يعدّ تعريف العنف وتحديد أشكاله المدخل الأساسي لفهمه وتحليله كظاهرة. غير أن تحديد مفهومه ومساحته وحدوده تعد مسائل محل خلاف ومتنازع عليها. فتعاطي الفاعل السياسي مع هذا المفهوم يختلف عن فهم المناضل الحقوقي له أو عن تداوله في الإعلام أو في النقاشات العامة. وكذلك في العلوم الإنسانية فهو مفهوم متعدد التعريفات ومحل دراسة وتحليل في مجالات علمية مختلفة. لقد شهد تناول العنف في علم الاجتماع تطوراً ملحوظاً في المقاربة والتحليل. فلقد تم الانتقال من نظرة راكدة وحتمية تركز على دراسة الأسباب والأشكال البنيوية للعنف، إلى رؤية تفاعلية وديناميكية تتناول العنف عبر فاعليه وداخل سياقاته وفي أماكن وقوعه وذلك بهدف تحليل الأفعال والمعاني والرموز والتمثلات التي يعبر عنها.

وبالاعتماد على هذه المقاربة التفاعلية، أقترح في هذه الورقة دراسة حول العنف في الفضاءات الحضرية في لبنان وفرنسا. وسأقتصر على التركيز على شكلين من أشكال العنف. فـ الأول، أعتبره عنفاً تسلطياً تفرضه الدولة في حالات التعاطي الأمني مع المواطنين والسكان. فهي تفرض عليهم منطق الهيمنة والتسيير والمراقبة. فالعنف يشمل كل الإجراءات الحياتية والجسدية والرمزية التي تؤطر حياة الناس، وتحدد نمط تفاعلهم وتنمية قدراتهم في المجتمع. أما الشكل الثاني فهو عنف دفاعي صادر عن الضحايا ويمكن اعتباره كشكل من أشكال «المقاومة» ورد الفعل الدفاعي أمام العنف المسلط من الخارج.

لقد أجريت بحثي الميداني في الأحياء المهمشة والمناطق العشوائية في لبنان كنموذج عن البلدان النامية، التي عاشت حالات عنف قصوى، مع ذلك كانت مشاهد العنف والعنف الشديد تمر من دون استخدام كلمة عنف لوصف هذه المشاهد، باستثناء استعمالها مؤخراً، من قبل الجهات المانحة والممولة للمشاريع الاجتماعية؛ وفي فرنسا كنموذج عن البلدان المتطورة والمجتمعات الكلاسيكية، المستقرة، حيث تردد كلمة عنف باستمرار وهي مؤطرة سياسياً ومحددة قضائياً واجتماعياً. في البلدين قمت بمقابلات مع فئات مختلفة من الشباب من الجنسين وتتراوح أعمارهم بين 20 و30 عاماً. في فرنسا، أجريت الدراسة خلال شهرين ونصف الشهر، من أوائل تشرين الأول/أكتوبر 2007 إلى منتصف كانون الأول/ديسمبر، في المقهى الثقافي في وسط البلد في سان دوني. وفي لبنان في مخيم البداوي، بدأت دراستي فعلياً في أيلول/سبتمبر 2008 واستمرت ثلاثة أشهر‏[1]. بالإضافة إلى رحلات مستمرة إلى المخيم طوال فترة كتابة هذا التقرير. تتراوح مدة كل مقابلة متوسط ساعتين. وقد تم اختيار المحاورين عن طريق السؤال المباشر أو غير المباشر عبر الأصدقاء أو المعارف الشخصية والذين يعتقدون بإمكان تغيير نظرة المجتمع لهؤلاء الشباب وبأهمية المشروع. إن استقطاب المحاورين بهذه الطريقة لا يندرج تحت العيِّنات التقليدية في البحث أي احتمالية أو غير احتمالية. فهذه الطريقة «لا تتناسب مع البعد النوعي للدراسة، لأنها تحمل في نفسها فكرة التمثيل والاستقرار. ففي الحوار التفهمي يجب اختيار المعنيين بدلاً من تركيب العيِّنة»‏[2]، عند اختيار المحاورين أخذت معيارين رئيسيين بعين الاعتبار: الأول هو جندري في محاولة للحفاظ على التوازن بين عدد الشبان والشابات المشاركين؛ والثاني هو العمر. يرتبط هذا البحث بنوع البحوث المعتمدة على «أخذ العينات الطوعية». في ما يتعلق بعدد المحاورين، اعتمدت مبدأ «الاتخام التجريبي»، أي إيقاف المقابلات عندما لم تعد تأتي بجديد. هذا يعني إنهاء جمع المعلومات بعد التمثيل المتكرر للواقع من قبل المتحاورين. في سان دوني قابلت 9 رجال و7 نساء فرنسيين من أصول أفريقية أو مغاربية أو أوروبية، فهم من الجيل الثاني إلى الرابع من المهاجرين، ومن أعمار مختلفة ووضعهم الاجتماعي والاقتصادي متنوع. بشكل عام مستواهم التعليمي يتراوح بين جامعي ومهني، يعملون في الفن، التعليم، الإعلانات، المطاعم أو في التجارة. أما في مخيم البداوي فقد قابلت 22 شاباً و19 شابة، أيضاً من أعمار مختلفة ووضعهم الاجتماعي والاقتصادي متنوع. بالنسبة إلى الشبان أكثرهم عاطل من العمل، وبالنسبة إلى الشابات، ربات بيوت. أقلية منهم يحملون شهادة جامعية، أكثرهم خرج مبكراً من المدرسة وبعضهم لديهم مستوى ثانوي. بالنسبة إلى العاملين فهم بأكثريتهم يعملون في المخيم في مجالات مختلفة، كالبائعين أو أصحاب صنعة، أو في العمل الاجتماعي والثقافي أو التدريس.

لقد كان هدفي الأول يركز على إعطاء الكلمة لشباب لاجئين ومهاجرين من هذين المجتمعين للتعبير عن معاني العنف بحسب مفاهيمهم وتجاربهم الخاصة ووصف حالات ومواقف عاشوها أو تعرضوا لها. بمعنى آخر كل عنف تعرضوا له اجتماعياً، جسدياً أو رمزياً كان قد عرقل تنمية قدراتهم وتفاعلهم وفعاليتهم في المجتمع. ينقسم بحثي إلى جزأين أساسيين: الجزء الأول هو عن العنف التسلطي في المخيمات الفلسطينية حيث أطرح فيه أربع نقاط: (1) التأطير الاستثنائي لمخيمات لبنان من قبل الدولة اللبنانية من خلال سلطة القانون وسلطة العقوبات والعنف الاستثنائي المؤقت في مخيم نهر البارد؛ (2) عنف «الأباراتشيك» الفلسطيني؛ (3) العنف في المؤسسات التربوية والاجتماعية؛ (4) العنف الدفاعي. الجزء الثاني يطرح العنف التسلطي في ضاحية سان دوني الفرنسية من خلال أربع نقاط: 1 – نشر العنف في الممارسات؛ 2 – آلية نشر العنف في المؤسسات والمجتمع؛ 3 – العنف في المؤسسات التربوية والمجتمع؛ و 4 – ردود الفعل الشعبية على العنف التسلطي.

أولاً: العنف التسلطي في المخيمات الفلسطينية

يواجه الشباب الفلسطيني في مخيمات اللاجئين نوعاً من العنف المزدوج. حيث تتمخض تلك الازدواجية بالعنف الداخلي في مجتمع اللاجئين كونه بين الأفراد أو المؤسسات، وبالعنف الخارجي الذي يـُمارس من قبل الدولة اللبنانية بشكليه: الاستثنائي المنظم والاستثنائي المؤقت، حيث يطبقان بواسطة سلطة القانون والقضاء وسلطة العقوبات والتنظيم من أجل المحافظة من ناحية على كينونة التنظيم نفسه ومن ناحية أخرى لفرض نوع من النظام المتفق عليه اجتماعياً. وفي ما يلي سأتناول هذين النوعين من العنف بشكليهما الخارجي والداخلي.

1 – الدولة اللبنانية والتأطير الاستثنائي لمخيمات لبنان

أبدأ بالاستثناء‏[3] المسلط على الفلسطينيين في المخيمات الفلسطينية. فالميزة الأساسية للمخيم، هي أنه ظرفي، مؤقت ومحدود الإمكانات. أما مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في لبنان فهي موجودة منذ أكثر من ستين عاماً. تحولت الخيم إلى أبنية والمخيمات إلى تجمعات سكانية أشبه بالعشوائيات. فالاستثناء الأول يكمن في الإقامة الموقتة التي تحولت إلى إقامة دائمة.

أ – الاستثناء وسلطة القانون

بدايةً فإن الاستثناء بسلطة القانون يتمخض بالتمييز الناتج من القوانين الموضوعة بعناية دقيقة. منها تلك القوانين التي تحظّر على الفلسطينيين حق الملكية والضمان الاجتماعي، ناهيك بقوانين العمل وشروطها التي ما زالت تتغير وتتبدل كل سنة بحلة جديدة منذ عام 1951 حتى يومنا هذا (Destremeau, 1996)، والتي بدورها تخلق حالة اقتصادية هشة يعانيها الشباب الفلسطيني‏[4]. للمطالبة بالحقوق المدنية والاجتماعية والاقتصادية للفلسطينيين وضد التمييز، تم آخر حراك كبير في 27 حزيران/يونيو 2010. وكانت النتيجة في 17 آب/أغسطس 2010 تعديل مجلس النواب اللبناني للمادة 59 والفقرة 3 من المادة 9 في قانون العمل اللبناني. مع هذا، لا يزال الفلسطينيون في لبنان ممنوعين من العمل في المهن والانضمام إلى نقابات العمال (المهندسين والأطباء والصيادلة والمحامين والممرضات، والمحاسبة)؛ إذ إن مبدأ المعاملة بالمثل هو الركيزة الأساسية في التصريح لممارسة مهنة، هذا المبدأ يسمح للأجنبي في لبنان بالتمتع بالحقوق نفسها التي يمكن مطالبة اللبنانيين المقيمين في بلد أجنبي بها، أي الحصول على تصريح عمل والانضمام إلى النقابة لممارسة المهنة من الناحية القانونية. رفضت الحكومة اللبنانية تطبيق هذا المبدأ على الفلسطينيين بحجة أن هذا المبدأ لا يمكن للدولة الفلسطينية تطبيقه.

كما ويعيش الفلسطينيون في لبنان منذ 68 عاماً في حالة من انعدام الأمن الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والقانوني. وكأن هذه الفئة من السكان في لبنان تشكل «خطراً»، فقط لأنها خضعت لظاهرة خارجية هي «النكبة» وتهجرت. من خلال كل هذا، من الواضح أن الفلسطينيين هم الجسم المثمر في ما يتعلق بالضمان الاجتماعي اللبناني والعمل في لبنان، فهم يدفعون الضرائب على المرتبات دون الاستفادة ويشاركون في الاقتصاد اللبناني من خلال كونهم غير مرئيين (Tarraf – Najib, 2006). وقد أصبحت هذه الأجساد الفلسطينية الشابة سهلة الانقياد، منقوشة، لا رغبة فيها، ولم تعد فئة الشباب تريد أن تظل غير مرئية من الناحية القانونية، ومنتجة تحت ضغط الألم، والعذاب، والحاجة، ولكن تريد عمـلاً معترفاً به، واضحاً وقانونياً. فالقيود المفروضة على العمل تزنّ كثيراً على حياة الشباب اليومية ومستقبلهم، إلى حد أنهم يأتون أحياناً للتعريف عن أنفسهم من خلال هذه القوانين. فإسحاق، ابن الثامنة والعشرين، متأهل، طالب في الأدب الإنكليزي في الجامعة اللبنانية ومدير مشروع في جمعية دولية في مخيم البداوي، عندما طلبت منه تعريف من هو اللاجئ الفلسطيني في لبنان، يقول: «اللاجئ الفلسطيني في لبنان هو الذي ليس لديه الحق في ممارسة أكثر من 70 مهنة»‏[5].

إن هذا يدل على أهمية الحقوق وكيف أن انعدام الحقوق والوضعية غير القانونية يشكلان عنصراً رئيسياً في تعريف الذات كمظلومة أو محرومة. فهذه بعض المقتطفات المقتبسة من المناقشات مع الشباب للتعريف عن اللاجئين الفلسطينيين في ظل وضعهم غير القانوني في لبنان. ماريا 25 عاماً، مخطوبة، تدرس في معهد علوم شرعية وتعمل في جمعية اجتماعية محلية في المخيم تقول: «اللاجئون الفلسطينيون في لبنان هم الذين لا يملكون الحقوق المدنية والاقتصادية والاجتماعية والتعليمية»‏[6].

طارق، 26 عاماً، مجاز في العلوم الطبيعية من الجامعة العربية في بيروت ويعمل كمدرّس في الأونروا، يقول: «في لبنان الفلسطينيون بائسون. لكي يعيش، يحتاج الإنسان إلى العمل لتأمين مصدر رزقه، فكفلسطيني أنت محروم من العمل أي من تأمين مصدر عيشك وكل الموارد محظورة عليك، لذا الحياة كلها محظورة عليك»‏[7].

عمار، 24 سنة، خرج من المدرسة بعد المتوسط، يعمل كعامل: «تحديد اختيار دراساتك على حسب المهن المسموحة لك بحد ذاته عنف وإرهاب. فالفلسطينيون اختياراتهم محدودة، ومضطهدون»‏[8].

القانون المجحف الثاني بحق الفلسطينيين هو حق الملكية. فالفلسطينيون، على عكس غيرهم من الأجانب، يحرمون الحق في الملكية، في حين أن جميع حاملي الجنسيات الأجنبية، يتمتعون بهذا الحق في لبنان. إن تعديل القانون رقم 11614 بتاريخ 4 كانون الثاني/يناير 1969 الذي يخول الحق في الملكية لكل أجنبي، عُدل بموجب القانون رقم 296 في 20 آذار/مارس 2001 من قبل الحكومة في مرحلة الإصلاحات المتعلقة بالحالة الاقتصادية في البلاد، لتشجيع الاستثمار. القانون رقم 296 يحظر على الفلسطينيين وحدهم الملكية. هذا القانون الذي صمم من قبل الأغلبية للسيطرة على أقلية برر هذا العمل بالخوف من توطين الفلسطينيين في لبنان وبغرض الحفاظ على حق العودة. يجلب هذا المرسوم تشابكات قانونية حقيقية في حالة الزواج المختلط، وبخاصة في الميراث. فإذا كانت الأم لبنانية لا يمكنها تسجيل الممتلكات باسم أولادها الفلسطينيين، وفي حالة وفاة الأولاد لا يمكن تسجيل ميراث العقارات.

ب – سلطة العقوبات

تمتاز سلطة العقوبات بتدخلها المباشر بمجتمع اللاجئين. نرمز إلى ذلك التدخل من خلال نظرية العنف الرمزي بعلم الاجتماع الذي يتخذ شرعيته بالقوة المفروضة بتداعٍ ملموس أو غير ملموس من قبل هذه السلطة. فمنذ لجوء الفلسطينيين في عام 1948 إلى لبنان صبَّت محاولات الحكومة بحصر اللاجئين في بقعة معينة (Picard, 1988) في الفضاء العام بواسطة خطة منهجية من أجل السيطرة على جميع نشاطاتهم. هذا النوع من الاستثناء يترجم من خلال عملية تقسيم اللاجئين في المخيمات بحسب المناطق (Peteet, 1996) في مساحات مغلقة يقطنها اللاجئون فقط مما يجعلها بعيدة عن كل ما هو لبناني. بذلك تبلور لدينا المفهوم التمثيلي لمخيم اللاجئين في تلك المساحات الاستثنائية. تمتاز هذه الأماكن بجوها الخاص وبقوانينها الخاصة المساهمة بتنظيم المخيم داخلياً بغياب سيادة القوانين والدولة أو بغياب المؤسسات الأمنية كالشرطة والجيش. فالأمان والحماية يوفرهما الفلسطينيون أنفسهم من كل ما هو داخلي وخارجي. يعد المخيم بنظر الشباب المكان الذي فرض عليهم الإقامة به دون أن يختاروه، كما تقول ماريا ورشيد 26 عاماً، فنان فلسطيني ويعمل في هذا المجال: «فقط بمجرد إغلاقي في المخيم، والقول لي بأن البقاء هنا هو لحماية «حق العودة»، وعدم السماح لي بالانخراط في المجتمع اللبناني، فقط هذه الطريقة في التفكير، وترْك جانباً ما أفكر به أنا عندما قررت البقاء في المخيم، إذا كان لدي الخيار وإذا كنت أنا حر، ولكن عندما يقررون مكاني وأنني يجب أن أبقى هنا وأن أعيش هذه الحياة البائسة كي لا أنسى «فلسطين» سأقول كفى. أما إذا كان لدي الخيار لكنت حراً، حتى لو عشت مع الغجر، هذه حياتي وأنا حر… ولكننا ليس لدينا أي خيار، أجد نفسي مجبراً أن أعيش في المخيم، أنني ممنوع من 76 مهنة في لبنان وأكثر من ذلك، أنا الإنسان الوحيد الذي لا يوجد لديه حرية الحركة، كما قال الفنان الفلسطيني أبو عرب «من حي لحي بدنا بطاقة هوية»»‏[9]. «لأن كل الظروف التي مررنا بها أظهرت لنا أن الحكومة اللبنانية تكرهنا. لم أختر العيش في لبنان، وأُجبرت وقبلت، ولكن هذا لا يعني أنني يجب أن أتقبل كل شيء، وأنا لا أملك الحق في الدراسة وممارسة 77 مهنة. حتى لو كنت أعمل في المهن الممنوعة فلا أملك الحق في أن أكون مسجلة في النقابة وممارسة ذلك بشكل قانوني، انظروا كيف أن هناك العديد من الأطباء في المخيم ليسوا في النقابة. فالحكومة تعقِّد لنا جميع المهام الإدارية. لماذا يجب أن نعيش في لبنان؟ لنكون أذلاء؟! إذا أوقفني حاجز للجيش اللبناني غالباً ما يكون الأمر معقداً، ويكون أكثر تعقيداً إذا كنت أعيش في مخيم نهر البارد. يتعاملون معي كما لو كنت يهودية وربما معاملة اليهودي ممكن أن تكون أفضل»‏[10].

ولكن الحماية والأمان المتوفرين في المخيم بعيداً من اضطهاد السلطة اللبنانية يشكلان بالنسبة إلى الشباب الحافز المشجع على البقاء والعيش فيه. وبالرغم من الفوضى العارمة في وسط الحياة الاجتماعية والسياسية يبقى المخيم المكان الأفضل للشباب من حيث العلاقات الاجتماعية والترابط الأخوي، ناهيك بشعور التكاتف المتبلور من شعور الاعتزاز والتعارف المشترك لقضيتهم الذي ينسب إليهم بشكل عفوي بفضل واقع انتمائهم إلى المخيم.

تقول فريدة (20 عاماً)، درست حتى المتوسط، وهي تعمل اليوم في جمعية في المخيم مع الشباب المتسرب من المدارس، وماجد (24 عاماً)، طالب تاريخ في الجامعة اللبنانية، يحب الحياة في المخيم، ولا يحب مغادرة المخيم: «أنا أحب عيشتي في المخيم. إذا خرجت أكون مستعجلة لكي أعود، مثل سمكة خارج الماء، وعندما أعود تعود لي روحي. يمكنني البقاء في المخيم دون أن أخرج»‏[11]. «عندما أخرج أشعر بالضياع، ذهبت مرتين إلى بيروت. حتى إذا ذهبت إلى مخيم آخر، فأنا حريص على العودة إلى داري. هنا تشعر بأنك محاط بأسرتك، أنت والآخرون تتكلمون نفس اللغة. خارج المخيم لن تشعر بالراحة تجاه الآخرين، ينظرون إليك نظرات غريبة. في الجامعة حدث أن اللبنانيين يسألوننا: أنتم في المخيم تعيشون في الخيم؟ أو يسألون: أنت الفلسطيني، قادم من فلسطين للدراسة هنا، لا جامعات هناك؟ إنهم جاهلون …عندما أخرج من المخيم أفتقده على الرغم من كل المشاكل. فهو أكثر أماناً»‏[12].

تفرض سلطة العقوبات نوعاً من السيطرة على النشاط، مثل حظر حرية النشاط المهني والاجتماعي حيث يجد الشباب أنفسهم محدودين في حيز المخيم فقط. فما حصل لرشيد يمثل حالة عامة ومتكررة بالنسبة إلى خروج الشباب من المخيم: «أوقفني الجيش على الطريق فقط لأنني فلسطيني، وأحياناً يتم ذلك بإهانة، وأحياناً الشخص يعتذر لأنه منزعج، كل شيء يعتمد على الفرد»‏[13].

مع ذلك نجد البعض منهم استطاعوا بوسائلهم الخاصة أن يخرجوا من حيِّز المخيم وأن يمارسوا أعمالهم أحياناً. مع ذلك الوعي بين الأوساط الشبابية لسطوة العنف الهيكلي المنظم، فإن شكله الرمزي الحاضر بميزاته المستترة خلف الشرعية المفروضة بالقوة يأخذ أيضاً صورته المستترة في كل مكان ما بين العلاقات الفردية والاقتصادية والثقافية وحتى في العلاقات الفكرية والسياسية حيث يستند إليه حتى الأفراد الخاضعون له دون دعمه.

تعتمد سلطة العقوبات والمراقبة منهجاً ثالثاً من أجل ضبط اللاجئين في المخيمات. فمنهج الحقوق المدنية والحصول على الجنسية اللبنانية شهد خلافات ونقاشات طويلة الأمد في الشارع اللبناني دون أن يتغير طرحه الجوهري منذ عام 1949 (Sfeir – Khayyat, 2008). فمنذ وصول أول لاجئ إلى لبنان وضعت سلطة العقوبات نهج منع حق الفلسطيني في الحصول على الجنسية. فقانون الجنسية المطبق يعتمد على الانتماء الديني والمرتبة الاجتماعية معلـلاً ذلك بأسباب لا تعدّ إلا كونها حججاً هشة لا أكثر.

ج – الاستثناء المؤقت: مخيم نهر البارد

يشكل الصراع الذي دار بين الجيش اللبناني وخلية فتح الإسلام في مخيم نهر البارد، عام 2007، مثالاً للاستثناء المؤقت. فالقصف الصاروخي والمروحي الذي استخدمه الجيش أدى إلى نكبة أخرى للاجئي مخيم نهر البارد. حيث توغل الجيش اللبناني وتم هدم أكثر المنازل وسدت الطرقات. بعد أكثر من شهر دُمِّر المخيم بشكل كامل ونزح سكانه إلى عدة مخيمات في لبنان. أكثر من 30 ألف لاجئ فلسطيني بحثوا عن ملجأ في مكان آخر وخصوصاً في مخيم البداوي المجاور. استقر أكثر النازحين في مخيم البداوي، بنسبة 85 بالمئة من السكان، تم إيواؤهم في المدارس، والكراجات، ورياض الأطفال، والمساجد، وكل الأماكن الفارغة، المحظوظون منهم تم إيواؤهم من قبل الأُسَر. وقتل الصراع المسلح 450 إنساناً: 50 فلسطينياً، 179 جندياً لبنانياً، 226 إسلامياً، بالإضافة إلى آلاف الجرحى.

كان لمخيم البداوي النصيب الأكبر في احتضان اللاجئين المنكوبين، فعملية التدمير أدت إلى نكبة إنسانية واقتصادية واجتماعية وبتلك العملية تقلصت المساحات المغلقة والمخصصة والتي بها أعداد من اللاجئين مما خفض من فرص تنمية قدراتهم وطاقاتهم الإنسانية. فازداد عدد السكان من 18000 إلى 48000 شخص في غضون 4 أشهر من الصراع. خلقت هذه الحالة اضطرابات وتوترات متعددة بين السكان المحليين والنازحين.

في بداية النزوح كان مخيم البداوي يرصد نوعاً من التكاتف والتضامن مع سكان مخيم نهر البارد ولكن التدمير الكامل للمخيم زاد عدد النازحين، مما أثار نوعاً من الفوضى والخلل في النظام الاجتماعي الموجود بشكل مستتر أكثر. بذاك التزايد في عدد النازحين انقلبت موازين معادلة التضامن، حيث أصبح سكان مخيم البداوي يدافعون عن حقهم بالأقدمية (Elias, 1997) بذلك المخيم ضد العدد الكبير من النازحين من مخيم نهر البارد. تقول سلام 27 عاماً، مختصة في رياض الأطفال وتعمل في روضة في المخيم: «كل شيء في المخيم انقلب رأساً على عقب، قد يكون ذلك ليس خطؤهم، لكنهم ساهموا في ذلك… الشوارع، الهواء… الملوث، كل شيء. حتى على مستوى الشباب في الشارع كلماتهم غريبة، فإنها لوثت شبابنا»‏[14].

فالتضامن حسب «الأقدمية» في هذه الحالة فاز على التضامن حسب «الهوية». وأثارت الذكرى والتاريخ المشترك لسكان مخيم البداوي، الموزعين على حسب القرى الفلسطينية في المخيمات، و«الألفة الحميمة» نوعاً من التماسك المختلف للسكان، أقوى وأثقل من الهوية الفلسطينية العامة.

فشعور سكان البداوي هو خليط من القلق والخوف وانعدام الأمن من جهتين، في ما يتعلق بالفوضى الداخلية والخوف من أن يحدث لهم الشيء نفسه. سميرة تبلغ 27 عاماً، أم لولدين، مختصة في رياض الأطفال ولكنها اليوم ربة منزل، تروي لي أنها تنام في ملابسها، جاهزة للفرار في أي لحظة: «أزمة البارد أثرت فينا كثيراً. كنا نعتقد أننا آمنون في المخيم، والآن ما حدث في مخيم نهر البارد يشير بنا إلى حالة من انعدام الأمن الكلي، ما حدث لهم يمكن أن يحدث لنا في أي لحظة… لأننا نعلم أن هذه ليست بلدنا، ونحن سوف نموت قتـلاً هنا، وهذا محبط، ومن المتوقع أن نغادر بسبب الصراع في أي وقت»‏[15].

أخيراً، إن الانقلاب في معادلة التضامن تبلور على أثر ما ذكرناه في العنف المسبب من سلطة القضاء والقانون التي تمنع الفلسطيني من حق ملكية مكان إقامته. غابت القوانين وبقي حق الأقدمية بالدفاع عن الأرض التي تقام عليها البيوت مما أوجد عنفاً داخلياً ما بين اللاجئين على مستوى أفراد وعائلات ومؤسسات. أما رد السلطات اللبنانية فما كان إلا باستعمالها العنف على شكليه الهيكلي المنظم والاستثنائي المؤقت، وبخاصة من أجل الرد على العنف الداخلي بين اللاجئين.

2 – عنف الـ «أبارتشيك» الفلسطيني

علاوة على الاستثناء الذي يعانيه اللاجئون الفلسطينيون، فإن العنف المسبب من قبل الـ «أبارتشيك»‏[16] يشكل نسبة من تحليلي لواقع العنف في مخيمات لبنان. فإن هؤلاء الأعضاء بفصائلهم ومؤسساتهم يشكلون عامـلاً آخر من مسببات المعاناة المؤدية إلى انتشار العنف. في واقع الأمر، إن اتفاقية القاهرة مع منظمة التحرير الفلسطينية كانت نقطة تحول وإدراك في حياة اللاجئين في لبنان. على أثرها طالبت منظمة التحرير الفلسطينية سنة 1969 بتحصين المخيم من خلال إخراجه من سلطة الدولة المقام على أرضها، مما يعطيه نوعاً من الحكم المحلي في شؤونه الداخلية. ولكن تلك الحصانة لم يدرك حسناتها اللاجئون إلا بعد توقيع اتفاقية أوسلو سنة 1993. حيث عاش اللاجئون فترة نستطيع أن نصفها بالرغد لمدة ثلاثة عشر عاماً ما بين 1969 و1982 تحت سلطة منظمة التحرير التي وفرت لهم نوعاً من كرامة العيش. أما بعد 1993 فانقلبت الأحوال السياسية والاجتماعية في المخيمات بعد توقيع معاهدة السلام مع إسرائيل وأصبحت الضفة الغربية مقر السلطة فهمشت المخيمات التي شكلت على مدار سنوات قاعدة السلطة الشعبية والسياسية للقضية الفلسطينية. ذلك التهميش أخذ يتدحرج ككرة ثلج تكبر ولا تذوب، حتى بات المخيم لا يتلقى أي تعليمات من سلطته أو ممن كانوا يمثلونه يوماً إلا في حالات خاصة وصعبة. شكلت حرب الثوار الفلسطينية في الماضي نوعاً من المقاومة التي مثلت الجيش الوحيد لتحرير كامل التراب الفلسطيني. ولكن تحولاً في مسار مقاوميها الكبار جعلها حرباً سياسية على طاولات الغرب تطالب بالطرق الدبلوماسية بدولة أو شبه دولة. ومنذ ذلك الوقت انطلق شعار المقاومة غير العنيفة والسلمية. وحري بالذكر أن التأييد الشعبي الذي أخذه الممثلون والمقاومون استمد قوته من جوهر أهدافهم الرامية إلى تحرير الوطن المسلوب، ولكن هذا الانعطاف الذي اتخذه ممثلو منظمة التحرير أفقد ثقة اللاجئين بمن يمثلونهم، والذين بدورهم نُظر إليهم على أنهم انتهازيون وطلاب مال باسم القضية الفلسطينية. وهكذا فقد ضعف صوت اللاجئين الفلسطينيين كعامل مؤثر في النخبة السياسية. بالمقابل ترك بعض أعضاء هذه النخبة وعناصر القوات العسكرية والأمنية المنظمة وذلك بالهجرة إلى بعض الدول الغربية بعد أن فقدوا جوهر هدفهم بتحرير الأرض. ولم يبقَ في المخيم ممن يمثل منظمة التحرير إلا القليل من قاعدتها مثل لجنتها الشعبية التي أصبحت الهيئة الوحيدة التي حلت مكان منظمة التحرير في المخيم، والتي حاولت لعب دور المنظمة بوظائفها الإدارية والاجتماعية والأمنية. كما نبع أيضاً على إثر هذا الإهمال عدة بدائل ليحلوا مكان اللجنة الشعبية مثل: الروابط العائلية والمرشدين الروحيين.

بعد تخلي «الأبارتشيك» عنهم لم يعد يرى الشباب في البداوي أي أمل في أي حزب سياسي. حتى أولئك الذين ينتمون إلى هذا أو ذاك الحزب، فانتماؤهم هو عبارة عن مصلحة مادية أو معنوية أو «إرث». يعتبر الشباب أن الأطراف والتنظيمات السياسية هي المسؤولة عن جميع المصائب الملمة بهم: «إن التنظيمات تقودنا إلى كارثة، وتجعلنا نعاني مصيبة تلو الأخرى»‏[17] يقول يونس، 21 عاماً، طالب في السنة الثالثة، إدارة أعمال في الجامعة العربية في بيروت. فإن الغالبية العظمى تشعر بانعدام الثقة تجاه التنظيمات، ولديها الانطباع أنهم يضعونهم في حالة من الجمود والعقم. فسياسة المحسوبيات الممارَسة هي السبب الأكثر أهمية وأكثر حضوراً في خطاب الشباب في عدم الثقة بالأحزاب السياسية. هذه السياسة تسبب اضطراباً في المخيم؛ حسب سامر ومالك. سامر يبلغ 23 عاماً، يحمل شهادة متوسطة وهو يعمل كسائق عند عائلة. مالك يبلغ 28 عاماً، لديه شهادة تمريض ويعمل في جمعية اجتماعية في المخيم، متأهل وله ولدان. «الكل يعتني بمؤيديه… حتى فتح تساعد فقط من في فتح، بينما كلنا فلسطينيون، ونحن بحاجة إلى مساعدة. الجميع محتاج»‏[18]. «كل طرف له أعضاؤه، يشكلون زبائنه. إذا قام أحد زبائن تنظيم ما بأعمال شغب في المخيم لا أحد يجرؤ على التدخل»‏[19]. إن الشباب الفلسطيني يحتاج إلى نزع هذه الحواجز لتطوير واستعادة الثقة في النظام السياسي. ولكن مع الحرب لاحتكار السلطة بين مختلف الأطراف، من أجل إجماع الشعب على الاعتراف والشرعية، يبقى الجو عاصفاً، وخصوصاً أن نظرة الشباب إلى بعض الفصائل والتنظيمات وقادتهم هي نظرة سلبية، فهم يرونهم عملاء للدولة اللبنانية ويصفونهم بحب الكسب، والرجعية السياسية، والانتهازية، ويصورونهم على أنهم «لصوص»، «تجار القضية الفلسطينية،» يستفيدون من المساعدات المالية لملء جيوبهم، همهم التلاعب، وخداع وإغواء الشباب على العمل معهم لاستخدامهم. يقول عمار، 24 عاماً، يحمل شهادة متوسطة، يعمل كعامل: «كل التنظيمات تتصارع من أجل السلطة، مثل الأحزاب الموالية لسورية باستثناء حركة فتح، ولكنها تعمل حالياً مع الدولة. لا يهتم أي تنظيم بالشعب، لأنهم جميعاً انتهازيون. إنها تعطي صورة سيئة عنا»‏[20].

فعدم وجود القيادة التي تمثل السلطة المعنوية يجعل كتلة الجماهير ليِّنة، سهلة الانصياع. إذ مع غياب القائد وتفاقم «البيروقراطية»، أصبحت الجماهير أكثر فقراً بينما يسعى القادة إلى الحد الأقصى من الربح والسلطة. أضف إلى ذلك أن عدم النضج وعدم المسؤولية من القادة السياسيين في المخيم، جعل كل عضو من أعضاء الحزب لديه الحق في أن يكون مسلحاً للسيطرة على الناس. وبعض القادة لم تتردد لتبرير استراتيجية توظيف جديدة، بتجنيد «البلطجية» تحت حجة إشغالهم عن تعكير صفو النظام العام. فمنذ بضع سنوات نشأ تنظيم جديد في المخيم، يشمل المجندين الجدد والذين بحسب مايا‏[21] «يشربون فقط، هم المدمنون على الكحول». تشكل التنظيمات الآن مساحة للعاطلين من العمل والأميين. فلم يعد التنظيم يلعب دور المدرسة السياسية للتثقيف السياسي والتوعية والأهداف السياسية، والمقاومة، والكفاح المسلح. بل يجد اليوم الأعضاء الشباب كل مصالحهم المادية والفردية في التنظيمات، كالدخل، والأسلحة التي يستعملونها لتعزيز رجولتهم في المحيط والتخويف والترهيب لتلبية رغباتهم وحاجاتهم.

3 – العنف في المجال التربوي والاجتماعي

تمارس المؤسسات الاجتماعية الإنسانية والثقافية والتربوية عنفاً رمزياً يتسم بالهيمنة والتلاعب بحوائج اللاجئين. إذا ما طرحنا مشكلة النظام التعليمي والثقافي في المخيم الذي أصابه الشلل نجد أنه لامس حدود الفشل حد الابتعاد عن غرضه التعليمي حين كان يوماً أحد أسلحة المقاومة الناجحة في زمن منظمة التحرير إلى أن أصبح مجرد مؤسسة تشكل نوعاً من الرقابة والسيطرة الاجتماعية. هذه الرقابة والسيطرة تمارس بمنطق تطبيع الأطفال ومن خلالهم يتم تطبيع العائلة واللاجئين أجمعين. بذلك أدّت المؤسسة التعليمية دورين أحدهما معلن أمام الأطفال، والآخر مستتر أمام ما سيمرر الأطفال لذويهم وعائلاتهم. فنجد اليوم في المخيم عدة مدارس مشابهة لتلك التي انتشرت في أوروبا في القرن السابع عشر، حيث كان هدفها تأطير الأطفال والشباب حديثي السن المهمشين والمشردين لإبعادهم عن خطر الانحراف والإجرام من ناحية، ومن ناحية أخرى، وأكثر أهمية الدولة التي عاشوا بها، وتبطين شخصياتهم على قبول جميع قيم الانصياع للنظام وتمجيد قيم العمل.

عملياً هناك خمس صعوبات تواجه النظام التعليمي في المخيم: أولاً، التمويل، فهذا أثر في توظيف معلمين وقلل عددهم. مثـلاً، طارق هو معلم شاب، يعمل في الأونروا منذ سنة واحدة، يعلم العلوم. مؤخراً، طلب منه مدير المدرسة أن يعلم القرآن للطلاب، فرفض لأنه ليس مؤهـلاً لتعليم القرآن، لكن المدير توجه إليه لأنه من أفضل المؤهلين في هذا المجال في المدرسة. لتجنب هذا، قد حاولت الإدارة حذف المسألة الدينية من البرنامج، ولكن لم يرض الأهل الذين احتجوا على الحفاظ عليه. بالنسبة إليهم، المدرسة هي المكان الوحيد الذي يمكن لأطفالهم تعلم أسس دينية جيدة. فأجبر طارق بشكل غير مباشر على تعليم الطلاب ما هو متأكد منه. أُحرج المدير وأُحرج وليد لأن المطلوب منه أن تعمل المدرسة بأي وسيلة، فيجب على مدير المدرسة أن يفعل حسب الموارد المادية والبشرية لديه. وليس هناك من رقابة وتفتيش، يتم ترك المعلم لحسن النية والظن، وإذا لم توجد لديه، فالطلاب يدفعون الثمن.

والصعوبة الثانية من بعد العدد هناك النوعية، من حيث الاختصاصيين، كمستشاري التوجيه، أو الإخصّائيين الاجتماعيين، ليس لديهم تخصص في هذا المجال، وهم يأتون من مختلف المجالات. وكثيراً منهم، حسب طارق، لا يتفق سلوكهم مع نصائحهم للطلاب، على سبيل المثال، كانت هناك إخصّائية في المدرسة جاءت في زي لا يصلح للمخيم وللمدرسة، تنورة قصيرة وقميص بلا أكمام وتدخن، ودخلت إلى الصف لتوعية الفتيات على أضرار التدخين وكيفية اللباس في المدرسة.

تشكل الوسائل التقنية والمالية عائقاً في التعليم. فمن ناحية أولى، مشكلة أعداد الطلاب في الصف، مرتبطة بتقليص الميزانية، ففي كل صف يوجد بين 40 و45 طالباً، ووقت الحصة 40 دقيقة، يقوم طارق بعملية حسابية بسيطة، يقسم الوقت على عدد الطلاب فيكون لكل طالب دقيقة مع المعلم. إذاً يستخلص أن نظام التعليم في حد ذاته ليس جيداً، ما أدى إلى ضعف أداء المعلمين وعدم مشاركة من جانب الطلاب. بينما إذا كان لديه 25 طالباً في الصف، فسيكون طارق أكثر عدلاً ولديه المزيد من الوقت، ولكن الآن مع فرض التقييم على أساس النتيجة والعدد، فهو مجبر بإنهاء برنامجه السنوي لأنه يقيّم على هذا الأساس. من ناحية ثانية، لم تعد توفر الأونروا سوى الكتب للطلاب. أما طلاب الثانوية، فهم يقومون بدفع 25000 ليرة لبنانية كبدل وضعف المبلغ كوديعة للكتب. أيضاً بالنسبة إلى قلة الغرف فهناك بعض المواد يحضرها الثانويون في المكتبة الرئيسية في المدرسة أو في باحة المدرسة مما يجعل تركيز الطلبة صعباً جداً بسبب صدى الصوت والمقاعد المتعبة. يقضي الطالب ست ساعات في المدرسة دون مساحة جيدة مجهزة لوقت الفراغ أو الاستراحة، فالباحات في حالات متدهورة، لا شيء يحمي من المطر والشمس، ولا شيء يحفز الطفل لقضاء بعض الوقت في المدرسة. توجد مكتبة واحدة لسبع مدارس، وهي ليست مفتوحة في كثير من الأحيان، وأدوات تكنولوجيا المعلومات غير كافية وغالباً معطلة. ليس هناك من غرفة للإسعافات الأولية في حال يتأذى الطفل فالمعلمون يساعدون بعضهم البعض ويعتمدون على خبراتهم. ليس من تدابير للنظافة في المدرسة، فالمراحيض قذرة، ورائحتها تفوح في جميع أنحاء المدرسة، ومياه الشفة في خزانات مفتوحة والحشرات تسقط مع المياه غير الصالحة للشرب.

عدم كفاءة بعض الأساتذة كصعوبة أخرى في النظام المدرسي، تدفع بعض المعلمين لإعطاء دروس خصوصية بعد المدرسة، في المساء أو في عطلة نهاية الأسبوع. بالنسبة إلى طارق، يأتي الطلاب إليه مع إعاقات متراكمة، لا يمكنه وحده إدارتها وتسويتها في بضعة أشهر: «بالنسبة لي تعليم العلوم باللغة الإنكليزية هو كارثة، لقراءة أسماء الطلاب، أطلب منهم أن يكتبوا باللغتين العربية والإنكليزية، فإن الغالبية لا يعرفون اللغة الإنكليزية. أترجم جميع الكلمات والمفردات إلى العربية حتى عبارات الربط ليحفظوها عن ظهر قلب. إذا غيرت كلمة بمرادف أثناء الامتحان لا يستطيعون الإجابة عن السؤال. لتأهيلهم للشهادات الرسمية نكرر التمرين نفسه بكل الطرق الممكنة باللغة الإنكليزية. مرة واحدة أعطيتهم رسماً تخطيطياً لوصف ما يرون، إنهم لم يتمكنوا من الوصف لأنهم لم يتعلموا عن ظهر قلب. ولكن حتى مدرس اللغة العربية يتألم من كثرة الأخطاء عند تصحيح أوراق الامتحانات»‏[22].

عدم المساواة الاجتماعية تترجم إلى عدم المساواة في التحصيل العلمي، فإن عدم المساواة تصبح طبيعية مترسخة في تركيبة المجتمع. وبالتالي نرى جيداً من خلال المثال كيف يمارس النظام المدرسي «العنف الرمزي» من خلال غرس التعسف الاجتماعي في عقول التلاميذ وفرض الهابيتس (Habitus) المتماشي مع التسلسل الهرمي للمجموعات. أشكال مختلفة من الهيمنة يجب أن تتمتع «بالشرعية» وهذا يعني أن تصبح من طبيعة الحياة دون طرح أي استفسار وتجاهل الطبيعة التعسفية لهذه الآليات وكيفية عملها (Bourdieu et Passeron, 1964). ويتشكل «العنف الرمزي» من خلال هذه العملية المزدوجة من الاعتراف/الجهل المصممة لإضفاء الشرعية على مختلف أشكال الهيمنة الاجتماعية في العلاقات الهرمية داخل المخيم.

أما في مجال المجتمع الأهلي فقد ضعفت النقابات والفصائل السياسية وانتشرت ظاهرة المنظمات غير الحكومية. فلم تستطع هذه المنظمات أن تؤدي دوراً أساسياً في تعبئة وتنمية المجتمع الفلسطيني، حيث إن هنالك حلقة مفرغة من التلاعب والروح السائدة من انعدام الثقة في العلاقة بين السكان والمنظمات غير الحكومية. فالمنظمات غير الحكومية تظل معزولة ومقطوعة عضوياً عن القاعدة الاجتماعية: «الأونروا تطعم ولكن لا توقف الجوع. إذا كانت الأونروا فعالة فلا مكان لوجود المنظمات غير الحكومية الأخرى. هم هناك لملء فراغ وعجز الأونروا»‏[23]. «جميع خدمات الأونروا صفر، قبل كانت هناك حملات توعية، وحملات التطعيم، والآن لا يوجد شيء»‏[24]. «لا تستطيع المنظمات غير الحكومية رصد فرص العمل ولا القيام بالتنمية الاقتصادية. يستطيعون الاستماع للمشاكل اليومية وتقديم المشورة، ولكن لا يستطيعون تأمين منزل أو إيجاد وظيفة، فالمشاكل الكبيرة لا تحل. لم يعد عند الناس ثقة في الجمعيات لكنهم مضطرون للتعاون مع المنظمات للحاجة فقط «‏[25].

تقدم المنظمات غير الحكومية نفسها كوسيط محايد، غير مدركة لِبنية الإشكال بين اللاجئين الفلسطينيين والبلد المضيف وتاريخ الصراع. حيث إنها توفر المساعدات دون الحاجة إلى التشخيص الكلي للإشكالية، وقامت بعض هذه المنظمات في المساهمة في عملية «النفسنة» ((Psychologisation للقضية السياسية الفلسطينية من خلال الوسائل المعتمدة بالمعالجة النفسية ووسائل التدخل النفسي من أجل أن تجعل الفلسطيني متجانساً مع بيئته الاجتماعية. لقد أدى كل ذلك إلى دفع المجتمع الفلسطيني إلى الانعزال – الذاتي، أو المحافظة على الوضع الراهن، وهذه الحالة ما هي إلا عنف رمزي يعانيه الفلسطينيون.

4 – العنف الدفاعي نتيجة للعنف التسلطي

أستخلص مما تقدم بأن العنف المنتشر في المخيمات الفلسطينية متشكل بنسبة كبيرة من عوامل تراكمية تاريخية مؤلفة من سلسلة الإهمال لقضية العودة وتحرير الأرض، وعوامل تزامنية منحدرة من الاستثناءات بحق اللاجئين الفلسطينيين من قبل الدولة اللبنانية وعلى المستوى الداخلي عنف الـ «أبارتشيك» الفلسطيني والمؤسسات التعليمية والثقافية والاجتماعية الذين يعاني بسببها الفلسطينيون الذين بدورهم ما زالوا يعانون نتائج المشروع الاستعماري في المنطقة، أو بمعنى آخر الفصل العنصري على شاكلته العربية – العربية.

بناء على ما استعرضناه من العنف التسلطي، يمكن تقسيم العنف المنتشر في المخيم أو الحوادث العنيفة إلى ثلاثة: الفردي والعائلي والعشائري بين الحمولات والجماعات من جراء الضغوط النفسية التي يمر بها الشباب واللاجئون، وأخيراً العنف المسلح كنوع من تفجير الغضب؛ ويعتبر هذا النوع من العنف الأكثر خطراً كونه يهدد بغياب الثقة في قدرة السلاح في العمل المقاوم وتوجيهه ضد المشروع الاستعماري ليتحول إلى أداة ضد الضعفاء من الفلسطينيين.

ثانياً: العنف التسلطي في ضاحية سان دوني الفرنسية

يتناول هذا الجزء العنف في السياق الفرنسي من خلال دراستي الفضاء الحضري في منطقة سان دوني الباريسية وهو ينقسم إلى أربعة أجزاء أساسية تتناول أشكال العنف الممارس سياسياً والمحتكر من قبل الدولة. تسهم الدولة على حد سواء بنشر العنف إما من خلال الممارسات أو المؤسسات أو الأجهزة الأمنية أو السياسات العامة، وتنظم أيضاً المجتمع لمحاربة هذا العنف.

1 – نشر العنف في الممارسات

السياق التاريخي لعلاقة الفرد بالدولة (Badie et Birnbaum, 1979) مهم لفهم انحلال المجتمع اليوم في فرنسا كشكل من أشكال العنف النيوليبرالي (Bourdieu et Wacquant, 2000) وإحدى طرق الدولة المتبعة لعقلانية العنف، أيضاً قياس الزمن وبرمجته كأوقات الدوام والعطل والقيمة المفروضة لاحترامه تمثل هذه العقلانية. فإن الوقت ينظم وينقسم في سلسلة أوقات محكمة وإجلاء الزمن الحاضر. هذا المفهوم الخطير للوقت يقدم معنى واتجاهاً خاصين في الحياة. مع هذا الموقف، فإن الحكومة تحاول احتكار كل الطاقات في المجتمع وتوجيهها نحو المستقبل. ميريام، 25 عاماً، فرنسية من أهل مغاربة، لديها شهادة جامعية وتعمل مع الأطفال، تشعر بهذا العنف التسلطي عن طريق التحكم في الوقت الذي يمنعها من التفكير. بالنسبة إليها، إلهاء الأشخاص عن التفكير يمنعهم من التغيير، لهذا يأتي فعل بعض الأشخاص عبارة عن رد غريزي دون التفكير.

هذه العقلانية الزائدة أو الإفراط في العقلانية يرمز إلى طريقة ​​الحكام بفقدان الحس الإنساني في ممارسة السلطة من خلال إدارة الناس بالإحصاءات والأرقام فقط. تصبح الـ «quantophrénie» مرضاً متكرراً ومعدياً، وهي تعني «الترجمة بشكل منهجي للظواهر الاجتماعية والبشرية في لغة الرياضيات» (De Gaulejac, 2005: 70). حيث تدار البشر والمعاناة والرعاية حسب المعايير المالية الجيدة والقواعد الداعمة لنتيجة إحصاءات جيدة. فلقد حل الاقتصاد محل السياسة، وترك الفرد وحده أمام السلطة اللاإنسانية (Elias, 1991).

2 – آلية نشر العنف في المؤسسات والمجتمع

أتناول أربعة أنواع من المؤسسات، في المجال القضائي والسياسي، التربوي والاجتماعي. فالسجن هو أهم مؤسسة لممارسة العنف ونشره وتطبيع العقاب، بمعنى كما تُعاقَب تُعاقِب فيصبح العقاب اعتباطياً باسم الدولة أو الدين. ثم يأتي النظام التعليمي والاجتماعي في المناطق الحضرية المحرومة ليشارك في بناء العنف من خلال المدارس والجمعيات.

أ – الشرطة

في فرنسا تعيش الشرطة أزمة في شرعيتها ناتجة من ثقافة مقاومة الشباب الفرنسي للسلطة وأشكالها. إن معظم الشباب في سان دوني تعرضوا لاحتكاك مباشر مع الشرطة في مرحلة ما من حياتهم. أدى هذا إلى علاقة متوترة بين الشباب والشرطة. تشتد المواجهة بينهم عندما يكون هناك سوء استخدام للسلطة من الشرطة، وعدم الاحترام والرقابة غير المبررة والمفرطة. فشرطنة أحياء الضواحي لا تعني حمايتها، بل هذا الفعل يغذي ثقافة مقاومة السلطة والاستفزاز ضد ضباط الشرطة بمواقف تعد بالجانحة لأنها تخرق القانون. يقول جيرار 29 عاماً، فرنسي من أهل جزائريين، لم يكمل دراسته، خرج من المدرسة بعد انهائه فترة التعليم الإلزامي، أُتيحت له الفرصة أن يعمل في جمعية من بعد أعمال الشغب في عام 2005: «الشرطة لا تؤمن الحماية على الإطلاق. لا بل، حسب رأيي إنها تشكل خطراً. عندما نرى ما يحدث كل يوم، وتعدي الشرطة على أي شخص، في أي وقت ومكان، أعتقد أن هذا ليس بالحماية»‏[26].

في سن المراهقة تعرض غابرييل وأصدقاؤه للتفتيش في حارتهم من قبل الشرطة. غابرييل يبلغ 30 عاماً، فرنسي، من أصل من هاييتي، لم يكمل تعليمه وهو يشتغل اليوم في التجارة. عثرت الشرطة على بعض الحشيش معهم. كان غابرييل مندهشاً للغاية في موقف الشرطي الذي أخذ الحشيش ووضعه في جيبه واكتفى بتحذيرهم. فعادة يتم سحق الحشيش أو رميه في المجاري. هذا الموقف غير المهني يسبب الكراهية تجاه الشرطة ويولد علاقة من عدم الاحترام المتبادل.

إرسال الشرطيين الجدد إلى الضواحي الباريسية يعطي صورة سيئة عن الشرطة. أطلق الشباب على الشرطة هذه الصفات أثناء المقابلة: «اللعنة على الشرطة»، «أغبياء»، «سيئين». إن الشرطة لا تستطيع التعايش مع السكان المحليين، فغالباً ما تتعاطى معهم بناءً على أحكام مسبقة. ووصف دور الشرطة عند الشباب بأنه يقتصر على أعمال القمع والإدانة في سان دوني، في حين أن في مناطق أخرى يلاحظ هؤلاء الشباب وجود موقف وقائي للشرطة.

يضاف إلى جميع المشاكل العلائقية مع الشرطة في سان دوني، مشكلة خاصة بالمهاجرين، وهو التدقيق في الأوراق الثبوتية. هذه المراقبة تشكل مواجهة حقيقية بين الشباب «الملون» والشرطة. «التنميط العرقي» بالمراقبة على أساس المظهر الجسدي هو مصدر قلق متكرر منذ سنة 1980. بينت دراسة أجرتها مبادرة العدالة في المجتمع المفتوح في خمسة مواقع في باريس، اعتمدت على الملاحظة بين غار دو نور «Gare du Nord» وشاتليه «Châtelet» سنة 2009 عن مراقبة الشرطة للمدنيين حسب العرق. بينت الدراسة أن الشرطة تعتمد، بناء على خبرتها في الجريمة، في كثير من الأحيان السيطرة على الأقلية الظاهرة. ووجدت الدراسة أن الشباب السود والعرب، وبخاصة أولئك الذين يرتدون ملابس مميزة، هي على نطاق واسع ممثلة تمثيـلاً زائداً ضمن الأشخاص الخاضعين لعمليات تفتيش للشرطة. من خلال هذه الدراسة عن الشرطة والأقليات الظاهرة، تم لأول مرة في فرنسا جمع بيانات كمية تؤكد وجود ممارسات تمييزية من قبل الشرطة تجاه الأقليات الظاهرة من خلال التحقق من الهوية في باريس. وعلاوة على ذلك، تعرضت لجنة الأمن القومي والأخلاقيات، المسؤولة عن مراقبة اعتداءات الشرطة، للتهديد بواسطة تخفيض الميزانية بعد نشرها التقرير السنوي لممارسات تمييزية داخل قوات الشرطة في ربيع عام 2005 (Hargreeves, 2006). فلقد أصبح «التنميط العنصري» يعم مجتمع «الخطر»، ويبرر ذلك الشعور بانعدام الأمن العام. لتلبية هذا الطلب الجديد، انفجرت في السوق تقديمات الخدمات الأمنية، كحراس من جميع الأنواع في القطاع الخاص. بدأت البلديات باستخدام أدوات مثل المراقبة بالفيديو، التي تستخدم عادة في أماكن خاصة. فتلفزيونات المراقبة عن بعد لم تعد تقتصر على الأثرياء، بل عمت شركات النقل والسكن الاجتماعي (Ocqueteau, 1999).

نواجه اليوم طرح المشاكل على أنها أمراض شخصية أو فئوية، علماً أن «البحث عن التفسيرات يجب أن يشير بشكل طبيعي إلى الأوضاع الهيكلية في المجتمع نفسه، من خلال آليات نظامها الاقتصادية، كمولدة لكل من الجريمة والوضع الخاص الذي يقع عليه» (Debuyst, 1985: 107). فوصف أفراد الطبقات الضعيفة بـ «الخطرين» و/أو « المرضى» أسهل من الانخراط في الإصلاحات الاجتماعية والاقتصادية أو لتغيير طريقة تفكيرنا. مما لا شك فيه أن هذا السياق يفسر «المسار الحالي لسياسات الدمج، الشمولية إلى سياسات التكامل وتطوير علاجات معينة للسكان أصحاب المشاكل» (Castel, 1995) أو من «ثقافة الصراع إلى عهد الفردية من المشاكل « (Donzelot, 1977).

ب – المؤسسة القضائية

برنار، شاب يبلغ من العمر 30 عاماً، امتثل لأول مرة أمام القضاء في سن الـ 15 عاماً، حيث كان طالباً في المدرسة المهنية في سان دوني. في أحد الأيام عند خروجه من المدرسة مع زملائه، أدرك أنه ليس لديه المال، وكان على الطريق بائع جرائد، لم يغلق باب المحل بشكل صحيح. استغل الشباب هذا وسرقوا كل ألعاب اليانصيب، ولكن كانت هناك كاميرات المراقبة، من ثم تم القبض عليهم.

بهذه الجنحة الطفيفة، بدأت تجربة برنار مع العدالة، حيث وجد نفسه أمام قاضي الأحداث الذي قرر عزله في مركز الأحداث. في هذا العمر استمتع برنار بمواجهة أرض جديدة للهيمنة عليها، وهذا ما سمح القاضي به من خلال عزله. في الواقع، ألقي القبض على برنار وعزل في داخلية «كومبييني» (Compiègne)، ثم تم نقله إلى جنوب فرنسا فتعرف إلى أرض جديدة أخرى. بعد تعارك برنار مع مقيمين هناك تم نقله لمرة ثالثة. بعد تجارب عدة، تمكن برنار من فرض هيمنته في كل مكان يكتشفه. ثم مرة رابعة وهلم جرّاً حتى نهاية إقامته. عوقب برنار، ولكن لم يتم تصحيحه، وتابع من جرائم خطيرة إلى أشد خطورة، وتبارز بهذه الجرائم مع زملائه في المنافسة على الهيمنة، فتوقف عن دراسته وكرس نفسه للمنافسة والهيمنة وكسب الشرعية بهذه الطريقة والسعي لرزقه بطرق غير مشروعة. في سن التاسعة عشرة، تم القبض من جديد على برنار في عملية سطو، حكم عليه بتهمة تنظيم وترؤس جمعية إجرامية، تشمل لص سيارات، تاجر مخدرات، سارق محترف وما إلى ذلك. عند خروج برنار من السجن، كان أمامه خياران: إما أن يستقر ويبحث عن عمل أو الذهاب إلى الناس الذين تعرف إليهم في السجون. يرى برنار في حديثه معي أنه دفع ديونه للدولة وثمن ارتكاب أخطائه وهذا طبيعي ومنطقي.

بيد أن السجن يجمع أشخاصاً ارتكبوا جرائم مختلفة ويمثل وقتاً للتأمل والبرمجة والتخطيط لإجراءات مستقبلية سلبية أو إيجابية، فتقدم السجون المكان الأول للتعارف والتعامل والتنسيق بين أشخاص حكموا على جرائم ارتكبوها ومكان جديد لبلورة أفكار جانحة وجنائية جديدة. غير أن الفرصة سنحت لبرنار فور خروجه من السجن أن يشارك شباب حارته الأصغر سناً من خلال برنامج توعية أطلقته البلدية. ودعمته في تأسيس جمعية صغيرة في محاولة لتثقيف الشباب لحسن السير والسلوك والامتثال للتشريعات الاجتماعية. إذ إن قربه والألفة مع الشباب ساعده على تقاسم تجربته معهم. بعد ثلاث سنوات من العمل في التوعية على «حسن السلوك» وشعوره أنه قدّم كل شيء، قرر برنار تغيير مساره المهني وتوجه إلى عالم الموسيقى.

ج – التفرقة والتمييز السياسي والاجتماعي

الفصل المكاني أو الفضائي هو عنف ممارَس من قبل السلطات كشكل من أشكال العنف السياسي الليبرالي على الصعيد الوطني. فهو يشكل فئات معزولة ومجهولة. فعلى هذا الأساس تم إعمار مدينة سان دوني. أصبح هذا الفصل أيضاً اجتماعياً – هيكلياً، بسبب صعوبة الحصول على سكن وأسعار السوق التي تؤثر في قيمة الأراضي والممتلكات. فتمكن أول مهاجر من استئجار أو شراء شقة في سان دوني حسب ميزانيته، ثم لحق به الكثير من أبناء بلده كل حسب إمكاناته المادية فالتقوا مع أبناء جاليتهم، مما يأخذ شكـلاً عرقياً جديداً. فتجمعت الطبقة العاملة والمهاجرون معاً، تشكلت المدينة من فئات اجتماعية وسكان محددة بالوضع الاجتماعي والاقتصادي والإثني. إلى جانب هذين النوعين من الفصل، يعيش السكان ثلاثة تحديات: محل الإقامة، والتجهيزات العامة، وبُعد المسافة المفروضة بين أماكن العمل والمنزل. أضف إلى ذلك أن هذه الأحياء موصومة بحقيقة أنها أحياء الطبقة الشعبية والعمالية والسكن الاجتماعي الفقير، ما يشكل دلالة سلبية تجاهها (Laborde, 2005 :148). ينتج أيضاً هذا الفصل «جيوب حضرية معزولة» (Wacquant, 2006: 34)، من جنسيات مختلفة ومن فئات متجانسة اجتماعياً. تراكم هذه الفئات الصعوبات ولم تعد مؤسسات الجمهورية قادرة على الاستجابة. فمع هذه القضايا والصعوبات التي يعيشها الشباب يضاف العنف الأصم وغير المسموع من المؤسسات في هذه المناطق في الحياة اليومية للناس. وقد أدى هذا العنف الأصم إلى الصعوبات التي يعيش فيها الناس كحقيقة منذ ثلاثين عاماً وهم يدركون أن وضعهم لن يتغير دون التزام جاد من الدولة لأن كل المحاولات قد باءت بالفشل.

هذا الجمود الاجتماعي الممنهج للطبقة العاملة في فرنسا وتجميعها في منطقة منفصلة دونية «يشكل انتهاكاً صارخاً للأيديولوجية الفرنسية لمواطنة موحدة ومساواة ومشاركة دون حواجز في المجتمع الوطني» (Wacquant, 2006: 185). تترجم الأيديولوجيا الفرنسية بأيديولوجيا المساواة التي هي متأصلة بقوة لدى الشباب في سان دوني. رغم ذلك، لم تعد الجمهورية تستطيع السير في المساواة فتصبح هذه الأيديولوجيا مصدر إزعاج وعار للشباب الذين آمنوا بهذا الحلم الجمهوري واعتنقوه. فبهذا، أصبحت الجمهورية انتقائية، ترمي الفاشلين وتختار الناجحين: «المشكلة ليست فقط أننا أجانب. ليس هذا فقط، بل ألقوا بنا على الهامش، أن… دبِّروا أنفسكم! هذا هو الشيء. بعد ذلك… تتألف العصابات… وبعد ذلك لا يستطيعون السيطرة على شيء و«آآآه! فرنسا تحترق!». لا عجب! لأنهم لا يفهمون الشباب!»‏[27]. فبالنسبة إلى الشباب، إذا أصبحت مجموعة من المهاجرين معروفة في الرياضة غداً، ومعترف بقدراتها من قبل الجميع، فهم لا يعرَّفون كسود وعرب بل كفرنسيين، ولكن إذا أصبح أحدٌ منهم مجرماً فيعرف عنه بأصله الأفريقي أو الإسلامي – العربي: «إذا أصبحت مجموعة معروفة في الرياضة غداً، ومعترف بها من قبل الجميع، لا يعرَّف عنها بلونها الأسود ولكن بجنسيتها الفرنسية، ولكن إذا أصبح سفاحاً، فسوف يعرف عنه بجنسيته الأفريقية وليس الفرنسية (…)، وأولئك الذين نجحوا، لا يعرَّفون كسود، أو بيض، أو عرب، بل ببساطة فرنسيين‏[28].

يرى برنار أن فئة الشباب هي الفئة الأكثر إهمالاً، فهم المنسيون في المدينة. إذ إن إدارة المدينة بنت كثيراً في وسط المدينة، لكنها تجاهلت شيئاً واحداً: ملعب لكرة القدم. للترفيه، يأخذ برنار الشباب الصغار إلى أحياء أخرى وينظمون مباريات مع مراكز الشباب. يذهب هؤلاء الشباب سيراً على الأقدام إلى مدينة أخرى للعب يوم الأحد. من خلال مثال برنار تحرم مدينة سان دوني الشباب من مكان عام لهم. من خلال هذا الحرمان البيئي لا يقدم صنّاع القرار اعترافاً رمزياً للشباب.

روني محام شاب يبلغ ثلاثين عاماً، ملتزم سياسياً، هو من بين الشباب الذين يدعون بصوت عال إلى تحقيق الحلم الجمهوري، انخرط سياسياً للتغلب على أوجه القصور في الخدمة العامة في سان دوني وضمان المساواة للمواطنين. هذه اللعبة السياسية وهذا التخلي الرمزي والمؤسساتي عن الشباب، وهذا العجز يمنع الشباب من تطوير وسائل التواصل مع السلطة السياسية، الأمر الذي يدفعهم إلى التمرد للتعبير عن اتهام السياسات بإبقاء هذه الفئات متمردة وعنيفة في التعبير.

إذ إن استراتيجية السياسات العامة في الإهمال والإبعاد في الضواحي، يغرق المقيمون والشباب في حالة من الخمول الفكري واليأس. هذا التقسيم المكاني والاجتماعي يساعد في السيطرة والحد من تطوير الشخصية للفرد بأي وسيلة. بسبب القصور في السياسات العامة، يتجه الكثير من السكان إلى الخروج من سان دوني حين يتسنى لهم ذلك، فتصبح المدينة مكاناً للمرور لا للإقامة الدائمة. فتقصير المؤسسات الاجتماعية في هذه المناطق يسبب الغضب و«المعاناة الاجتماعية» بين المواطنين من جهة، والغضب بين العاملين الاجتماعيين الذين لا يمتلكون الموارد الكافية للمساعدة فيضطرون إلى تطوير استراتيجيات الدفاع.

د – التمييز والعنصرية شكل من أشكال الهيمنة

يتم استخدام العديد من المصطلحات ذات الصلة بالدمج في محاولة للتفسير، كالتكامل والتكيف والتثاقف والاندماج والاستيعاب للدلالة على الآخر المختلف، وهذا على الأرجح هو السبب في كل مشاكل الوطن. فالوحدة الوطنية هي دائماً ضد عدو خارجي. ففي فرنسا، لرفع الشعور القومي، لزمت قرون عديدة لإسكات العنف بين الجماعات من خلال توفير كائن خارجي، الأمر الذي شكل استياءً مشتركاً للمجموعة. بهذا الصدد تم نشر أيديولوجية التحيز العنصري للتحقيق والحفاظ على هذه الوحدة. فتعالى مع هذه الأيديولوجية الفخر الفردي، ليعطي الفرد صورة مثالية عن نفسه، متفوقة على أعضاء من خارج المجموعة، والذي يتجلى في العنف العنصري.

إن عدداً من الشباب الذين قابلتهم، والذين لديهم اسم عربي أو الذين هم من السود، عانوا عدة مرات من التمييز العنصري، ناهيك بالشتائم العنصرية التي هي سلوكيات شائعة مثل «الزنجي القذر». ميريام تشكل نموذج من الشباب الذين واجهوا صعوبات لإيجاد عمل. اتصلت ميريام عدة مرات للتقدم لوظيفة، كل مرة كان يتم رفضها بعد سماع اسمها العربي. نجحت مرة أخيرة بأخذ موعد بعد أن تقدمت باسمٍ فرنسي. حينها ذهبت وطالبت على الفور بإعطائها الوظيفة وإلا ستقدم شكوى ضدهم تتهمهم بالعنصرية. في الواقع، يعكس الفصل العنصري فشل المواطَنة. ولد هذا الفصل في فرنسا من «الفجوة التي فتحت بين تطور الحياة الاجتماعية والتشديد على التكامل، كطريقة حصرية لتعريف وبناء مجتمع وطني» (Lapeyronnie, 1993: 61). فالنجاح الاجتماعي هو جواز السفر للحصول على المواطنة الكاملة، لكن هذا النجاح قائم على الاندماج الذي يجب تعزيزه بالانتماء الاقتصادي والثقافي والقومي إلى المجتمع الفرنسي. فالدولة هي المسؤولة عن كل ما يحدث حسب الشباب، يقول داني: «الحقيقة هي من هذا القبيل منذ 30 عاماً… منذ 30 عاماً هناك أشخاص مثلك يأتون إلى الأحياء ومنذ 30 عاماً هناك الملايين من الجمعيات الموجودة للشباب، اليوم والأمس القرف نفسه، لماذا لا تتغير الحالة لأنها الدولة، إذا كنت ترغب في تغيير شيء في العالم فيجب أن تستهدف الدولة، وليس نحن»‏[29].

يتم إقصاء المهاجرين بسبب اتهامهم باختلافهم وعدم انتمائهم إلى الحداثة. كان غبريل أحد المستبعدين، «عنصرياً» بسبب لونه في المدرسة. عندما وصل غبريل إلى مدينة سان دوني، في أواخر الثمانينيات، لم يكن هناك الكثير من السود، وقال إنه وجد نفسه الأسود الوحيد في الصف مع خمسة تلاميذ من شمال أفريقيا، وأربعة من أصول برتغالية وفرنسيين والقليل من أصول أخرى. عانى العنصرية من بعض «البيض» وعنصرية شاملة مع رفاقه ضد المهاجرين.

إن عملية الاندماج في المجتمع الفرنسي المضيف تعتمد على عدة عوامل كالمسافة الثقافية، والموارد الاجتماعية والاقتصادية للمهاجرين والفرص التي تتيحها سوق العمل والقواعد القانونية المعمول بها (Lapeyronnie, 1993). فكل هذه العوامل تزيد أو تقلل صعوبات الدمج وفترته الزمنية. فعملية انغلاق المجتمع الفرنسي لاستقبال المهاجرين القادمين بمعظمهم من أفريقيا والمغرب العربي، يسلِّط الضوء على الاختلافات الثقافية التي تحد من فرصهم في سوق العمل المسيطر على الموارد الاجتماعية والاقتصادية. فهؤلاء الأطفال ولدوا على الأراضي الفرنسية من أهل مهاجرين، ولكن يشعرون كشباب بأنهم فرنسيون ولكنهم لا يعتبرون من قبل الآخرين كفرنسيين «أصليين». بالإضافة إلى ذلك، يتفاقم هذا الانزعاج من إغلاق بلدهم الأصلي لهم واعتبارهم كسياح.

فهؤلاء الشباب يعيشون عنصرية متعددة على خلاف تنشئتهم الاجتماعية حسب لونهم، وبيئتهم، ومكان إقامتهم. هم يوصفون ويحكم عليهم بالعنف ويخضعون للعنصرية بسبب لهجتهم ولباسهم على غرار لونهم ومظهرهم. على خلاف مقاربة الاندماج يشبه لابيرونيه (Lapeyronnie, 1993) عملية اندماج المهاجرين بعملية التنشئة الاجتماعية. تعتبر هذه المقاربة غير تمييزية. فعملية التنشئة الاجتماعية تنشأ الفرد أياً كان أصله ليصبح عضواً في المجتمع، في حين أن عملية الدمج هي دائماً أكثر صعوبة بسبب الظروف وانفتاح وانغلاق المجتمع المضيف. إذ من أهم شروط الاندماج الناجح هو العامل الاقتصادي للشخص.

الوصمة ووضع العلامات

يُعرَف سكان الضواحي بمواطني «الدرجة الثانية». فمنذ هذا التعريف، تحاول السلطة منحهم فرص وجود في المجتمع، وخصوصاً في العمل المرئي ووسائل الإعلام. فالشباب القاطنون في هذه الأحياء الموصوفة بـ «الصعبة»، و«الحساسة»، يعانون سمعة سيئة. فتوضع لهم علامات على أنهم «جانحون»، «بلطجية»، و«عنيفون». هذه العلامات تعوق جهودهم في التحسن والتقدم.

فالشباب العرب والسود يشعرون بوصمهم من نظرات المارة في الشارع، الذين مثـلاً يعبرون إلى الجانب الآخر من الطريق، أو يخفون جيداً حقيبة اليد. فهذه النظرة والحكم والاشتباه بهم، وإرسال صورة سلبية لهم عن أنفسهم، تدفع الشباب إلى اعتماد الصور السلبية نفسها بالتعبير عن الذات.

يعتقد روني أن الشعب يحث الشباب على العنف من موقفه تجاهها. في الواقع، إن هذه الظواهر هي مستمدة من عملية التصنيف التي تجمِّد صورة الجماعة وتثبت مسبقاً المواقف بإصدار الصور النمطية والأحكام المسبقة (Dorai, 1991; Goffman, 1975). هذا التوقع نحو شباب سان دوني ينتج قيوداً وأنواعاً وأدواراً مثل «العنف» للتفاعل مع توقعات الآخرين. والشباب المتسربون من المدارس هم عرضة أكثر من غيرهم للوصمة ووضع العلامات.

فشباب الضواحي هم عرضة للبطالة والتحيز والعنصرية، بذلك يجدون أنفسهم محرومين من الصعود الاجتماعي من خلال التمييز الاقتصادي. رداً على هذا التمييز، يطرح بناء هوية هؤلاء الشباب في جدلية الإدماج والإقصاء، حيث ترد المجموعة المضطهدة على ذم هويتها بفرض هوية جماعية «نحن» مهيمنة وقوية بشتى الوسائل.

و – العنف في المؤسسات الاجتماعية والتربوية

في حين أن فرنسا كدولة – راعية لم تتمكن أن تلتزم بوعودها المتساوية بين المواطنين، لجأت الدولة الفرنسية لإدارة المشاكل الاجتماعية. فأزمة الدولة الراعية جاءت كفرصة لإعادة توزيع مسؤوليات أخرى على المستوى الجماعي. في هذه الأزمة، أعادت الدولة تعريف دورها كمحفز بدلاً من منظم اجتماعي، وفوضت العمل الاجتماعي إلى الفاعلين الاجتماعيين في القطاع المحلي والقطاع الخاص، من خلال قانون اللامركزية الشهير الصادر في 2 آذار/مارس 1982 «حقوق وحريات البلديات والإدارات والمناطق». وقد نقلت الدولة مهاراتها إلى السلطات المحلية لتوفير الاستجابات الملائمة للأوضاع المحلية للإدارة السليمة اجتماعياً.

في سان دوني، المدينة تتبع نهجاً سياسياً يقوم على «الثقة والدعم لمشاريع للشباب مع تفضيل برامج ثقافية، تربوية، تدريبية وتوظيفية». بالرغم من ذلك، فالشباب يجدون أنفسهم في «موقف البؤس» وفي «حالة من البؤس»، هذان الشكلان يتم إنتاجهما اجتماعياً وأحياناً من المعاناة النفسية التي تؤدي إلى المعاناة الاجتماعية. تعمل المدينة من أجل «السلم العام» من خلال الجمع بين «الوقاية والردع والعقاب والمساعدات للضحايا». فإن مهمة «السلم العام» تحوي الهندسة الأمنية وعقد الأمان المحلي ومجلس الأمن المحلي ومنع الانحراف. تم تقديم هذه المهمة من قبل ثلاثة أقسام للبلدية: الشرطة البلدية، خدمة ضباط أمن الطريق العام وخدمة الحراسة على البيئة. ففي عام 2000، وقعت المدينة عقد الأمن المحلي، حيث تم إنشاء العديد من برامج الشراكة بين الدولة والمدينة والجمعيات. يشمل هذا العقد، تعزيز التضامن وهدوء الجوار، التأمين والوساطة في الأماكن العامة، التأمين والوساطة في المدارس، الوساطة والأمن في النقل، الوقاية والدعم للأشخاص خارج المنظومة الاجتماعية. تأمين الأنشطة والخدمات الاقتصادية، الشرطة وسكان الأراضي المحلية. جاء هذا العقد من أجل العدالة والوصول إلى قانون القرب. وقد عزز هذا العقد إنشاء المجلس المحلي للأمن ومنع الجريمة (CLSPD)، فإنه يجمع ما يقارب 150 فرداً من ممثلي المؤسسات والسكان. يعتبر السكان من الشركاء المؤسسين لقوة الاقتراح المتجذرة في الحياة اليومية. هم معينون من قبل مديري مشروع «نهج الأحياء» على أساس تطوعي، وجودهم يميل إلى «كسر» الجانب الرسمي والمؤسساتي للمجلس المحلي للأمن ومنع الجريمة، عن طريق إدخال قوة الاستجواب من خلال «خطاب المواطنين».

أما بالنسبة إلى النظام التعليمي، فمع فشل السلطة والانضباط، تصبح مهمة المدرسة في انضباط الأفراد مهمة صعبة. في سان دوني، المثل الأعلى الديمقراطي المنشود في القرن الثامن عشر من قبل كوندرسي لتعليم الناس بهدف تمكينهم لم يتحقق بعد. فمنذ عام 1981، تشير جميع سياسات التعليم، في الخطاب الديمقراطي المحلي، إلى البيئة الأسرية كعائق للتقدم في المدرسة. مع كل التعليم الذي تقدمه المدرسة، فهي تقسم عن طريق الاختيار على أساس الأصل الاجتماعي في التعليم الابتدائي والحد من التخصصات وفقاً لمكان الإقامة.

كان جيرار في الصف الثاني متوسط عندما قُرر تحويله نحو المهني. جيرار يعترف بأنه لم يكن طالباً جيداً، ولكنه كان يفضل البقاء في التعليم العام وليس المهني. قرر مستشار التوجيه أن يختص في «الكهرباء». وقد علم هذا في حياة جيرار، من خلال هذه القصة فهمت لماذا رفض منصب مستشار التوجيه، ورأى نفسه غير قادر أن يكون مسؤولاً عن مستقبل الطلاب، وقال إنه لا يمكن أن يجعلهم يعانون ما مر به: في الواقع تم رفض النظام المدرسي لي، وضعوني في… أردت أن استمر في التعليم العام، لم أكن أعرف ما أريد أن أفعله. حسناً يبدو أنه لم يكن لدي المستوى المطلوب، ثم وضعوني في إحدى المدارس الثانوية الخاصة بدلاً… المدرسة الثانوية… فتعرفت إلى الزعران. وكان معظم الشباب في هذه المدرسة خارجين من السجن. لذلك… تعلمت أشياء كثيرة [ضحكة مكتومة] كان خطأ… هذا كل شيء. لأني أعتقد أني لو كنت قد واصلت دراستي، كنت أحمل شهادة اليوم‏[30].

في فرنسا يتم اختيار الاختصاصات بحسب مدينة الإقامة. لشرح وضع التمييز في التعليم يقارن غابرييل دائرة سين سان دوني 93 مع دائرة 92 السان الأعلى، وبرامج التوجيه المقترحة في الدائرة 92 وتوجيه البرامج في نهاية الكلية في دائرة 93 هي مختلفة تماماً: ولكن بطبيعة الحال في فرنسا، وبطبيعة الحال (التركيز الشديد) الاختصاصات محدودة للغاية ثم إذا كنت تريد أن تفعل شيئاً عليك أن تطالب وتكافح، وبصراحة حسب كل دائرة‏[31].

فإن اختيار الطلاب في مختلف القطاعات ليس محايداً، يقوم هذا الاختيار بناء على الأصل الاجتماعي وليس على «المهارات الشخصية» لكل فرد. وهذا يقسم التلاميذ وفقاً لمتطلبات نظام الإنتاج، ويبدأ التحديد في المدارس الابتدائية حيث يتم استغلال الفوارق الاجتماعية بين الأطفال من أجل توزيعها. فقد أكد دبوديلو (Baudelot) وإستابليه (Establet) في عام 1975 هذا الاختيار منذ الصفوف التمهيدية. فالمدرسة تدعي «المساواة في الحقوق» بين أفراد هم في الواقع غير متكافئين. وبهذا تكون أداة للاستنساخ والسيطرة بدلاً من أداة التكامل حول القيم الإنسانية والعالمية.

بالإضافة إلى ذلك، المدرسة تولد اثنين من أشكال الإقصاء: الفشل الدراسي والتسرب. هناك بطبيعة الحال وجود صلة قوية بين التسرب والفشل. لقد رأينا من خلال المقابلات أن الفشل يبدأ في الغالب في المرحلة الابتدائية. الفشل المتراكم في الابتدائي يحدد اتجاه الطلاب في التعليم الثانوي. صوفيا تؤكد هذه النظرية. فخلال المقابلة، أعربت عن غضبها تجاه الوسائل المتبعة في التربية الوطنية منذ الابتدائي لاختيار الطلاب: «نخضع منذ الطفولة لاختبارات الشخصية، وتلحق هذه الملفات بنا حتى التكميلي وسوف يحدد هذا حياته المستقبلية… وأنا على ثقة بالمعلمين ولكن ليس في التعليم».

منذ تمديد التعليم الإلزامي، تمأسست العلاقة بين التأخر الدراسي في المدارس الابتدائية والتوجه نحو التعليم المهني عملياً. وتوجه الطلاب الذين لم يكملوا التعليم الابتدائي بعد سبع سنوات من الدراسة نحو صف لاستقبالهم، نقطة البداية المعتادة للتدريب المهني، لا يوجد فيهم أولئك الذين يريدون تعلُّم مهنة، ولكن أولئك الذين ليس لديهم إمكانات الحصول على تدريب آخر. هناك عوامل كثيرة للفشل والتسرب المدرسي.

أولاً، تفرض جميع المواد الدراسية التعليم المكتوب والشفهي باللغة الفرنسية في المدرسة. ولكن أثبت أن إتقان اللغة الأم يبدو مرتبطاً ارتباطاً وثيقاً بالبيئة الأسرية. من ناحية ثانية، مواقف وتوقعات المعلمين تجاه طلابهم تعتمد على التصور الاجتماعي لديهم عن تلامذتهم. وهكذا فإن النصيحة التي يقدمها المعلمون عن الخيارات الوظيفية لا تعتمد فقط على المهارات المدرسية الفعالة ولكن أيضاً على الأصل الاجتماعي، فيبدو أن الحل للفشل والاحتياط منه هو التسبب فيه. هذه هي نظرية «العلامة» (Etiquetage). ثالثاً، سوء تمثيل الطبقات العاملة في المستويات العليا من المناهج المدرسية يعكس «عدم المساواة في الاختيار»، وتظهر الدراسات أنه حتى في النجاح المتساوي، فاحتمالات متابعة الدراسة تختلف وفقاً للحالة الاجتماعية. في الواقع، هناك تراجع من الطلاب من الطبقة العاملة إلى التخصصات السهلة أو الأقل انتقائية. غير أن الأداء والنتائج المدرسية للطلاب من خلفيات محرومة متنوعة. يجب الأخذ بعين الاعتبار أن نجاح الطلاب من خلفيات محرومة لا تدرس بشكل صحيح كما يقول بورديو. في الواقع، تم إجراء العديد من التحقيقات عن الفشل في المدرسة من قبل أطفال الطبقات العاملة، ولكن قليلة هي الدراسات عن النجاح الفعلي للغالبية منهم في التعليم. وهذا هو ما يسميه بورديو منطق «وصمة العار». فيصبح الفشل في المدرسة من سمة الطبقات الشعبية والفقيرة.

روت لي ميريام قصة أحد أصدقائها المهمشين والمحقَّرين من قبل المعلمين من المرحلة الابتدائية. وقد تحولت هذه الوصمة إلى التشجيع من قبل أساتذة في الكلية الذين رأوا فيه طالباً جيداً على الرغم من الصعوبات التي يواجهها. أصبح مهندس كمبيوتر لأن بعض المعلمين انتهكوا قواعد المدرسة بعدم وضع علامة الفشل عليه وتطوير مهاراته. كان لديه مشكلة في الكتابة (Dysorthographic)، لا يمكن أن يكتب دون ثلاثة أخطاء في كل كلمة، وقد أصبح مهندس كمبيوتر. ولكن عندما كان في المرحلة الابتدائية كان الأساتذة يقولون له: «لن تنال حتى الشهادة المتوسطة»، كان والداه وراءه لدعمه، وكان التقى بمعلمين آخرين يقولون له: «صحيح أنه لا يمكنك الكتابة ولكنك لست غبياً لذلك عليك الاستمرار»‏[32].

3 – ردود الفعل الشعبية على العنف التسلطي

ردات فعل الشباب ممكن أن تكون سلبية أو إيجابية وتتخذ أشكالاً مختلفة، بما في ذلك ظهور المقاومة الشعبية بالمواجهة الواضحة أو المأسوية، أو الخضوع كمقاومة صامتة ولكن هذا الخضوع الطوعي هو فقط بالمظهر. في واقع الأمر هو حيلة لإرادة الحياة الفردية والاجتماعية. إنها مقاومة تعبِّر بشكل مستمر ومتكرر عن غريزة الحياة. هذه الأشكال من المقاومة تسمح للفرد بلعب دوره والبقاء على قيد الحياة من خلال الممارسات اليومية المختلفة.

«أنا أستهلك، إذاً أنا موجود»

المقاومة الأولى للإقصاء عند الشباب هي الاستهلاك، بدافع الرغبة في المماثلة والاعتراف بهم. يسعى الشباب إلى امتثالهم للنموذج السائد الذي يؤثر في احتياجاتهم للهروب من الإذلال ورفض المجتمع لهم. اليوم، يختار الشباب في سان دوني ثيابهم على أساس المظهر قبل النوعية، فينتقون الملابس والأحذية من العلامات التجارية الكبرى الأوروبية والأميركية. هذا الاستهلاك يخضع لرغبة التمييز الدائم، يحفزه المسوقون الذين يحاولون إنتاج «الحاجات الجديدة» من خلال تقديم منتجات جديدة، فتتحول الرغبة إلى حاجة. تتحول، بذلك، الطبقة الشعبية، المؤلفة من العاطلين من العمل والعمال الصغار المستغلين، إلى طبقة شعبية مؤلفة من «المستهلكين» (Touraine, 1993: 168)، وهي تعتمد على الموارد غير الرسمية وغير الشرعية في بعض الأحيان. الحيلة والسرقة والابتزاز والدعارة و«الاقتصادات الموازية» تشكل وسائل للتطور الاقتصادي للشباب الذين يواجهون صعوبات. فالمستَبعدون والمهمَّشون، هم ضحايا المنافسة الاقتصادية ويواجهون صعوبة كبيرة في إدارة هذا التوتر من خلال الطرق «التقليدية» والمشروعة لأن لديهم موارد قليلة ولا يسيطرون على بيئتهم الاجتماعية. بتحقيق المشروع الاقتصادي الخاص بهم يصبحون مشمولين ومندمجين في المجتمع بالنسبة إلى الطبقة الحاكمة. فالتحريض على الاستهلاك هو سياسة الليبرالية الجديدة، وقد زاد ذلك من خلال العولمة، فالسوق تهيمن على الحياة الحميمة واليومية للناس.

الشغب: سلوك اجتماعي جماعي

إن أعمال الشغب والصراعات لا تنشأ فقط لمكافحة عدم المساواة أو الاستغلال، وإنما من حيث «[…] طلب الاعتراف، ورفض الاحتقار والخوف من الإبعاد .(De Gaulejac et Bonetti: 1989: 41) تحدث جيرار عن الحاجة إلى الاعتراف بالامتنان للعمال المهاجرين الأوائل، ورفضه أن يعيش أولاده ازدراء عاشه هو.

فقد درست أعمال الشغب على نطاق واسع في جميع التخصصات في العلوم الاجتماعية في جميع أنحاء العالم. فجميع الدراسات أشارت إلى أن البطالة هي من العوامل الهيكلية لتأجيج أعمال الشغب. هذه الاضطرابات هي ردة فعل من شباب ينتمون إلى فضاء حضري مصقول بالبطالة، ما يحرمهم التنمية الاجتماعية والنفسية والاقتصادية. ففي سان دوني، خلال أعمال الشغب عام 2005، والتي أثرت في كل فرنسا، إتبع الفاعلون المحليون في المدينة عدة طرق ومفاوضات مع الشباب لتهدئتهم. على سبيل المثال، بادر مدير مركز للتسوق في سان دوني إلى إنشاء جمعية لتوظيف الشباب العاطلين من العمل. هذه الجمعية، وفقاً لجيرار، كانت المفتاح لـ «السلم الاجتماعي». بدأت الجمعية بالتعاقد مع الشباب، ثم رتبت لإجراء اتصالات مع شركات لسد الفجوة بين طالبي العمل من الشباب وشركات التوظيف بكفالة الشباب. هذا الرد خلق فرص عمل ومكاناً في المجتمع لمجموعة من الشباب. هدأ الشباب لأن الجهات الفاعلة المحلية ترجمت أقوالها إلى أفعال طال انتظارها من قبلهم. فقد أعطى هذا العمل فرصة للشباب لإعادة بناء الهوية الشخصية، وتفكيك التهميش الاقتصادي وشغور مكان في سوق العمل.

في الحياة السياسية الحالية، يعتبر الشباب من الأموات الأحياء المستبعدين ويتنافسون على الاعتراف بهم من خلال العمل. فالشباب الذين يتمكنون من الحصول على عمل، يعتبرون أنفسهم من الطبقة «المهيمنة» وينظرون إلى رفاق الطريق، والطفولة والحي على أنهم فاشلون، ومستبعدون، فهم يتحملون مسؤوليتهم من الفقر والاستبعاد.

الالتزام السياسي

المشاركة السياسية للشباب هي شكل آخر للرد على العنف التسلطي، هي طريقة تقليدية تلبي قوانين الجمهورية والمشاركة الديمقراطية. اثنان من الشباب أعضاء ومؤيدي الحزب السياسي «الخضر». يتخطى التزامهم التصويت، ليجسد رغبة داخلية للتغيير والاستحواذ على السلطة. وبالتالي، فإن فكرة أن الفرنسيين من أصول مهاجرة وأولئك الذين يعيشون في المناطق المحرومة بعيدون من القضايا السياسية بحاجة لإعادة نظر. في سان دوني حزب «الخضر» أعطى لذة في الالتزام السياسي للشباب لم توجد في النموذج الجمهوري في إشراكهم في الشؤون المحلية للمدينة. هذا الالتزام هو عارض من أعراض «المزاج السيئ السياسي العميق» لدى الفرنسيين (Perrineau, 2007).

التقيت روني ومامادو، في الفترة التي كانوا يستعدون فيها لانتخابات البلدية سنة 2008 كطريق للتغيير. داخل حزب «الخضر»، يجد الشباب هامشاً من الحرية السياسية، وبالتأكيد المعنى السياسي لتجربتهم. أنشئ هذا الحزب في فترة من الجمال السياسي عقب عام 1968. مع الشعور الجماعي بالأزمة، يجد الشباب متطلبات الحياة السياسية في الحزب حيث يعتبر مشروع البيئة السائد لعالم مستدام. الانضمام إلى «الخضر» هو الالتزام السياسي الأول لمامادو وروني. يحاول مامادو تطبيق بعض القواعد البيئية في حياته، على الرغم من أنه يقول أنه ليس بالأمر السهل. هناك شباب آخرون يسخرون من التزامهم. فأثناء حديثي مع روني، مر أحد أصدقائه الشباب وقاطعنا، قائلاً: «إنه حلم لعالم حيث سيكون هناك المزيد من أشجار النخيل، الأوراق الخضراء أقول لك ماري، لا أؤمن بالأخضر، ما يهم بالنسبة إلينا هو الباطون». هذه الجملة كاملة المعنى تلخص الأولوية للنضال السياسي لبعض الشباب في الضواحي. فسياسة البناء في المناطق الحضرية ضد منطق الإقصاء أولوية واضحة خلف السخرية من تحجيم سياسة حزب الخضر نحو الالتزام بالبيئة، والمساحات الخضراء.

خاتمة

تمثل دراسة العنف في الحالتين اللبنانية والفرنسية أهمية كبرى؛ فهي تمكننا من متابعة ما هو ثابت ومتحول في الممارسات العنفية رغم التباعد بين السياقين. ففي السياق اللبناني والسياق الفرنسي، ينقسم المجتمع إلى قسمين: المستبعدين الذين لا مكان لهم وهم الفاشلون، والمندمجين في المجتمع. هذا التمييز فرض أشكال عنف سائدة تعانيها الفئات المضطهَدة في الحالة اللبنانية والحالة الفرنسية. في الحالتين بنيت فضاءات لتجميع سكان ينتمون إلى نفس الفئة الاجتماعية، بنيت المخيمات منعزلة قرب المدن للاستفادة من اليد العاملة الفلسطينية؛ وبنيت ضاحية سان دوني لتجميع العمال المهاجرين في نفس المكان ثم لحق بهم الفرنسيين الذين ينتمون إلى الفئة نفسها. يعيش هؤلاء الشباب عنفاً تسلطياً اقتصادياً واجتماعياً، بالإضافة إلى العنف الرمزي من خلال العنصرية والتمييز والتهميش للضعفاء والأكثر حرماناً.

في الحالة الفلسطينية، داخلياً هناك إشكال ليس فقط في المجال السياسي الفلسطيني ولكن أيضاً في المجال التربوي ومجال المجتمع الأهلي. فمن جهة المجال السياسي، إن شلل الحركة الوطنية الفلسطينية كمنظمة التحرير، وشلل السلطة السياسية في المخيم الفلسطيني سبب انفجار أعمال العنف بين اللاجئين. بمعنى آخر الشلل: للخلية «الفرد» ولترتيب المساحة في المخيم، ولأوقات العمل واللغة المفهومة ضمنياً في المجتمع كمعايير الصورة التمثيلية للشرف وللسرقة وللنهج الاجتماعي. بهذا الشلل غابت كل هذه العوامل التي تخلق «الجسد الاجتماعي المذعن» للمعايير الاجتماعية والنسيج الاجتماعي المنضبط والقابل للتعايش وخصوصاً في الحالة الخاصة لفلسطينيي لبنان. أما خارجياً، فيشكل الاستثناء المتبع من قبل الدولة اللبنانية إلى خلق حالة عنف عام بين الشباب. تحاول الدولة اللبنانية بهذا الاستثناء حماية اللبنانيين وحفظ حق الفلسطينيين ووقايتهم، فبالاستثناء تحاول تمييع العنف التسلطي الممارَس على الفلسطينيين.

أما في الحالة الفرنسية، فتحاول الدولة للسيطرة على العنف وتعميمه السيطرة على جميع جوانب الحياة وتحكمها بالاحتكار الإداري العقلاني. من خلال احتكار العنف، تسعى الدولة لمنع العنف الخاص الذي هو عرضة للإدانة وأوجدت «أيديولوجية تأمين الحياة الاجتماعية».

فإن عقلانية العنف التسلطي تمر، من خلال مراقبة الوقت، والانحلال والوحدة وتسمح لأصحاب السلطة بتملك كل الطاقات. فهم يحددون ما هو طبيعي ويحددون الانحراف والخلل، ويضعون خطة للتعامل مع «الغير الطبيعي». في مقابل احتكار العنف، تعد الدولة مواطنيها بالأمن للجميع. في الواقع، تفرض الدولة على المجتمع المدني التزام هاجس الأمن. لهذا تم تأسيس الرقابة الاجتماعية من قبل الدولة، وإشراك المواطنين. وقد أدى هذا إلى إضفاء الطابع المؤسساتي من خلال وظائف جديدة حفز جزءاً كبيراً من المجتمع على احترام النظام الاجتماعي. تم تأسيس هذا الإشراف الاستراتيجي من قبل جميع أجهزة الدولة ضمن الديمقراطية القائمة على المشاركة والشراكة. إن التعاطي بشكل إداري مع المشاكل الاجتماعية يؤدي إلى مأسسة التضامن ومنع العنف من وجهة نظر أمنية.

فمع الإقصاء، انهار مبدأ المساواة، فإن فرص الحصول على السلع المادية والرمزية التي تقدمها الجمهورية تصبح غير متكافئة. انعدام الأمن هزم السلامة، والظلم هزم المساواة. تدعي الدولة أنها تعمل على إزالة الفوارق بين الأفراد، فالمعادلة هي بيروقراطية، تعزل الأفراد وتزيد من قوة الحكام عليهم من خلال التغلب على الاختلافات. يسهم هذا العنف التسلطي بخلق ردات فعل فردية وجماعية عنيفة وغير عنيفة بين الشباب.

إن هذا التعدد في أنواع المقاومة والتعبير عن الرفض للعنف ورمي المسؤولية على عاتق الضحية والجاني بنفس الدرجة ومحاسبتهم بنفس المقومات، يجعل العديد من الشباب الذين استجوبتهم يطرحون بشكل مباشر أو غير مباشر عدة أسئلة أساسية تتعلق بالمسؤولية عن العنف وعواقبه الوخيمة على المجتمع والأفراد: من يتحمل المسؤولية؟ من الضحية ومن الجاني؟ ماذا سينتج من هذا التعدد العنفي الموزع على كلا الجانبين؟ بل ماذا ستكون عواقبه وتداعياته؟ كيف ستتم السيطرة من جديد على العنف المسلح؟ وما هي المشاريع السياسية للتصدي لهذا العنف المسلح؟ وهل أي إضعاف للسلطة يمخض دعوة مفتوحة للعنف؟

 

قد يهمكم ايضاً  القانون الدولي الإنساني وحماية النازحين داخلياً؟ حالة النزوح في العراق