انتويت الكتابة في هذا الموضوع الأسبوع الماضي لولا حاجتي إلى الرد على الشريط “التعليمي” الذي وجهه ذلك الدبلوماسي الإسرائيلي للشعب المصري، وكانت النية راجعة لذكرى صدور قرار تقسيم فلسطين في ٢٧ نوڤمبر ١٩٤٧ وهي المناسبة التي تتواكب عادة مع انتقادات للشعب الفلسطيني بأنه عبر مسيرته الطويلة من أجل نيل حقوقه ضيع عديداً من الفرص كان من شأنها أن تجعله الآن في حالٍ غير الحال، وأناقش في هذه المقالة هذه الفكرة مركزاً على قرار التقسيم ومبادرة الرئيس السادات التي يُتهم الفلسطينيون بأنهم لو كانوا قد التحقوا بها لتفادوا ما يعانونه الآن، أما “صفقة القرن” فلا أعتقد أن أحداً يجرؤ على أن يصفها بالفرصة الضائعة لأنها تمثل الضياع بعينه للقضية الفلسطينية.

وفي الحديث عن فرصة قرار التقسيم الضائعة يجب التذكير بثلاثة أمور أساسية أولها حقوقي وهو أن أصل القضية أن فلسطين تخص الفلسطينيين، وأن نسبة سكانها من اليهود قُدرت في القرن ١٩ب٢٪‏ ولم تكن قد وصلت إلى ٦٪‏ في ١٩١٤ أي بعد ١٧سنة على إعلان المؤتمر الصهيوني الأول هدف إنشاء الدولة اليهودية في فلسطين وقبل وعد بلفور في١٩١٧بثلاث سنوات، وقد فتح الانتداب البريطاني منذ ١٩٢٢ أبواب الهجرة لفلسطين بهدف زيادة نسبة اليهود من سكانها وهو ما يبين الطبيعة الاستعمارية للمشروع الصهيوني، وليتصور أي منا أنه عاد إلى أرضه يوماً فوجد أغراباً يقيمون عليها فلما لجأ إلى القضاء قسمها بينه وبين مغتصبيها، فهل يُفترض فيه أن يقبل تلك القسمة غير العادلة فوراً؟ ويقول البعض بوجود حق تاريخي لليهود في فلسطين وهو قول خطير يجب أن ننتبه ونحن نناقشه أن الله سبحانه وتعالى قد أرسل سيدنا موسى لفرعون على أرض مصر وأن لليهود تاريخاً في الجزيرة العربية وغيرها، فهو قول يصلح لتبرير أي أطماع توسعية في الأرض العربية وليس في فلسطين وحدها، أما الأمر الثاني فهو سياسي ومفاده أن من يتحدثون عن الفرص الضائعة يسقطون فكرة الطابع التوسعي لدولة إسرائيل بمعنى أنه حتى لو قبل الفلسطينيون  بقرار التقسيم في حينه فإن إسرائيل لم تكن لتتوقف إلا بعد الاستيلاء على كامل أراضي فلسطين، وهو ما فعلته تحديداً في عدوان يونيو ١٩٦٧ الذي تعتبره “حرب تحرير” للمتبقي من أرض إسرائيل التاريخية، ومعلوم أن إسرائيل تزعم أنها نفذت بالكامل القرار ٢٤٢ الذي ينص على انسحابها من الأراضي التي احتلتها بعد العدوان على أساس أنها جلت عن سيناء بينما تشكل أراضي الضفة الغربية وغزة ما تبقى من أرض إسرائيل التاريخية، بل لقد ضمت الجولان السورية لاعتبارات أمنية وليست تاريخية وهو ما يقدم دليلاً إضافياً على الطابع التوسعي للكيان الإسرائيلي بعيداً عن الأساطير التاريخية، ويبقى الأمر الثالث وهو أنه حتى لو أخذنا بمنطق الفرص الضائعة فإن الدول العربية القائمة آنذاك وليس الفلسطينيون الذين لم يكن لهم كيان رسمي وقتها هي التي رفضت قرار التقسيم لدى التصويت عليه في الجمعية العامة للأمم المتحدة، ودخلت جميعها الحرب بعد ذلك في محاولة لوأد الدولة الإسرائيلية، بل إن قرار التقسيم لم يحصل على الأغلبية المطلوبة إلا بشق الأنفس بعد التغيير الذي حدث في موقف الاتحاد السوڤيتي (وكان ممثلاً في الأمم المتحدة بثلاثة أصوات (باعتبار أوكرانيا وروسيا البيضاء عضوين مستقلين) ومجموعة الدول التابعة له نتيجة نجاح الحركة الصهيونية في التأثير على العصب الحساس في عملية صنع القرار السوڤيتي، وتشير هذه الملابسات إلى وجود اتجاه قوي في الأسرة الدولية آنذاك لاعتبار مبدأ التقسيم ظالماً ومسبباً لعدم استقرار وهو ما حدث بالفعل.

أما الفرصة الضائعة الثانية فهي تلك التي ارتبطت برفض الفلسطينيين اللحاق بالرئيس السادات في مبادرته الشهيرة التي انتهت بتوقيع معاهدة السلام المصرية-الإسرائيلية، وأنهم لو كانوا قد فعلوا لأنقذوا أنفسهم مما وصل إليه حالهم الآن، ومرة أخرى لم يكن هذا في حينه موقفاً فلسطينياً فحسب وإنما موقفاً عربياً يتسق وقرارات قمة الخرطوم (أغسطس-سبتمبر١٩٦٧)، والأهم من ذلك أن وعي السادات بأن تلك القرارات تمنع الحلول الأحادية جعله يحرص على ألا يتوصل في مفاوضات كامب ديڤيد ١٩٧٨ إلى اتفاقية تضع أساساً لحل المسار المصري-الإسرائيلي فحسب وإنما توصل معها إلى “إطار للسلام في الشرق الأوسط”، لكن هذا الإطار لم يتحدث بحرف عن المسار السوري واكتفى بالنسبة للفلسطينيين بالحديث عن مفاوضات تشارك فيها إسرائيل مع مصر والأردن باعتبارها ممثلة للفلسطينيين! وهدف المفاوضات هو التوصل إلى حكم ذاتي لهم وليس لإعمال حقهم في تقرير المصير، وتأكيداً من الرئيس السادات على الطابع العربي لمبادرته حرص على وضع علم منظمة التحرير الفلسطينية على مائدة التفاوض في أولى جولاته بعد زيارة القدس في مينا هاوس، غير أن بيجن رفض دخول القاعة إلا بعد إزالة العلم، وهو ما يعني أنه حتى لو كان الفلسطينيون قد حضروا لما قبلت إسرائيل ذلك لأن نهجها التفاوضي قائم أصلاً على الفصل بين المسارات لتحقيق أقصى مكسب استراتيجي بشق الصف العربي ناهيك بعدم اعترافها بكيان فلسطيني أصلاً، أما الحكم الذاتي للفلسطينيين فقد انخرطت مصر بحسن نية مع إسرائيل في مفاوضاته (حيث رفض الأردن المشاركة) لتتأكد الدبلوماسية المصرية لاحقاً من حقيقة النوايا الإسرائيلية التي لا ترى فيه إلا ستاراً لاستمرار الاحتلال، ويجب أن يكون واضحاً أن نجاح السادات في إجبار إسرائيل على الانسحاب الكامل من سيناء لم يكن ليتحقق لولا إنجاز أكتوبر العظيم.

غير أن الفلسطينيين أدركوا ما ألم بالنظام العربي من متغيرات بعد كارثة غزو الكويت وأمسكوا بالفرصة هذه المرة في “أوسلو”، فماذا كانت نتيجة هذه الفرصة غير الضائعة؟ هذا هو موضوع المقالة القادمة بإذن الله. (نهاية المقالة الأولى)

تناولت في المقالة الماضية ما يُقال عن فرص ضيعها الفلسطينيون في نضالهم من أجل استعادة حقوقهم اخترت منها قرار تقسيم فلسطين ١٩٤٧ ومبادرة الرئيس السادات ١٩٧٧ التي أفضت إلى معاهدة السلام المصرية-الإسرائيلية، وفي هذه المقالة أتناول فرصة لم يضيعها الفلسطينيون فضيعتهم، وهي المسار الذي انتهى باتفاق أوسلو ١٩٩٣، ولنبدأ القصة من أولها، ففي نهاية ثمانينات القرن الماضي وبالتحديد في ديسمبر ١٩٨٧ تفجرت الانتفاضة الفلسطينية التي عُرفت بانتفاضة الحجارة واستمرت بشكل أو بآخر حتى كارثة الغزو العراقي للكويت ١٩٩٠، وبسبب الحسابات والمواقف الخاطئة للقيادة الفلسطينية تجاه الغزو فقد الفلسطينيون جانباً مهماً من الدعم العربي الرسمي، غير أن صدام حسين كان قد نجح في تجييش قطاع يُعتد به من الرأي العام العربي بمبادرته التي اشتهرت باسم مبادرة الربط، ومفادها أن الغزو العراقي للكويت ليس الحالة الوحيدة في الوطن العربي، فهناك الاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية وما كان صدام يسميه بالاحتلال السوري للبنان في إطار تدخل القوات السورية في الحرب الأهلية اللبنانية بطلب من رئيس الجمهورية اللبنانية فهيمنت لاحقاً على مقدرات لبنان، وذهب صدام إلى ضرورة حل كل هذه المشكلات وفقاً لترتيبها الزمني بحيث نبدأ بالخلاص من الاحتلال الإسرائيلي فالسوري ثم “تُبحث” الحالة العراقية-الكويتية على ضوء الحق التاريخي للعراق في الكويت ورغبة الشعب الكويتي، ولأن الرئيس الأمريكي آنذاك جورج بوش الأب كان من أكثر الرؤساء الأمريكيين حنكة إن لم يكن أكثرهم فقد أدرك قوة الرأي العام العربي المضاد للاحتلال الإسرائيلي ووعد ببذل أقصى الجهد للتوصل إلى تسوية بعد إخراج القوات العراقية من الكويت.

نجح بوش ووزير خارجيته جيمس بيكر في التوصل إلى صيغة توفق بين المطلب العربي بعقد مؤتمر دولي والمطلب الإسرائيلي الذي يريد مسارات ثنائية للتفاوض كي ينفرد بكل طرف عربي على حدة، ومن الناحية العملية آلت هذه الصيغة إلى مسارات ثنائية، فقد اقتصرت فعاليات المؤتمر الدولي في مدريد ١٩٩١ على جلسة افتتاحية عبر فيها كل وفد عن مواقفه ثم تفرع إلى مسارات ثنائية تلاعبت بموجبها إسرائيل بالمسار الفلسطيني وفقاً لنموذج “معضلة السجينين” في نظرية المباريات فأظهرت مرونة لافتة في بداية المسار السوري على نحو أشاع الأمل في قرب توصله إلى نتيجة، ولقد التقيت الوفد التفاوضي الفلسطيني في القاهرة في إحدى الندوات في فترة توقف للمفاوضات وكان لدى أعضائه يقين بأن اتفاقية سورية-إسرائيلية باتت وشيكة، وكانت الرسالة الإسرائيلية للفلسطينيين واضحة: لقد حُسم المسار المصري منذ أكثر من عقد وها هو المسار السوري على وشك أن يُحسم فتمسكوا بالثوابت كما تريدون ولن يقف إلى جواركم أحد، وفي هذا السياق استُدرج الفلسطينيون إلى مسار أوسلو الذي تولت التفاوض فيه عناصر الاعتدال الفلسطيني على العكس من الوفد الفلسطيني إلى مدريد بقيادة المرحوم حيدر عبد الشافي، وليس لدي أي دليل على أن ما حدث كان مخططاً (تشدد في مدريد ومرونة نسبية في أوسلو) لكن المحصلة كانت “اتفاق أوسلو” الذي ربح فيه الفلسطينيون اعتراف إسرائيل بمنظمة التحرير كممثل للشعب الفلسطيني، وهي نقلة نوعية في الموقف الإسرائيلي بعد مبدأ “أرض بلا شعب (أي فلسطين) لشعب بلا أرض (أي اليهود)”، كما ربحوا عودة إلى جزء من أرضهم المحتلة وإن لم يملكوا السيادة عليه ومؤسسات للحكم اعتُبرت في جو التفاؤل السائد آنذاك نموذجاً جنينياً لدولتهم القادمة، لكنهم بالمقابل اعترفوا بدولة إسرائيل فيما لم تعترف بدولة لهم وقبلوا مساراً تفاوضياً مفتوحاً لا يحسم أي قضية من قضايا الوضع النهائي، وهذا هو دأب إسرائيل في كافة الاتفاقيات التي حاولت وضع أطر للحل بدءاً بكامب ديڤيد وانتهاءً بخارطة طريق جورج بوش الإبن.

ولم تكد تمضي ثلاث سنوات على اتفاقية أوسلو ١٩٩٣ إلا ووصل اليمين المتشدد إلى الحكم في إسرائيل بزعامة نتنياهو، ومع أن ذات اليمين المتشدد ممثلاً في مناحم بيجن هو من وقع مع السادات معاهدة السلام إلا أن المسار الفلسطيني بالنسبة لإسرائيل يختلف من حيث أهميته وميزان القوى الذي يحكمه، ففلسطين هي أساس الأرض التاريخية لإسرائيل حسب زعمهم ومصر أثبتت بحرب أكتوبر أن إسرائيل لا تستطيع هضم احتلالها لسيناء، ولذلك كان إبعادها عن مسار الصراع العسكري ضرورة لإسرائيل كي تنفرد بالمسار الأهم، وهكذا أعلن نتنياهو أنه لن يلتزم بأوسلو، ورغم الضغوط الدولية وبالذات الأمريكية في ظل رئاسة كلينتون ورغم فقدان اليمين المتشدد السلطة في إسرائيل  ما بين هزيمته في انتخابات ١٩٩٩ وفوزه في انتخابات ٢٠٠٩ إلا أن مسار أوسلو بقي متعثراً، وعلى الرغم من أن العرض الذي قُدم لعرفات في مفاوضات كامب ديڤيد ٢٠٠٠ كان أفضل من غيره إلا أنه لم يصل إلى الحد الفلسطيني الأدنى الذي يجعله يقبل التوقيع على تسوية تنهي الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي دون الاستجابة لهذا الحد الأدنى، ورغم أن خليفة عرفات أبدى مرونة فائقة إلا أن التصور الإسرائيلي للتسوية جعلها مستحيلة القبول من أشد المعتدلين اعتدالاً، وهانحن بعد أكثر من ٢٧سنة على أوسلو نقف عند نقطة الصفر إن لم نكن قد تراجعنا عنها بفعل الاستيطان الكثيف ناهيك بمهزلة صفقة القرن، ويتحدثون الآن عن فرصة جديدة قد تلوح مع إدارة بايدن مع أن أقصى ما يمكن أن يفعله هو التخلص من فجاجة سياسات ترامب وتحيزها الصارخ دون أن يدخل عليها أي تغييرات جذرية، أما الفرصة الضائعة الوحيدة التي أهدرتها النخب الحاكمة الفلسطينية ومازالت رغم الانكسارات التي تعرضت لها القضية فهي استعادة الوحدة الوطنية التي تُمَكن وحدها من بناء استراتيجية فاعلة للنضال الفلسطيني لا يمكن بدونها تحقيق أي تقدم في مسار هذا النضال كما تشير خبرة الصراع مع إسرائيل، وقد أعود لهذه القضية لاحقاً.

 

اقرؤوا أيضاً  عبثية الاستمرار فيي طريق أوسلو

قد يهمكم أيضاً  إنهاء الانقسام الفلسطيني بين الفشل والأمل

#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #أوسلو #القضية_الفلسطينية #صفقة_القرن #الصراع_العربي_الاسرائيلي #الصراع_الفلسطيني_الإسرائيلي #الانتفاضة_الأولى #الانتفاضة_الفلسطينية #مسار_أوسلو #إتفاق_كامب_دايفيد #الإنقسام_الفلسطين #القضية_الفلسطينية_وبايدن #إدارة_بايدن_للصراع_العربي_الإسرائيلي