها تنتفي في حالة احتكام المسؤول إلى الضمير الوطني والأخلاق. ويكون نتاج ذلك التأثير في الأداء الكلي  للجهاز البيروقراطي وما يرتبط بذلك من فساد إداري وضعف عملية إدارة التنمية وفشل المشروعات وانهيار الخدمة العامة بصورة عامة. وحتى البلدان العربية الغنية يتم الآن استنزاف مواردها بأخطاء سياسية وأخلاقية.

جانب آخر في أزمة الأخلاق ترتبط بالضمير الوطني. غياب الضمير الوطني يتجلى في التركيز على المصلحة الشخصية أو الخاصة ومصلحة العشيرة/القبيلة/القرابة (المحسوبية) على حساب المصلحة العامة أو مصلحة الوطن. بينما في الولايات المتحدة الأمريكية مثلًا قيم ثقافية تتجلى في احترامهم الدستور والقانون والمصلحة العامة، ويحترمون قواعد اللعبة من أجل استدامة الديمقراطية والحفاظ على النظام الجمهوري واستقرار الدولة وأمنها. لذلك يردد الرؤساء الأمريكيون الكلام على مبادئ/قيم في السياسة يؤكدون التزامهم بها مثل المصالح الحيوية لأمريكا (Vital Interests) والأمن القومي (National Security).

أما في الدول العربية فتمارس الطبقة السياسية السياسة بلا أخلاق أو وازع وطني. فكثير من الصراعات حول السلطة التي فجّـرت الأوضاع ونسفت الاستقرار السياسي والاجتماعي في الدولة كان في الأغلب الأعم بسبب غياب التوافق الوطني بسبب عدم تقديم التنازلات اللازمة (بسبب المصالح الضيقة) من الأطراف من أجل الوطن (حالة ليبيا مثلًا وكذلك الجماعات الطائفية التي تمثل أطراف سياسية في الصراع) في بعض الدول العربية. وهذا السبب «الأخلاقي» أيضًا أدى إلى استطالة أمــد الصراعات والحروب في السودان بسبب عدم التوصل إلى اتفاقيات سلام لمدة طويلة حيث يطمح وتطمع قيادات الحركات المعارضة في المزيد من الأسهم في السلطة (مناصب) – غير عابئين بضحايا الحرب ومعاناة الملايين من اللاجئين والنازحين، فضلًا عن تهتُّك النسيج الاجتماعي. وهذا العامل الأخلاقي أيضًا وما ترتب عليه من فساد الحياة السياسية/الحزبية في السودان هو الذي أدى إلى الانقلابات العسكرية فيه (1958 و1969 و1989)، وكلها استرد منها الشعب السلطة عبر ثلاث ثورات.

خامسًا: أزمة الفكر السياسي العربي

يعَدّ الفكر السياسي ــــ الاجتماعي أهم قوى تحديثية في أي دولة، وهو الجهة المنوط بها تشخيص الأزمات واقتراح الحلول العلمية والعملية الممكنة. والفكر السياسي هو أيضًا مفتاح التغيير وقائد التطوير. والتطوير «فعل تكيُّف اجتماعي، أي إنتاجي مادي وفكري، فإن المجتمع، ممثلًا في مثقفيه ومفكريه، يعمد بفضل جهد ذهني رفيع المستوى إلى استخلاص المبادئ الأساسية أو الأفكار من حصاد خبراته، وحصاد التفاعلات الاجتماعية والمعلومات المتراكمة. ويصوغ هذا كله بفضل قوة تنظيم الأفكار في صورة مركب نسقي من معارف مفاهيمية…»[7] والحديث عن الفكر السياسي يعني الحديث عن الفلسفة. والفلسفة هي من الأشياء المهمة المهملة عندنا في الدول العربية – وكذلك الثقافة. فأهمية الفلسفة ترجع إلى كونها «وسيلة الفكر النقدي الذي يسعى أساسًا إلى التحقيق التكامل بين مختلف جوانب الخبرة الإنسانية، واكتشاف إمكانات واحتمالات الانسجام والتوازن، وعوامل ومظاهر الصراع والانشقاق… وتوضح لنا أهداف وغايات النظام السياسي… وتحدد لنا نوع وطبيعة السلوك السياسي الذي ينبغي أن يكون…»[8]

على الفكر السياسي العربي التركير في أن مسألة شرعية السلطة مهمة لحل الصراعات. وعليه أن يبحث في كيفية إحداث التوازن أو الموازنة بين الصراع (Conflict) والاتفاق أو الاجماع (Consensus). وقد أجمع كثير من فقهاء السياسة أن أفضل الميكانيزمات لحل الصراع هو الديمقراطية والبيروقراطية (بمفهومها الصحيح). كذلك على الفكر السياسي العربي البحث في سوسيولوجيا الدولة – أي ارتباطها بكل القوى الاجتماعية الأخرى؛ والعمل على تحديد أفضل الطرق لإصحاح مناخ التفاعل بين السياسة والبناء الاجتماعي أو بين العمليات السياسية والعمليات المجتمعية.

استفحال أزمة الحكم والسياسة وعدم الاستقرار في البلدان العربية يتحمل الوزر الأكبر فيها الفكر السياسي العربي لعجزه عن الإبداع وابتكار أفضل المناهج والسياسات لمعالجة هذه الأزمات. وربما يكون أفضل منهج للفكر السياسي للتعامل مع معضلة دمقرطة مجتمعات الخليج والملكيات الأخرى (المغرب والأردن) والشموليات هو الاشتغال على إعادة بناء المجتمع المدني على أسس من الثقافة والوعي والرأي العام المستنير. أفضل مدخل للتغيير السياسي الرشيد هو بناء المجتمع المدني القوي، الواعي والمتماسك. فالقيادات يتم إنتاجها من هذا المجتمع المدني – أو هو الحاضنة للنخب والقيادات. وعندما يتغير المجتمع المدني – إيجابيًا  – فإن منتوجه سياسيًا (الطبقة السياسية) سوف يحقق المطلوب في عملية تغيير النظم السياسية مسنودًا بموجات من وعي الشعوب العربية تجلت في ثورات الربيع العربي.

فشلت النخب العربية في استثمار مناخ التحولات الذي أنتجته ثورات الربيع العربي، وظلت مسارات تلك الثورات حبيسة الإطار المحلي (القُطري) لكل دولة، ولذلك بقيت كجزر معزولة لم تتواصل في تبادل الأفكار والخبرات أو لتنسيق الجهود نحو تحولات جذرية شاملة للأنظمة العربية غير الديمقراطية. غياب هذا التنسيق والتضامن أدى إلى استفراد قوى الثورة المضادة في كل دولة بمحاصرة الثورات الشعبية في تنسيق ودعم من قوى خارجية ليس في مصلحتها نجاح الثورات في المنطقة حتى لا تنتقل إليها الموجة أو تُصاب شعوبها بـ«العدوى». مرة أخرى تقدم حالة السودان نموذجًا لتأثير العسكر وارتباطهم بالخارج.

من تحديات العقل السياسي العربي هو الانتقال من التقليد إلى الاجتهاد في التعامل مع التجربة الغربية في ما يلي أنظمة الحكم وإدارة الدولة. فللمجتمعات الأوروبية – مثلًا – خصائص واقع تختلف عن خصائص المجتمعات الأخرى غير الغربية/الأوروبية – ومن بينها البلدان العربية وبلدان العالم الثالث بصورة عامة. فإذا كانت هنالك تجارب فاشلة في الديمقراطية الليبرالية في نسختها الغربية – أو بشكلها التقليدي المعروف (النيابية/التمثيلية) – فلماذا لا يتم الاجتهاد في تطبيق صورة جديدة للديمقراطية مثل «التوافقية» التي قامت على نقد الديمقراطية الليبرالية، من واقع سلبياتها، مع تكييفها (أي التوافقية) لتناسب واقع كل دولة بحسب طبيعة وبنية مجتمعها ومستوى الثقافة السياسية ودرجة الوعي الاجتماعي وغيرها من المحددات التي يجب وضعها في الحسبان في عملية التكييف/التبيئة/التوطين؟

الملاحظ أن الديمقراطية التوافقية قد فشلت في بعض البلدان العربية كونها تحولت إلى محاصصة طائفية. وربما تتحول في بلدان أخرى إلى محاصصة إثنية أو قبلية أو جهوية أو عنصرية بحسب طبيعة وتركيبة المجتمع أو بحسب غلبة المكونات الهوياتية (دون الوطنية) في البلدان التي ما زالت تعاني أزمة هوية. فهل تكون مقاربة العلاج – عند التكييف – هي أن نبدأ بمعالجة أزمة الهوية لاستيعاب الهويات الصغرى/الفرعية في هوية وطنية/كبرى/جامعة؟ وما هي آليات ذلك؟ وما هو المنهج المناسب لذلك: تربوي/إعلامي أم قانوني/سياسي، أم منهج مزدوج/مركب؟

هذا مع الأخذ في الحسبان أن هنالك بلدانًا عربية يكون الحديث فيها عن الدمقرطة (لكي تبدأ الآن) حديثًا سابق لأوانه، حيث هنالك بلدان ما زالت منغلقة على ملكيات وعلى عصر ما قبل الديمقراطية – إن جاز التعبير. لذلك يختلف الوضع فيها عن البلدان الأخرى التي انفتحت على نماذج معاصرة أو غربية بدرجات متفاوتة وهي متقدمة نسبيًا في هذا السياق رغم عثراتها وأخطائها وسلبياتها في التجربة الديمقراطية.

أما البلدان التي ما زالت تعيش عصر ما قبل الديمقراطية فهذا يلزم فيها النظر في كيفية التأسيس للعوامل أو المطلوبات السابقة لبناء الديمقراطية (Prerequisites). هنا يبرز سؤال منهجي مهم: هل يتم ذلك من خلال الاجتهاد في بناء الثقافة السياسية أولًا، وما هي أدواتها/مؤسساتها، وكيف يمكن توظيفها في ظل أنظمة شمولية قابضة أو ملكيات رافضة للديمقراطية؟ أم هل الأفضل أن يتم الاشتغال على منظمات المجتمع المدني – بعد تقويتها/تدعيمها – بوصفها مؤسسات بانية للديمقراطية (Democracy-building Institutions)؟ لكن «كيف» يتم ذلك في ظل المناخ السياسي/القانوني غير المواتي للنشاط الحــر لتلك المؤسسات المجتمعية؟ فقد ظلت الأنظمة المستبدة في المنطقة تحتكر مصادر القوة والسلطة، وهي بذلك ظلت تصادر «الأسس المادية لمؤسسات المجتمع الحديث (النقابات العمالية والاتحادات المهنية، الأحزاب السياسية)… وتتيح المجال لعودة تنظيمات ما قبل دولوية (سلالة، طائفة، قبيلة) للظهور كتنظيمات بديلة، أي كشبكة جديدة للعلاقات السوسيوسياسية»[9].

على الفكر السياسي مقاومة حالة الانكسار ومحاربة الانهزامية (مثل المستبد العادل) و (ما البديل؟). فلقد طرح محمد عابد الجابري ثلاثة مفاتيح أو محددات هي: «الاقتصاد الريعي، السلوك العصبي العشائري، والتطرف الديني، لا يمكن حل ألغاز الحاضر العربي الراهن من دونها، وهي المفاتيح نفسها التي وظفها ابن خلدون في قراءته للتجربة الحضارية العربية الإسلامية…»[10].

بصورة عامة يمكن القول إن الأزمة عندنا سياسية بنيوية. والبنية السياسية هي انعكاس لبنية المجتمع، وبنية المجتمع هي انعكاس لبنية العقل. ضعف المجتمع المدني مقرونًا بفرد مسلوب الإرادة (بالقمع والاستبداد)، محدود الرؤية، مشدود لعشيرته أو طائفته أو قبيلته، تحديات تفرض أسئلة صعبة في كيفية مخاطبة جذور الأزمة ومعالجة الآثار.

خاتمة وتساؤلات

الواضح الآن انفتاح كثير من الدول على النظام الديمقراطي بعد موجات ديمقراطية متتالية – وتراجع الدكتاتوريات والأنظمة الشمولية في كثير من مناطق العالم – مقرونًا بتأثيرات العولمة في تكوين الوعي للأجيال الجديدة فأصبحت توجد تراكمات من الوعي والطموح الشبابي (المكبوت) في دواخل هذا الجيل مقرونًا بالتطلع للفكر المستنير والعقل الحــر تشعله عملية التفاعل المستمر عبر وسائط التواصل الاجتماعي. السؤال هنا: كيف تتم عملية بلورة ذلك «الكمون» وتعبئة العقل الجمعي لهذا الجيل نحو عمليات تحول كبرى تمهد للدمقرطة الحقيقية والسليمة؟ وهل عمليات التحول نحو الديمقراطية – التي قد تسير ببطء – هي مسألة وقت ليس إلا؟ أم تحتاج لتدخلات من الفكر السياسي ـــــ الاجتماعي؟ وكيف يتم ذلك؟

قد تكون من الصعوبات والتحديات هنا أن التغيير أو التحول الديمقراطي لا يمكن أن ينجح في مواجهة أنظمة قمعية، لكن هل يمكن القول – أو التساؤل – إن عمليات التثاقف العولمي والتفاعل عبر أدوات إعلام العولمة القوية مقرونة بحالة الكمون المشار إليها سابقًا، يمكن أن تحقن جينات الثورة في هذا الجيل والذي بعضه سوف يكون عماد الجيوش أن تُنشأ تدريجًا جيوش داعمة للتحول الديمقراطي والانحياز للشعب في خياره الديمقراطي؟ (مع الوضع في الحسبان أن الجيش فعلها في السودان ثلاث مرات في إسناد انتفاضات شعبية ناجحة: في 1964 و 1985 – علمًا بأن هاتين الحالتين سبقتا حركة الوعي وإعلام العولمة الداعم لثورات مثل الربيع العربي – ثم أخيرًا في انتفاضة/ثورة 2019/2020). هذه التجارب تؤكد واقعية هذه التساؤلات ومعقولية تلك الافتراضات.

بيد أننا حين نتحدث عن «الديمقراطية» بأشكالها المختلفة يبرز السؤال عن قنوات المشاركة السياسية والانتخابات – الأحزاب السياسية. والأحزاب هي أيضًا أوعية للأيديولوجيا وحاضنات للنخب المؤثرة ومنصات للبرامج وتجنيد للقيادات – إضافة إلى وظائفها الأخرى المعروفة. لكن للحزبية تجربة سيئة أو فاشلة في بعض الدول (مثل السودان) بسبب تأثير الطائفية والقبلية والعشائرية وحتى الزبونية (Clientelism) حيث أفرخت تحالفات بين العسكر والقبيلة والأمن/العسكر وعملت على تدعيم القبضة الشمولية بل أكسبتها شرعية وهمية أو زائفة من خلال تحشيد القبائل والإدارات الأهلية في سياق دولة نيوبتريمونيالية (Neopatrimonialism) (ارتبطت ظاهرة النيوبتريمونيالية وكذلك الكوربورتاريا (Corporatism) بأمريكا اللاتينية كمحاولة للاستقلال عن خط التطور الأوروبي وما ارتبط بذلك من جدل حول المسارين: التطوري (Evolutionary) أو الثوري (Revolutionary) – وهو جدل خارج نطاق هذه الورقة الإطارية). لكن مثلما ابتكر الفكر السياسي والاقتصادي في أمريكا اللاتينية نموذجًا للتنمية يختلف عن الخط الأوروبي، هل نأمل في أن يبتدع الفكر السياسي العربي نموذجًا يناسب الواقع العربي بكل خصوصياته وتناقضاته وأزماته؟

غير أن المعضلة أو الأسئلة الصعبة هي تلك التي تتصل بكيفية إحداث التغييرات السياسية/الديمقراطية – التي تتسق مع روح التحولات المعاصرة –  في دول الخليج العربي؟

هنا يمكن طرح التساؤل: هل يمكن تصور ديمقراطية من دون أحزاب سياسية في مثل هذه المجتمعات – في المديين القريب والمتوسط على الأقل – كمرحلة «انتقالية» حتى يمكن خلالها توفير البيئة أو المناخ اللازمين لتغيير العقلية والسلوك السياسي (نشر الثقافة السياسية والوعي والقضاء على أو إضعاف الولاءات الضيقة…)؟ وهل يمكن التفكير في تحالفات بديلة للأحزاب من هيئات ومنظمات المجتمع المدني تعمل كقنوات للمشاركة السياسية وتتم من خلالها عملية الانتخابات؟ علمًا بأن الديمقراطية هي أصلًا ظهرت أو نضجت في بريطانيا منذ مئات السنين قبل ظهور الأحزاب السياسية في ثلاثينيات القرن التاسع عشـر.

هذا السؤال (إمكان ديمقراطية من دون أحزاب – مؤقتًا) مقصود به بلدان الخليج وبعض البلدان الأخرى التي ليس فيها ديمقراطية ولا أحزاب سياسية. أما البلدان العربية الأخرى التي فيها أحزاب فهي تحتاج إلى عملية إصلاح عميقة للبنية الحزبية فيها مقرونةً بتنمية سياسية (من خلال نشر مكثف للثقافة السياسية) وهذا يعتمد على أدوات وآليات فاعلة، وتلك مسؤولية النخب أوالطبقة المستنيرة في تلك الدول.

هذا التصور يستلزم تقسيم التعامل مع مسألة التحول الديمقراطي إلى مسارين، أو تقسيم البلدان العربية إلى نوعين: الدول التي ما زالت تعيش في عصر ما قبل الديمقراطية، وتلك التي تمارس ديمقراطية لكنها تراوح بين أنظمة هجينة وديمقراطية معيبة أو متعثرة بدرجات مختلفة.

لقد شكلت موجات الربيع العربي القاعدة النفسية والثقافية التي تحتاج إلى إعمال الفكر السياسي ـــــ الاجتماعي من المفكرين والعلماء العرب لتوظيفها من أجل إحداث التغيير الإيجابي. على المستوى النظري نحتاج إلى إعادة بناء الواقع الاجتماعي ـــــ السياسي بمنهج متكامل ودراسات بينية (Interdisciplinary)، مستفيدين من مناخ دولي جديد تسود فيه أدوات جديدة للتغيير مثل سلطة المعرفة والقوى الناعمة.

أخيرًا، في ظل القمع الذي تواجهه ثورات الربيع العربي، وفي ظل الحالة المضطربة والمحتقنة في كثير من البلدان العربية: هل يمكن بناء نموذج لـ «مرحلة انتقالية» – تنقل الملكيات والشموليات إلى أنظمة ديمقراطية – انتقالًا سلميًا تدريجيًا، يحافظ على كيان الدولة متماسك ومستقر؟

هل ممكن، أو كيف يمكن، هندسة تسوية سياسية بين مكونات المجتمع المنقسمة (طائفيًا، وإثنيًا، وقبليًا وأيديولوجيًا)؟ وما الضمانات والآليات التي تسنـد مثل هذه التسوية؟

هل يمكن، في بعض البلدان العربية، تأسيس «كتلة تاريخية» (تحالفات عريضة) – يكون محورها التسوية – وصوغ «مشروع وطني» وتلتزم بـ «ميثاق أخلاقي» يحرس التسوية ويضمن تنفيذ المشروع؟ (في السودان يمكن أن تمثل «إعلان الحرية والتغيير» المكوِّن الأساسي لهذه الكتلة حيث تضم أكثر من 180 من الهيئات والمنظمات والاتحادات والأحزاب…).

ما هي مرتكزات ذلك المشروع الوطني، لكل دولة بحسب ظروفها وطبيعة مشكلاتها ونوعية مكوناتها وطبيعة أطراف التسوية أو مكونات الكتلة؟.

كتب ذات صلة:

الديمقراطية : طوق نجاة للمجتمعات والدول العربية

ثورة بلا ثوار : كي نفهم الربيع العربي