كنت قد أنهيت في حزيران/يونيو 1982 تأليف الطبعة الأولى من كتابي انفجار المشرق العربي وأنا أقيم في منطقة رأس بيروت، وكانت البناية التي أسكن فيها قرب اليونسكو تهتز تحت وابل القنابل الإسرائيلية الفتّاكة المنهمرة على هذا الجزء من عاصمتنا بيروت. وشعرت حينذاك أن الاجتياح الإسرائيلي للعاصمة اللبنانية، عاصمة الأدب والثقافة لكل العرب، تعني بداية تفكّك المجتمعات العربية وأنظمتها السياسية التي بقيت تتفرج على المأساة، ولكنها ربما كانت تعطي انتباهاً أقوى كثيراً إلى مباراة كأس العالم لكرة القدم التي كانت تقام آنذاك حيث فاز الفريق الجزائري على الفريق الألماني، وهو ما ولد نشوة كبيرة إلى درجة أنه حتى في الحي البيروتي الذي كنت أسكن فيه انطلقت بغزارة الأعيرة النارية فرحاً. وعند سماع الطلقات اعتقدت في حينه – بكل سذاجة – أن التنظيمات المسلحة اللبنانية والفلسطينية قد تمكّنت من صدّ هجوم الجيش الإسرائيلي على الجزء الغربي من بيروت.

ومنذ ذلك الحين ومن خلال الطبعات المتتالية لمؤلَّفي انفجار المشرق العربي تحولت إلى مؤرخ لدينامية الانحطاط والفشل والانفجار للمجتمعات العربية، سواء داخل كل مجتمع أو في ما بين الأنظمة العربية، بحيث أصبح الشرخ في ما بينها يزداد سنة بعد سنة عبر اشتداد سياسة محاور عربية متخاصمة مدمرة لاستقلال العرب وازدهارهم، وهي حالت دون دخول المجتمعات العربية في التحولات الاقتصادية والعلمية والتكنولوجية العملاقة التي كانت تجتاح العالم. وقد كان ألمي النفسي لا حدود له عندما شاهدت تفكك لبنان التدريجي في بداية السبعينيات، واندراج معظم زعماء الطوائف في صفوف القوى الإقليمية والدولية الكبرى التي أصبحت تمزق المنطقة سعياً إلى تحقيق مصالح متناقضة، البعض منها مادية كالهيمنة على موارد النفط والغاز العملاقة التي أصبح يتمتع بها عدد من الدول العربية، والبعض الآخر له جذور في تاريخ أوروبا الصاخب الداخلي وميولها الاستعمارية المتجسدة بوجه خاص في السيطرة على حوض البحر الأبيض المتوسط، وبالتالي الاستماتة في الدفاع عن الكيان الصهيوني الغاصب وتأمين شروط استمراره في المستقبل، بخلاف الكيانات الصليبية الهشة التي كانت اندثرت، وذلك عبر تمزيق المنطقة العربية إلى كيانات هزيلة مقابل كيان عملاق من الناحية العسكرية والمعنوية لغزاة فلسطين. وها نحن اليوم في خضم التفكك والانفجار وحالات الحروب الأهلية واستمرار الدول الغربية في التدخل العسكري والإعلامي المكثف.

كيف وصلنا إلى مثل هذه الحالة من الفشل الذريع في بناء التعاضد والتلاحم في ما بين العرب لصدّ الأطماع الخارجية، ناهيك بالفشل في بناء الدول القطرية وتأمين تماسكها الداخلي وكذلك توطين العلم والتكنولوجيا فيها لتصبح مجتمعات منتجة تؤمن فرص العمل اللائقة والعدالة الاجتماعية في خضم حركة العولمة الاقتصادية القاضية على ما تبقى من بنى اجتماعية تقليدية. ونحن اليوم بسبب هذا الفشل الذريع أمام مشهد مروِّع في عدد من المجتمعات العربية. لذا لا بد لنا، قبل السعي إلى استشراف طرق الوصول إلى مستقبل أفضل، على أنقاض الأنظمة والبنى الاجتماعية التي تحتضر اليوم، من القيام بتمحيص أهم الأسباب التي أدت إلى ما نحن فيه اليوم. ويبدو لي أن هناك عشرة عوامل أعتبرها محطات أساسية في مسيرة الانحطاط والانفجار والتفكك، نعرضها في ما بعد.

ماذا نعني بدينامية الفشل؟ إنها سلسلة من التصرفات الجماعية على صعيد الأشخاص أو المجتمع أو القادة السياسيين، التي تؤدي إلى تحويل الحدث أو الواقعة الإيجابية إلى حدث أو واقعة سلبية الأثر. وهذا ما حصل على سبيل المثال بعد نجاح المقاومة اللبنانية في صدّ الهجوم العسكري الإسرائيلي الغاشم على لبنان في صيف عام 2006، وبوجه خاص على جنوبه وضاحية بيروت الجنوبية. فقد حمّلت قيادة إحدى الدول العربية الرئيسية حركة المقاومة، وليس إسرائيل، المسؤولية عما أصاب لبنان من أضرار مادية وبشرية. أما دينامية التدمير الذاتي فهي مرحلة مكملة لدينامية الفشل، بل ذروتها، تتصف بما تشهده الآن عدد من الساحات العربية من حروب فتّاكة وحملات عسكرية غربية وعربية وإسلامية في كل من اليمن وسورية وليبيا والعراق. وهي – كما سنرى – نتيجة فوضى فكرية شاملة تصاعدت في العقود الماضية، وكانت قد بدأت بما أصاب لبنان من فوضى عسكرية فتّاكة خلال الحقبة 1975-1990 نتجت من تصادم رؤى فكرية سياسية مختلفة ومتناقضة إلى أبعد الحدود.

إن العرض التاريخي الذي سأقوم به هنا، يذكِّرنا بمحطات مهمة ساهمت في بروز وتطوير وانفجار التناقضات في ما بين الأنظمة العربية وأنصارها من المثقفين والإعلاميين العرب التابعين لها. وكان قد ظهر هذا المَيل إلى خلق وإثارة الفتن في ما بين العرب قبل زوال السلطنة العثمانية والموقف منها. وهو ما يثير أسئلة عديدة لها طابع وجودي: هل هناك مَيل فطري للفتنة لدى العرب؟ وهل نحن في فترة سوداء مثل حرب ملوك الطوائف التي حدثت في الأندلس؟ لماذا خرج العرب من التاريخ ابتداءً من القرن العاشر في المشرق العربي، ماذا يُفسر التدمير الذاتي الحالي؟ وما هي محطات التدمير الذاتي، أي الأحداث التي ترتبت عليها سلسلة من الأحداث الأخرى السلبية؟ ما هو سرّ الضعف العسكري العربي؛ هذه أسئلة مسبقة صعبة يجب طرحها لما يمكن أن تحتوي عليه من عناصر تفسيرية للحالة التي وصلنا إليها في بداية هذا القرن الجديد.

المحطة الأولى: الخلاف حول الموقف من السلطنة العثمانية

في أواخر القرن التاسع عشر

انقسم الرأي داخل النخبة المثقفة العربية بين من كان يدعو إلى الإصلاح الديني والتعاضد مع السلطنة العثمانية على أساس الرابطة الدينية لصد أطماع الدول الأوروبية المستعمرة، التي كانت تتهيأ للانقضاض على السلطنة وتقاسم ما كان قد تبقى لها في بداية القرن العشرين من أراض وولايات من جهة؛ وبين مَنْ كان يرى أن سبب انحطاط العرب والمسلمين هو السلطنة العثمانية نفسها؛ لذلك لا بد من الانفصال عنها في أقرب فرصة لإعادة تأسيس مجد العرب والتعاون مع الدول الأوروبية الرائدة في التقدم الحضاري والاقتصادي العام، بالرغم مما قامت به تجاه السلطنة العثمانية وبسط سيطرتها على الدول العربية في شمال أفريقيا وفي مصر. واستمر هذا الانقسام بعد زوال السلطنة العثمانية والقضاء على نظام الخلافة بين مَنْ كان يرفع راية الإسلام كمخزون أساسي للهوية العربية وضرورة عودة الخلافة الإسلامية إلى العنصر العربي، وبالتالي الابتعاد من التفاعل الحضاري مع أوروبا للانكفاء على الهوية الإسلامية وقيمها من جهة، وبين العروبيين الحداثويين والمنفتحين على التفاعل مع مصادر العلم والتقنيات والرقيّ الاجتماعي والسياسي والتواقين إلى بناء دولة الوحدة العربية القوية التي تبعد شرّ الأطماع الاستعمارية عنها من جهة أخرى. وكان الكثير منهم يرون في مصر الدولة القطب نظراً إلى أهميتها الديمغرافية وتاريخها العريق ونضالها ضد القوى الاستعمارية.

وقد كان جمال الدين الأفغاني، إلى جانب كل من الأميرين شكيب وعادل أرسلان، من أنصار – وفي طليعة – من كانوا يرون ضرورة التمسك بالولاء للسلطنة لمواجهة الهجمة الإمبريالية الأوروبية، بينما العروبيون الأولون كانوا على الضد من هذا الموقف؛ وربما كان مصدر إلهامهم كتابات عبد الرحمن الكواكبي التي كانت تحمّل العنصر التركي جمود المجتمعات العربية وانحطاطها. أما الموقف الوسطي فقد تجسّد في حزب اللامركزية العثماني الذي تمّ تأسيسه من جانب شخصيات عربية وسورية متعددة.

وإلى يومنا هذا، فإن المؤرخين العرب ليسوا متحدين في الرؤية بين من يرى أن «انقلاب» العرب ضد السلطنة كما تجسّد في المشروع الهاشمي و«ثورة» الشريف حسين ضدّ العثمانيين كان له أثر سلبي جداً نظراً إلى التبعية للمستعمر البريطاني؛ وبين من يرى نقيض ذلك أن هذه اليقظة العروبية كانت متابعة منطقية للنهضة العربية التي انطلقت في بداية القرن التاسع عشر في عهد محمد علي الذي بعث رفعت رفاعة الطهطاوي إلى باريس.

المحطة الثانية: بلقنة المشرق العربي وإنشاء الكيانات القطرية المنفصلة

هذه المحطة هي نتيجة الضعف العسكري العربي الذي لم يتمكّن من الحؤول دون تطبيق فرنسا وإنكلترا اتفاق سايكس – بيكو لتقسيم الأقاليم العثمانية في المشرق العربي. وقد أدّت البلقنة إلى خلق أنانيات قطرية وطموحات للنخب الجديدة الحاكمة، وإلى خلق زعامات أصبحت مصالحها قُطرية لا قومية. وهذا من الأسباب الرئيسية التي تفسّر عدم مواجهة الاستيطان اليهودي في فلسطين على نحوٍ جدّي وتعاوني وتنسيقي، بينما كانت بعض الزعامات القُطرية الجديدة تميل إلى إجراء مفاوضات سرية مع القيادات الصهيونية والدول الأوروبية بعد نيل الاستقلال.

زد على ذلك، الميل إلى إقامة سياسة المحاور بين الكيانات القطرية المصطنعة، سواءٌ في ما بينها أو بينها وبين الدول الكبرى، منذ نيل الاستقلال. وجدير بالملاحظة في هذا السياق استمرار الضعف العسكري الهائل كما بدا من معركة ميسلون، وهو أصبح ضعفاً متواصلاً في ما بعد أمام التوسع الاستيطاني في فلسطين، وانتهى باحتلال العراق من جانب الولايات المتحدة في عام 2003، مروراً بسلسلة الحروب الخاسرة مع جيش العدو الصهيوني واحتلاله عام 1982 لعاصمة لبنان.

وفي مقابل هذا المشهد العربي المشتت والضعيف، حافظ كل من الكيانين التركي والفارسي على وحدته وقوته العسكرية ونفوذه الإقليمي والدولي والتعامل مع الدول الغربية الكبرى من الندّ إلى الندّ.

والجدير بالإشارة أيضاً، الانفصال السوري عن الجمهورية العربية المتحدة – التي تأسست عام 1958 تحت ضغط الجماهير السورية وشعبية جمال عبد الناصر كقائد عربي كبير – تكريساً للمصالح القطرية السورية، ومن ثم الانقسام الشديد بين النظامين البعثي في كل من سورية والعراق. وقد كان هذا الانفصال عام 1961 ضربة كبيرة ما بعد الحرب العالمية الثانية للقومية العربية المتجسدة في الفكر الناصري والبعثي وحركة القوميين العرب.

أما إعدام أنطون سعادة بعد طرده من سورية تحت حكم حسني الزعيم، على يد الحكومة اللبنانية التي أوقفته وأدانته ونفذّت حكم الإعدام فيه، فكان أيضاً ضربة كبيرة لفكر القومية السورية وهي غير ناكرة لدور الثقافة العربية وعمق العلاقات المسيحية – الإسلامية.

ومن عواقب تنامي القُطرية تجذير سياسة المحاور العربية واندراجها في لعبة الحرب الباردة، كما الجدير بالذكر أيضاً قبول الإعلام العربي التفريق في المقولات الإعلامية المتداولة بين «دول معتدلة» و«دول راديـكــيـليـة»، تراعي المـجموعة الأولى المصالح الغربية، أما المجموعة الثانية على العكس هي قريبة من الاتحاد السوفياتي. وهنا يطرح السؤال: هل يمكن أن نكون معتدلين تجاه الاستيطان الصهيوني والحقوق الفلسطينية؛ هل الحق والقانون وجهة نظر؟

المحطة الثالثة: انقلاب نفطي

في التوازنات بين المجتمعات الحضارية والصحراوية

 

اشتدّ الخلاف بين المعتدلين والراديكاليين بشكل تصاعدي في إثر الاغتناء السريع لمجتمعات شبه الجزيرة العربية. فقد اهتزت كل التوازنات الثقافية والحضارية والاقتصادية والمالية في ما بين المجتمعات العربية، وهي المرحلة حيث بدأت أسعار النفط بالارتفاع الحاد عام 1973، إذ أدى إلى تركّز ثروات هائلة في الممالك والإمارات المصدّرة للنفط، وبخاصة في الجزيرة العربية القليلة السكان التي لم يكن لديها مراكز مدينية مهمة. وكانت هذه الدول بدأت تراكم الثروات منذ الستينيات من القرن الماضي وتستخدم فوائضها المالية لتوسيع نفوذها في المنطقة العربية ولدى الدول الإسلامية الأخرى. وكانت معظم تلك الأنظمة تعادي القومية العربية بوجهها الحداثوي الذي كان يركّز على رابط اللغة والثقافة بين العرب، بينما كانت هذه الأنظمة تتمسك فعلياً بالرابطة الدينية بين المجتمعات الإسلامية العربية وغير العربية على السواء. وقد أنشأت المملكة السعودية «أممية إسلامية» تقف سداً منيعاً أمام طموحات القوميين العرب وأدبياتهم بمختلف أشكالها. وتجسد هذا الاتجاه في تأسيس منظمة التعاون الإسلامي والبنك الإسلامي في بداية السبعينيات بقيادة السعودية، وهي منظمة أصبحت تنافس في النفوذ كلاً من جامعة الدول العربية وحركة عدم الانحياز اللتين لم يكن خطابهما متمحوراً حول الدين، بل حول قضايا الاستقلال عن القوى الكبرى وتصفية جيوب الاستعمار الغربي والنضال من أجل التنمية والعدالة الاقتصادية الدولية.

وقد كان من أهم نتائج إنشاء منظمة الدول الإسلامية وتفرعاتها والبنك الإسلامي للتنمية إعادة أسلمة المجتمعات العربية لمكافحة انتشار الشيوعية في المجتمعات العربية، من هنا كان تأييد الدول الغربية لحركات «الإخوان المسلمين» والتنديد بسجنهم ومنحهم حق اللجوء السياسي، على عكس عدم الاكتراث التام بسجن آلاف الشيوعيين، بل في بعض الأحيان قتلهم بمئات الآلاف كما حصل في إندونيسيا والسودان.

المحطة الرابعة: توقيع اتفاق «كامب دايفيد» 1978-1979

أما المحطة الرابعة المهمة فتجسدت في مبادرة مصر بتوقيع اتفاقية سلام مع إسرائيل على نحوٍ منفرد وغير متكافئ، ضمنت الولايات المتحدة تنفيذها لمصلحة الكيان الصهيوني، وهذا ما أدى إلى طرد مصر من الجامعة العربية، وحَيْدها تماماً عن الصراع مع الكيان الصهيوني، وجلبها إلى فلك السياسة الأمريكية في المنطقة. كما سهّل حيد مصر واستفراد إسرائيل في النَيْل من استقرار لبنان والتنكيل بهذا البلد الصغير الضعيف من دون رادع، إلى درجة احتلال جزء من جنوب لبنان عام 1978، ومن ثم وصول جيشها إلى بيروت في عام 1982 ومحاولة إدخال لبنان في فلكها عبر اتفاقية 17 أيار من عام 1983، التي لم يتمّ تنفيذها لأسباب عديدة لا مجال لذكرها جميعها هنا، أولها رفض جزء كبير من الشعب اللبناني لهذه الاتفاقية. واستمرت أوضاع العنف في لبنان إلى أواخر عام 1990، ولم تتوقف إلا في إثر غزو العراق للكويت ودخول سورية في الحلف العسكري الغربي – العربي ضد النظام العراقي لإجباره على الانسحاب من الكويت. والجدير بالملاحظة هنا أنه حالما استتبَّت الأمور في لبنان دخلت الجزائر في القلاقل الداخلية (1992-2000) من جراء نشأة حركات عنف مسلحة تدّعي الإسلام في مواجهتها للنظام في هذا البلد.

المحطة الخامسة: المواقف الغربية المتناقضة من الثورة الإيرانية عام 1979

تعمّقت الشروخ التي أصبحت تنخر الجسم العربي. فهي نتجت من التناقضات العربية في التعامل مع الثورة الشعبية الكبيرة التي حصلت في إيران في عام 1979، وقد تحوّلت هذه الثورة إلى نظام ديني إسلامي بسبب استيلاء بعض المراجع الدينية في هذا البلد على مسار الثورة بعودة الإمام الخميني من منفاه في باريس وتأسيسه نظام ولاية الفقيه.

والجدير بالملاحظة هنا أن هذه الثورة أصبحت تأخذ طابعاً معادياً للولايات المتحدة ومؤيداً للقضية الفلسطينية، لذا انقسمت النخبة الحاكمة العربية تجاهها، إذ تحوّل جزء من النخبة المثقفة المسيّسة من مواقف قومية عربية علمانية وحداثوية إلى مواقف إسلامية متحمسة في مواجهة السياسات الغربية في المنطقة. ومن جراء هذا التطور أصبح الوطن العربي أسير أجواء دينية ومذهبية ثقيلة الوطأة بين «صحوة إسلامية» على النهج السعودي – الوهابي الأممي الطابع من جهة، وثورة دينية إيرانية شيعية الطابع معادية للهيمنة الغربية على الشرق الوسط وللصهيونية من جهة أخرى. هذا إضافة إلى توسيع حجم النفوذ الصهيوني في المنطقة سواء مباشرة، أو عبر علاقتها الاستراتيجية بالسياسات الاستعمارية الغربية تجاه المنطقة العربية.

وقد أدى هذا الوضع إلى شن العراق الحرب على إيران عام 1980 بالوكالة عن الدول الغربية وممالك وإمارات الجزيرة العربية، فجلب كارثة عملاقة على المستوى العربي، إذ أصبح أهم جيش عربي مشلول الفاعلية حيال الصراع العربي الأساسي مع الكيان الصهيوني. من جراء هذه التطورات الخطيرة عانى أهم اقتصاد عربي تنميةً، وعانى الشعب العراقي بأكمله، ما عاناه من جراء العقوبات الاقتصادية التي فُرضت عليه وأفقرته إلى أبعد الحدود، بعد أن كرر النظام خطيئته باجتياح الكويت عام 1990 سعياً وراء إعادة تكوين هيبته الإقليمية والدولية. وقد انقسم العرب مجدداً حول هذا الحدث الخطير، وانقسمت الجامعة العربية وشلّت جهودها في إيجاد المخرج من هذا المأزق الجديد. وزادت كذلك المعمعة الفكرية السياسية والتناحر في ما بين أجنحة النخبة العربية، وأخذت معارضة النظام العراقي طابعاً طائفياً حاداً بدلاً من أن تكون معارضة على أسس علمانية وديمقراطية. وقد تعاظم في الوقت نفسه النفوذان الإيراني والأمريكي في المنطقة باتجاهات متعاكسة.

المحطة السادسة: حرب أفغانستان ونشوء منظمة القاعدة

كوّنت هذه المحطة عاملاً جوهرياً جديداً أسّس لمزيد من اتجاهات التناحر والانفجار في ما بين العرب، إذ تمّ تدريب عشرات الألوف من الشبان العرب وتلقينهم العقيدة الوهابية في السعودية وباكستان لكي يحاربوا تحت الراية الدينية وإرسالهم ابتداءً من عام 1980 إلى أفغانستان لقتال الجيش السوفياتي الذي بدأ يدخل البلاد للحفاظ على نظامه السياسي الحداثوي القريب من الاتحاد السوفياتي، وذلك على الرغم من أنّ العرب ليس لهم مع هذا البلد منذ قرون أي نوع من العلاقة التجارية أو الثقافية أو الإنسانية، بل كانت هذه المبادرة مجرد خدمة لمصالح المعسكر الغربي ضد المعسكر السوفياتي، بينما كان تحرير فلسطين من أولى المهمات الوطنية الجهادية العربية التي أصبحت تتخلى الأنظمة العربية عنها.

وكان من نتائج هذا التطور الخطير، إنشاء تنظيم القاعدة بقيادة أسامة بن لادن وبداية وقوع أعمال إرهابية وتكفيرية داخل الوطن العربي، من اغتيال فرج فودة في مصر إلى تكفير نصر حامد أبو زيد (المطالبة بتفريقه عن زوجته)، ومحاولة اغتيال نجيب محفوظ، بالإضافة إلى العديد من العمليات الإرهابية.

المحطة السابعة: توقيع اتفاق أوسلو
و«مسار السلام» الفلسطيني – الإسرائيلي

هذه المحطة أدّت إلى تعاظم الوهن العربي العام المتميّز بأوضاع فتن قاتلة داخل الوطن العربي، فقد تجسّدت في توقيع اتفاق أوسلو عام 1993 بين منظمة التحرير الفلسطينية والكيان الصهيوني، ذلك أن أي قراءة موضوعية لمواد اتفاق أوسلو تظهر أنه بمنزلة صك تنازل فلسطيني عن أي إمكان في تحرير الأراضي المحتلة، إذ تحوّل «مسار السلام» فعلياً وميدانياً إلى مسار متابعة الاستيطان نظراً إلى عدم جدية الطرف الصهيوني في المفاوضات التطبيقية للاتفاق والتنازلات المتتالية للقيادة الفلسطينية. وفي المرحلة ذاتها تعددت حالات الفتن في الجسم العربي. فحالما انتهت الحرب التي مزّقت لبنان على مدى خمس عشرة سنة (1975 – 1990) بدأت الفتنة الجزائرية فيما بين الجيش وجبهة التحرير الإسلامية التي كانت على وشك الفوز في انتخابات عام 1992، ولكن النظام الجزائري أقدم على إلغاء نتائج الدورة الأولى الانتخابية وإيقاف المسار الانتخابي. وهي فتنة دامت حتى عام 2000 وأضعفت الجزائر إلى حد بعيد نظراً إلى تراجع دورها الطليعي في القضايا العربية والدولية والانكفاء على نفسها وعلى تضميد جراحها.

المحطة الثامنة: وصول المحافظين الجدد
إلى الحكم في الولايات المتحدة وأحداث 11 أيلول/سبتمبر

ودخلنا في محطة أخرى مأسوية، بدأت بما حصل في نيويورك وواشنطن من عمليات إرهابية نُسبت إلى أسامة بن لادن وتنظيمه الذي كان قد وُلد في مرحلة تدريب الشبان العرب لإرسالهم للقتال في أفغانستان، وهي السياسة التي وصفناها سابقاً والتي ليس من المستغرب أن تكون قد أدّت إلى انتشار تنظيم القاعدة في عدة دول بعد تحرير أفغانستان، سواء كانت دولاً آسيوية أو دولاً عربية. أما وصول المحافظين الجدد إلى حكم الولايات، فقد أدّى إلى انخراط عدد من الإعلاميين والمثقفين العرب في مشاريع الولايات المتحدة في المنطقة وتصديقهم وتأييدهم للأساطير الأمريكية حول رغبتها في تحقيق الديمقراطية في الوطن العربي، التي كانت في الحقيقة مجرد تعبير عن رغبة إمبريالية بإعادة ترتيب «الدول العربية» وربما تجزئتها بما يناسب مصالح الكيان الصهيوني. وبحجة السعي إلى الديمقراطية، أمّن ذلك للهيمنة الأمريكية على منطقة الشرق الأوسط وتدخلاتها المتعددة الأوجه الشرعية الجديدة للتدخل المتواصل فيها بدعم حلفائها من الأنظمة العربية ولو كان البعض منها يشجع بصورة مباشرة أو غير مباشرة نمو الإسلام السياسي.

ومن اللافت للنظر كيف أن الإعلام الغربي والإعلام العربي على حدّ سواء أصبحا بعد أيلول/سبتمبر 2001 يجعلان من أسامة بن لادن شخصية أسطورية الطابع نلتقي بها على الشاشات الصغيرة على نحوٍ شبه يومي، وإذا لم يكن هو فأحد معاونيه الكبار. وبهذا التطور نما الإسلام السياسي بشكل متسارع وحاد، وكانت السياسة الأمريكية الحمقاء بغزو كل من أفغانستان والعراق أكبر عامل مساعد لهذا الانتشار. وقد أصبح الجزء الأكبر من الإعلام العربي شريكاً رئيساً في عملية الانتشار هذه. ناهيك بما حصل في السودان من فرض تطبيق الشريعة الإسلامية قسراً على كل أجزاء البلاد بما فيها الجنوب حيث معظم السكان من المسيحيين والوثنيين، الأمر الذي أدى في نهاية المطاف إلى الانفصال بين الشمال والجنوب، هذا بالإضافة إلى الفتن الفتّاكة في منطقة دارفور؛ وكذلك الحرب الأهلية الصومالية المتواصلة حيث تتداخل فيها ألوان مختلفة من الإسلام السياسي ذات الطابع العنفي المصدّر إلى هذا البلد.

المحطة التاسعة: تحريف الانتفاضات العربية عام 2011

والحملات العسكرية الغربية ضد ليبيا وسورية

اتسمت هذه المحطة مرة أخرى بفتنة كبرى بين العرب حين اندلعت في إثر انحراف الانتفاضات العربية المدنية والعلمانية الطابع، إما بتأييد حكم الإخوان المسلمين بذريعة نجاح النموذج التركي، وإما بتحولها إلى حروب أهلية فتّاكة متميزة بتدخلات عسكرية خارجية عديدة، عربية وغير عربية في كل من ليبيا وسورية، تؤدي فيها الدور المحوري تنظيمات ميليشيوية ترفع راية الدين الإسلامي بشكل عشوائي. كما امتدت هذه الظاهرة الإرهابية الفتّاكة إلى العراق على نحوٍ أوسع كثيراً مما كان الحال قبل ذلك. فقد أتى زمن داعش وادعائها بإقامة الخلافة الإسلامية كتحقيق لـ«نبوءة» تتحقق تلقائياً بعد أن قام الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن طوال ولايتيه بالتنظير بخطر إقامة خلافة إسلامية عدائية للغرب على يدّ تنظيم القاعدة وأسامة بن لادن، وقد نظّر الرئيس الأمريكي إلى وجود فاشستية إسلامية تهدّد السلام العالمي.

المحطة العاشرة: حرب اليمن قمة التدمير الذاتي العربي

إن المأساة التي حلت باليمن وأهلها، اتخذت منحىً مجنوناً من التدمير والتجويع والكارثة الإنسانية التي ضربت هذا البلد العريق بتاريخه وأهله، وذلك نتيجة تدّخل مسلح من قبل السعودية وحليفتها العسكرية الإمارات العربية المتحدة اللتين أصبح طيرانهما يضرب على نحوٍ أعمى العاصمة صنعاء وسائر الأراضي اليمنية بحجة مكافحة التدخل الإيراني المزعوم بشؤون اليمن عبر الحوثيين. وهنا نرى ما هو التدمير الذاتي بكل أبعاده المأسوية الإنسانية تجاه شعب عربي مسالم لم يعتدِ على أحد خلال تاريخه؛ وهذه الأوضاع تأتي تكملة لأوضاع مشابهة في كل من ليبيا وسورية والعراق خلال السنين الأخيرة مع تكاثر التنظيمات التكفيرية وأعمالها التخريبية الممولة عربياً ودولياً.

خاتمة: نحو الاهتمام بقضايا توطين العلم والتكنولوجيا في الوطن العربي

أمام هذا المشهد المروّع لتكاثر عوامل انفجار المشرق العربي وتفكك مجتمعاته عبر فتن فتّاكة علينا أن نراجع ونحاسب تاريخنا المعاصر لتحديد المسؤوليات في ما آلت إليه الأوضاع. من السهل الصراخ المتواصل بالمؤامرة الخارجية على الأمة. أعَنَينا بكلمة «أمة» الأمة العربية أو الأمة الإسلاميةـ إنما لم أرَ قوماً يصدر مثل هذه الصرخة التي تدين مؤامرة ينفذها هو بأيديه! والحقيقة أن كل هذا الكلام منذ عقود عن الدين الإسلامي وتسييسه بما يضر باستقرار المجتمعات العربية وازدهارها كان لا بد من أن يؤدي في نهاية المطاف إلى الفوضى التي نحن فيها وإلى تهديم مدنيتنا وتراثنا المعماري والحضاري على نحوٍ منهجي. ولن ندخل هنا باقتراحات حلول لإعادة البناء المستقبلي إلا للدعوة إلى أن تتضافر الجهود للوصول إلى حيْد الأديان والمذاهب الدينية في المعترك السياسي، لأن توظيفه كما حصل في نصف القرن الأخير في منطقة الشرق الأوسط قد كان أكبر مساهم في التدمير الذاتي للمجتمعات العربية التي غرقت منذ ذلك الحين في فشل تنموي ذريع.

وقد تجسَّد هذا الفشل في أنظمة اقتصادية ريعية الطابع مبنية على الإفساد والفساد ونهب الثروات الوطنية، وبعيدة كل البعد من جهود تأصيل العلم والتكنولوجيا في المجتمع لتأمين فرص العمل اللائقة لملايين من الشباب العربي الذين كانوا يدخلون سوق العمل وما يزالون دون إيجاد مثل هذه الفرص. وقد أدّى هذا الفشل إلى انحرافات مجتمعية مختلفة، منها بوجه خاص تفشي البطالة والفقر والتهميش وهجرة الأدمغة من جهة، وتراكم ثروات عربية هائلة في أيادٍ قليلة من جهة أخرى.

وربما كانت المجادلات المتواصلة حول قضايا الهوية ودور الدين والعلاقة بين العروبة والإسلام قد حالت بكثافتها وتكرارها دون مناقشة الفشل التنموي الذريع الذي أصبح سمة رئيسية في المجتمعات العربية، أكانت غنية بمواردها الطبيعية أم فقيرة، مع أن العجز شبه المطلق في تملّك وتوطين العلم والتكنولوجيا الصناعية والخدماتية ذات القيمة المضافة العالية كان ظاهراً للعيان وراء قشرة من الحداثة المتجسدة في البنايات والفنادق الفخمة والمصارف وشركات الطيران، وخاصة مقابل النجاح الباهر في دول شرق آسيا مثل كوريا الجنوبية وتايوان وماليزيا والصين. ولم تكن الانتفاضات العربية خلال الأشهر الأولى من عام 2011 إلاّ تعبيراً جماهيرياً واسعاً عن السخط الاجتماعي والتفاوت الفضائحي في الثروات والمداخيل بين قلّة من المحظوظين الدائرين في فلك السلطة وعامة الشعب.

وبدلاً من مناقشة أسباب الفشل التنموي؛ عادت في إثر الانتفاضات العربية عام 2011 المجادلات الحادة حول الدين ودوره في المجتمع. وكما في زمن صعود القومية العربية الحدثاوية في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي تمّ بسرعة إعادة تنظيم تحالف القوى المتضررة من الحركة الثورية الجديدة أي الدول الغربية الكبرى والدول العربية الداعمة لحركة الإسلام السياسي، وهي التي طالما تسعى في برامجها وشعاراتها إلى تقييد الحريات العامة باسم الدين، وبالتالي تسهم في نشر جو من الإرهاب الفكري الذي يشلّ الطاقات الفكرية في أهم قضايا المجتمعات العربية، أو يوجهها نحو قضايا لا تمتّ بصلة إلى التحديات التنموية الحقيقية التي تواجهها تلك المجتمعات.

لذلك لكي نبني مستقبلاً أفضل للمجتمعات العربية ونعمل على إدخالها كمجموعة بشرية متماسكة ومنتجة في النظام الدولي الاقتصادي والسياسي، بحيث يصبح العربي محترماً في هذا النظام ويُنظر إليه بصورة إيجابية وليس بالخوف من العنف الفتّاك الإرهابي الطابع، لا بدّ لنا من أن نعمل على صعد مختلفة. ومن أولى المهام إعادة بناء نظام قيمي وإدراكي لماجريات العالم الحديث ووضع العرب فيه، ذلك أن تعدد حالات الفتن بين العرب يدلّ بما لا لبس فيه على فقدان القواسم والقيم المشتركة التي من شأنها أن يلتف حولها العرب لإعادة بناء مجتمعاتهم بعد أن ظهر الفشل الذريع في صياغة نظام إدراكي وفلسفي يوضح بطريقة مقنعة الأسس المجتمعية الداخلية، كما علاقة المجتمعات العربية في ما بينها بالعالم الخارجي، بغية تأمين كرامة الإنسان العربي وحريته وقدرته على الإبداع والإنتاج. وكما تبين من سردنا للمحطات المتتالية المؤدية إلى الفتنة، فإن بناء النظام القيمي والإدراكي على الهوية الدينية حصراً قد أسهم في الانهيارات التي تشهدها الساحة العربية وكذلك في فقدان القدرة الذاتية على توطين العلم والتكنولوجيا في مجتمعاتنا.

إن قضية حيْد الدين في الأمور السياسية عند العرب أصبح حاجة ملّحة، لأن ما نشهده من فتنة دموية بين المذاهب الإسلامية نفسها هو الدليل الساطع على مثل هذه الضرورة. لذلك لا بدّ من عدم الخلط بين العلمانية بمعنى حيْد الدين في الصراع السياسي وبين الكفر وفقدان الهوية كما يدّعي سيل من الأدبيات الإسلامية الأصولية. وإضافة إلى الفتن في ما بين المذاهب الإسلامية ومضايقة المسيحيين، بل في بعض الأحيان اضطهادهم، فإن الخطر العام الذي يحتوي عليه الإسلام السياسي هو في ادعائه مراقبة كل أعمال وتصرفات وقراءات وكتابات المواطنين العرب بحيث يتمّ القضاء على الحريات العامة، وبالتالي يتعمّق الاتجاه الانحطاطي في تاريخنا المعاصر.

لا بدّ هنا من التذكير بصعود الأصوليات الدينية كحركة عالمية متفرعة عن حركة العولمة التي تقودها الولايات المتحدة، وهي التي تزدهر فيها ظواهر الأصولية اليهودية الصهيونية المتحالفة مع بعض الكنائس البروتستانتية التبشيرية الجديدة، التي تتمتع بإمكانات مادية كبيرة والتي هي أكبر مساند للكيان الصهيوني. وهي كنائس تنتشر بسرعة فائقة في مناطق عديدة من العالم على حساب الكنيسة الكاثوليكية التقليدية وكذلك الكنيسة الأرثوذكسية، وعلى حساب ديانات أخرى آسيوية مثل البوذية أو الكونفوشيوسية. فهل الإسلام السياسي الذي طالما استغلته الولايات المتحدة لمصالحها الجيوسياسية قد ازدهر لأنه اندرج في الوجه السلبي للعولمة التي يدّعي أنه يكافحها؟ فقد درجت سردية نمطية تبريرية واستشراقية بأن الإسلام السياسي هو رد فعل هويتي طبيعي من قبل المسلمين الذين كانوا ضحية مزدوجة لاضطهاد الاستعمار التقليدي، وتلاه «اضطهاد» الأنظمة التي خلفت الحكم الاستعماري وعملت بأنظمة سياسية حديثة لم تعط للدين والهوية الدينية وضعها المركزي في الهوية العربية، وذلك حسب سردية أخرى لا تقلّ نمطية عن السابقة وتدّعي أن الإسلام لا يفرق بين الديني والزمني فهو دين ودولة في نفس الوقت على خلاف الديانة المسيحية.

لا يمكن أن ندخل هنا في التفاصيل لنبرهن أن التاريخ لا يثبت هذه السردية، ففي المسيحية كانت الكنيسة تُشرف على المجتمع وعلى الدولة على نحوٍ متواصل ومتكامل، بينما في الحاضرة الإسلامية تعددّت الكيانات السياسية وأنظمة الحكم إلى أبعد الحدود، وابتداءً من أواسط القرن التاسع الميلادي تفرّق المسلمون وانتشروا في أرجاء العالم وبخاصة في آسيا، وتراجع استعمال لغة القرآن، أي اللغة العربية، لمصلحة اللغات الأصلية للشعوب التي دخلت الإسلام. فالإسلام دين عابر للقوميات والثقافات والإتنيات وليس ديناً قومياً. وقد برهنت المرحلة الحديثة لتاريخ العرب أن الخلط بين الدين والقومية هو من أحد أسباب دينامية الفشل التي أصابتهم وجعلتهم تحت أنواع من الوصاية غير العربية المختلفة، إقليمياً ودولياً.

في نهاية المطاف لا أحد من خارج المجتمعات العربية يمكن أن يعالج أوضاعنا الشاذة والمهينة؛ فعلينا نحن أن نبني استقلالنا الحقيقي الذي يبدأ بالاستقلال الفكري وبكسر السرديات النمطية التي أصبحت سجناً كبيراً. فقد صيغت السرديات هذه في مجرى الإشكاليات الفلسفية الغربية الكبرى ومنها الاستشراقية الطابع. ألم يحن الظرف المناسب لكي نمارس المنطق والاستقلال الفكري بعيداً من كل هذه السرديات النمطية، التي أشرت إليها باقتضاب، لكي نتمكن من بناء مستقبل مختلف عمّا سبق من مراحل دينامية الانحطاط والتفكك المجتمعي التي وصفتها هنا، آملاً الولوج إلى مرحلة جديدة، من التفكير المستقل والقدرة الإدراكية لمسار العالم، ما يسمح بالعمل الجماعي المنتج، وهو وحده من شأنه أن يؤمّن الخبز والكرامة معاً. ومثل هذا التطور هو الوحيد الكفيل بكسر حلقة الانحطاط الدموية التي نعيش فيها منذ قرن على الأقل، أي منذ أن تمّ التدمير المنهجي لإنجازات حركة النهضة الفكرية وبداية النهضة التنموية المرافقة لها – التي بدأت برفاعة الطهطاوي في القرن التاسع عشر واستمرت في القرن العشرين – حتى هيمنة عصر النفط على حياة المجتمعات العربية في الربع الأخير من القرن العشرين.